صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 19
 

العرض المتطور

  1. #1
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي حديث الشيخ ....تنبيه لكل متدين ، و أمل لكل عاصي


    بسم الله الرحمن الرحيم

    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
    كان صاحبي يسار بن صادق بن عبد ربه البغدادي ، شابًا غلبته نفسه وتمكنت منه شهوته ، فانصرف عن أمور آخرته إلى دنياه ، وعن التجارة الرابحة إلى التجارة الخاسرة ، وعن مدارج السالكين العارفين ، إلى مباذل الغافلين الخاسرين ..!!
    ولم يكن من قبل هذا حاله ، وما كان أحد من أصحابه يظن أنه إلى هذا سيكون مآله ، لأنه كان قد نشأ في طاعة الله ، واشتهر بورعه وتقاه ، حتى عرف بين أقرانه بالراهب ، وسمَّاه بعضهم : (( حمامة المسجد )) هذا ما ذكره لنا الشيخ الثقة أبو العرفان ، وبالله تعالى التوفيق .
    وسبحان الله ، ثم سبحان الله ، كيف تتغير النفوس من حال إلى حال ، وكيف تصاب الروح المؤمنة القوية بالهزال ؟! كنت والله أغبط هذا الفتى على ما أوتي من ورع وتقى ، وتوفيق إلى الخير وهو في ريعان الصبا .. فقد قرأ كتب الأولين ، ونال حظًا وافرًا من العلم والدين ، وتأثر بالحسن البصري ومالك وابن دينار ، وطاووس وحبيب العجمي ، رحمهم الله أجمعين .. وقرأ كتب أبي حامد الغزالي حتى قال : ليس من الأحياء من لم يقرأ الإحياء ! ولقد سمعت صاحبه أبا الحسن يقول :
    - سيقوم يسار في الآخرين ، مقام عبدالرحمن القس في الأولين .! وكان كثير الصمت ، قليل الكلام ، فإذا تحدَّث ، تحدَّث همسًا أو ما يشبه الهمس ، ولكن حديثه ينفذ إلى القلب ، فيه الحلاوة والطلاوة ، بسحر السامع ويأخذ بلبه ، ويستولي عليه ، فلا يدري أهو أسير حديثه أم أسير محدثه !
    وكان قد أسر بأحاديثه هذه ، جارية فارسية يقع بيتها في نهاية سوق الخبازين ، قريبًا من بيت أبي الحسن الورَّاق صاحب المصنفات المعروفة .. أسرها بأحاديثه ، وأسرته بجمالها ورقتها وعذوبة صوتها .. فأخذ يتردد عليها كثيرًا ، حتى ملأت نفسه ، وملكت قلبه ، فشغف بها ، وشغفت به ، فلم تعد تصبر على فراقه يومًا أو بعض يوم !!
    ولكنه على ما ينقل الثقات ، قد أمسك بلجام نفسه ، وسيطر على دوافع شهوته ، فلم يطأ محرمًا قط .. وتحدث إلى غير واحد ، أنه كان يذهب إلى بعض مجالس الشباب الخالية ، الذين يسهرون الليل على صوت الدف والغناء وكؤوس الخمر ، ولكنه لا يشربها .
    ووالله إني لفي حيرة ، كيف استطاعت هذه الجارية الفارسية أن تسحره ، وتستولي عليه ، وتسلبه عقله ولبه ؟! ولكننا لا نستطيع الآن أن نصب عليه اللوم ، ولابد من الرجوع إلى أقوال أهل الخبرة من القوم فقد كان أبو العرفان يصب اللوم الشديد على من صار بها ولهان .. وما إن ترددت الجارية على دكانه عددًا من المرات حتى نظم فيها قصيدة عنوانها (( أوقعتني في الحب )) .
    فإذا كان هذا الرجل ، وهو على ما نعلم من علو القدم ، يقع في هواها ، وينظم قصيدة بمعناها ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ونعوذ بالله من فتنة النساء .
    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    ولقد علمت بتفاصيل القصة بعد حين ، وحدثني بها من لا أتهم في عقل ولا دين ، وذكر لي كيف بدأت الحكاية ، وكيف سار صاحبنا يسار في طريق الغواية ، وسأذكرها كلها من البداية إلى النهاية ، وهي والحق يقال ، لو اطَّلع عليها البشر ، لكانت عبرة لمن اعتبر .
    وسنبدأ بذكر الشيوخ الذين روينا عنهم هذه الأخبار ، وهم أصحاب الفضل في نقل كل ما جرى ودار .. فأولهم الشيخ أبو الحسن الورَّاق ، صاحب المصنفات المعروفة ، وهو أشهر من أن يشير إليه بنان ، أو يتحدث عنه لسان ، ثم الشيخ أبو العرفان بن علي ، وقد اشتهر برواية الشعر والأدب والأخبار .. وكان أطول من القصير ، بدينًا ليس بإفراط ، وكان إذا تحدّث جذب إليه آذان مستمعيه ، لما يأتي به من كل جديد وطريف . ثم الشيخ جواد بن جعفر بن حسن ، وهو أحد شيوخ الرسامين في بغداد ، وقد حدثني غير واحد ، أنه استطاع أن يرسم جانب الرصافة الممتد من المدرسة المستنصرية في انحدار النهر إلى ما شاء الله تعالى . وكانت صورة بارعة يقال إنه لم ينته من رسمها بعد .
    هؤلاء هم من روينا عنهم هذه الأخبار ، وغيرهم ممن لم نثبت أسماءهم رغبة في الاختصار .. وبالله تعالى التوفيق وله وحده الفضل والمنة ، والحمد لله عدد آناء الليل وأطراف النهار .

    p]de hgado >>>>jkfdi g;g lj]dk K , Hlg g;g uhwd





    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  2. #2
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي



    الأقفال السبعة


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
    كان أبو الحسن الورَّاق شديد الإعجاب بصاحبنا يسار ، وكان يرى فيه مثال الورع والتقى ، وأنه من جملة السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله ، يوم لا ظل إلا ظله .
    وعندما حدث ما حدث ، وانحدر يسار إلى ما انحدر إليه ، تأسف أبو الحسن كثيرًا ، وأخذ يضرب كفًا بكف ويقول :
    - لا حول ولا قوة إلا بالله .. والله إنها لمصيبة ، والله كنت أظن أن إبليس أعجزُ من أن يصل إليه ، أو ينال منه .. ولكن هذه الجارية !!.
    ولقد ذكر بعض شيوخنا حفظهم الله ، أن الجارية الفارسية كانت في غاية الحسن والجمال ، وكانت إلى ذلك تتقن عددًا من الفنون وتتكلم اللغة العربية مشوبة بلكنة أعجمية تزيد من كلامها رقة وعذوبة وتجذب إليها القلوب ، وتستهوي أصلب الرجال عودًا ..
    ويقسم أبو الحسن الورَّاق ، إنه لم ير الجارية ، ولم يرفع إليها نظره ، وإن كان دارها قريبًا من داره ، وهو يقول :
    - رب نظرة أورثت القلب ألف حسرة .
    ويتمثل بالآية الكريمة : }قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم{ .
    وبداية القصة ، كما أخبرنا بها الشيخ أبو محمد المؤيد بالله ... أنه كان يُعقد في بيت الجارية ، مساء الثلاثاء من كل أسبوع ، مجلس للطرب واللعب والغناء ، وكان يحضره شباب من القوم ، منهم أبو محمود حكيم بن محمود ، وحسَّان بن معيقيب ، وحبيب بن مسعود الجصاص ، وغيرهم ممن لم يتذكر أسماءهم الشيخ .. ونعوذ بالله من الخطأ والنسيان .
    وقد تأخر ذات يوم عن الحضور في الوقت المعين ، سعيد بن منصور الذي يقع بيته قريبًا من سوق العطَّارين ، مقابل بيت الشيخ أبي العرفان ، بهذا أخبرنا الشيخ حفظه الله .
    قال ، وعندما حضر بادره الجميع بقولهم :
    - أين كنت ؟
    فأجابهم وهو يتخفف من بعض ملابسه ، وعلامات التأثر بادية على وجهه :
    - التقيت هذه الليلة بيسار ..
    وسرت في نفوس القوم هزَّة خفية ، وساد المكان سكونٌ شامل ونظرت الجارية بعينيها اللوزيتين ، وقاربت ما بين حاجبيها ، وسألت .
    - ومن يسار هذا ؟
    فأجابها حبيب بن مسعود ، وكان على صلة قديمة بيسار :
    - أنا أعرف القوم بحاله .
    وأخذ يحدثها بكل ما يعرف عنه ، عن علمه وورعه ، وزهده وتواضعه وعن حسنه وأخلاقه وعذوبة منطقه .
    وسكت قليلاً ، ثم أضاف قائلاً :
    - نظرة واحدة إليه تكفي لاستيعاب كل ما كتبه الزهاد .. فما حوى الكتاب بين دفتيه ، ترينه في هذا الفتى الذي يسير على قدميه .
    وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وقال :
    - ذلك الرجل عرف الطريق إلى ربه ..
    قال أبو العرفان : فأنصتت الجارية بكل اهتمام ، وأخذت بما سمعت ، وعزمت في قرارة نفسها على أن تحظى به ..
    كانت غرفة الاستقبال مفروشة بالسجاد العبقري الموشى ، والستائر خضراء تتخللها خيوط صفراء بلون الذهب ، والقناديل الملونة تتدلى من السقف وهي تتمايل سكرى . وفي زوايا الغرفة قناديل أخرى تفوح منها رائحة المسك .
    ومالت الجارية برأسها ، وسألت حبيب بن مسعود :
    - هل هو متزوج ؟
    واستطاع أبو محمود ، وكان حاضر النكتة ، سريع البديهة ، يتقن اللغة التركية ، وعددًا من اللغات الأعجمية ، وكان قد سافر إلى بلاد شارلمان وجرت له من الحوادث ما لا يتسع المجال لذكرها .. قال ، وكان يتحف الحاضرين بما رأى في تلك البلاد ..
    استطاع أبو محمود أن يدرك ما يدور في خلد الجارية ، فقال وهو يضحك :
    - لا سبيل لك إلى يسار .
    فالتفتت إليه متحدِّية وقالت :
    - سوف ترى ..
    وسكتت قليلاً ثم أضافت :
    - وإذا استطعت أن أحضره إلى هنا ؟
    فنهض أبو محمود وهو يضحك ، وأخرج ألف دينار ضرب بها المنضدة وهو يقول مشجعًا :
    - ما هاهنا لك إذا استطعت أن تفعلي .
    فصاح حبيب بن مسعود :
    - اتقوا الله ، واتركوا الرجل في عالمه .
    واسترسل أبو محمود ضاحكًا وهو يقول :
    - سوف يأتي إلى هنا .. سأسقيه الخمر بيدي .
    ورفعت الجارية يدها ، تتحسَّس القرط اللؤلئي الذي يزين أذنها ، ثم نادت الخادم ، فأقبل ، طويلاً دون المشذب أسود ، جميل التقاطيع .. أحضر لها رقعة ، كتبت عليها شيئًا وطوتها بعناية فائقة ، ولفَّتها في منديلها المعطَّر ، ثم التفتت إلى سعيد بن منصور وقالت :
    - أين نجد يسارًا في هذه الساعة ؟
    فأجابها وهو يشير بيده :
    - رأيته متجهًا إلى بيت القاضي بعد صلاة العشاء .
    فنهض حبيب بن مسعود ، واقترب منها يريد أخذ الرقعة من يدها وهو يقول :
    - لا تفعلي .. بالله عليك .
    ولكنها ضحكت ودفعت يده بيدها اليسرى ، فرنت الأسورة التي تزين يدها ، ثم مالت فأسرَّت في أذن خادمها شيئًا ، ثم ناولته الرقعة ..
    وقبل أن يخرج صاح حبيب بن مسعود منفعلاً ، وأخذ يردد :
    - إن دون الوصول إلى اليسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد .
    قال أبو الحسن الورَّاق : وما هي إلا ساعة ، حتى عاد عربيد بوجهٍ جامد خالٍ من التعبير . وناولها المنديل دون أن يتفوَّه بكلمة . فأخرجت الرقعة ، وألقت عليها نظرة خاطفة ، ثم قفزت بثوبها الأبيض الفضفاض ، وشعرها الأسود الطويل وهي تحمل الرقعة بيدها اليمنى وتقول :
    - هذا هو القفل الأول قد انفتح .
    وعلت الدهشة وجه حبيب ، ولم يصدق سعيد بن منصور أذنيه ، وبقي حسَّان بشعره المجعَّد وعينيه الخضراوين ينظر إليها دون أن ينطق ، أما أبو محمود ، فقد أخذ يصفق ويصيح :
    - ألم أقل لكم .. سأسقيه الخمر بيدي ..
    وانفجر حبيب بن مسعود ، وقد التهب وجهه الصغير بالغضب ، وضرب بقبضة يده على المنضدة وهوَّل يقول :
    - مستحيل ..
    قال أبو الحسن الورَّاق : أما الجارية ، فقد استمرت كالفراشة الجميلة تدور في المكان ، وهي تحمل الرقعة بيدها وتقول :
    - هذا هو القفل الأول قد انفتح .. انظروا ..
    وألقت الرقعة على المنضدة ، فتسابقت الأيدي للحصول عليها والاطِّلاع على ما فيها ..




