اسم الخطبة : سجية الإنصاف
كاتب الخطبة: سعود بن إبراهيم الشريم
ملخص الخطبة
1- غياب الإنصاف.
2- معنى الإنصاف وبيان حقيقته.
3- فضل الإنصاف.
4- ذم قليلي الإنصاف.
5- الحسن من أعظم أعداء الإنصاف.
6- المنهجَ الشرعي في الحُكم على الأشياءِ والآراءِ والأشخاص.
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فيا أيُّها النَّاس، في خِضَمّ الثورةِ المعرِفيّة والاكتِساحِ الحضاريِّ ومَوج المصالح المادّية والتّطلُّعات الذاتية بعضها في بعض تسودُ المنافسةُ المحمومة والسّباق اللاهِث وراءَ الظَّفرِ؛ ليغلبَ على طابع المنافسةِ والسّباق الجانبُ الشخصيّ والمصلحيّ العائِد للذّات على حِساب بعض المعايير المهمّة والسجايا السامية، فيطغى الغضب على الحِلْم، والسّخَط على الرضا، والأثرة على الإيثار، ومصلحة الذات على المصالح الشرعيّة، فيذوب بسبب ذلكم كلِّه ويتوه في مهامِه طَيشها سمةٌ جُلَّى وسجِيةٌ غُداف، ما فُقِدت في مجتمَعٍ مَا إلاَّ صار مَنهومًا منزوعَ البركة، وما وُجِدَت في مجتَمعٍ ما إلاَّ ورأيتَ صوَر الرّضا والطمأنينةِ والتكامُل والاشتراك بين أفرادِه على حدٍّ سواء. أتدرون ما هي عبادَ الله؟ أتدرون ما هي هذه السّجيّة؟ إنها سجيّة الإنصاف.
نعم، الإنصافُ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى. نعم أيها الإخوة، الإنصاف الغائِب في الفَرد، والإنصاف الغائب في الأسرة، الإنصاف الغائب في المدرسة، والإنصاف الغائب في العمل، الإنصاف الغائب في الصحيفة ومنابر التلقّي، بل الإنصافُ الغائب في المجتمعاتِ إلا من رحم ربي.
الإنصاف ـ عباد الله ـ كلمةٌ تعني العدلَ والإحسانَ لا الظلم والاعتداء، وتعني اتِّباع الشرع لا اتّباع الهوى، وتعني العلمَ لا الجهل، وتعني الوسَطَ بين المنحرِفين والثباتَ بين المتفلِّتين والأصالةَ بين المضطربين. المنهجُ في الإنصاف هو كتابُ الله وسنة رسوله ، والقُدوة فيه هو رسولُ الله وصحابتُه من بعدِه وسلفُ الأمة من العلماء الصادِقين النّاصحين.
والإنصاف في الشريعةِ الإسلاميّة قيمةٌ مطلَقَة ليست نِسبيّةً كما هي الحال في مناهج البَشر وقوانينهِم؛ فهي كلٌّ لا يتجزأ، فإمّا إنصافٌ أو حَيف، وإما رجلٌ منصِفٌ أو رجلٌ جائِر، فلا يمكن أن يكون المرءُ منصفًا جائرًا في نفسٍ واحدة؛ إذ كيفَ يكون مُنصفًا وأَبكمَ عن الحقّ في آنٍ واحد، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76].
أيّها النّاس، بالإنصافِ يشعُر الفردُ والأسرةُ والمجتمعُ بالأمانِ والرّضا والقناعة؛ إذ لا أضرَّ عليهم في حيَاتهم ومعاشهم وشؤونهم كلِّها من الظلم والجور واتباع الهوى. بالإنصافِ يوثُق بالعالِم ويُطمأنُّ إلى القاضي ويؤخَذ من الصّحفيّ ويركَن إلى المسؤول، ولا يُعَدّ أحد من هؤلاء منصِفًا إذا كان لسانُ حاله يقول:
يومًا يمانٍ إذا لاقَيتُ ذا يمَنٍ وإنْ لقِيت معدّيًّا فعَدْنان
ألا إنّما الإنصاف ثُلث الإيمان لما روى البخاري تعليقًا عن عمار قال: (ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصافُ من نفسِك، وبَذل السلام للعالم، والإنفاقُ من الإقتار) والحديث رواه أصحاب السنن. ولا نبعد النّجعَة إن قلنا: بل هو الإيمان كلُّه؛ لأنّ من أنصَف سلَّم وأنفَق، بل إنّ من أنصف آمن واستقام ورضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّدٍ نبيًّا ورسولا. أفتَرونَه وهذه حاله يظلم أو يغشّ؟! أتَرونَه يشحّ أو يَبخل؟! أترونَه يحابي أو يماطل؟! أتَرونَه يتحيّز أو يتعصّب؟! أترونَه يدَع المحاسن ويقَع في سفساف الأمور؟! إنَّ المنصف لبعيدٌ عن ذلك كله، ولكن أين هذا المنصف في عصر العولمة؟! وأين هذا المنصِف في عصر المادّة وطغيان الهوى والشّهوة؟ ولقد صدق من قال:
ولمْ تزَلْ قلّةُ الإنصافِ قاطعَةً بيْن الرّجالِ وإنْ كانُوا ذوِي رَحِم
قال الإمام مالك رحمه الله: "ما في زماننا شيءٌ أقلّ من الإنصاف". قال القرطبي رحمه الله معلِّقًا على كلام مالك: "هذا في زمن مالك، فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فيه الفساد وكثُر فيه الطغام؟!" أي: أوغاد الناس. ونحن نقول عباد الله: إنَّ زمنَ مالك رحمه الله كان في القرنِ الثاني الهجريّ، وزمنُ القرطبي رحمه الله كان في القرنِ السادس، فما الظنّ بزماننا هذا؟! ألا إنّ الهُوّة أشدّ والخطب أفجع، فإلى الله المشتكى وعليه التكلان.
