الحمد لله, الحمد لله له العزَّة والجلال, وبيده تصريف الأمور والأحوال. الحمد لله الكبير المتعال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, يحيي ويميت, وهو على كلِّ شيء قدير. وأشهد أن نبيَّنا وحبيبنا وقدوتنا وقرَّة عيوننا محمدًا عبدُ الله وسوله الأمين, وخاتم الأنبياء والمرسلين, لم تأخذه في الله لومة لائم, ولم يثنه عن الحقِّ ثانٍ, فصلوات الله وسلامه على نبينا وحبيبنا محمد, الذي أرسلته لعموم الثقلين بشيرًا ونذيرًا, وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا, وبعد:
ألا فاتقوا الله خير تقاة, وتزودوا بها, فهي الزاد وأيُّ زاد, وهي الفضل من ربِّ العباد, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ), (آل عمران: 102). وبعد:
أيها الناس, يقول أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:" الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ, وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ", رواه مسلم.
سبحان الله, لا مِريةَ في أنَّ هذا الحديثَ نبراسٌ يتخذه أهل الحقِّ لهم نورًا, ومقياسٌ يقاسُ بحسبه درب الرجال الرجال من هذه الأمِّة المعطاءة؛ ذلك أنَّ أصحاب العزَّة والكرامة لا يرضَونَ إلا بالدرجات العلا, ولا يرون غير المجد والسؤدَدِ لهم مكانًا, فإمّا حياة تطمئنُّ لها النفس, ويهدأ فيها البال, وإما مفارقة أنفاس الحياة وفيها بقية من كرامة وسناءة, ولا مجال لعيش دَنِئٍ ذليل, ولله درُّ عنترة بقوله:
واخترْ لنفسكَ منزلاً تعلو به .... أو مُتْ كريماً تحتَ ظلِّ القسطلِأيها المؤمنون, لا جرمَ أنَّ ثَمَّةَ أمورًا عظامًا يقوم بها المؤمن حتى يصبح قويًّا, وسأقصر حديثي على رأس هذه الأمور, ألا وهو قول الحق؛ ذلك أنَّ هذه الأمَّة قد أصيبت بمقتلٍ عندما فقدت علماءَ كانت سيرتهم هي الحقَّ أينما حلُّوا وارتحلوا, وأبدلت بهم علماءَ سوءٍ برئ الله منهم ورسوله.
موتُ الفتى في عزةٍ خيرٌ له .... من أن يبيتَ أسيرَ طَرْفِ أ كحلِ
لا تسقني مـاءَ الحياةِ بذلةٍ .... بل فـاسقني بالعزِّ كأسَ الحنظلِ
ماءُ الحـياة بـذلةٍ كجهنمٍ .... وجـهنمٌ بالـعزِّ أطـيبُ منزلِ
أيها المسلمون, إنَّ لكلمة الحقِّ عظمةً ما بعدها عظمة, فهي حائزةٌ فضلًا كبيرًا, وخيرًا عميمًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ", رواه أبو داود. وفي حديث آخر:" سيد الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب, ورجُلٌ قام إلى إمام جائرٍ, فأمرهُ ونهاهُ فقتلهُ", رواه الحاكم. فصاحب كلمة الحقِّ قد قام بأفضل الجهاد, وهو سيد الشهداء إن قتل بسبب قولِهِ الحقَّ. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" ما من صدقة أفضل من قول الحق", وفي رواية:" ما من صدقة أحب إلى الله من قول الحق", رواه البيهقي.
أيها المسلمون, كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتّق الله. فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! قال عمر: دعه، فليقلها لي، نِعْم ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها!
أيها الناس, لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق, ولا خير فيمن لم يقبلها أو يسمعها. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ, ثُمَّ لاَ يَقُولُ فِيهِ, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ. فَيَقُولُ: فَإِيَّاىَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى", رواه الترمذي.