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  3. #3
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    المفتاح العجيب


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    كان أبو محمود أسرع القوم إليها ، فخطفها وأخذ يلوح بها وهو يضحك وينظر إلى حبيب بن مسعود ويقول :
    - هذا هو صاحبك قد وقع .
    وقبل أن يقرأها ، وبخفة متناهية أدهشت الجميع ، خطفتها الجارية من يده ، وجذبت عربيدًا وذهبت إلى غرفة مجاورة .
    قال أبو الحسن الورَّاق : واستحثت الجارية الخادم وهي تقول :
    - أخبرني يا عربيد .. أخبرني بكل ما رأيت .
    ونظر إليها ببرود ، وكان قد عاد بغير الوجه الذي ذهب به ، وكانت الجارية متلهِّفة لسماع حديثه ، فهزِّته قائلة :
    - ماذا دهاك يا عربيد .. تكلم ؟
    فأشاح الخادم بوجهه إلى ناحية أخرى وقال :
    - هل أنت جادة في هذا الأمر يا سيدتي ؟
    وهتفت بحماس :
    - ألف دينار .. ألف دينار يا عربيد ..
    فهزَّ عربيد رأسه وهو يتلفت إليها وقال :
    - كلا يا سيدتي .. لا أظن أن الدنانير هي كل ما تبغين .
    فقطَّبت ما بين حاجبَيْها ، ونظرت إليه بعينيها النجلاوين ، وقالت : تستنطقه :
    - وما تظن يا عربيد ؟
    فتنهَّد وهو يرجع خطوة إلى الوراء ، وقد وقع الضوء القليل الذي ينتشر من ضوء القنديل على صفحة خده الأيمن ، فبدا بلون البن الغامق ، ثم رفع يده فحكَّ رأسه ثم قال :
    - لا أدري .. ولكن ..
    فضربت الأرض برجلها ، وقد صعد الدم إلى وجْنَتيْها وقالت :
    - ولكن ماذا ..؟
    وأجاب بصوت هادئ عميق النبرات :
    - يا سيدتي .. إن الوصول إلى القمر ، لأهون ألف مرة من الوصول إلى يسار ..
    ثقي يا سيدتي أنه لم تر عيني مثله بين الزهاد .. لا هنا ولا هناك . وأشار بيده إلى الشرق البعيد ، وبقي لحظات مشيرًا بيده ، واقفًا كالتمثال ، مثبتًا بصره على الناحية التي أشار إليها .
    فأطرقت الجارية ، وتغير لونها ، وقالت بصوت انتزعته من بين آلامها :
    - بالله عليك يا عربيد .. لا تذكرنا بتلك الأيام .
    ثم تنهَّدت تنهَّدة عميقة وقالت :
    - إننا في حاجة إلى النقود يا عربيد .
    فخفض يده ، وعاد إلى وقفته الأولى ، وقد شعر أنه استطاع أن يؤثر عليها .
    فتبسَّمت ، ونظرت إليه بلطف ، وقد لمعت عيناها على ضوء القنديل الذي يتسلَّط عليها .. وقالت بصوت هادئ خافت ودود :
    - والآن .. حدثني يا عربيد .. أخبرني بكل شيء .. بكل ما رأيت وسمعت . قال ، وقد انقاد إلى لهجتها :
    - رأيت نازك الرومي ، خادم الشيخ القاضي محمد صالح ، يهم بدخول الدار ، فاستوقفته ، وأخبرته بأني أريد أن أقابل يسارًا على انفراد . فأخذ بيدي إلى غرفة قريبة من الديوان .. وانتظرت حتى أقبل يسار . متوسط القامة ، أزهر اللون ، تبرق أساريره بنور جذَّاب ، نحيفًا ، تجلله المهابة ، ويعلوه الوقار ، يحس بروعته الناظر إليه .. أقسم لك يا سيدتي ، إنني لم أندم في حياتي مثل ندمي هذه الليلة . ندمت أنني قدمت في مثل هذه المهمة وعلى هذا الرجل الذي .. الذي يعيش في هذه الدنيا وروحه معلقة بالآخرة .
    إن ليس من ذلك النوع الذي تعرفينه . لم ترعيني مثله قط .. لقد تمنَّيت من كل قلبي أو لوعُدت أدراجي ، ولم أفاتحه ..
    وسكت عربيد ، وكأنه يريد أن يستحضر كل لحظة عاشها مع يسار .. واهتزت ذبالة القنديل على نسمة باردة ، تسللت من شق الباب .. وتحرك ظل الجارية على الجدار .. وعد عربيد يتحدث بصوت خافت مؤثِّر :
    - لقد ارتفع هذا الرجل بروحه عن الأرض ، وأخذ بسبب إلى السماء . فكان فيه من السماء معنى السمو والزكاء والنقاء .
    كانت الجارية تصغي إليه باهتمام ، وقد سحرها بوصفه ، وملك عليها مشاعرها . حتى تخيَّلته مَلَكًا في صورة إنسان .
    ومضت تستحثه :
    - وماذا بعد .. تكلم يا عربيد ..
    قال :
    - بدأني بالسلام .. ثم وقف ينظر إلي ، فشعرت كأن نظراته تغوص في أعماقي ، وتكشف المكنون في صدري .. ثم قال :
    - ما اسمك يا رجل ؟
    قلت :
    - عربيد .
    فلم يعجبه هذا الاسم ، ونظر إليَّ ساعة ثم قال :
    - لا ينبغي أن يكون هذا اسمك .
    ثم أضاف بعد قليل :
    - بل أنت مريد ..
    أتدري من هو مريد ؟
    ولم أجب ، مضى يقول :
    - المريد هو الذي يريد الوصول إلى الله ، بقلب سليم .
    اتق الله يا مريد واجتنب المعاصي .
    وعاد عربيد إلى السكوت .. ولم يدر ما كان يعتمل في صدر الجارية التي استبدَّ بها الشوق إلى معرفة المزيد عن يسار حتى نَسِيَت نفسها ، ونَسِيَت الضيوف الذين كانوا ينتظرون عودتها .. وانحنى عربيد قليلاً كأنه يريد أن يلتقط شيئًا من الأرض .. ولكنه عاد فاعتدل .
    وهزَّته الجارية . وقالت بصبرٍ نافد :
    - تكلم . تكلم يا عربيد .. لا تسكت .
    فنظر إليها نظرة صارمة وقال :
    - أرى أن تتركي هذا الأمر .
    - أتركه ؟!
    قالتها بدهشة وتعجب ..
    - أبَعْدَ كل ما ذكرته أتركه ؟
    كيف أترك أمرًا بدأته ؟ سرت فيه خطوات ..
    فلما رأى إصرارها ، عاد يروي ما حدث ، دون أن يعقب على كلامها الأخير :
    - رأيتني أمد يدي بالرقعة ، بتردد ، وتخاذل ، وخجل .. فتناولها ، وألقى عليها نظرة .. فنغيَّر لونه ، وصعدت حرارة الغضب إلى رأسه وشعرت بأني ركبت مركبًا صغيرًا ، وتمنيت في تلك الساعة لو انشقت الأرض وابتلعتني . ولكني أسرعت أقول له ، قبل أن أسمع منه ما يؤلمني :
    - إنها تريد أن تتحدث إليك بمشكلتها يا سيدي ..
    إنها لا تريد أن يطَّلِع عليها غيرك .
    فرفع رأسه ، وقد سُرِّيَ عنه بعض ما به وقال :
    - لتكتب مشكلتها .
    ثم وقَّع بكلمة واحدة : اكتبيها .
    ألقى الرقعة ، وعاد من حيث أتى .
    قال أبو الحسن الورَّاق : فصفقت الجارية بيدها ، ودارت حول نفسها طربًا وهي تقول :
    - لقد وقع الطائر في الفخ .
    فهزَّ عربيد رأسه وقال :
    - ألم يقل لك حبيب بن مسعود ، إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد ؟!
    فقهقهت الجارية ولقد لمع في فمها صفان مثل الحب الجمان ، ودفعت الخادم في صدره وهي تقول :
    - إنني أملك المفتاح الأستاذ الذي تتساقط أمامه جميع الأقفال ..
    ثم أشارت بيدها إلى صدرها وقالت :
    - أنا ..
    وفتحت الباب دون أن تستدير وأضافت :
    إن جميع الأقفال سوف تتساقط أمام المفتاح الساحر ، المفتاح العجيب .. المرأة !!
    وقبل أن تعود إلى الغرفة الأخرى همست :
    - سأدعوك من هذه الساعة .. ( مُريد ) .
    قال أبو الحسن الورَّاق : واستمر القوم في حديثٍ وضحك وانشراح حتى أصبح الصباح ، وارتفع صوت المؤذن من المسجد القريب يدعو .. حي على الفلاح .
    فتنهَّد حبيب بن مسعود وقال :
    - هذه ليلة من عمرنا خسرناها .
    قال : وخرج القوم فردًا فردًا ، وكان خروجهم بعد صلاة الفجر بقليل ، وسلك كل منهم طريقًا غير الذي سلكه صاحبه .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  4. #4
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    الرسالة