ألا إنّ من لم ينصِف لم يفهَم ولن يتفهَّم، ومن أجلِ أن ندرِكَ صحّةَ كلام مالك والقرطبيّ رحمهما الله فلننظر إلى زماننا حينما يضَع أقوامٌ أوصافًا للحقّ لا تنطبق إلاّ على ما يفعلونه أو يقولونه؛ ليكون ما يفعله غيرُهم ويقوله هو الخطأ والباطل، مع أنّ الحق أوسعُ منهم، والصواب يتعدّاهم إلى غيرهم، لكنّهم يرونَ أنهم ناطقون حصريًّا باسمه، وقد يقارِفون غدًا ما كانوا يرونَه خطأً عند الآخرين، وهم مع ذلك يرونَ الكلمةَ الأخيرة لهم.
أمثال هؤلاء يَصنعون لأفكارهم هَالةً من أجلِ تسويقِها، ويُجيِّشون لها من الأقلامِ والألسُن ما يعقِرون به من خالفهم، ويجعَلون الناسَ بناءً على نهجِهم إلى فسطاطين: فِسطاطٍ معهم وفِسطاطٍ ضدَّهم، وهم يدركون أنّ عمومَ الناسِ لا ذاكرةَ لهم ليستعيدوا الماضيَ القريب فضلا عن الماضي البعيد ليدركوا هذا التضادّ أو ذلك التناقض. وإن كان بعضُ الناس لا ينسَون لكنّهم يجامِلون رغبةً أو رهبةً أو أنانيّةً على حدّ قول القائل: "أنا ومن وَرائِي الطوفان". ومن شاء أن يمتحنَ أحدًا في الإنصافِ فليخالِفه في أشدِّ ما يقوم عليه هواه وتدعو إليه شبهتُه وشهوتُه؛ لينظر كيف يكفهرّ ويُزمجر، فيجلب أصواتَ الناعقين معه، ويجلب بخيلِه ورجلِه ليجعَل منها قضيةً تفسِد كلّ المعايير وتقضِي على مبدَأ الإنصافِ قضاءً مبرمًا.
هذا هو الإنصاف ـ عباد الله ـ وجودًا وعدما.
إنَّ قليل الإنصاف مذمومٌ على ألسُن الناس، مكروهٌ سماعُ اسمه في الآذان، بغيضةٌ رؤيتُه بالأعين، تُتَّقى مجالستُه، وتُدرَأ مجاورته، لحمه منهوشٌ في نوادي الناس، وعِرضه مفريٌّ كلّما طرأ ذكرُه بينهم، لا يداني الناسُ اسمَه ولا رسمَه، ودّوا لو أنَّ بينهم وبينه أمدًا بعيدًا، والناسُ شهودُ الله في أرضه، فمن ترك الإنصافَ وأحبَّ الانفراد وآثرَ النفسَ على كلّ شيءٍ حتى على الحقّ فليكبَّر عليه أربعًا لوفاةِ قيمةِ الإنصافِ في نفسِه، وإنّنا لو دقَّقنا النظر في أجمعِ أسباب عدمِ الإنصاف بين الناس لوجَدنا الحسدَ أُسّها وأقنومها؛ إذ لا يتأتّى الإنصاف من حاسد، كما أنه لا يتأتّى الجور والظلم من محبٍّ للغير.
والحسد ـ عباد الله ـ بحدِّ ذاته داءٌ منصف كما قال الأصمعيّ رحمه الله؛ لأنه يفعل بالحاسدِ كما يفعل بالمحسود، بل هو ـ عباد الله ـ كرجع الصّدَى لما تنطق به، فإن نطقتَ بالإنصاف ردّ عليك رجعُ الصدى بالإنصاف، وإن نطقتَ بعدم الإنصافِ ردّ عليك رجعُ الصدى بعدم الإنصاف، والجزاء من جنس العمل.
كمَـا تديـنُ صَاحِبي تُـدان إنَّ جزاءَ إحسانِنَا الإحسـانُ
إذَا مَا رُمْتَ إِنْصَافًا تُسَرُّ لأجْلِه فكُنْ مثلَمَا ترجُو مِنَ الإنصَاف
فإنَّ رجَالاً قَدْ سَمَوا بِبُلُـوْغِه و فَرَّطَ فِيهِ جمُلـةُ الأنْصَـاف
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذّكر والحكمة. قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشّيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارا.s[dm hgYkwht
المفضلات