إذن, مَنْ رأى فروضًا عطِّلت, أو محارم انتهكت, أو منكراتٍ فعلت, ثم لم يأمر بالمعروف, ولم ينه عن المنكر فقد حَقَّرَ نفسه, إضافة إلى ما سيحل به من غضب الله ونقمه, قال النبي صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ، فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ", رواه الترمذي.
أيها الناس, الرجال مواقف؛ لأنَّ الرجال تعرف بالحق, فإذا ما صدعت بالحق في زمن قلَّ أعوان أهل الحق فيه, فإنها بذلك تسطِّر بالذهب صفحات عزٍّ وخير, وهذا دأب الخلق منذ الخليقة, وصدق أبو الفضل الميكالي عندما قال:
عُمْرُ الفتىَ ذِكرُه، لا طولُ مدَّتِه .... ومـوتُه خِزيُهُ لا مَوْتُهُ الدَّانيفيا أمَّة محمد, فخرك وكرمك تجدينه في مواقف يرضى عنه ساكن الأرض والسماء, فهذا العزُّ بن عبد السلام قد خلَّده في ذكر الأبرار كلماتُ حقٍّ وصدقٍ كان يرسلها ساعة أن يرى أمرًا لله عليه فيه مقال, وكلُّكم إذا ذكر اسمه ذكرتم لقبه الذي حازه من قول حقٍّ, ألا وهو (بائع الملوك), وبعضهم يجمع إليه لقبًا آخر, فيقول: (سلطان العلماء, وبائع الأمراء). وهذا أحمد بن حنبل إذا ذكر ذكرت فتنة خلق القرآن؛ لأنَّه صدع بالحقِّ وهو يعلم أن رقبته هي ثمن نقضه لرأي المعتزلة. وبُضَيْعُ كلمات لا تفي هؤلاء الرجال فضلهم ومجدهم, ناهيكم أن نذكرهم جميعهم هاهنا.
فأَحي ذكرَك بالإحسان تزرعهُ .... تُجْمَعْ به لك في الدنيا حَياتانِ
أيها الناس, الإسلام منذ بزوغه أتى بقول الحق, فهل هناك حقٌّ أحقُّ من قول (لا إله إلا الله, محمد رسول الله)؟ ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المفهوم العام, بل خصَّ قول الحق, وجعله ظاهرًا في بيعته لصحبه الكرام, فهذا عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول:"بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ e عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ, وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ, وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ, وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا, لاَ نَخَافُ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ", رَوَاهُ الْبُخَارِي. وأنتم_ يا عباد الله _مثلهم, عليكم أن تقوموا بالحقِّ حيثما كنتم وأن تقولوا به, وهذا أمرٌ ميسورٌ لمن قال (لا إله إلا الله) بحق؛ لأنَّها تعني أمورًا من اعتقد بها سهل عليه قول الحقِّ ويسر, فهي تعني أن الموت بيد الله, : ]وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا[, (آل عمران: 145). وهي تعني أن الرِّزق بيد الله, : ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ[, (فاطر: 3). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ", رواه أحمد. وهي تعني أن الضرَّ والنَّفع بيد الله, : ]قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[, (التوبة: 51). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه:" وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ. وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ, وَجَفَّتِ الصُّحفُ", رواه الترمذ.
إذن, ليس غريبا من هذه حاله وتلك صفاته أن يقول الحق حيثما كان, فلما تمثل ما سبق ذكره في العز بن عبد السلام رأيناه سلطانا للعلماء, وبائعا للأمراء, يقول له الباجي بعد قولةِ حقٍّ قالها أرجعت السلطان لطريق الهدى والاستقامة: يا سيدي, أما خفته؟ فقال له: والله يا بني, استحضرت هيبة الله, فصار السلطان أمامي كالقط. ما أحوجنا في هذا الزمان لمثل هؤلاء العلماء, ولمن يصدعون بالحق حيثما كانوا. أقول قول هذا...o'fjd: hguglhx ,r,g hgpr>
المفضلات