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    في مساء يوم الثلاثاء ، في الأسبوع الذي تلا لقاء الجارية يسار في سوق العطَّارين ، انعقد المجلس في بيت حكيم بن محمود ، كانت غرفة الاستقبال التي أعدت للطرب كبيرة واسعة ، مضاءة بعدد من الشموع الطويلة البيضاء ، وقد أحالت الليل إلى مثل النهار ، وكانت الستائر الشامية موشَّاة بالخيوط اليمانية ، وقد رتب الأثاث بشكل بديع ، ووقف طير الببغاء على رفٍ مرتفع وراح يردد بعض الأصوات والكلمات التي يسمعها من الحاضرين !
    قال أبو العرفان : وكان أبو محمود يروح ويجيء ، وهو يلقي بالنكتة اللطيفة ، فيقهقه سيعد بن منصور ، وتطوق فم حسَّان ابتسامة خفيفة ، أما حبيب بن مسعود ، فقد جلس كعادته في بدء اللقاء ، معتمدًا على المائدة بكوعه ، محتضنًا وجهه براحتيه ، وقد خيَّم عليه ما يشبه الحزن .
    فالتفت إليه حسَّان بن معيقيب وقال له :
    - مالك يا ابن مسعود ؟ إنك في كل مرة نلتقي بها تبدأ حزينًا كئيبًا كأن هموم الدنيا قد نزلت على رأسك ، فإذا بدأنا اللهو والشراب كنت أغرقنا لهوًا وعربدة !
    فضحك حبيب بن مسعود ضحكة تشبه النحيب .. وقال وهو يعتدل في جلسته ويطلق زفرة حارة .
    - كالطير يرقص مذبوحًا من الألم .
    وهمست الجارية :
    - من الذي ذبحك يا حبيب ؟
    فلم يبد عليه أنه سمع سؤالها ، ولكنه أشار إلى حسَّان وقال :
    - اسمع يا حسَّان .. لقد كنت قبل أن ألتقي بحكيم ، قبل أن يعود من رحلته الأخيرة إلى بلاد شارلمان ، كنت أسير في الطريق المعبَّد ، كنت مع يسار ، أتردد على مجالس العلم ، وأصلي الأوقات في المسجد .. حتى صلاة الفجر .. وفي مثل هذا البرد ، كنت أستيقظ فأتوضأ بالماء البارد وأنا لا أشعر ببرودته ، وأذهب إلى المسجد ، كنت أحيا حياة أخرى ، أقرب إلى حياة الملائكة ، فلما التقيت بحكيم..
    ونكس رأسه ، وأخذ يعصر يديه بيديه ، والجارية وحسَّان وسعيد بن منصور ، وحتى الببغاء كانت تصغي إليه ! ومضى حديثه فقال :
    - انقدت إلى حكيم بلا تفكير .. سلمته الزمام فأوردني المورد الحرام .
    أتدري يا حسَّان .. إننا نسير في طريق مسدود ، ليس له إلا منفذ واحد ، وهتفت الجارية بهمس أيضًا :
    - إلى أين ؟
    فتنهد حبيب وهو يدفع ظهره إلى الخلف وقال :
    - إلى النار ..
    ثم شبك بين أصابع يديه وأضاف :
    - هذا إذا لم يتداركنا الله برحمته .
    وسكت حبيب ، وكانت عيون الجارية قد تعلَّقت به تسأله المزيد ، وكان يبدوا كالأسير الذي لا يستطيع الفرار من أسره . ورفع رأسه ، فرأى الجارية تنظر إليه كأنها ترثي لحاله ، فسرَّه ذلك ومضى يقول :
    - لقد كنت أعيش في جو مملوء بالرياحين ، كنت في جنة وارفة والظلال أما الآن .. فأنى توجهت تطالعني هوة سحيقة فاغرة فاها تريد أن تبتلعني ، هذه هي المعيشة الضنك التي ذكرها القرآن الكريم }ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا{ .
    وأقبل أبو محمود ، فأخذ الببغاء إلى غرفة أخرى ثم قال :
    - إذا انتهيت من وعظك فآذني ..
    فضحك الجميع ضحكة اهتزت لها جنبات الغرفة ، وأراد ابن مسعود أن يجيب ، ولكنه سمع طرقًا خفيفًا على الباب .. فصاح أبو محمود ينادي العبد :
    - انظر من الباب ..
    وأقبل هذا بعد قليل ، وكان كبير السن تجاوز الخمسين من العمر يرتدي ملابس بيضاء ويضع على رأسه قلنسوة من صنع الأعاجم . وأخذ العبد يشير بيديه وعينيه ، ويتكلم بصوت لا يسمعه أحد من الحاضرين ، حتى خيَّم على الجميع صمت مبعثه الرغبة في معرفة ما يريد أن يقوله العبد .
    وسأل أبو محمود وهو ينظر بعينيه الزرقاوين وقال :
    - ما الخبر ؟
    وعاد هذا يوشوش بصوت مبهم، وهو يؤشر بيده وعينه حتى ظن البعض أن أمرًا خطيرًا قد وقع.
    وصاح أبو محمود وقد نفذ صبره :
    - تكلم يا رجل .
    فكوَّر يديه ، وأحاط بهما فمه ، وأحنى قامته ، وأدنى رأسه وقال :
    - لقد حضر يسار ..
    وهتف الجميع بصوت واحد :
    - من ؟!!
    وأجاب مرة أخرى وهو يكوّر يديه ويدني رأسه ، وقال بصوت خافت :
    - لقد حضر يسار .
    وتغير وجه حبيب بن مسعود ، ونهض منفعلاً وهو يهتف :
    - عملتها يا أبو محمود ؟!
    وأشار هذا بيده ، وهو ينفي ما دار في خلد حبيب ، وقال :
    - ماذا دهاك يا حبيب .. إني والله لا أعلم ما الذي جاء به .
    فهدَّأ حبيب بن مسعود ، وسرى عنه بعض ما به ، ولكنه قال :
    - إذا أردت أن تدخله ، فيجب أن ننتقل إلى غرفة أخرى ، لأني لا أرغب أن يراني هنا .
    وقدح ذهن حكيم بفكرة شيطانية ، وتبسم وهو يقول :
    - كما تشاء يا حبيب .
    ولما غادر الجميع إلى الغرفة المجاورة ، أشار إلى الجارية أن تبقى ، ثم اقترب منها وقال بهمس :
    - لقد سعى الطائر إلى الفخ .
    فنظرت إليه مستفهمة وقالت :
    - ماذا تعني ؟
    قال : ستقابلينه .
    وشهقت وهي تضرب على صدرها وقالت :
    - أنا ..؟ هنا ..؟!
    وأجابها وهو يحثها على فهم ما يريد :
    - نعم . نعم .. ستقابلينه .
    وصرخت وهي تدفعه في صدره وتتراجع إلى الخلف :
    - مستحيل .
    قال وهو يؤكد :
    - بل هذه فرصتك .
    فأصرَّت وهي تتراجع :
    - أبدًا . أبدًا ..
    قال وهو يخفض صوته :
    - ألم تكبتي له ؟
    قالت : بلى .. ولكن ..
    ولمعت عيناه ، فقاطعها قائلاً :
    - اسأليه الآن ..
    ولم تفهم ما يريد ، فأسرعت تقول له :
    - ماذا أسأله .. ما الذي تريدني أن أسأله ؟
    وأشار بيده وقال :
    - ألم تكتبي له ترغبين في مقابلته .. وذكرت أن لديك مشكلة ؟
    قالت : بلى ..
    فصعق أبو محمود وقال حاثًا :
    - اعرضيها الآن .. هذا أوانها .
    ولكنها أشارت بيدها جازمة :
    - ولكن ليست لديَّ مشكلة .
    فضرب أبو محمود على المائدة وهو يتأفف وقال :
    - المهم أن تقابلينه .. قولي له ..
    وسكت قليلاً ، كأنه يريد أن يتذكر شيئًا ، ولكنه عاد فقال :
    - لا تتكلمي على الإطلاق .
    وسألته .. وقد تقارب ما بين حاجبيها :
    - لا أتكلم .. حكيم هل أنت ..
    فقاطعها ..
    - قابليه .. قابليه فقط .. وأنا أدبر الأمر .
    ثم أشار إليها فغادرة الغرفة . وخرج أبو محمود ، ثم عاد بعد قليل وهو يقد يسارًا أمامه ، ويرحب به ترحيبًا بالغًا ، ويتعذر عن تأخره .
    ودخل يسار ، بسمت مهيب وعينين صافيتين ، ولحية تطوق وجهه فتبدوا عليه المهابة والجلالة والجمال ، وجلس في صدر المكان وقال :
    - حدثني قبل أسبوعين سعيد بن منصور ، فذكر لي أن لديك رسالة بخط أبي حامد الغزالي كتبها لأحد تلاميذه جوابًا عن سؤاله .
    وتغابى أبو محمود ، وهو ينظر إليه لا يحير جوابًا .. فأضاف يسار قائلاً :
    - لقد ذكر لي أنَّها رسالة صغيرة ورثتها عن أبيك رحمه الله .
    فهز أبو محمود رأسه وقال :
    - لا أظن أن لدي مثل هذه الرسالة .
    وسكت قليلاً ثم أضاف :
    - سأنظر في الكتب ، لعلي أجدها .
    وتوارى أبو محمود قليلاً ثم عاد يحمل كتـابًا كبيرًا ضخـمًا ، فتناوله يسار وأخذ يقلب صفحاته وقال :
    - هذا كتاب إحياء الدين ، بخط الناسخ عماد الدين السمرقندي ..
    ثم رفع رأسه وأخذ يوضح :
    - إن الذي أريده .. رسالة صغيرة قليلة الصفحات عنوانها (( أيها الولد )) كتبها الغزالي رحمه الله لأحد تلاميذه .
    فتبسم أبو محمود وقال متعذرًا :
    - أنت تعلم إني لا أحجب عنك شيئًا مهما كان عزيزًا ..
    ثم رجع إلى الوراء وقال :
    - سأعود للبحث عنها مرة أخرى ..
    وقبل أن يذهب ، وقف وقال بلهجة أقرب إلى الرجاء :
    - إن هنا من يرغب في مقابلتك .. إذا سمحت ؟
    فتبسم يسار وقال :
    - ليتفضل ..
    وتوارى أبو محمود مرة أخرى ، بينما استمر يسار يقلب صفحات الكتاب الكبير ، ويقرأ بعض التعليقات والحواشي التي دوَّنها بعض النساخ عليه .
    ودخلت سرشير .. تمشي على أطراف أصابعها ، بثوب طويل أبيض رفراف ، وشعر أسود طويل مجدول ، وعينين كحيلتين ، ووجه كالورد ، دخلت وهي في حالة رغيبة رهيبة ، وخطوات مقبلة مدبرة ، ونظرة شهية حيية ..
    دخلت سرشير .. حتى إذا توسَّطت الغرفة رفعت صوتها بالسلام .
    ولم يكن يسار قد شعر بها وهي تدخل ، ولكنه عندما سمع صوتها رفع رأسه عن الكتاب ..
    والتقت العينان .. عيناه المغسولتان بماء الوضوء ، بعينيها النجلاوين الكحيلين ، فغضَّ بصره وعاد ينظر في الكتاب المفتوح بين يديه وقال :
    - ما الذي جاء بك ؟
    فجلست مطرقة كأنها بين يدي مؤدب ، وقد تدلَّت الضفائر السوداء على صدرها ، وعقد اللؤلؤ احتضن جيدها ، والتفت الأسورة الذهبية بشوق حول معصميها.. وغطى الثوب الأبيض قدميها.
    ثم رفعت رأسها ، تمنَّت لو نظر إليها ، لو عاد ينظر إليها مرة أخرى .. فقد رأت في صفاء عينيه ونظراته ، وفي وجهه الذي تزينه اللحية ، نورًا أخَّاذًا لم ترم مثله في وجوه الرجال الذين تعرفهم .
    ودون أن يرفع رأسه عن الكتاب ، قال مرة أخرى :
    - ما الذي جاء بك ؟
    ولكنها لم تجب ، وبقيت تنظر إليه بخشوع .. كلا .. ما هذا بشرًا .. آه لو كان جميع الرجال مثل يسار ..
    ونسيت المهمة التي جاءت من أجلها ، كانت تريد أن تأسره فإذا بها أسيرة بين يديه .. أسيرة دون أن يدري آسرها بها !!
    وانتظر يسار أن تجيب ، وأراد أن ينهي المقابلة بأسرع وقت فقال :
    - لقد ذكرت في رقعتك بأن لديك مشكلة ..
    وبدت حزينة أسيفة ، كأنها ندمت على ما أقدمت ..
    ورفع رأسه يريد حثها على الكلام فقال :
    - ألا تريدين أن تتكلمي ؟
    والتقت العينان مرة أخرى.. نظرة بريئة متسائلة، ونظرة حزينة لوجه فتاة كأنه وجه طفلة جميلة.
    واستحثَّها يسار :
    - تكلَّمي ..
    ولكنها انفجرت بالبكاء ، واحتضنت وجهها بكفَّيها ، ثم أسرعت تغادر الغرفة .
    ما الذي أبكى الجارية ؟ ما هي المشكلة التي تعاني منها والتي لم تستطع البوح بها ؟ ولماذا تريد أن تعرضها عليه دون غيره ، وهو لم يعرفها ، ولا سمع بها من قبل ؟!!
    وانتظر أبو محمود ساعة ، ثم دخل وهو يحمل بيده الرسالة التي سأل عنها يسار ، وقال وهو يناوله إيَّاها :
    - أهذه التي أردت ؟
    وتناولها شاكرًا ، وأخذ يقلب صفحاتها ، وينظر فيها ثم رفع رأسه ينظر إليه بامتنان زائد وقال :
    - إنها هي .. لا أدري كيف أشكرك .
    وتبسَّم أبو محمود وهو يتصنع الخجل وقال :
    - بل أنا الذي أشكرك .. لأنك تكرمت علينا بهذه الزيارة .
    ونهض يسار وهو يشد على يد أبي محمود وقال :
    - سأعيدها لك بعد يومين .
    قال أبو محمود ، وهو يحتفل به ويوصله إلى الباب :
    - أرجو أن تقبلها هدية ..
    ثم أضاف :
    - ليتك تزورنا كل يوم .
    قال أبو الحسن الورَّاق : ومضى يسار إلى بيته ، وفي الطريق أخذ يفكر في أمر الجارية ، ماذا تكون هذه المشكلة التي أحزنتها وآلمتها وجعلتها لا تستطيع الكلام بها .. واستحضر صورتها الجميلة وهي تدخل ، وصورتها وهي تنظر إليه حزينة أسيفة ، وصورتها وهي تبكي .. إنه لم ير في حياته فتاة في مثل جمالها ، بروعتها ، بفتنتها .. لقد وقفت على دكان أبي على الأصفهاني ، وكلمته بالفارسية ، يا لعذوبة صوتها وروعة نغمتها ..
    وقبل أن يصل إلى البيت ، تذكر حديث الشيخ ، ويوسف الصديق ، وخيَّل إليه كأنه يسمع الشيخ يحذره ، فأسرع الخطو .. وطرق باب بيته ، وفتحته أخته الصغيرة سناء .. ونظرت إليه بعينيها الصافيتين ، وجهها البدري ، وابتسامتها اللطيفة الهادئة .. وسألته ؟
    - أين كنت إلى هذه الساعة ؟
    فاحتضن وجهها الصغير بيديه ، ثم ربت على شعرها الكستنائي وقال :
    - هل صليت العشاء ؟
    ونفرت من تحت يده ، كما ينفر الطائر ، وقالت :
    - نعم .
    وشعر يسار لأول مرة ، أن قلبه قد تكدَّر قليلاً ، فأسرع يتوضأ .. ثم وقف يصلي .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  5. #5
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي



    في الطريق


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    قال أبو الحسن الورَّاق : لقد صدق حبيب بن مسعود حين قال :
    إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد ، ولكن هل تستطيع هذه الأبواب أن تثبت أمام الطَرْق الكثير ؟ والمحاولات المتواصلة في التغلب عليها ؟
    كان من عادة يسار عندما يعود إلى البيت بعد صلاة الفجر والاستماع إلى حديث الشيخ ، أن يقضي فترة مـن الوقـت في قراءة جـزء كامـل من القرآن الكريم ، ثم عددٍ من الأدعية المأثورة عن النبي - e - وبعدها يأخذ قسطًا من الراحة بانتظار طعام الفطور ، حتى إذا حان موعده ، تناول فطوره مع أمه ، التي تبدو موفورة النشاط ، ضاحكة متفائلة ، لا تكل عن الحركة .. وأخته الصغيرة سناء ، التي يحاكي وجهها استدارة البدر ، ببشرة بيضاء نقية ، وعينين بلون البن وصفاء السماء . ولم تكن قِطَّتها الكبيرة ذات الشعر الطويل تفارقها ساعة من الزمان ، فهي تتبعها كظلها أينما ذهبت ، ولا تفارقها إلا ساعة النوم .
    أما أبوه فكان يخرج من البيت قبل أن يعود يسار من المسجد ثم يتبعه يسار بعد تناول الفطور ، فيساعده في عقد الصفقات ومراجعة الحسابات ومتابعة الديون .
    وعندما ارتفعت الشمس في ذلك الصباح الدافئ ، خرج يسار في طريقه إلى السوق ، ولمَّا سار في بعض الطرق ، وقعت علينه عليها .. التقى بها وجهًا لوجه ..
    كانت تسير إلى جانب خادمها مريد ، وكانت تبدو عليها الحشمة والوقار ، فلم تلتفت يمينًا أو شمالاً ، ولكنها عندما رأته ألقت عليه نظرة غريبة ، لم يستطع يسار تفسيرها ، فيها الجرأة والحزن والحياء ، وما لم يعرفه من معان أخر .
    وأبعدها عن خاطره ، وخاصة عندما احتواه السوق ، وانشغل مع أبيه في أمور التجارة .
    ودهش عندما صادفها في اليوم الثاني أيضًا .. كان يتحدث إلى أبي الفداء الماوردي ، وقد سأله عن سبب انقطاعه عن المسجد في صلاة الصبح فأجاب هذا ، وقد ناء بحمل حاجات كثيرة ، وأخذ يتحدث عن بيته وزوجه وطفله المريض وكم مرة في الشهر يأخذه إلى الطبيب .. دهش يسار عندما سمع صوتًا كتغريد البلابل .
    فالتفت ..
    فإذا .. هي ..
    هي .. الجارية .. بكل ما فيها من فتنة وجاذبية وسحر أخَّاذ .. وذهبت بعد أن مسَّت قلبه بكسرة من عينها اليسرى .. فغضَّ بصره في الحال ، وراح يستغفر الله في سرِّه ..
    ثم مضى في طريقه .
    وأخذ في اليوم الثالث يستعجل أمه في إعداد الفطور ، وفي كل مرة يخرج إلى ساحة الدار ينظر إلى الشمس .. أين وصلت ! وانتبه إلى صوت أخته الصغيرة التي كانت تركض وراء قطتها التي يشبه لون شعرها لون الحناء ، سألته وهي تركض دون أن تنتظر الجواب :
    - هل لديك موعد مع أحد ؟
    وشعر كأن الصغيرة أيقظته ، فأخذ يلوم نفسه ، ويستغفر الله في سره ، ويحاول أن ينفض ما علق بقلبه من البكر من غبار ..
    فكثيرًا ما يعنى المرء بغسل ثوبه وملابسه ، ولكنه يهمل غسل قلبه !
    هكذا قال الشيخ .. عندما كان يتحدث بهدوء وتؤدة ، فيجذب إليه القلوب والآذان .. ولكن القلب لا يغسل بالماء والصابون ، إن له غسلاً آخر .. ليس من مادة هذه الأرض .. بالتوبة والاستغفار والإقلاع عن الذنب .
    وتعمَّد يسار أن يتأخر أكثر من أي يوم .. ولاحظت أمه أنه بينما كان يحثها على إعداد الفطور بسرعة ، إذا به يسكت فيتركها تعده على مهل .
    كانت البيوت تقف على جانبي الطريق متصلة ببعضها ، إلا فتحات قليلة تؤدي إلى النهر ، وتطل الأصص بالأزهار الملونة من الشرفات ، وتبدو الستائر ذات الألوان الزاهية عندما تفتح البيوت التي تواجه النهر نوافذها تستقبل الشمس .
    ومضى يسار في الطريق ، وكان مرتاح القلب مسرورًا ؛ لأنه انتبه إلى نفسه ، فعالجها وغسل قلبه من صورة الجارية وصوتها و.. وكان معظم المارة يسلِّمون عليه ، ويسلِّم عليهم ، والتقى في طريقه بالعم عثمان .. وكان هذا شيخًا تجاوز المائة من العمر ، أبيض شعر الرأس واللحية ، أحمر الوجه ، احتفظ باعتدال قامته وشيئًا من نشاطه ، وكان يستند بيده اليمنى على عصا غليظة ، وكان قد قضى ما يزيد على الثمانين من عمره يعمل في البحر .. تاجرًا وبحارًا وربانًا .. حتى لقب بحق ، بأبي البحر .
    وقف العم عثمان يسأل يسارًا عن حاله وعن والده ووالدته وعن أخته الصغيرة .. ثم مضى يحدثه دون مقدمات عن إحدى رحلاته إلى بلاد الصين ، عندما غرقت السفينة وقذفه الموج إلى الشاطئ . ثم لجأ إلى قرية ، لما علم أهلها أنه مسلم وأنه من بلاد العرب ، وأنه رأى مكة والمدينة وأدى فريضة الحج ..
    هنا أخذ العم عثمان يسعل بشدة ، حتى تحول لون وجهه إلى مثل لون الدم .. فلما هدأ ضرب الأرض بعصاه وقال :
    - أتدري ماذا فعلوا ؟ لقد هجموا علي ومزقوا ملابسي ووزعوها على أهل القرية قطعة قطعة يتبركون بها .. ثم طلبوا إليَّ الإقامة عندهم ، فلما أخبرتهم بأني أريد العودة إلى أهلي وبلادي ، جاءوا بجميع فتيات القرية ، وعرضوا عليَّ اختيار من أريد لكي أتزوجها وأقيم عندهم ..
    لكني رفضت ، وأخبرتهم بأني متزوج ولي أولاد ..
    وسكت العم عثمان ليسترد أنفاسه ، ثم ليخرج من خزانة عمره الطويل ما حوت من أخبار .. ثم قرب رأسه وهو ينحني وقال :
    - أتدري ماذا كان قرارهم ؟ أرادوا قتلي ..
    وهتف يسار :
    - أرادوا قتلك ؟ لماذا ؟ هل أسأت إليهم ؟
    فهزَّ العم عثمان رأسه وقال :
    - كلا .. لقد أرادوا تكريمي على ما يزعمون .. فعندما رأوا إصراري على عدم البقاء عندهم ، تشاوروا فيما بينهم . وقالوا إن هذا الرجل مبارك ، وذهابه يعد خسارة لنا ، وأنه من الأفضل قتله وإقامة بناء يليق بمكانته على قبره ، فيكون بركة لنا وللقرية على ممر الزمان ..
    قال العم عثمان وهو في حالة الانفعال الشديد :
    - لم أمكنهم من نفسي .. هربت .. هربت في نفس الليلة التي علمت أنهم سيقتلوني فيها ..
    وبينما كان يسار في انسجام تام مع العم عثمان ، وهو يستمع إلى قصته العجيبة ، التي لولا العم عثمان ومكانته لما صدقها .. بينما هو في هذه الحالة من الانسجام إذ سمع صوتًا كاللحن الشارد يقول :
    - إنه لا يريدنا ..
    والتفت بحركة لا إرادية سريعة .. ورآها ، في ابتسامة مليحة ووجه متورِّد وعينين فيهما الكثير من العتاب .. ثم حوَّلت نظرها إلى الخادم بعد أن ألقت بشواظها على قلب الفتى ( العذراء ) .. قلب يسار ..
    ما الذي جاء بها في هذه الساعة ؟ ألم يتأخر في الخروج من البيت حتى ارتفعت الشمس .. هل تأخرت هي أيضًا .. كيف حدث هذا ؟
    ومضى ذلك اليوم ، وعندما عاد يسار في المساء ، وبلغ المكان الذي كان يتحدث به مع العم عثمان ، تذكر تلك القصة ، وتذكر الجارية .. فخفق قلبه ..
    وتلفت حوله ..
    وشعر كأنه يسمع صوتها العذب يردد بدلال وإغراء :
    - إنه لا يريدنا ..
    وتطلع إلى النهر الذي خيَّم عليه الظلام ، وكانت الريح ساكنة ، والنهر ساكتًا ، وليس هناك من يضرب بمجدافه ويغني .. وبقي واقفًا لحظات تهجم عليه خواطر شتى ..
    كيف هجمت هذه الفتاة على قلبه ؟!
    كيف تسلَّلت إليه ؟
    لقد أصاب قلبه ما كدَّر صفاءه ، لقد تلوث قلبه ، إنه لا يحق له أن يذهب بعد اليوم إلى المسجد ، أو يجلس بين يدي الشيخ .
    إنه لم يعد ذلك الفتى الطاهر النقي الثوب ..
    إن قلب العابد الموصول بالله يجب أن يخلو من الصور .. لا يدع فيه مكانًا لمثل هذه الجارية ..
    كيف سمح لها أن تلوث بساط قلبه بأقدامها ؟!
    كيف سمح لها .. إنه لولاه لما طمعت فيه ..
    ولكن لا ..
    سيذهب غدًا ..
    وسيحدث الشيخ بكل ما حدث ، فعنده الدواء ..
    ولم لا يحدثه ؟
    إنه لا يفضي لأبيه .. ولا لأي إنسان قريب بما يفضي به للشيخ ، إنه يشعر بأن الشيخ منه بمنزلة الأب والأخ الكبير والصديق .. بل أكثر من ذلك كله .. إنه المربي ..
    ووقف في غرفته المطلة على النهر ، وأخذ يتطلع من النافذة كان الجو باردًا ولكن ليس شديد البرودة ، وعلى الجهة الثانية من النهر يبدو بصيص بعض الفوانيس .. وأرسل طرفه إلى السماء .. إلى الكون الكبير الساجد .. في ذلك الليل البهيم ، ونظر إلى النجوم التي تطرز ثوب السماء .. وأخذ يردد مع نفسه :
    - سبحان الله .. سبحان الله ..
    ثم أخذ يرددها بهمس ، وأحس بلذتها وعذوبتها ، فرفع بها صوته وشعر كأنها أخذت تكبر وتكبر حتى عاد الكون كله يستجيب لهتافه .. سبحان الله .. سبحان الله ..
    ولم يدر كم بقي واقفًا ، مستغرقًا ، محلقًا بروحه ، منصتًا إلى هتاف الكون ، الذي هو صدى هتافه النابع من أعماق قلبه .
    ثم أغلق النافذة وسوى الستائر ، وألقى بنفسه على الفراش وراح يردد مع نفسه أدعية النوم ، ويفكر في معانيها الكثيرة المتجددة .. ثم لفه النوم الهادئ بين أحضانه ..




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  6. #6
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    منازل السائرين


    قال محمد بن إسحاق الموصلي :
    مع الخيط الأول من الفجر ، استيقظ يسار على صوت المؤذن ، وكان صوته نديًا ، رقيقًا ، فيه الهدوء والسكينة والجلال .. وظل يستمع إليه بكل حواسه ، دون أن يغادر فراشه ، وشعر لكلمات الأذان بمعان جديدة قوية مؤثرة .. فالصلاة دائمًا مقرونة بالفلاح .. فكيف يفلح من لا يصلي ؟!
    وترك هذه المعاني تتسرب مع الصوت الهادئ الذي ترفرف به أجنحة الملائكة ، إلى أعماق قلبه ، وتسري مع دمه إلى منافذ جسمه فيشعر بدبيب حياة جديدة ، تصاحب حياة اليوم الجديد ، والفجر الجديد .. ويردد باستغراق إيماني عجيب ، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ..
    حتى إذا انتهى الأذان ، انتفض قائمًا ، وأسرع فتوضأ ، ثم ارتدى ملابسه وغادر البيت ..
    وبعد صلاة الفجر ، تحلَّق المصلون حول الشيخ يستمعون إلى حديثه .
    وتحدث الشيخ عن منازل السائرين ..
    كان يستعين في تجسيم المعنى وتوضيحه وتقريبه إلى أذهان مريديه ، بالأمثلة الواضحة اللامعة ، كما يستعين الملاَّح بالنجم الثاقب في الليلة الظلماء .
    كانت كلمات الشيخ تسطع في النفس كما تسطع النجوم في السماء ، وتتصل بالروح تمد لها بسبب إلى التقوى ، وهي بعد ذلك أشبه بالماء الزلال عصرته العيون ، فخرج خالصًا سائغًا شرابه ، يرف بندى الحياة ..
    وضرب مثلاً للسائرين إلى الله ، كجماعة أرادوا الصعود إلى جبل ، فمنهم من تخلَّف من أول الطريق ، وقد هاله ارتفاع الجبل ، فانهارت عزيمته . ومنهم من أدركه التعب وهو لم يبلغ ربع المسافة . ومنهم من وصل إلى نصفه ، لكنه عثر فتدحرج .. فقد يقوم هذا المتدحرج ليعاود تسلق الجبل .. وقد تقعد به الهمة فيبقى في مكانه الذي انتهى إليه .
    والسعيد السعيد من استطاع أن يبلغ القمة .
    كان الشيخ يتحدث والجماعة المحيطة به تصغي إليه إصغاء تامًا وقد أخذ بعضهم يكتب على لوح أحضره معه ، حديث الشيخ لكي لا ينساه .. وكان بعضهم يتنهد بحرارة وهو يقارن حاله بما يسمع .
    وكان مما يزيد من تأثير حديث الشيخ ، أنه لسان حاله .. وحاله ظاهر في لسانه . وكان عفيفًا عابدًا ناسكًا ، صوامًا قوامًا ، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال ، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال ، وقَّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره . لا تكاد نفسه الكبيرة تشبع من العلم ولا تروي من المطالعة ولا تمل من الانشغال ، مع تصوُّن تام ، وتعبد واقتصاد في المأكل والملبس .
    وتنهد يسار وهو يتصور حاله .. إنه لا يدري أي مسافة قطع فاعترضته هذه الجارية .. وسدت عليه الطريق ، فهو يعمل جاهدًا على تنحيتها عن طريقه ، والسير إلى الأمام ..
    ونظر إلى الشيخ كالمستغيث ، وأراد أن يتكلم ..
    ما ضر لو سمعه الحاضرون ..
    ولكن لا ..
    إنه لا ينجو من تعليقات أبي أنس ، الفتى الذي يحب الدعابة ، ويتقصدها أحيانًا ..
    هل يستطيع الشيخ أن يقرأ ما فيه نفسه ؟
    لقد قال له مرة وهو يربت على كتفه :
    - اتق الله يا يسار ..
    وكان في ذلك اليوم قد استرق النظر إلى فتاة من بنات الجيران ..
    تلك كانت نظرة واحدة ..
    واحدة فقط ..
    فكيف وهو اليوم صريع غانية لعوب .. ليست ..
    وعض على شفته عندما وصل إلى هذه النقطة .
    آه لو كانت نقية الثوب .. لما ترددت لحظة عن خطبتها .. ولكن .
    ولم يشعر إلا والجماعة ينهضون ، ويد أبي أنس فاضل بن أنس يضرب على كتفه الأيمن وهو يقول :
    - اصح يا شيخ ..
    لقد انتهى الشيخ من حديثه اليوم ، فأين كان سارحًا وشدَّ الشيخ على يد يسار .. وغض هذا بصره تحاميًا لعيني الشيخ .. وخشي أن يقرأ الشيخ ما فيه نفسه ..
    ولم يحدث الشيخ يما يريد .
    لماذا لم يحدثه ؟
    أيخشى أن يسمعه أحد ؟!
    وعاد إلى البيت وهو ينقل الخطو بتثاقل ، وكان الجو باردًا والرياح بدأت تشتد ، وبرزت طلائع سحب في السماء ، وقد تكشَّفت الدنيا ، وزال الظلام .. وأخذت الريح تضرب بعض أوراق الأشجار اليابسة المتساقطة على الأرض فتسوقها أمامها ..
    ولم يلتفت إلى النهر الهائج ، ولا إلى صف البيوت على الجانبين ، ولا إلى الذين يغادرون بيوتهم طلبًا للرزق ..
    لم يلتفت إلى هذا كله ..
    لقد كان يلوم نفسه ..
    يؤنبها ..
    كيف سمح لنفسه أن تسير مع هؤلاء الفتية الذين اجتمعوا على طاعة الله وافترقوا عليه .
    أيخدعهم ؟!
    إنه لا يريد أن يخدع أحدًا ..
    إذا خفي على هؤلاء أمره ، فهل يخفى على الله ؟
    الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ..
    قال أبو الحسن الورَّاق : وشعر يسار بالدموع تنزل على خديه .. ألا يستطيع أن يقف في وجه الفتاة ؟
    فتاة ..
    وتلفظ الكلمة باستهانة واحتقار ..
    وعندما وصل إلى البيت .. هرع يستنجد بالقرآن ، وجلس يقرأ بصوتٍ كسير وجيع .. وكان يعمر على آيات العذاب فيرددها ويبكي .. ولمَّا انتهى من قراءته ، أقبلت أمه تقول :
    ما هذه القراءة يا يسار ؟
    ورفع إليها نظرة ، تجول فيها دمعة أخيرة متخلفة ..
    وأضافت أمه تقول :
    - لقد كنت تبكي ..
    وسكتت قليلاً عندما رأته يخفض رأسه .. ثم قالت :
    - ما هكذا تكون قراءة الخاشعين يا بني .
    قال أبو الحسن الورَّاق : من أين لهذه الأم المسكينة أن تدري ما في قلب يسار .. وليتها درت ..
    فهل تستطيع أن تعاونه ؟
    إنه لا يخشى على شيء خشيته على قلبه الذي أمضى في مداراته عددًا من السنين حتى رقَّ ولان وأقبل على الله بكل حب وشوق ورغبة بما أعدَّ الله للمؤمنين الصادقين الصالحين ..
    فما الذي قذف في طريقه بهذه الجارية ؟!
    كيف دخلت في حياته ..
    من أي باب تسللت إلى قلبه ؟
    ولم ينتبه يسار عندما كان جالسًا على مائدة الفطور ، لم ينتبه إلى أخته سناء التي كانت تنظر إليه كعصفورة وجلة .. إلى شروده وسهومه .. لم ينتبه إليها وهي تقول :
    - هل أنت مريض ؟
    ولمَّا لم يجبها ، مدت يدها الصغيرة ، ووضعت كفها على ظاهر يده تتحسس حرارة جسده .. فالتفت إليها وقال :
    - ما لك يا سناء ؟
    فعادت تسأله دون أن ترفع يدها :
    - هل أنت مريض ؟
    فحوَّل وجهه وهو يغالب ابتسامة حزينة وقال :
    - لا ..
    ولمَّا ألحت عليه .. قال وقد ضاق بإلحاحها :
    - ألا تريدين أن تسكتي ؟
    فضربت بملعقتها على الصحن ، فرن رنينًا دافئًا امتزج بأنغام ضحكاتها المتقطعة ، وبرزت كحبات اللؤلؤ المرصوف وقالت :
    - لا أسكت .
    ونظر إليها بعتاب ، وكأنه ضبطها متلبسة بمخالفة ، وقال :
    - لماذا ؟
    فاسترسلت بضحكاتها وأسلوبها الطفولي وقالت :
    - هل أنت مريض ؟
    قال :
    - نعم ..
    قالت :
    - ما الذي يوجعك ؟
    وربت على شعرها الكستنائي وقال :
    - قلبي ..
    فنهضت وهي تنفر برأسها الصغير ، فتقفز ظفيرتها من على صدرها إلى ظهرها .. وقالت :
    - سآتيك بالدواء الذي تستعمله أمي ..
    وأمسكها من يدها وهو يقول :
    - إنه لا يؤلمني بالمعنى الذي تفهمينه ..
    وبعينين فيهما آيات البراءة والوداعة والصفاء ، نظرت إليه وقالت بحنان :
    - كيف ؟
    قال ، وهو يحاول أن يوضح لها ما يريد ؟
    - إنه فقط .. فقط .. أصابه بعض الغبار .
    وضحكت ضحكت بديعة وهي ترتد برأسها إلى الوراء ، وقالت ، وهي تحاول أن تخلص يدها من يده :
    - بالله عليك خبرني .. كيف يستطيع الغبار أن يصل إلى القلب ؟
    وترك يدها وهو يشاركها الضحك .. والقطة الكبيرة تدور في المكان وتموء .. وأمه .. بنشاطها المعتاد .. تروح وتجيء تضع صحون الطعام .. فلما تم إعداد المائدة ، أشار إلى سناء .. ومد يده وهو يقول : اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار ، بسم الله .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  7. #7
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي



    في بيت الجارية


    قال محمد بن إسحاق الموصلي :
    لم يكن أما يسار إلا أن يغير طريق ذهابه إلى محل أبيه ، لكي يتجنب رؤية الجارية ، سيسلك الطريق المعاكس ، وإن كان طويلاً ، ولم يتعود على سلوكه من قبل .
    ولكن .. ما العمل ..
    ومضى في الطريق المعاكس ، فرأى كثيرًا من الأشخاص الذين يعرفهم ، ومر بأبي الفداء ، حاملاً طفله فداء الدين وقفًا أمام بيته . وكان طفله قد تماثل للشفاء ، فأخذ يبتسم للمارة وهو يحرك يده ويتلفت برأسه الصغير ووجهه المتورد المتفتح كزهرة القداح .. وكانت بعض الأشجار قد خلعت أرديتها وأخذت تتهيأ لاستقبال الربيع .
    ومضى يسار ، وحمد الله على السلامة ، فد مر اليوم الأول والثاني والثالث دون أن يراها . ولكن صورتها لم تغادر خياله .. وصوتها يهمس في أذنه ، ونظرتها .. وفي كل يوم يزداد شوقًا وتلهفًا .. والمكان الذي احتلته في قلبه بدأ يتسع . ولكنه كان يقاوم ويحاول أن يأسو جراح قلبه .
    قال أبو الحسن الورَّاق : في مساء اليوم الرابع ، ذهب يسار بعد صلاة العشاء ، إلى بيت القاضي الشيخ محمد صالح ، وكان مجلس الشيخ عامرًا بالمسائل الفقهية الجلية ، والحكم الثاقبة ، والنوادر اللطيفة ، وأقباس من جنائن الحديث والتاريخ والأدب . وكان الشيخ المفوه ، يدير الحديث ويأتي بكل طريف وحديث .
    وقد تأخر ذلك المساء في بيت القاضي ، فلما خرج ، كانت السماء قد ادلهمت بالغيوم ، وأخذت ترسل رذاذًا ، فأسرع يسار إلى منزله ، خشية أن يدركه المطر . وقبل أن يصل إلى البيت بخطوات ، برز من زاوية مظلمة ، رجل متوسط القامة ، أسود ، وقال بصوت هادئ :
    - هل تسمح يا سيدي ؟
    ونظر إليه يسار ، وتين ملامحه ، إنه خادم الجارية .. مريد .. وعاد هذا يقول مرة أخرى :
    - إن سيدتي مريضة .. وهي تود أن تراك .
    لقد ظن أنه تخلص منها نهائيًا ، وظن أنها لن تعترض طريقه . ولكن هاهو خادمها العربيد يأتي ليذكِّره بها ، ليجذبه إليها .
    قال يسار وقد تملكه الغضب :
    - اغرب عن وجهي .
    ولكن الخادم بقي في مكانه وقال بصوت خفيض :
    - إنها مريضة يا سيدي ..
    وهتف يسار قائلاً :
    - ويحك يا رجل . وما شأني بمرضها ؟
    وسكت قليلاً ثم أضاف :
    - ادع لها طبيبًا .
    فأجاب الخادم بلهجة صادقة :
    - لم أجد الطبيب في بيته يا سيدي . فأرسلتني أدعوك .
    ولما نظر إليه يسار متعجبًا ومستغربًا ، أضاف الخادم يقول :
    - ربما تريد أن تسرُّك بأمر يا سيدي .
    قال يسار وقد رفع يده يهم بطرق الباب :
    - لتسر واحدًا من معارفها .
    وتأخر الخادم خطوة وقال :
    ولكنها لا تثق إلا بك .
    وهتف يسار وهو يريد أن يتخلص :
    - من أين تعرفني يا رجل ؟
    فأجاب الخادم بكل جدية :
    - من من الناس من لا يعرفك يا سيدي .. من من الناس في بغداد من لا يعرف يسارًا ..
    ولما رآه ساكتًا مضى في كلامه :
    - إنها يا سيدي في حالة يرثى لها .. إنك لو رأيتها يا سيدي ، لرق لها قلبك ..
    من يدري .. ربما لا تعيش إلى الغد .!
    ولم برق في السماء ، ومسَّت قلبه العبارة الأخيرة ، فهتف مأخوذًا :
    - لا تعيش إلى الغد ؟
    وهزَّ الخادم رأسه وهو يؤكد :
    - الأعمار بيد الله يا سيدي .
    استوضح قائلاً :
    - وماذا تظنها تريد ؟
    فطأطأ رأسه ، وقال بصوت يَنُمُّ عن التأثر والحزن العميق :
    - ربما تريد أن تتوب .
    وغمَغم يسار ، وكأنه لا يصدق ما يسمع :
    - وما الذي يمنعها من التوبة ؟
    الله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن كثير .
    قال وهو يرفع رأسه الذي تساقط عليه الرذاذ ، وقال :
    - ربما تريد أن تبوح لك بسر ..
    ودق قلب يسار وهو يحرك شفتيه :
    - سر ؟
    ولم يشعر يسار إلا كما يشعر السابح الذي ألقي في اليم ، فنال منه الجهد والتعب ، وأخذت الأمواج تتقاذفه إلى حيث تشتهي ولا يشتهي ..!!
    قال أبو العرفان : وفي الطريق سأله الخادم قائلاً :
    - لقد قلت لي مرة .. اتق الله واجتنب المعاصي .
    والتفت يسار ، ليرى مدى الصدق في سؤاله ، فلم يستطع أن يتبين من معالم وجهه . ولكن نبرات صوته أوحت بأكثر مما يستطيع وجهه الملفوف بالظلام أن يوحي . وكان الرذاذ الخفيف اللطيف ينزل متمهلاً وكأن السماء تداعب به وجه الأرض .
    وأجاب يسار بعد أن سار خطوات وقال :
    - اترك ما أنت فيه ..
    وقبل أن يسأله الخادم ، وقف وأضاف :
    - إن أرض الله واسعة .
    كانت الفوانيس تبدو باسمة مستسلمة مسرورة بما ترسل السماء من رذاذ ، وكان بعضها يبدو خائفًا وجلاً قد انخنس نوره مترقبًا لما قد تأتي به بعد ذلك ، ولاسيما في هذا الموسم من آخر الشتاء .
    ولما اقتربا من بيت الجارية ، قال يسار :
    - لا تتركني وحدي ..
    ولم يفهم الخادم ما يريد .. فأضاف موضحًا :
    - لا يجوز لرجل أن يختلي بامرأة غريبة عنه .
    عندما فتح الخادم باب الغرفة التي ترقد فيها الفتاة ، طارت إلى أنف يسار رائحة مسك فتيق ، وبدت الغرفة في تأثيث فاخر ، وفي صدرها سرير قرطبي ، يتدلى فوقه سراجان يقال أن حكيم بن محمود قد أتى بهما من بلاد الفرنك ، في آخر سفرة له إلى تلك البقاع . وقد تمددت الجارية على ذلك السرير القرطبي بعد أن وصل الغطاء الأبيض الموشى بخيط الموصلين إلى صدرها .. وارتاح شعرها الأسود الطويل على ترائبها .
    كانت الجارية تئن وتتأوه ، وتتلوى من الألم . ولم يصدق يسار أول الأمر ، وقد تسمرت قدماه في أول الغرفة ، وظن أنه قد خدع ! ولكن تردده لم يطل .. فقد التفتت إليه بعينيها المتضرعتين ، فخفق فؤاده وانجذب إليها كالمسحور ، حتى إذا صار قريبًا منها قال بصوت اجتهد أن يكون خافتًا كأنه من دنيا الأحلام :
    - سرشير ..
    وأجابته بعينيها ، وهي تصغي إليه ، تستمع لألحان صوته العذب ، وصدرها الذي يغطي بعضه شعرها الطويل الأسود اللامع ، يعلو ويهبط .. وراح يسار يردد كالنائم :
    - كيف حالك يا سرشير ؟
    وتبسمت وهي تغالب دمعة متألمة ، وقالت بصوت يشبه الأنين :
    - لقد خشيت أن أموت ولا أسمع اسمي يتردد على لسانك ..
    فهتف كالمأخوذ :
    - سرشير ..
    وأجابته وقد نسيت أنها مريضة :
    - يسار ..
    قال :
    - أنت ملء القلب يا سرشير .
    وتحرجت الدمعة على خدها طربًا ، وقالت والابتسامة تشرق على وجهها :
    - يسار .. أنا ..
    وهتف مرة أخرى :
    - أنت يا سرشير .. أنت ملء القلب .
    وانتقلت على أنغام صوته ، إلى عالم مملوء بالرياحين ، فتحركت في مكانها وأرادت أن تجلس ، ولكن الألم عاودها .. فتأوَّهت ، وتلوت في فراشها وأخذت تئن أنينًا يشبه النحيب . وكان ينظر إليها ، ويحس بقلبه الغض يتلوى معها ، ويئن ، ويتمنى لو زال عنها الألم .
    كانت جدران الغرفة مصبوغة باللون الوردي الفاتح والسراجان المتدليان فوق السرير يضيفان على الغرفة بهاءً ورونقًا ، والموقد الصيني في جانب الغرفة يشيع الدفء .
    وعندما خفَّت عنها وطأة الألم ، نظرت إليه بعينين تنطق بالندم وقالت :
    - إنني ..
    وتطلَّع إليها ، إلى شفتيها القرمزيتين ، إلى حبات العرق التي تصببت على جبينها نتيجة الحمى ، يريد أن يسمع ما تقول ..
    ولكن الدموع غلبتها ..
    لقد أرادت أن تخبره بكل شيء ، بكل ما جرى ، أرادت أن تعتذر .. أن تقول له إنها لم تكن تدري أنها ستواجه فتى من نور ينهزم أمامه الظلام ، لو أراد أن يسلك فجًا لسلك الشيطان فجًا غيره ..
    لقد تساقط حولها كثيرون ..
    انهالوا على أقدامها ..
    تمنى الواحد منهم لو يحظى منها بنظرة ، بابتسامة ، بكلمة ..
    أية كلمة تنطق بها ..
    أمَّا هو ..
    هذا الفتى الراهب ..
    وعادت تنظر إلى وجهه الجميل الذي تحتضنه بكل حنان لحية دافئة تزيده جاذبية وجمالاً .. وأخذت تشتار لذيذ الشهد من عينيه التي تومض ببريقٍ يخطف القلوب ..
    وكان لا يزال يتطلع إلى شفتيها القرمزيتين يريد أن يسمع ما تقول ..
    عندما قال لها بصوته المتألم :
    - أنتِ تبكين يا سرشير .
    قالت وهي تنظر إليه متشبثة :
    - إنني أخشى أن أموت .
    وهتف دون وعي :
    - عافاك الله يا سرشير .
    ثم أضاف يطمئنها :
    - إن صحتك جيدة .
    قالت ، وقد سرها أن تنظر إلى عينيه اللتين روَّعهما كلامها :
    - هل تريدني أن أعيش ؟
    قال :
    - إنها إرادة الله ..
    وبقلب ينبض بالإيمان والتقوى أضاف :
    - والحياة ليست بأيدينا .. إنه مالكنا .
    قالت وهي تتألم :
    - ولكني مثقلة بالذنوب .
    فهتف من صميم قلبه الموجع :
    - توبي إلى الله .. اسأليه أن يغفر لك .
    ونظرت إليه بضراعة ، وقالت :
    - لماذا لا تدعو لي يا يسار ..
    وقبل أن يحرك شفتيه قالت :
    - أنت مستجاب الدعاء ..
    وهزَّ رأسه وهو يجب ، بأسلوب العارف :
    - إن الله يجيب المضطر إذا دعاه .
    وأدارت رأسها إلى الناحية الأخرى ، وهي تبكي بصمت فلما رأى الدموع تنساب على خدِّها ، تحطمت جميع الأقفال التي أقامها على قلبه ، وفتحت الأبواب كلها دفعة واحدة .. وهتف كالمجنون :
    - سرشير ..
    وأضاف متضرعًا :
    - كفكفي دموعك يا عزيزتي .. ارحمي قلبي .
    والتفتت إليه وقالت :
    - أنت تحبني .. أليس كذلك ؟
    وتولَّت العيون الجواب ، وسكتت لغة الكلام ، من أين للألسن أن تفهم لغة العيون ؟!
    وأرادت مرة أخرى أن تبوح له بما في نفسها ، أن تخبره بكل ما جرى .. ولكن في اللحظة التي فتحت فيها فمها لتتكلم ، دخل الخادم يحمل الدواء في قدح .
    - هذا الدواء يفيد يا سيدتي ..
    وكانت لا تزال تنظر إلى يسار .. فأسرع يتناول الدواء من الخادم ، واعتدلت في الفراش ، وتمنت لو يسقيها الدواء بيده ..
    وقرب يده بالقدح ، وانتظر أن تمد يدها لتأخذه وقال :
    - خذي .. بسم الله المشافي ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
    - وتناولت القدح ، وشربته على دفعات .. ثم بقيت لحظات رافعة رأسها ، تنظر إلى سطر منقوش على حائط الغرفة لم تتبين معالم كلماته ، ثم عادت فتمددت ، وسحبت الغطاء ، وأخذ صدرها يعلو ويهبط ، وسمعها تئن أنينًا خافتًا وتتوجع ..
    ثم هدأ صدرها ، واستسلمت للنوم ..
    وبقي يسار ينظر إليها وكأنه في حلم .. ثم التفت إلى الخادم ، وسأله بصوت خافت :
    - منذ متى وهي على هذه الحال ؟
    فأجاب الخادم ، وكان يبدو على ضوء القناديل الخافتة فاحم السواد :
    - منذ يومين يا سيدي .
    قال يسار :
    - وهل تناولت دواء خلال اليومين ؟
    فهز رأسه قائلاً :
    - هذه أول مرة تتناول فيها الدواء .. من يدك .
    وسكت مريد قليلاً ثم أضاف :
    - لقد كانت تلح علي أن أدعوك .. منذ اليوم الأول لمرضها ، كانت تقول : لابد أن يعلم .. أريد أن أحدثه بكل شيء .
    ونهض يسار ، وهو يلقي عليها نظرة عطف وحنان ، وقال :
    - سأعودها غدًا .. إن شاء الله .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  8. #8
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي



    سر الجارية


    قال محمد بن إسحاق الموصلي :
    لم تمض على خروج يسار ساعة من الزمن ، حتى سمعت الجارية طرقًا قويًا على الباب اهتزت اه جنبات الدار ، فأسرعت تفتحه لترى من الطارق .
    وطالعها رجل طويل عريض كبير الأنف صغير العينين ، قد كور فوق رأسه عمامة قديمة مهملة ، واشتمل برداء من الجلد مما يستعمله المسافرون . وقال الرجل بصوت جهوري ضخم :
    - أين مريد ؟
    وقبل أن تجيب ، ودون أن ينتظر جوابها قال :
    - أخبريه بأن القافلة ستغادر غدًا ، بعد صلاة الفجر .
    ثم أداره ظهره ومضى دون أن يلقي عليها نظرة، أو يحاول سماع الجواب. لكنها صاحت تقول:
    - إلى أين ستغادر القافلة ؟
    ودون أن يلتفت ، أو يكلف نفسه عناء الوقوف ، قال :
    - إلى الشام .
    قال أبو الحسن الورَّاق : واهتزت الجارية لسماع الخبر ، وقد فوجئت به .. إلى الشام ..!!
    ماذا يريد مريد من الشام ؟!
    أتراه يريد أن يتركها .. دون أن يخبرها أو يطلعها على موضوع سفره ؟!
    هل نسي مريد يوم جاء به أبوها طريدًا شريدًا عاريًا ..
    كان ذلك منذ سنين مضت ..
    يوم كانت سرشير صغيرة تلعب في حديقة البيت عندما أقبل أبوها على جواد أدهم ، وأقد أردف خلفه غلامًا نحيفًا في غير هزال لا يستر جسمه البرونزي إلا خرقة تستر عورته . كان الغلام يبدو غريبًا متوحشًا ، تلمع عيناه ببريق مخيف . فلما رأته تملكها رعب مفاجئ ، فهربت صارخة إلى أحضان أمها التي طوقتها بذراعيها وهي تقول :
    - لا تخافي .. لا تخافي يا بنتي .
    ثم ترجل أبوها ، وأمر بأن يؤخذ الغلام إلى الحمام . وحاول أن يتمرد ، فكلمه بلطف ، وربت على رأسه ، فانصاع الغلام . ثم كساه بدلة بيضاء أضفت عليه سمتًا مقبولاً ، وأحضر له مؤدبًا علَّمه كثيرًا مما يحتاج إليه أمثاله ، وبقيت مدة لم تحاول الاقتراب منه أو الكلام معه . وكان هو أيضًا ينعزل في ركن من الحديقة الكبيرة التي تطرز حواشيها الأزهار من كل نوع ، وتنتشر في أرجائها الطيور الصغيرة الملونة ، طيور الجنة ، وعدد من البط يختال قرب حوض الماء .
    ولم تمض أيام حتى تغير الغلام تمامًا .. لم يعد ذلك الغلام النحيف العري الجسم الموحش .. كانت تسترق إليه النظر وهو يأكل ، وتسترق إليه النظر وهو يجلس أمام مؤدبه . وقد كانت ترميه بكرة الصوف أحيانًا أو ببقايا التفاح ، فإذا نظر إليه شزرًا لاذت بأمها ..
    وتجرأت يومًا على الاقتراب منه ، وحدثته .. فلم يرد عليها بكلمة واحدة ، وكان ينظر إليها ، وكأنه ينظر إلى طير صغير جميل .
    وبعد ما يقارب الشهر على مجيئه ، أشار إليه أبوها يومًا .. فتبعه طائعًا ، بعد أن ارتدى ثوبًا جديدًا جميلاً . وفي المساء عاد الوالد يتبعه الغلام ، وكان في أشد حالات الانفعال والهياج .. وأخذ يتحدث بلا حذر . وكأنه فقد صوابه :
    - لا أدري كيف يثق السلطان بهذا الرجل ؟
    ومضى يخاطب أمها :
    - كان هناك الوزير مندلي ، قال للسلطان إن هؤلاء لا يؤمن جانبهم يا مولاي ، لا يكن قصرك مأوى لأمثال هذا .
    قلت للسلطان :
    - أنا أتكفل به يا مولاي .. أنا أستطيع أن أجعل منه شخصًا آخر ، سأعلمه كل ما تريد .
    ولكن الوزير الوثني استطاع أن يقنعه .. فأشار بيده يقول :
    - أرى أن تضمه إليك .
    وضرب كفًا بكف وهو يقول متغيضًا :
    - أتذهب جهودي عبثًا ؟
    وأشارت الوالدة ، وكانت جارية شقراء فاتنة ، من بلاد التركستان قالت :
    - وماذا في ذلك ؟
    فأجابها وهو ينفث لهيبًا من النار المتأججة في صدره :
    - إن قلبي لا يطمئن إلى هذا الوزير .. إنه مخادع . إني أخشى أن يدبر مكيدة تؤدي بنا وبالسلطان وبالمملكة كلها ..
    ثم سكت حتى هدأت ثائرته ، وقال بصوت متألم :
    - أردت أن أجعله في خدمة السلطان .. لعله ينفعه .
    لم تكن تدرك معنى لما يقوله أبوها ، ولكنها تشعر بأن هناك ما يشير إلى خطر متوقع الحدوث ، وأنا أباها كان يحذر السلطان ملك الهند من هذا الخطر ، ولكنه لم يلتفت إليه ، ولم يعره أهمية .
    كيف يستطيع أبوها أن يقنع السلطان وهو لا يتقن إلا صناعة الغناء ! كان أبوها مغني السلطان ، وكان يطربه في ليالي الأعياد والمناسبات .. وكان مقربًا محظوظًا من جميع الذين يترددون على القصر .. إلا الوزير ! فلم يكن يرتاح إلى وجوده ، ولولا مكانته في الغناء ، لاستطاع إبعاده بسهولة .
    ومضت سنون ، وارتاحت إلى الغلام الذي شب قويًا ذكيًا مخلصًا . وحدث ما توقعه أبوها . ففي إحدى المرَّات ، عندما خرج السلطان إلى الصيد كعادته في كل عام ، استولى الوزير مندلي على كرسي المملكة ، وطلب عون المماليك الهندية الوثنية فلبت نداءه . وأخذ يتعقب أعوان السلطان محمود الخلجي بالقتل والسجن والتعذيب .
    فقتل أبوها .. وماتت أمها غمًا ..
    واستطاع أن ينفذ وصية سيده ، فقد كان يوصيه في كل مرة :
    - إذا وقع مكروه فلا تبق في هذه البلاد ، خذ سرشير وأمها وغادر البلاد بسرعة .
    ولكن الوالدة أبت إلا أن تموت إلى جانب زوجها ، وأخذ الخادم سرشير وغادر المدينة سرًا ، بعد أن جعلها ترتدي ملابس غلام جركسي . ولما علم مندلي بهروبهم ، أمر خمسة من رجاله بأن يتبعوهما .
    وعلى مسافة يومين أدركهم رجال الوزير . فوقف عربيد بانتظار القوم . وشعرت الجارية بأن نهايتها قد اقتربت .. فصرخت تقول :
    - لماذا وقفت .. هل نسلم أنفسنا ؟
    ولم يجب .. فقد وصل الجنود ، وترجَّلوا عن ظهور الخيل ، وتقدَّموا للقبض عليهما ..
    كانت تقف قريبًا منها شجرة عظيمة ، حط عليها عدد من الطيور والعصافير ، وصاحت سرشير مرة أخرى وهي تلوذ بالشجرة :
    - هل نسلم أنفسنا .. إنه الذبح ..
    وحدث ما لم تتوقع ..
    فقد ألقى الخادم بنفسه على الجنود ، واستولى على سيف أحدهم ، ثم أخذ يقاتلهم بشجاعة نادرة أذهلتها ، وأثارت إعجابها ، وجعلت الطيور تجفل مخلقة في السماء .. وكان خفيفًا نشيطًا ، سريع الحركة ، استطاع في أقل من ساعة واحدة أن يجندل ثلاثة منهم ، ولاذ الاثنان الآخران بالهرب .
    وقف عربيد وصدره العريض يعلو ويهبط ، والسيف في يده يقطر دمًا وقد شعر بهمٍّ عظيم يزاح عن صدره .. فقد انتقم لسيده .
    واحتفلت به الجارية بإعجاب وقالت :
    - أنت بطل ..
    ولم يرد عليها ، وإنما اتجه إلى الخيل ، فأمسك بجوادين ، امتطى أحدهما وأمرها أن تمتطي الآخر ، ثم انطلقا ينهبان الأرض ، حتى وصلا إلى بلاد فارس . فأقاما هناك سنين ، استطاعت الجارية خلالها أن تتقن اللغة الفارسية . وانقطعت عنهما أخبار الهند . ولم يصل إلى علم الخادم إلا أن السلطان محمود الخلجي قد لجأ إلى السطان عبدالحليم ، وقد وعد الأخير بنصرته ، ثم بلغه أن الوزير مندلي قد أرسل وراءهم من يتعقبهم ، وأقسم لينتقمن من عربيد شر انتقام . وأشارت عليه الجارية بالسفر إلى بغداد .. وفي هذه الرحلة أنفقوا كل ما لديهم من مال ومتاع ، حتى إذا وصلا إلى بغداد قالت الجارية :
    - هل فكرت في أمرنا يا عربيد ؟
    فأومأ برأسه وقال :
    - إنني أعرف رجلاً تاجرًا، كان صديقًا لوالدك رحمه الله، وكان يتردد عليه عندما يزور منداو..
    فانبسطت أساريرها وقالت :
    - من هو .. ما اسمه ؟
    ودون أن يلتفت إليها قال :
    - أنسيته .
    واصطحب الجارية ، وذهب يسأل ويتطلع في الوجوه في سوق التجار لعله يجده .. وهناك رآهما حكيم بن محمود ، وعلم أنهما غريبان يبحثان عن مأوى ، فرحب بهما ، وقدَّم لهما هذا الدار بكل ما فيه من أثاث ومتاع .. وكانت الجارية قد تعلَّمت اللغة العربية عندما تعلمت القرآن في منداو ، وكانت لغة الطبقة الراقية في الهند .. وتعلَّمها عربيد أيضًا لاتصاله بعدد من التجار العرب الذين كانوا يفدون على الهند لغرض التجارة .
    ولم تمض في تأملاتها بعيدًا .. فقد أقبل مريد ، وكانت تبدو عليه السرعة والاهتمام .. ودخل دون أين يتلفت إليها ، وتوجه إلى غرفته .. فأسرعت في أثره . فإذا به قد أعدَّ كل شيء ، وحزم أمتعته ولم يبق إلا أن يحملها ويذهب .
    فارتاعت لهذا ، ولم تصدق عينيها ، وهتفت بجنون :
    - إلى أين يا مريد ؟
    ودون أن ينظر إليها قال :
    - سأغادر بغداد .
    وهتفت به :
    - وتتركني يا مريد ؟
    فأجاب بكل هدوء :
    - نعم .
    وصرخت دون وعي :
    - لماذا ؟ لماذا يا مريد .. هل آذيتك ؟
    ووقف مريد وصدره العريض يعلو ويهبط ، وقد بدا قويًا رائعًا في تناسق جسمه ولون وجهه ، وقال بصوت هادئ :
    - لقد قضيت ما مضى من حياتي عبدًا لك .. فأردت أن أقضي ما بقي منها عبدًا لله .
    فهتفت به وهي تمسكه من يده :
    - ما الذي يمنعك وأنت هنا ؟
    فأبعد يدها بلطف وقال :
    - أريد أن أذهب إلى بلد لا يعرفني فيه أحد .. أريد أن أهجر الماضي بكل ما فيه من تعاسة وهوان ..
    واستعطفته بنظراتها وقالت :
    - منذ متى وأنت تعيش في هذه الأفكار ؟
    فتنهَّد وقال :
    - من يوم التقيت بالشاب العابد الزاهد يسار ..
    ومضى يتكلم عنه بصوت عميق يوحي بشدة تأثُّره :
    - أنت لا تدرين أي رجل هذا ! إنني أنظر إليه من بعيد ، فأراه كأنه ذهب إلى الآخرة ، واطَّلع على ما فيها ثم عاد إلى الدنيا ، فهو دائم الرغبة والرهبة .. لا تغادره صورة المعذبين في النار ، ولا صور المتنعمين في جنات النعيم ..
    إنه رجل .. لا يعرفه كثير من الناس .
    كانت تصغي إليه ، وتود لو مضى في وصفه أكثر مما وصف .. إنها تدري أي رجل هو .. فمنذ اللحظة الأولى ، منذ رأته في بيت حكيم بن محمود ، عرفت أنه لا كالرجال الذين رأتهم ، إنه نسيج وحده .. ولذلك فقد أشفقت عليه من نفسها ، وأشفقت على نفسها منه .
    ومضى مريد يقول :
    - منذ التقيت به لأول مرة ، وأنا أفكر في الكلمات التي قالها لي .. قال : بل أنت مريد .. المريد هو صاحب الإرادة القوية .. اتق الله واجتنب المعاصي .. وفكرت في نفسي ، وفكرت فيك ، وفكرت في يسار .. هذا الفتى الذي يملك المال والقوة والجمال .. مَنْ مِن النساء من لا ترغب في يسار ..؟
    ولكنه الفتى النظيف الذي لا يدع شيئًا يلوِّث قلبه الأبيض . لا يغرنك بعض ما ترين من نزوله .. فإنه لا ينزل إلا ليعلو ، ولا يدنو إلا ليبتعد ، ولا يهبط إلا ليحلِّق .. إنه رجل يحاسب نفسه بعد كل هفوة يرتكبها .. ولا يزال بها حتى يقيمها على الجادة البيضاء .
    وسكت مريد ، وظل صدره العريض يعلو ويهبط ، وكان يبدو كالبركان الذي ضاق بالنار المتأججة في صدره فأراد أن يقذفها ..
    قالت :
    - ولكن يا عربيد ..
    فقاطعها بحدة :
    - لقد سماني يسار ( مريد ) ، ولا أريد أن أستبدل به غيره حتى ولا واسمي القديم .. وقد رضيت أنت به .
    وعادت تقول مرة أخرى :
    - ولكن يا مريد ..
    وقاطعها أيضًا :
    - أريد أن تسمعي كلامي أولاً .. ماذا ينفعك هذا المدعو حكيم ، إن ألاعيبه ستعود بالشر العظيم ..
    وصاحت قبل أن يستمر :
    - مريد .. اسمعني ..
    قال :
    - لا فائدة يا سيدتي .. لقد دفعت الأجرة ، وسأغادر غدًا .
    وصرخت مرة أخرى وقد اعتراها الغضب :
    - اسمعني يا مريد .. اسمعني .
    ثم سكتت قليلاً ، لتستعيد هدوءها .. ثم قالت بصوت اجتهدت أن يكون في غاية الرقة :
    - هل تستطيع أن تنتظر لعدة أيام .. فلعلي أجيء معك .
    فهزَّ رأسه بإصرار وقال :
    - أبدًا .. لقد تقطَّعت العلاقة بيننا .. إنني لم أعد أصلح لك ، ابحثي عن غيري .. إنني أريد أن أسلك الطريق الذي سلكه يسار .. لقد تبت يا سيدتي . أتفهمين معنى كلمة تبت ..؟
    وهمست تقول :
    - أنا أيضًا سأتوب .. أقسم لك .
    وحمل أمتعته وهو يقول :
    - كلا .. هذا آخر لقاء بيننا ..
    وقبل أن يخرج ، هتفت تقول :
    - انتظر ..
    وغابت قليلاً ، ثم عادت وهي تقول :
    - خذ هذا .. استعن به على قضاء حوائجك .
    ونظر إليها نظرة جامدة .. كانت تحمل كيسًا من النقود مدت يدها به إليه ، وظنت أنه خير ما يقدم لهذا الخادم المخلص الأمين .
    ولكنه قال :
    - لا يا سيدتي .. أنا لا أريد أن أصل إلى الله بالمال الحرام .. المال الحرام لا يوصل إلى الله يا سيدتي .. لقد كسبت بعض ما حصلت عليه بكدِّ يدي .. بتعبي .. ليالي طويلة مرت علي وأنا لم أذق طعم النوم .. أريد أن أقف بين يدي ربي وأنا نقي الثوب ، نقي الجسد ، نقي القلب . لا يلوثني أثر من آثار المعصية ..
    أفهمت يا سيدتي ..
    إني مهاجر إلى ربي ..
    ومضى مريد يحمل أمتعته في حزمة كبيرة على كتفه ، وتبعته الجارية إلى الباب ، ثم وقفت تشيعه بنظراتها ، حتى احتواه الظلام الذي بدأ يزحف محتلاً مواقع النهار .. ولم تشعر إلا والدموع تنهمر على وجنتيها ..
    لقد ذهب مريد ..
    لقد فهم إشارة يسار عندما قال له : إن أرض الله واسعة ..
    وشعرت الجارية كأن شيئًا عزيزًا قد انتزع منها .. شخص كان يشاركها آمالها وآلامها ، تقاسمت معه السرَّاء والضرَّاء ، حتى إذا كانت في أحوج اللحظات إليه .. تركها ..
    تاب ..
    وتنهَّدت وهي تنظر إلى الطريق الطويل الذي أخفاه ، فرأت شيخًا عجوزًا مقبلاً يتوكأ على عصا ، وسمعت طفلاً يغني فتردد الجدران صدى صوته .
    وردت الباب بلطف ..
    ودخلت وهي تفكر في مصيرها ..
    ويسار ..
    لا .. إنه لا يتزوجها .. إن فورة حبه ستنطفئ إنه كما قال مريد .. سوف يحاسب نفسه حتى يقيمها على الجادة ..
    إنه ليس لها ..
    إنه ليس من عالمها ..
    إنها لا تستطيع أن ترتفع إلى عالمه ، فهل تستطيع أن تدنيه إلى عالمها ؟!
    وخيِّل إليها كأنها تسمع صوت حبيب بن مسعود يهمس : لا تفعلي .. بالله عليك .
    ثم وهو يقول :
    - إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد .
    لماذا تركض وراء السراب ؟
    من الخير لها أن تنسحب وهي عزيزة مطلوبة مرغوبة ، قبل أن تضطر على الانسجام وهي ...!
    سوف تبتعد عن طريقه .. تتهرب منه ..
    لن تفتح الباب إذا أتى .
    ولكن .. هل تستطيع ؟




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  9. #9
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي


    زهد وحسان


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
    وسر أبو محمود لما رأى من تغيُّر يسار ، وصفَّق وهو يقول :
    - ألم أقل لكم ، سأسقيه الخمر بيدي .
    وكان أبو محمد يظن أنه يستطيع أن يغوي أي شخص مهما كان من علو المنزلة ، والمكانة والزهد والعفاف .. ومهما أحاط بذلك الشخص نفسه ، بأسوار تقيه شر الموسوسين من الجنة والناس أجمعين ! وأن الشيطان لو عجز عن أحدهم ، فلن يعجزه .
    قال أبو العرفان : كان حسَّان بن معيقيب أحد هؤلاء الذين سقطوا تحت تأثير حيكم . وقصته كما حدثنا بها غير واحد ، أنه كانت له ابنة عمة ، وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وكانت جميلة ، تقيَّة ، مؤدَّبة ، ذات خلق ودين .
    عاش معها في بيت واحد ..
    ترعرعا سوية .
    كانا يلعبان سوية ..
    يتذاكران قصار السور من القرآن الكريم ..
    كانت تسبقه دائمًا في الحفظ .. وإذا تأخر في قراءة آية أو أخطأ أخذت تنظر إليه وتضحك .
    وكانت تعجبه ضحكاتها ..
    ولاسيما إذا احتوى فمها الصغير قطعة من الخبز ..
    ولكنه كان يغضب كثيرًا إذا استرسلت في الضحك ، وجاوزت الحد الذي يرضيه .
    وقد يضربها .. فتذهب إلى أمها تبكي . وإذا غضبت أمها فلا يقوم لها شيء ، فقد تنهال عليه تعنيفًا ، وقد تمنعه من اللعب مع ابنتها زهد . وذلك أقسى عقاب بالنسبة له ..
    فهو لا يصبر عنها ..
    ولا يجد لذة للعب مع غيرها ..
    ولا يعوضه أحد من أطفال المحلة عنها ..
    وإنه ليتذكر كيف كانا يحتالان على اللقاء واللعب .. كان يقف في زاوية من الدار ، وتقف هي في زاوية بعيدة ، ويتقاذفان كرة من الصوف ، أو يتحدثان بالإشارة ..
    كانا يضحكان كثيرًا ..
    إنه لا ينسى ضحكتها أبدًا ، ولا ينسى عندما ترفع يدها الصغيرة وتخط على الحائط كلمة التحذير : أمي ..
    فيهرع إلى أقرب مكان يختبئ فيه .
    كانت تسرق منه غطاء الرأس وتهرب في المحلة ، فيتبعها يركض وراءها ، يحاول أن يمسكها من ضفائرها التي تتراقص على ظهرها . ولكنها تروغ من بين يديه بكل خفة . فإذا أوشكت على التعب عادت إلى البيت ولاذت بأمها .. فيقف لاهثًا يتمنى لو ظفر بها ! ولكنها تقف وراء أمها ، وتضع الغطاء على رأسها ، وتخرج لسانها الأحمر الصغير .. شامتة ومتحدية ..
    كانت أمها قوية شديدة صارمة ، وكانت عبوسًا متجهِّمة ينضح الحنظل من وجهها .. إذا رأت بقعة أو وسخًا على ثوب ابنتها زهد ، عنَّفتها ، وألقت اللوم على حسَّان ..
    لا يدري لماذا كانت تكرهه .. ولماذا تحاول النيل منه أمام والده ..
    ومع كل ما كان يقاسي من أمها ..
    فإنها كانت تلك .. تلك هي الأيام الحلوة في طفولته ..
    ثم استيقظ ذات يوم فلم يجدها ..
    لم تدغدغ ضفيرة شعرها وجهه ..
    ولم يسمع زقزقتها ..
    قيل إنها سافرت مع أمها ..
    وقيل أن أمها قد تزوجت .. وأنها انتقلت إلى بيت الزوج ..
    وقالت له أمه وهي تمسح دموعه :
    - لا تبك يا بني .. إنها ستأتي .. ستزورنا مع أمها ..
    وأخذ يعد اللحظات والساعات والأيام ..
    وطالت غيبتها ..
    وكان يبكي كلما خلا إلى نفسه ..
    وكان يحتفظ ببعض اللعب ، والأشياء الصغيرة الجميلة التي تركتها .. ولم ينسها .. ولن ينساها أبدًا .
    ثم علم أنها زارتهم مرتين .. ولكنه كان نائمًا وقت الظهر !
    فعزم على أن لا ينام وقت الظهيرة ما دام حيًا ..
    ولكنه لم يرها ..
    ومرت سنوات ..
    وشبَّ الفتى .. تقيًا صالحًا يتردد على مجالس أهل العلم ..
    وبقيت صورة زهد مستقرة في نفسه .. في قلبه ..
    حتى عاد ذات يوم من المسجد .. بعد أن أدَّى صلاة الجمعة ..
    وعندما دخل البيت ، سمع صوتًا يقول :
    - هاهو قد عاد .
    ووقف مكانه ..
    لقد رأى على بعد خطوات منه فتاة طويلة نحيفة متوردة متفتحة رائعة ..
    كانت تنظر إليه ..
    كأنها لا تصدق ..
    وأخذ قلبه يدق بسرعة ..
    وأراد أن يتكلم ..
    فاحتبست الكلمات في فمه ..
    ورأى الدموع تطفر من عينيها ..
    فهتف بكل قلبه :
    - زهد .
    وتقدمت خطوة ، ومدت يدها وهي تجيب :
    - حسَّان .
    ولم تتحدث الألسن .. ولا العيون ..
    وتشابكت الأيدي في لهفة وشوق ..
    وانهمرت الدموع ..
    ونسي حسَّان كل ما حوله ، ولم ينتبه إلى وجود أمها وأمه وأخته وأبيه ..
    وقال وهو ينظر في عينيها الواسعتين الكحيلتين :
    - زهد .
    فهتفت ملبية :
    - حسَّان .
    قال وهو لا يكاد يصدق عينيه :
    - أنت كبرت يا زهد .
    قالت :
    - وأنت يا حسَّان .
    قال :
    - لقد بكيت وراءك يا زهد .
    قالت :
    - وأنا يا حسَّان .
    قال :
    - كدت أموت يا زهد .
    قالت :
    - وأن يا حسَّان .
    قال :
    - لماذا لم تأت يا زهد .
    قالت :
    - لم أستطع يا حسَّان .
    قال :
    - كنت أتضرع إلى الله أن يجمعني بك يا زهد .
    قالت :
    وأنا يا حسَّان .
    قال وهو ينظر إلى ضفائر شعرها اللتين تدلتا على صدرها :
    - أنت جميلة يا زهد .
    وتورَّدت خدودها وهي تقول :
    - وأنا يا حسَّان .
    كانت القلوب تتحدث بأكثر من هذا ..
    والعيون بريد القلب إلى القلب ، تروي أحاديث السنين التي مضت واللسان لا يفصح إلا بالقليل .. القليل .
    وبقيت الأيدي في عناقها الطويل .
    وسألها بلهفة :
    - ستبقين هنا زهد ..
    فهزَّت رأسها وهي تنظر في عينيه :
    - أجل يا حسَّان .
    ثم سمع أمها تقول :
    - نعم يا حسَّان .. ستبقى كما تشاء .
    وسبحت يدها في رفق بالغ .. فتركها ..
    وقد أحس في صوت أمها مزيجًا م الحزن واليأس .. ثم نظر إليها ، وأقبل يسلم عليها ..
    ولم تكن كما تصورها في طفولته .. فقد نهضت واعتنقته .. وأخذت تنظر إليه وتثني عليه . لم تكن طويلة ولا ضخمة ولا صارمة ، كانت امرأة عادية كباقي النساء ، تحمل قلبًا طيبًا ، يتأثر ويبكي ، ويحب ويكره .
    لقد توفي زوجها الثاني .. فعادت إلى بيت أخيها ..
    وستقيم ..
    وستبقى زهد إلى جانبه ..
    وفي المساء ، عاد حسَّان بعد صلاة العشاء ، ولم يتأخر كعادته كل ليلة .. لم يذهب إلى مجلس الشيخ أبي الوفاء ، بل أسرع إلى البيت ليرى ، وليتحدث مع زهد .. كانت الدنيا لا تسعه من شدة الفرح .
    ولكن فرحته لم تقف عند هذا الحد ..
    فقد سمع أباه يحدث عمته في أمر زواجه من زهد ..
    وأخذ قلبه يدق بشدة ، وتلهَّف لسماع الجواب ، ولكنه لم يسمع شيئًا .. فبات تلك الليلة ساجدًا ، ورافعًا يديه إلى السماء سائلاً المولى الكريم الرحيم أن يمنَّ عليه بزهد .. وعندما ارتفع صوت المؤذن لصلاة الفجر ، خرج مع أبيه إلى المسجد .
    وتمنى لو حدَّثه أبوه ..
    لو أخبره بما قالته عمته ..
    ولكن أباه مضى يردد أدعية الصباح ، ودعاء المشي إلى المسجد ..
    حتى همَّ بأن يسأله !
    ووقف أبوه فجأة ..
    والتفت إليه ، وقال :
    - لقد وافقت بعد إلحاح طويل ..
    ولم يصدق حسَّان أذنيه ، وتمنى لو كرر أبوه العبارة ، وأراد أن يصيح : ماذا يا أبي .
    وتمهل أبوه ، وقد اختار ناحية مظلمة من الزقاق ، لكي تستر الانفعال الذي يظهر على وجه ابنه حسَّان .. ثم عاد يقول :
    - لقد وافقت ..
    وتنحنح قبل أن يضيف :
    - ستتزوج ابنة عمتك يا حسَّان .
    هكذا هجمت عليه السعادة مرة واحدة .. وهجم حسَّان على أبيه يقبله من وجهه ويده .. ثم خرَّ على الأرض ساجدًا لله شكرًا على ما أنعم عليه .
    وتزوجها ..
    وعاش معها تسعة أشهر ..
    تسعة أشهر كأنها رؤيا ..
    كانت تحدثه برؤى كثيرة لطيفة تراها في منامها ، وكانت تلك الرؤى تتحقق كما تراها ..
    وكان يستيقظ بعد منتصف الليل فلا يجدها إلى جانبه ، ثم يراها قد وقفت في ناحية تصلي ..
    كأنها رابعة العدوية ..
    أو إحدى العابدات الصالحات ..
    كانت تعيش في عالم الملائكة ..
    كانت كأنَّها حورية من حور الجنان ، جاءت في زيارة قصيرة إلى الدنيا ثم عادت إليها خفيفة مسرعة ..
    تسعة أشهر ..
    تسعة أشهر فقط ..
    ثم ماتت ..
    وأظلمت الدنيا في عينيه ، وهام على وجهه ..
    كانت الشمس الذي تضيء له دنياه ..
    كانت الابتسامة الحلوة التي تملأ نفسه نورًا وبهجة ..
    كانت اللحن الجميل الذي يطربه بأنغامه ..
    كانت ..
    وكاد يجن .. لولا أنه كان يراها في منامه .. وتواسيه وتصبِّره ، وتقول له :
    - لا تيأس يا حسَّان .. إنني أنتظرك .
    وقالت له مرة :
    - ارحم نفسك يا حسَّان ..
    ولم يجد أبوه وسيلة أو حيلة لتسليته ..
    وفي تلك الأيام التقى به حكيم بن محمود ، فأخذ يشير عليه بأن يداوي ما به بشرب الخمر .. وهاله أول الأمر سماع هذه الكلمة ! ونظر إلى حكيم بغضب .. ولكنه تقبلها بعد ذلك .. وذهب معه إلى الأماكن المنزوية .
    وفي المساء الذي قارف فيه هذا المنكر .. رأى زوجته في المنام .. رآها تهرب منه إلى مروج بعيدة خضراء .. أما هو فقد رأى نفسه واقفًا في خرائب سوداء مهدَّمة ..
    ثم لم يعد يراها بعد ذلك ..
    لم تعد تواسيه ..
    لم تعد تصبره ..
    لم تعد .. لم تعد !!
    وغرق فيما هو فيه إلى أذنيه ..






    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




  10. #10
    الإشراف العام
    سيل الحق المتدفق غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2004
    تاريخ التسجيل : 27 - 3 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 33
    المشاركات : 2,460
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 34
    البلد : ثغر الاسكندرية - مصر
    الاهتمام : علم الحديث - مقارنة الأديان - الدعوة الى الله
    الوظيفة : طالب طب أسنان
    معدل تقييم المستوى : 17

    افتراضي



    الزائر الجديد


    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
    شتان ما بين معلم الناس الخير ، وبين من نصَّب نفسه داعيًا إلى النار ، هاديًا إلى الضلال ، دالاً الناس على طريق المغضوب عليهم أو الضالين ، ممن ذمهم الله في كتابه الكريم .
    وحكيم بن محمود ، فيه خصلة من النوع الثاني .. ولعله لم يتلقَّ في صغره ما يمنعه من الانزلاق إلى مهاوي الرذيلة في كبره !
    قال : والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .. كما جاء في الحديث .
    قال أبو العرفان وفي إحدى الأمسيات ، وبعد صلاة المغرب .. التقى هؤلاء في بيت الجارية ، فلما اكتمل الجمع ، سأل أبو محمود :
    - أين الخادم ؟
    قال سعيد بن منصور :
    - لقد علمت أنه ترك الخدمة ..
    فقاطعه حبيب بن مسعود وقال :
    - إنه تاب .. إنه لم يرض لنفسه هذا العمل !
    وصرخ حكيم بن محمود وهو ينهض غاضبًا :
    - هل تريد أن تنغِّص علينا ليلتنا يا حبيب ؟
    فهز حبيب رأسه ، وأجابه بصوت هادئ :
    - كلا .. إنما تكلمت بما علمت .. ودونك سرشير فاسألها ..
    قال سعيد :
    - من الأفضل أن نعيده إلى خدمتها ، سنغريه بالمال ..
    فضحك حبيب وقال :
    - إنك لن تجده ، ولن يأتي ..
    وقبل أن يسأله واحد منهم مضى يقول :
    - إنه ترك بغداد .. ولا أحد يدري إلى أين ذهب ، لقد أراد أن يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد .. أراد أن يبدأ حياة جديدة بيضاء ..
    فهتف سعيد مؤيدًا :
    - لقد أحسن والله صنعًا ..
    وسأل أبو محمود :
    - وما يدريك أنه قد ذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ؟
    قال حبيب مؤكدًا :
    - رأيته عشية اليوم الذي ترك فيه هذا البيت ، فاستوقفته وسألته أين يريد .. فأجابني بأنه يريد التفرغ للعبادة ، يريد أن يبدأ حياة جديدة لا تشوبها معصية .
    فضحك أبو محمود وقال باستخفاف :
    سيعود إلينا .. سوف يندم .
    فأجابه سعيد .
    - لا يا أبا محمود .. إنه لا يعود ..
    فضرب أبو محمود بقبضة يده على المائدة ، وقال مؤكدًا :
    - بل يعود .. وسوف ينحني على أيدينا يقبِّلها يسألنا أن نعفو عنه .
    فرفع حسَّان بن معيقيب رأسه ، وكان قد ظل صامتًا طول الوقت ، ونظر إلى حيكم وقال :
    - لا أظن ذلك .
    وضحك أبو محمود ، وقال وهو يحوِّل وجهة الحديث :
    - ليذهب .. لا حاجة لنا به .
    ثم نظر وجه حبيب ، وأدنى رأسه وقال بصوت خفيض وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير :
    - سوف يأتينا من هو خير منه .
    وهتف سعيد بن منصور :
    - من هو ؟
    أما حبيب بن مسعود ، فقد خشي أن يتكلم ، لئلا يكون ..
    ونظر أبو محمود في وجه حبيب وهو يقول :
    - من تظنه يا حبيب ؟
    أما هذا ، فقد روعته لهجة حكيم ، وبقي صامتًا جامدًا ينظر إليه . لعل الشيطان قد عملها ..
    ونقر أبو محمود على المائدة بإصبعه وهو يقول :
    - قد وقع صاحبك يا حبيب ؟
    ولم يصدق حبيب ما سمع ، وقال بكل ثقة وهو يردُّ عليه .. ولم يكن قد علم بما جرى من الأمور :
    - هيهات ..
    قال أبو محمود ، وهو ينقر على المائدة بشكلٍ رتيب :
    - إنه سيأتي ..
    فرفع حبيب يده اليمنى ، وقال وهو يحرِّك إصبعه في وجه حكيم :
    - هذا محال .. إن يسارًا لا يقع ، إنه كالنسر لا يحلق إلا عاليًا .
    وضحك أبو محمود وهو يقول متحديًا :
    - وإذا جاء هذه الليلة ؟
    قال حبيب جازمًا :
    - إنه لن يأتي ..
    وعاد أبو محمود يستثيره ، وينقر على المائدة ويقول :
    - وإذا حضر ؟
    - إنه لن يحضر .
    ولم يعلِّق حسَّان بن معيقيب ، أما سعيد بن منصور فقد هزَّ رأسه وقال :
    - لننتظر .
    وقال حبيب بانفعال :
    - إن يسارًا لا يقع .. أنتم لا تعلمون أي رجل هو ..
    وراح يتحدث عن يسار :
    - كان يصوم يومين في الأسبوع ، عدا رمضان ، وكان يقوم كل ليلة .. إنه يعيش في هذه الدنيا ومع الناس ، ولكن قلبه ، ولكن روحه لا تعيش إلا في السماء ..
    من مثل يسار ..
    وتنهَّد وهو ينظر إلى القناديل التي أضاءت المكان ، وقال وكأنه يخاطب نفيه :
    - من في الدنيا مثل يسار ..
    وضحك أبو محمود بتهكُّم وقال :
    - كذلك كنت أن يا حبيب .
    وأجاب حبيب بصوت كأنه الهمس ، وقال بأسف وندم :
    - كلا .. لم أكن مثل يسار .. ولا نصفه .. ومع ذلك فأنت السبب ، وعليك الوزر .
    وصاح أبو محمود وهو يتصنَّع الغضب :
    - اذهب يا أخي .. اذهب إلى صلاتك وعبادتك وزهدك ..
    وتنهَّد حسان بتوجع ، وقد أثارته كلمة زهد .. وراح يردد وهو يتطلع في وجه حكيم :
    - نداء دعا زهدًا فخف له قلبي ..
    ثم نكس رأسه وراح يدمدم مع نفسه بصوت خفيف لا يتبينه أحد . وكان سعيد ينظر إلى حسَّان ويتألم لحاله ..
    وقال حبيب ، وكأنه يخاطب نفسه :
    - لا يا أبا محمود .. ليس كما قلت .. لقد كنت أنت السبب في كل ما نحن عليه الآن .. أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أترككم .. لأني تلوثت معكم .
    وضحك أبو محمود ، وقد سرَّه ما رأى من حال حبيب وقال :
    - لماذا لا تعود إلى سابق عهدك ؟
    قال حبيب وقد أطرق مفكرًا :
    - قلت لك لا أستطيع ..
    وقبل أن ينتهي حبيب من جملته الأخيرة ، طرق الباب طرقًا خفيفًا فانبسطت أسارير حكيم ، ونهض مزهوًا وهو يشير إلى حبيب ويقول :
    - هذا هو صاحبك قد حضر .
    وخرج من الغرفة .. ولم يصدق حبيب ، وبقي معلقًا نظره بالباب ، وانفرج فم سعيد بن منصور عن ابتسامة حائرة ، وتعلقت العيون بالباب تنظر من القادم ..
    وعاد أبو محمود وهو يجر وراءه شابًا تطوق وجهه لحية سوداء وتسبقه رائحة عطر زكي ..
    وهتف أبو محمود بسرور :
    - أقدِّم لكم ضيفنا الجديد .. يسار .
    وشهق حبيب بن مسعود ، ولم يصدق عينه ما ترى ، ونهض سعيد وقد مد يده مرحـبًا .. أما حسَّان بن معيقيب ، فقد بقي في مكانه تحيط بفمه ابتسامة حزينة .
    ودخل يسار مطرقًا خجلاًا ، ولم يرفع نظره إلى أحد من الحاضرين .. وجلس دون أن يتحرك ..
    ومضى حكيم يدير الحديث ، وينثر الدعابة والنكتة ، فيضج الجميع بالضحك ، ما عدا حبيبًا الذي أخذ بما رأى .. وما عدا يسارًا أيضًا .. الذي لم يشارك إلا بابتسامة حيية تمر على شفتيه .
    ولم يشعر يسار بوجود حبيب .. ومضى أبو محمود وقد أطربه ما أحرزه من ظفر لم يكن يتوقعه ، واجتاحته موجة من السرور أفقدته رشده .
    وانحنى على يسار يسأله عن حاله ..
    فأجاب يسار بهمس :
    - إنني في أسوأ حال ..
    وضحك أبو محمود وهو يقول :
    - إنه الحب يا أخي ..
    وأطرق يسار ، وقد التهب وجهه بحمرة الخجل .. ثم همس في أذن حكيم :
    - إنني لم أرها منذ مدة ..
    فنهض أبو محمود وقد استخفَّه الطرق وقال :
    - ستراها اليوم .. إنها ستأتي .
    ولم يصبر حبيب ، فصرخ محتجًّا :
    - هذا محال .. إن هذا لا يكون ..
    والتفت يسار فرآه !
    وكاد يذوب خجلاً ..
    إنه يحتج ..
    حبيب بن مسعود يحتج ..
    وعلى من ؟
    على يسار .. الذي طالما نصح حبيبًا بالإقلاع عمَّا هو فيه ، وكان يذكره ويقص عليه كثيرًا من أخبار المتقدمين ، وكان حبيب يشعر بالندم ، وقد يبكي .. إن حبيبًا هو الذي يحتج . إنه يلتقي معه في المكان الذي كان يحذره منه !
    وصرخ حبيب مرة أخرى :
    - ما الذي جاء بك يا يسار ؟
    ونهض أبو محمود فدفعه زاجرًا :
    - وأنت ما الذي جاء بك ؟
    وتنهَّد يسار ، وشعر بالامتنان العظيم لحكيم ، لقد أنقذه في الوقت المناسب . ولكن هذا صرخ مرة أخرى :
    - إن هذا ليس مكانك يا يسار .. إن هذا لا يليق بك .. أنت لا تنزل إلى هذا المنحدر .
    وكاد يهب حكيم وسعيد في وجهه ، لولا أن طرق الباب طرقًا عنيفًا . فسكت الجميع ، ولم يتحرك أحد منهم ، وتعلَّقت الأنظار بحكيم ، فهزَّ هذا رأسه وهو يقول :
    - لا أدري من الطارق ، سوف تفتحه هي ..
    وكانت الجارية في الداخل ، فأسرعت تفتح الباب .. ولما رأت القادم هتفت بكل جوارحها :
    - مريد .. أنت عدت يا مريد ..
    وأفسحت له وهي تقول :
    - لقد كان قلبي يحدثني بأنك ستعود .. تفضَّل .
    وسكتت ريثما تلتقط أنفاسها وقالت :
    - إن مثلك لا يفرِّط في الأمانة .. لقد كانت ثقة أبي رحمه الله في محلها ..
    فأجاب مريد دون أن يتحرك من مكانه :
    - جئت أدعوك للعودة إلى الهند .
    وبينما وقفت تنظر إليه وعلامات التعجُّب والاستفهام على وجهها ، مضى يقول :
    - جمعتني القافلة برجل رحَّالة قادم من هناك .. وأخبرني ..
    فقاطعته مستعجلة :
    - ماذا أخبرك ؟
    قال :
    - أخبرني بأن السلطان عبدالحليم قد جهَّز جيشًا كبيرًا ، استطاع أن يدحر جيوش الممالك الوثنية التي خفت لنجدة الوزير الغادر ..
    وأعاد السلطان محمود على مملكته في منداو .
    وهتفت فرحة ومستبشرة :
    - أتراه صادقًا فيما قال ؟
    فأجاب مؤكدًا :
    - كل الصدق .. لقد رأى ذلك بعينيه ، وأخبرني بأن كثيرًا من الذين هربوا قد عادوا إلى منداو ، وعادت لهم أملاكهم .
    واستبد بها الفرح ، فأرادت أن تجذبه من يده لكي يدخل ويحدثها بكل شيء .. لكنها تذكرت .. أنه إذا رأى هؤلاء القوم مرة أخرى فسوف يغضب ، وربما يذهب ويتركها ولا يعود إليها بعد ذلك .
    وسألته قائلة :
    - متى تريد أن نذهب ؟
    فأجاب :
    - غدًا صباحًا .. إن شاء الله .
    ثم أضاف قائلاً :
    - نذهب أولاً في قارب من بغداد إلى البصرة ، ومن هناك تركب البحر في سفينة إلى الهند ..
    قالت ، وقد غمرتها الفرحة ، فتنفست ملء صدرها وقالت :
    - الله .. كم كنت أتمنى أن أرى البحر ، وأن أشمَّ نسيمه .
    قال ، وكأنه يريد أن ينصرف :
    - سأمر عليك غدًا صباحًا بعد ارتفاع الشمس فلا تتأخري .
    قالت وهي تحاول إرضاءه :
    - كما تشاء .. ولكن أين ستنام هذه الليلة ؟
    فأجاب وهو يتنفس بارتياح :
    - في المسجد ..
    وسكت قليلاً ، وكأنه يريد أن يستحضر شيئًا غاب عنه وقال :
    - إنه خير مكان يجد فيه المرء الراحة لنفسه وقلبه .
    ثم ودَّعها وهو يقول :
    - أرجو أن تكوني على استعداد .. غدًا صباحًا .
    فلوَّحت بيدها وهي تقول :
    - سأكون في انتظارك .
    وقبل أن ترد الباب ، رفعت رأسها إلى السماء ، فرأت سربًا من الطيور محلقًا ، عائدًا إلى عشه ، يتغنى بصوت فيه معنى الحث والاستعجال لبلوغ المكان قبل أن يرخي الليل سدوله .
    وخيَّمت عليها موجة من الحزن ..
    إنها ستعود إلى الهند ..
    ستكون وحيدة .. بلا أب ولا أم ..
    حتى مريد .. ربما سيرى من واجبه أن يوصلها فقط ، ثم يتركها ويذهب إلى إحدى التكايا التي يتعبد فيها الزهاد . إنه يبدو وكأنه طلَّق الدنيا ثلاثًا .. نفضها من قلبه ، فلا يعود إليها ، ولا يسمح لها بالعودة إليه ، مهما أغرته بمباهجها .
    يقال إن البحر واسع واسع أوسع من دجلة ، وأوسع من أي نهر رأته في حياتها ..
    أصحيح أنها ستذهب في البحر .. في الطريق الذي سلكه السندباد في رحلاته السبع .. وهل سترسو السفينة على جزيرة تقف على ظهر سمكة !!
    لابد أنها سترى من عجائب الدنيا أكثر مما قرأته في قصة السندباد .
    ومريد .. هذا الأسود الذي يحاكي الليل في سواده ، إنه يحمل قلبًا أشد بياضًا من النهار .. مع نقاء سريرة وصفاء ذهن وإخلاص ليس له مثيل .
    وردَّت الباب ثم عادت لتأخذ زينتها ، ثم تقضي بقية الليل مع القوم الذين حضروا .




    قال الامام الدارقطني رحمه الله : " يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدا يقدر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي"[ فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/320) للسخاوي ]

    اللهم أهدي قلبي ، وأجمع علي أمري ، وتوفني ساجدا بين يديك .




 

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. شرح حديث "انما الأعمال بالنيات " لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى مصطلح الحديث وعلومه
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 2011-04-28, 07:50 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-03-07, 11:53 PM
  3. تنبيه مهم جدًا
    بواسطة معارج القبول في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 2010-01-31, 11:45 AM
  4. تنبيه إلى الأعضاء!!
    بواسطة الداعي في المنتدى التواصل واستراحة المنتدى
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 2009-10-11, 06:32 PM
  5. تنبيه هام لكل المسلمين
    بواسطة نوران في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 2008-10-28, 12:57 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML