صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 20 من 20
 
  1. #11
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    الجزية في الإسلام

    لا بُدَّ هنا -قبل استكمال مسيرة الفتح- من وقفة مع طبيعة الجزية في الإسلام؛ لبيان حقيقتها وما يُثار حولها من شبهات، فلم يكن المسلمون بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم؛ فإنَّ أَخْذَ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمرٌ حدث كثيرًا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، وحول دعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب؛ حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلاَّ صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وفي هذا إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنها وبيانها فيما يلي:

    أولاً: تعريف الجزية

    الجزية في اللغة مشتقة من مادة ج ز ي بمعنى جَزاهُ بما صنع؛ تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، والجزية مشتقة من المجازاة على وزن فِعلة؛ بمعنى: أنهم أَعطَوْها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن[1].

    وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهلُ الكتاب بصفة عامة -ويدفعها المجوس في آراء أغلب الفقهاء، والمشركون في رأي بعضهم- نظير أن يُدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتُهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا.

    ثانيًا: على مَنْ تُفرَضُ الجزية؟

    من رحمة الإسلام وعدله أن خصَّ بالجزية طائفةً ومنع أخذها من آخرين؛ فهي:

    - تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.

    - تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ من الأطفال.

    - تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى وأصحاب العاهات غير القادرين على القتال.

    - تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير؛ بل إن الفقراء من أهل الكتاب النصارى واليهود والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين؛ إن كانوا في بلد يُحكَم فيها بالإسلام.

    أي أنها تُؤْخَذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ حتى من القادرين الذين تفرَّغوا للعبادة.

    ثالثًا: قيمة الجزية

    فليُلاحِظ كلُّ مَنْ يطعن في أمر الجزية ويقول: إنها صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب. خاصَّة حين يعلم أنها تُدفَع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون؛ وله أن يعلم -أيضًا- أن قيمة الجزية هذه أقلُّ بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟!

    في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كانت قيمة ما يدفعه الفرد ممن تنطبق عليه الشروط السابقة من الجزية للمسلمين دينارًا واحدًا في السنة؛ بينما كان المسلم يدفع 2.5٪ من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، وفي حالة إسلام الذمِّيِّ تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية -تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم- فهناك مَنْ يدفع 10 و20٪ ضرائب، بل هناك مَنْ يدفع 50 وأحيانًا 70٪ ضرائب على ماله؛ بينما في الإسلام لا تتعدَّى الزكاة 2.5٪؛ فالجزية كانت أقلَّ من الزكاة المفروضة على المسلمين؛ وهي بهذا تُعَدُّ أقلَّ ضريبةٍ في العالم، بل كانت أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْم أنفسُهم على شعوبهم وأبناء جِلْدَتهم.

    وفوق ذلك فقد أمر الرسول ألاَّ يُكَلَّف أهلُ الكتاب فوق طاقاتهم، بل تَوَعَّد مَنْ يظلمهم أو يُؤذيهم؛ فقال: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا[2]، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه يوم القيامة.

    [1] الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الجيم 6/2302، 2303، وابن منظور: لسان العرب، مادة جزي 14/145، والمعجم الوسيط 1/121، 122.

    [2] المعاهد: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب. انظر: المناوي: فيض القدير 6/153.

    [3] أبو داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات ( 3052)، والبيهقي (18511)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (445).





    [SIGPIC][/SIGPIC]


  2. #12
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    فتوحات طارق بن زياد في الأندلس

    طارق بن زياد يتوغل في الشمال فاتحًا

    انطلق طارق بن زياد بجيشه الرئيسي نحو طُلَيْطلَة، ووزع باقي الجيش -الذي كثر عدده- في سرايا إلى أنحاء الجزيرة المختلفة؛ توجَّهطارق بن زياد إلى مدينة إِسْتِجَة Ecija وهي -أيضًا- من مدن الجنوب، وكانت فلول القوط قد تجمَّعت بها واستعدَّت لمعركة أخرى مع المسلمين، ففتح في الطريق شَذُونَة ثم مورور، ثم في إِسْتِجَة قاتل المسلمون قتالاً عنيفًا، لكنه -بلا شَكٍّ- أقلُّ مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قوتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وصالحهم طارق على الجزية[1].

    وثمة فارق كبير جدًّا بين أن يُصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا أي: بالقتال لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمَّا إنْ صالح النصارى على الجزية؛ فإنهم يظلُّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلاَّ الجزية، التي كانت تُقَدَّر آنذاك بدينارٍ واحد في العام.

    خط سير طارق بن زياد* *

    من إِسْتِجَة وبجيش لا يتعدَّى تسعة آلاف رجل بدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى[2]، وانطلق هو بقوَّة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال؛ حتى يصل إلى طُلَيْطلَة عاصمة الأندلس آنذاك، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غَرْنَاطَة، وسرية إلى مَالَقَة، وسرية إلى مُرْسِيَة، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلَّة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد على سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدَّى سبعمائة رجل؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، كذلك كانت الحملات الأخرى التي أرسلها إلى غَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة تفتح البلاد والمدن، وفتحت مُرْسِيَة وقاعدتها أوريولة صلحًا[3].

    طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطلَة

    وطُلَيْطِلَة مدينة قديمة من مدن إسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 كيلو مترًا جنوب غرب مدريد -العاصمة الإسبانية الحالية- ويُحيط بها نهر التاجو من جهات ثلاث في وادٍ عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.

    وكان موسى بن نصير -رحمه الله- الذي اتَّسم بالحكمة والأناة- قد أوصى طارق بن زياد ألاَّ يتجاوز مدينة جَيَّان أو لا يتجاوز مدينة قُرْطُبَة، وأمره ألاَّ يُسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طُلَيْطِلَة حتى لا يحوطه جيش النصارى[4].

    لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة مفتوحٌ أمامه، وليس فيه صعوبات تُذْكَر؛ فاجتهد رأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طُلَيْطِلَة العاصمة، التي تُعدُّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق؛ فهي محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أمَّا الجهة الجنوبية -وهي الجهة المفتوحة- فقد كان عليها حصن كبير جدًّا، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يُصيب النصارى فيها الضعف الشديد، فلن يستطيعوا معه مقاومة جيش المسلمين ويتمكَّن من فتحها، وهذا ما قد يتعذَّر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها، وثبتت براعة طارق فقد فتحت المدينةُ أبوابها له، ودخلها دون قتال على قلَّة ما معه، وانعدام المدد من خلفه[5].

    ثم لم يكتفِ طارق بفتح العاصمة، بل واصل الزحف شمالاً، فاخترق قشتالة وليون وطارد فلول القوط حتى أسترقة، فلجئوا إلى آخر الشمال الغربي عند جبال جيليقية الشامخة، وعبر طارق جبال أشتوريش استورياس حتى وصل إلى خليج غسقونية بسكونية على المحيط الأطلسي، فكانت هذه نهاية فتوحاته[6].

    موسى بن نصير يأتي بالمدد

    تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم يَنَلْ قَبُولاً لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهوُّرًا كبيرًا لا يُؤْمَن عواقبه، وكان قد عُرِفَ عن موسى بن نصير الأناةُ والحكمةُ والصبرُ في كل فتوحاته في شمال إفريقيا حتى وصوله إلى المغرب؛ ومن ثَمَّ فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفِّ عن الفتح، والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتفَّ حوله الجيوش النصرانية.

    وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعِدُّ العُدَّة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجَهَّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا[7].

    من أين جاءوا؟

    إن المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جُلُّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من الأمازيغ البربر، أمَّا هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المسافة البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.


    ** فيديو توضيحي لخط
    السير من هذا الرابط http://islamstory.com/ar/%D9%81%D8%A...AF%D9%84%D8%B3

    [1] مجهول: أخبار مجموعة ص19، وابن عذاري: البيان المغرب 2/8، والمقري: نفح الطيب 1/260.
    [2] مجهول: أخبار مجموعة ص19، والمقري: نفح الطيب 1/260، 261، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص72 وما بعدها، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص41 وما بعدها.
    [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/50.
    [4] ابن كثير: البداية والنهاية 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/117، والمقري: نفح الطيب 1/223.
    [5] مجهول: أخبار مجموعة ص23، 24، والمقري: نفح الطيب 1/264، 265.
    [6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/51.
    [7] مجهول: أخبار مجموعة ص24.









    [SIGPIC][/SIGPIC]


  3. #13
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    طارق بن زياد وموسى بن نصير .. لقاء الأبطال

    فتوحات موسى بن نصير

    كان موسى بن نصير قائدًا محَنَّكًا، له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، ولم يكن يومًا كما يَدَّعِي أناس أنه عطَّل طارق بن زياد عن الفتح؛ حسدًا أن يُنسَب إليه وحده فتحُ بلاد الأندلس[1]؛ ومن ثَمَّ أراد أن يشترك في الأمر معه؛ ذلك أنَّ طارق بن زياد من عُمَّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعَدُّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، ولكن كانت رؤية موسى بن نصير تستند إلى الحفاظ على جيش المسلمين من الهلكة وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ لا سيما والجيش قد اخترق أرض الأندلس نحو العاصمة، وظلَّت كثير من المدن في ظهره غير مفتوحة ولا آمنة[2].

    خط سير موسى بن نصير **

    من
    ثَمَّ فقد قَدِمَ موسى بن نصير وسلك بالجيش نحو المدن التي لم يفتحها طارق، فتوجَّه نحو إِشْبِيلِيَة وفي الطريق أعاد إخضاع شَذُونَة، وافتتح قَرْمُونَة –وهي يومئذٍ من أمنع معاقل الأندلس- ثم حاصر إِشْبِيلِيَة حصارًا شديدًا، طال مداه شهورًا حتى فَتَحت أبوابها أخيرًا، ثم تجاوزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي، وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد؛ وليس أخذ النصر أو الشرف منه.

    واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد، وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَارِدَة[3]، كل هذا وطارق بن زياد في طُلَيْطِلَة ينتظر قدومه، وكانت مَارِدَة من المناطق التي تجمَّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه -أيضًا- شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمرُّ الأعياد على المسلمين في جهاد لنشر دين الله في ربوع العالمين[4].

    عبد العزيز بن موسى بن نصير

    فاتح البرتغال

    لم يكتفِ موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمهم الله جميعًا- الذي تربَّى كأبيه وجدِّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغَّل عبد العزيز في الغرب كثيرًا؛ حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس، التي تسمى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لَشْبُونَة وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعَدُّ عبد العزيز بن موسى بنِ نصير فاتح البرتغال.

    موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح

    تذكر بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنَّفه ووبَّخه، بل تذكر -أيضًا- أنه قيَّده وضربه بالسوط، وبعضها يقول: إنه حبسه وهمَّ بقتله[5]. إلاَّ أننا نقطع بأن هذا لم يحدث، وإنما الذي حدث أن موسى بن نصير قد عنَّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جَيَّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة -كما ذكرنا- وقد كان تعنيفًا سريعًا؛ ولا نشكُّ في أنه كان لقاءً حارًّا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92هـ= يوليو 711م وحتى ذي القعدة سنة 94هـ= أغسطس 713م، فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصلت إلى طُلَيْطِلَة عامًا كاملاً، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في المكان نفسه عامًا كاملاً.

    ومما يدلُّ على تلك العلاقة السامية بين هذين القائدين العظيمين ما جاء في نفح الطيب من أن موسى بن نصير لما سمع بانتصار طارق عبر الجزيرة بمَنْ معه ولحق به، فقال له: يا طارق؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا. فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي -يعني البحر الشمالي أي: المحيط الأطلنطي- من ناحية شمال شبه جزيرة الأندلس [6].

    فكأن موسى بن نصير تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لِمَا أُعجب به من عمل طارق وجهاده، بل وتنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس «هنيئًا مريئًا»، ثم إن طارقًا لم يكن ممن يهمه الولاية والإمارة، بل شغله حُبُّ الجهاد، وما رضي عنه بغيره، ولو كان المنصب على الجزيرة الغنية.

    وبعد اللقاء اتَّحَدَا معًا واتجها إلى فتح منطقة الشمال؛ لاستكمال عمليات الفتح، ففتحا مناطق عِدَّة؛ كان منها -على سبيل المثال- منطقة بَرْشُلُونَة ففتحاها[7]، ثم اتجها إلى مدينة سَرَقُسْطَة؛ وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها[8]، وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعملٍ يُحْسَد عليه؛ فقد أرسل سريَّة خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه، ثم وصلت إلى مدينة تُسمَّى أرْبُونَة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواةً لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان، كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.

    وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظلَّ المسلمون يفتحون مدن الأندلس؛ المدينة تلو الأخرى حتى تمَّ الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلاَّ منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بلاي، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي[9].

    ففي زمن قُدِّر بثلاث سنوات ونصفٍ -ابتدأ من سنة 92هـ=711م وانتهى في آخر سنة 95هـ= 714م- كان قد تمَّ للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا صخرة بلاي هذه، وحين عزم موسى بن نصير على أن يُتِمَّ فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقَّعه.

    لو لم تكن البراهين ثابتة على تمام الفتح في هذه المدة القصيرة لما صدَّقه أحد؛ لأن شبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل على أحد فتحه أو إخضاعه... والحق أن فتح المسلمين للأندلس معجزة في حدِّ ذاته؛ إذ لا يُصَدِّق المرء وهو يتتبَّع أخبار هذا الفتح أن الذين كانوا يقومون به -بهذا النظام، وبهذا النظر البعيد- إنما كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش ولا المعاهدات، الحق أن الإسلام قد خطا بمعتنقيه خلال القرن الأول بضعة قرون إلى الأمام، وهذا تاريخ الرومان في إفريقية: لم يوفقوا إلى تحضيرها على نحو يُقارب ما فعله الإسلام -ولو من بعيد- في بضعة قرون، فما بالك وقد فعل الإسلام ذلك في نحو نصف قرن؟!

    ولو ذكرنا أن موسى أكمل عمل طارق، وأن عبد العزيز أكمل عمل الاثنين لاستبان أن العرب ساروا في فتح هذه البلاد على خطَّة محكمة لم يكن من الميسور وضع أحسن منها: فقد قُضِيَ على المقاومة واحتلت العاصمة في أول وثبة، ثم اتجهت الهمة إلى إخضاع كبريات مدن الغرب، ثم فتح المسلمون إقليم سَرَقُسْطَة وتتبَّعوا فلول المقاومة في معاقلها في الشمال والشمال الغربي، ثم فتحوا أقصى الغرب، وخُتم العمل بفتح الجنوب الشرقي. ولو أن مجلسًا للحرب من كبار العسكريين اجتمع ليضع خطة لفتح البلاد لما وُفِّق إلى خير من ذلك، وتلك ناحية ينبغي ألاَّ تغيب عن ذهن أحدنا وهو يدرس هذا الفتح؛ لأنها في الواقع تدلُّ على نبوغ حربي عند هؤلاء المسلمين الأولين[10]
    .


    ** فيديو توضيحي لخطي سير موسى بن نصر وطارق بن زياد على هذا الرابط
    http://islamstory.com/ar/%D8%B7%D8%A...B5%D9%8A%D8%B1

    [1] تذكر بعض الروايات ذلك، انظر: مجهول: أخبار مجموعة ص24، والمقري: نفح الطيب 1/269.
    [2] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص79 وما بعدها.
    [3] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14،.
    [4] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14، 15، والمقري: نفح الطيب 1/271.
    [5] مجهول: أخبار مجموعة ص26، 27، وابن عذاري: البيان المغرب 2/16، والمقري: نفح الطيب 1/271.
    [6] المقري: نفح الطيب 1/242.
    [7] من المؤسف أن الكثيرين من المسلمين لا يعلمون عن برشلونة شيئًا إلا فريق كرة القدم المشهور، ولا يكاد يدور بخَلَدِهم أنها كانت في يومٍ ما مسلمة يُحكم فيها بشرع الله عز وجل.
    [8] المقري: نفح الطيب 1/273.
    [9] ابن الأثير: الكامل 4/270، والمقري: نفح الطيب 1/274-276.
    [10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص106، 107.




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  4. #14
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    الوليد بن عبد الملك ووقف فتوحات الأندلس

    رسالة الوليد بن عبد الملك

    من أقصى بلاد المسلمين.. من دمشق.. من أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق، ولا يستكملا الفتح، حزن موسى بن نصير وأَسِفَ أشدَّ الأسف، لكن لم يكن بُدٌّ من الاستجابة والعودة كما أُمر.

    ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب؟! ولماذا الاستدعاء في هذا التوقيت خاصة؟! إلاَّ أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخَّر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك، وكان كما يلي:

    1- كان الوليد بن عبد الملك يشغله همُّ توغُّل المسلمين بعيدًا عن ديارهم؛ فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة، وقد رأى أن المسلمين توغَّلوا كثيرًا في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي –رحمه الله- أن يلتفَّ النصارى من جديد حول المسلمين؛ فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها، فأراد ألاَّ يتوغَّل المسلمون أكثر من هذا.

    2- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يُوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك؛ جعله يُصِرُّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق؛ ذلك أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يُريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوربا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب[1].

    كانت القسطنطينية قد استعصت على المسلمين من الشرق، وكثيرًا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفَّق في فتحها، وهنا فكَّر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوربا؛ فيفتح إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا الحالية، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب؛ أي أنه سيتوغَّل بالجيش الإسلامي في عمق أوربا منقطعًا عن كل مدد، فأفزع هذا الأمر الوليد بن عبد الملك، وخشي على جيش المسلمين من الهَلَكَة؛ فعجَّل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد.

    هِمَّة عالية

    هنا لا بُدَّ لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمَّة العالية التي كانت عند موسى بن نصير؛ خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يُفَكِّر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة؛ فلله دَرُّه! شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله، ويركب الخيول، ويفتح المدينة تلو المدينة، يحاصر إِشْبِيلِيَة شهورًا ويحاصر مَارِدَة شهورًا، ثم يفتح بَرْشُلُونَة وسَرَقُسْطَة والشمال الشرقي، ثمَّ يتَّجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة يُريد أن يفتحها، ثم هو يُريد أن ينطلق إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينية!

    أيُّ همَّة هذه التي امتلكها هذا الشيخ الكبير؟! التي تجعله يفعل كل هذا ويُؤَمِّل لهذا التفكير وعمره خمسٌ وسبعون سنة! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا مثل عمره أو أقل منه، وظنُّوا أنهم قد «خرجوا على المعاش» وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا؛ فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنتهِ بعدُ، فمَنْ لتعليم الأجيال؟! ومَن لتوريث الخبرات؟! ومَن لتصحيح المفاهيم؟!

    فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز الستين من عمره؛ أي تجاوز سنَّ المعاش في زمننا هذا، ثم ها هو ذا في سنِّ الخامسة والسبعين يحزن حزنًا شديدًا، ولكن على أي شيءٍ كان حزنه؟! حزن أولاً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه ساحة الجهاد، وقد كان محبًّا له؛ علَّه ينال الشهادة التي لم تُصِبْهُ، ثم حزن ثانيًا حزنًا شديدًا؛ لأن الصخرة لم تُفتَح بعدُ، ثم حزن ثالثًا -وكان حزنه أشدَّ- لأنه لم يستكمل حُلْمَ فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى.

    وفي هذا يذكر المَقَّرِيُّ صاحب نفح الطيب أن موسى بن نصير ترك الأندلس «وهو مع ذلك متلهِّف على الجهاد الذي فاته، أَسِيفٌ على ما لحقه من الإزعاج، وكان يُؤَمِّل أن يخترق ما بقي عليه من بلد إفرنجة فرنسا، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملاً أن يتَّخذ مختَرَقُه بتلك الأرض طريقًا مَهْيَعًا[2] يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم -من المشرق وإليه- على البرِّ لا يركبون بحرًا»[3].

    عودة وأُمنية

    لم يجد موسى بن نصير إلاَّ أن يسمع ويُطيع لأمر الوليد بن عبد الملك، فأخذ طارقَ بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، ثم لم يلبث أن مات وتولَّى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق؛ خوفًا من هلكة جيش المسلمين في توغُّله داخل بلاد أوربا نحو القسطنطينية.

    وبعد عام من قدوم موسى بن نصير سنة 97هـ=716م كان سليمان بن عبد الملك ذاهبًا إلى الحجِّ، وهذا ما وافق اشتياقًا كبيرًا من قِبَل موسى بن نصير؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال إفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يَعُدْ فيها مرَّة واحدة، فما كان منه إلاَّ أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحجِّ في ذلك العام[4].

    وفاة موسى بن نصير

    وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير: اللهم إن كنت تُريد لي الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد، وأَمِتْني على الشهادة، وإن كنت تُريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله . ووصل –رحمه الله- إلى الحجِّ، وبعد حجِّه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله ، ثم دُفِنَ مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين[5].

    وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب المَوْصُولين برب العالمين، فقد بلغ من الكبر عِتِيًّا؛ إلاَّ أنه قَدَّم أكثر مما عاش، ظلَّ قلبه معلَّقًا بحُبِّ ربه حتى دعاه، فكانت الخاتمة وكانت الإجابة، عاش بين الأسنَّة في أقصى بلاد الأندلس، إلاَّ أنه مات بعد الحجِّ في مدينة رسول الله ، فلله دَرُّه من قائد وقدوة!

    لقد مات القائد المسلم موسى بن نُصير بعد أن ملأ جهادُه -بقيادة المدِّ الإسلامي المبارك- وِدْيانَ المغرِب الإسلامي الشمال الإفريقي والأندلس وجباله وسهوله وهضابه، ووَجَّه دعاةَ الحق لإسماع ساكنيه نداءَ الخير؛ فيُخرجهم من الظلمات إلى النور المبين... كان موسى بن نصير يقود هذا الجهاد في شبه الجزيرة الأندلسية وهو يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة، ممتطيًا جواده؛ يهبط في وديانها ويرتفع على صخراتها، يتحرَّك فيه إيمانٌ بالله العلي الكبير، فتسمو نفسه وتتجدَّد طاقته وتحدوه لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في كل مكان، فيندفع قويَّ الجنَان رغم ما علا رأسه من الشَّيْب الوقور، يقوده إصرار العقيدة السمحة، وهِمَّة الإيمان الفتيِّ، وتُفَتِّق طاقاتِه كلمةُ الله، وتُقيم قوتها إيمانًا يعلو على أي اعتبار[6].

    مصير طارق بن زياد

    أمَّا رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كُلِّيَّةً بعد رحيله إلى دمشق مع موسى بن نصير، ولا أحدٌ يدري هل عاد مرَّة أخرى إلى الأندلس أم بَقِيَ في دمشق؟!

    مهما بلغ المؤرخ في الثناء على طارق فإنه لا يستطيع وفاء حقِّه، ولو فكَّر أحدنا في الأمر لحظة لاستخرج من حياة طارق وأعماله سرًّا من أسرار قوَّة الإسلام، وناحية من نواحي امتيازه؛ فطارق هذا رجل مغربي بربري لم يكن ليصبح -بغير الإسلام- إلاَّ قائدًا خاملاً لجماعة من البربر منسيين في ركن من أركان الأطلسي، فجاء الإسلام فجعل منه قائدًا فاتحًا، وسياسيًّا محنَّكًا يقود الجيوش ويفتح الأمصار، ويُوَقِّع المعاهدات في قدرة وكياسة جديرتين بالإعجاب، فلو لم يكن للإسلام من أثر إلاَّ تكوين أمثال هذا الرجل واستنهاض قومه للعمل الجليل لكفاه، فكيف وقد بثَّ الإسلام هذه الروح في كل مكان أظلَّته رايته، وكيف وقد فعل هذا في أقصر وقت وحققه على أتم وجه؟! [7].

    الصخرة.. والدرس الصعب

    رحل موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس إلى دمشق بعدما وصلا بفتوحاتهما إلى غرب فرنسا، إلاَّ أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدًّا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تُفتَح بعدُ، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يومٌ وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعدُ، وستكون صاحبة اليد الطُّولَى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون.

    تلك هي منطقة الصخرة التي لم يستكمل المسلمون فتحها، وكانت فيها طائفة كبيرة من النصارى، وأغلب الظنِّ أنه لو بقي موسى بن نصير أو طارق بن زياد ما تركوها، إلاَّ أننا نستطيع أن نقول: إن التهاون في أمر بسيط جدًّا قد يُؤَدِّي إلى ويلات عظيمة على مَرِّ الزمن، فلا بُدَّ أن يأخذ المسلمون كلَّ أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة، إلاَّ بعد استكمال النهايات على أتَمِّها.






    [SIGPIC][/SIGPIC]


  5. #15
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    عصر الولاة في الأندلس

    عصر الولاة

    بعد انتهاء عهد الفتح يبدأ عهد جديد في تاريخ قصة الأندلس يُسمَّى عصر الولاة، الذي يبدأ من عام 95هـ=714م ويستمرُّ مدَّة اثنين وأربعين عامًا حيث ينتهي عام 138هـ=755م [1]، وعهد الولاة يعني أنَّ حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولاَّه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في دمشق في ذلك الوقت.

    وإذا نظرنا إلى عصر الولاة نرى أنه قد تعاقب فيه على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليًا، أو عشرون واليًا تولَّى اثنان منهم مرتين[2]؛ فيُصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنتين وعشرين فترة خلال اثنين وأربعين عامًا؛ أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.

    ولا شكَّ أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثَّر تأثيرًا سلبيًّا على بلاد الأندلس، إلاَّ أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يُبَرِّرُه؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثيرٌ من الوُلاة الذين يُستَشْهَدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، ثم جاءت مرحلة كان فيها كثيرٌ من الوُلاة يُغَيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات.. وما إلى ذلك.

    ومِنْ هنا نستطيع أن نُقَسِّم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيستين مختلفتين تمامًا؛ حيث كانت الفترة الأولى فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتدُّ من بداية عهد الولاة من عام 95هـ=714م وحتى عام 123هـ=741م؛ أي: سبعة وعشرين عامًا.

    وكانت الفترة الثانية فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، واستمرَّت من سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م؛ أي مدَّة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كُلٍّ منهما، وإنما سنقتصر على بعض الولاة فقط؛ لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه.

    عهد القوة

    بصفة عامَّة تميَّزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعِدَّة أمور؛ كان من أهمها:

    نشر الإسلام في بلاد الأندلس

    بعد أن تمكَّن المسلمون من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعَلِّمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفوه، فاختاروه بلا تردُّد؛ فلقد وجد الإسبان في الإسلام دينًا متكاملاً شاملاً يُنَظِّم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضع القادة الفاتحين، وجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، ووجدوا فيه كيفية التعامل مع العدوِّ والأسير، ومع كل الناس.

    لقد تعوَّد الإسبان في حياتهم -قبل ذلك- فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرَّد مفاهيم لاهوتية غير مفهومة، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم يُشَرِّع لهم مَنْ يحكمهم وَفق هواه، وحسبما يُحَقِّق مصالحه الشخصية، أمَّا في الإسلام فقد وجدوا أن الأمر يختلف عن ذلك تمامًا؛ فلم يستطيعوا أن يتخلَّفوا عن الارتباط به والانتساب إليه؛ فدخلوا فيه أفواجًا.

    وفي مدَّةٍ قليلة أصبح عموم أهل الأندلس السكان الأصليين يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والأمازيغ البربر قلَّةً بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين[3]، وهم الذين اتَّجَهُوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

    نشأة جيل المولَّدين

    كان من جرَّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين، وانتشار الإسلام بصورة سريعة أن نشأ جيل جديد عُرِفَ باسم جيل المولَّدين، وهم أبناء الذين أسلموا من أهل الأندلس الأصليين، فقد كان الأب عربيًّا أو أمازيغيًّا بربريًّا والأم أندلسية[4].

    إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية

    ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس جميعًا؛ حتى كان الحاكم والمحكوم يقفان سويًّا أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريَّة العقائدية للناس؛ فتركوا للنصارى كنائسهم، وما هدموها قطُّ، وما كانوا يُحَوِّلونها إلى مساجد إلاَّ إذا وافق النصارى على بيعها لهم، وكان بيع الكنائس للمسلمين يُقَدَّر بأثمانٍ باهظة، أمَّا إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم[5].

    وهذه المواقف العظيمة إنما كانت تحدث والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين، وعلينا أن نَعِيَ هذا الأمر جيدًا، ونقارن صنيع المسلمين هذا بما فعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس، فيما عُرِفَ باسم محاكم التفتيش الإسبانية.

    الاهتمام بالحضارة المادية

    اهتمَّ المسلمون في هذه الفترة بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية؛ فأسَّسوا الإدارة، وأقاموا العمران، وأنشئوا القناطر والكباري؛ ومما يدلُّ على براعتهم في هذا الأمر تلك القنطرة العجيبة التي تُسَمَّى قنطرة قُرْطُبَة[6]، وكانت من أعجب القناطر الموجودة في أوربا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون دورًا للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.

    تقليدُ الإسبانِ للمسلمين في كل شيء

    كان من السمات المميِّزة -أيضًا- في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الإسبان بدءوا يُقَلِّدُون المسلمين في كل شيء؛ حتى أصبحوا يتعلَّمُون اللغة العربية التي يتكلَّمها الفاتحون، بل كان الإسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.

    اتخاذ المسلمين قُرْطُبَة عاصمة لهم

    كذلك كان من بين السمات المميزة لهذه الفترة -أيضًا- أن اتخذ المسلمون قُرْطُبَة عاصمةً لهم[7]؛ وقد كانت طُلَيْطِلَة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن وجد المسلمون أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة، وهما من مصادر الخطر عليهم؛ فرأوا أن طُلَيْطِلَة بذلك مدينة غير آمنة؛ ومن ثَمَّ فلا يمكن أن تكون هي العاصمة؛ لذلك اختاروا مدينة قُرْطُبَة، التي تقع في اتجاه الجنوب؛ لانتفاء الأسباب السابقة، وحتى تكون -أيضًا- قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.

    الجهاد في فرنسا

    كان الجهاد في فرنسا من أهم السمات المميزة لهذه الفترة من عهد الولاة، فاتخذت خطوات كبيرة في هذه الفترة، وسنذكر بعض الولاة الذين كان لهم سَبْقٌ وحضور في عملية الجهاد في بلاد فرنسا.

    [1] المقري: نفح الطيب 1/298-300.

    [2] الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس 1/3-8، والمقري: نفح الطيب 1/298-300.

    [3] مما يدل على ذلك قول السمح بن مالك –رحمه الله- في كتابه إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز –رحمه الله - أمير المؤمنين- عندما أراد أن يخلي الأندلس من المسلمين: «إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك». والناس هنا المقصود بهم المسلمين. انظر: ابن عذاري: البيان المغرب 2/26، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص340، 341.

    [4] انظر في تفصيل ذلك: حسين مؤنس: فجر الأندلس ص344، 350.

    [5] حول أوضاع أهل الذمة في الأندلس انظر دراسة حسين مؤنس: فجر الأندلس ص350-409.

    [6] مجهول: أخبار مجموعة ص30، وابن عذاري: البيان المغرب 2/26، والمقري: نفح الطيب 1/235، 480، 3/15.

    [7] ابن عذاري: البيان المغرب 2/25، والمقري: نفح الطيب 3/14.




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  6. شكراً شكر هذه المشاركة مسلم
    أعجبني معجب بهذه المشاركة مسلم, سوفانا
  7. #16
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    هذه المشاركة تتطلب من الضغط على "اعجبتني هذه المشاركة" لمشاهدة المحتوى




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  8. شكراً شكر هذه المشاركة مسلم
    أعجبني معجب بهذه المشاركة مسلم
  9. #17
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    عنبسة بن سحيم .. القائد المجاهد


    ولاية عنبسة بن سحيم (ت 107هـ=725م)

    لما سقط السمح بن مالك شهيدًا في أرض الجهاد، اختار أهل الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيَّ -رحمه الله- أميرًا عليهم، واستطاع بمهارته العسكرية أن يجمع شتات المسلمين، ويعود إلى الأندلس في (ذي الحجة سنة 102هـ)، وكانت هذه ولايته الأولى، ولم تدم إلاَّ شهرين؛ فقد عزله يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية، وولَّى بدلاً منه عَنْبَسَة بْن سُحَيْم -رحمه الله- وذلك في (صفر 103هـ)[1].

    جهاد عنبسة بن سحيم

    كان عنبسة بن سحيم –رحمه الله- قائدًا تقيًّا وَرِعًا، وإداريًّا فذًّا، ومجاهدًا حَقَّ الجهاد، حكم بلاد الأندلس من سنة (103هـ=721م) إلى سنة (107هـ=725م) [2]، فوصل في جهاده إلى مدينة (سانس Sens)، وهي تبعد عن باريس بنحو ثلاثين كيلو مترًا، وهذا يعني أن عنبسة بن سحيم –رحمه الله- قد وصل إلى ما يقرب من70٪ من أراضي فرنسا، ويعني هذا -أيضًا- أن 70٪ من أراضي فرنسا كانت بلادًا إسلامية، فقد أوغل عنبسة بن سحيم –رحمه الله- في غزو الفرنج.

    ويرى ( إيزيدور) أسقف بَاجَة[3] في ذلك العصر أن فتوحات عَنْبَسَة كانت فتوحات حِذَق ومهارة أكثر منها فتوحات بطش وقوة؛ ولذلك تضاعف في أيامه خَرَاج بلاد الغال -فرنسا- وافتتح (قرقشونة Carcassona) صلحًا بعد أن حاصرها مدَّة، وأوغل في بلاد فرنسا فعبر نهر الرون إلى الشرق، وأُصيب بجراحات في بعض الوقائع[4]، فاستُشهِدَ عنبسة بن سحيم –رحمه الله- وهو في طريق عودته إلى الأندلس في (شعبان 107هـ= ديسمبر 725م)[5].

    عبد الرحمن الغافقي


    ولاية عبد الرحمن الغافقي (112هـ=730م)

    بعد استشهاد عَنْبَسَة بن سُحَيْم -رحمه الله- بدأت الأمور في التغيُّر؛ فقد تولَّى حكم الأندلس مِن بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، فعلى مدى خمس سنوات فقط (107-112هـ=725-730م) تولَّى إمارة الأندلس ستة ولاة، كان آخرهم رجل يُدعى الهيثم بن عبيد الكلابي –أو الكناني حسب بعض الروايات- وكان عربيًّا متعصبًا لقومه وقبيلته[1].ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين: المسلمون العرب من جهة والمسلمون الأمازيغ (البربر) من جهة أخرى، وكانت خلافات بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح الله على المسلمين هذه المناطق وحتى هذه اللحظة، ولم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معاركُ ومشاحناتٌ بين المسلمين العرب والمسلمين الأمازيغ (البربر)[2]، حتى مَنَّ الله على المسلمين بمَنْ قضى عليها ووحَّد الصفوف من جديد، وبدأ يبثُّ في الناس رُوح الإسلام الأولى، التي جمعت بين الأمازيغ (البربر) وبين العرب، والتي لم تُفَرِّق بين عربي وأعجمي إلاَّ بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغَافِقِيُّ -رحمه الله.

    عبد الرحمن الغافقي

    مَنْ يكون عبد الرحمن الغافقي؟
    هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغَافِقِيّ العَكِّيّ (ت 114هـ=732م)، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويُكنى أبا سعيد, وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين –رحمه الله[3].

    مولد عبد الرحمن الغافقي

    ربما يكون وُلِدَ في اليمن ورحل إلى إفريقية، وَفَدَ على سليمان بن عبد الملك الأموي في دمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ووليَ قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس[4].

    فكر الغافقي العسكري

    تميَّز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد؛ حتى لا تتشتَّت الأمور ويبعد الهدف في ظلِّ التراخي عن اتخاذ القرار وتأخير ذلك عن وقته.
    كما تميَّز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن، بين ما يملك من قوى وما يُريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدأ الإعداد قبل التلاقي؛ أي: إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادًا قويًّا من كافَّة النواحي، والتأكُّد من توافر كل أنواع القوة؛ بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوَّة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءً بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية، وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى؛ فإن أي قصور في أي نوع منها كفيلٌ بجلب الهزيمة على الجيش كله.

    خلُق الغافقي

    وكان ، من أحسن الناس خُلُقًا[5]، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد الصحابة –رضي الله عنهم؛ فلا عجب إذا رأينا منه حُسْنَ السيرة في أخلاقه مع رعيته، ولا عجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية، وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل؛ فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس؛ فهو أمير وقائد، ويمتلك مقومات كثيرة غير أنه ينتظر الأجر من الله .
    قال عنه الذهبي –رحمه الله: عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيّ أمير الأندلس وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر، وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض[6]، وذكره ابن بشكوال فيمن دخل الأندلس من التابعين[7].
    وذكر الحميدي أنه روى الحديث عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان صالحًا جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عَدْلَ القسمة في الغنائم[8].





    [1] انظر في تفصيل ذلك: الأزدي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس 1/386، وابن الأثير: الكامل 4/377، 5/120، وابن عذاري: البيان المغرب 2/27، 3/16، والذهبي: تاريخ الإسلام 7/209.

    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/27، والمقري: نفح الطيب 1/235.

    [3] باجة: هي مدينة بالأندلس بينها وبين قرطبة مائة فرسخ 5.5كم تقريبًا. الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص75، وصفة جزيرة الأندلس ص36.

    [4] انظر: الزركلي: الأعلام 5/91، وانظر تفصيل حملات عنبسة بن سحيم: الأمير شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 73-86، وحسين مؤنس: فجر الأندلس 210-215.

    [5] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/377، وابن عذاري: البيان المغرب 2/27، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/16، وذكر الحميدي في جذوة المقتبس أن ولايته على الأندلس كانت سنة 106هـ من قِبَل بشر بن صفوان أمير إفريقية في أيام هشام بن عبد الملك، ووفاته سنة 107هـ، وقيل سنة 109هـ، 6/319.



    [1] مجهول: أخبار مجموعة ص31، وابن عذاري: البيان المغرب 2/28، وفيه أن محمد بن عبد الله الأشجعي ولي بعده شهرين، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/18.

    [2] انظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ص86، 87.[3] الحافظ أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس 1/298، والزركلي: الأعلام 3/212.
    [4] الزركلي: الأعلام 3/212.
    [5] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275، والمقري: نفح الطيب 3/15.
    [6] الذهبي: تاريخ الإسلام 7/414.
    [7] المقري: نفح الطيب 3/15.
    [8] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275.







    [SIGPIC][/SIGPIC]


  10. #18
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    معركة بلاط الشهداء

    فتوحات عبد الرحمن الغافقي

    بعد أن وحَّد عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- المسلمين، وتيقَّن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجَّه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل[1]، ثم مدينة بودرو[2] Bordeaux‪ ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة بواتييه[3] Poitiers، ثم وصل إلى تور[4] Tours، وهي المدينة التي تسبق باريس والمسافة الفاصلة بينهما حوالي 295كم، والمسافة بينها وبين قُرْطُبَة حوالي ألف كيلو متر؛ أي أنه توغَّل كثيرًا جدًّا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال[5].

    وعلى بعد بحوالي 25 كم إلى الشمال الشرقي لمدينة بواتييه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تُسَمَّى البلاط[6]، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعَدُّ حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا[7]

    وقفة في تاريخ ومصادر معركة بلاط الشهداء

    لموقعة بلاط الشهداء ظرف خاص لسنا نجده في الكثير من المواقع؛ ذلك أن المصادر الإسلامية تصمت تمامًا عن ذكر تفاصيل هذه المعركة، وهذا في حقيقة الأمر من العجائب التي لا نعرف لها تفسيرًا بعدُ، فإمَّا أن ما كُتب عن المعركة ما زال مفقودًا في بطون المخطوطات غير المنشورة، ينتظر لحظة النور وهنا تنسجم الأمور؛ فالمسلمون لم يتوقَّفُوا في التأريخ لهزيمة مهما كانت قاسية لا في الأندلس ولا في غير الأندلس، لا في القديم ولا في الحديث منذ غزوة أُحُد وحُنَين، وحتى سقوط غَرْنَاطة، أو الهزائم الكبرى التي قبلها كالعِقَاب مثلاً.

    فإن لم يكن ما كُتب عن المعركة مفقودًا، وكان المسلمون قد توقَّفُوا في الحديث عنه لسبب ما، فإننا لا نجد في هذه اللحظة إلاَّ أن نسير مع المؤرخ المحقق الدكتور حسين مؤنس الذي أدهشه قلة التفاصيل، واجتهد في معرفة السبب فلم يجد إلاَّ أن قال: «الواقع أن المسألة لا تُعَلَّل إلاَّ بشيء واحد: هو أن هزيمة المسلمين كانت من الشدَّة بحيث كان أوائل الرواة ينفرون حتى من مجرَّد ذكرها من فرط الألم والتشاؤم، فاندرجت في مدارج النسيان، وتعاقبت عليها الأعصر فلم يبقَ في ذاكرة الرواة منها شيء إلاَّ أن أهل الإسلام قد هزموا في هذه الناحية هزيمة مروعة بين سنتي 114 و115 هـ»[8].

    وحين خلت تفاصيل المعركة من الرواية الإسلامية لم يبقَ في المتاح إلاَّ الرواية الأوربية المسيحية عنها، وهي روايات حافلة بكثير من التفاصيل، وبكثير من الأساطير كذلك.. ولقد تشبعت الروايات الأوربية بالمبالغات في وصف المعركة ووصف النصر العظيم للفرنجة، والهزيمة الساحقة الماحقة للمسلمين، مبالغة مَنْ رأى فيها إنقاذ المسيحية من الفناء على يد الإسلام الزاحف بسرعة مدهشة، والذي لم يقف أمامه حتى الآن شيء، فإذ به ينتقل من الشرق إلى الغرب، ومن جنوب المتوسط إلى شماله، ويكاد يجعل بحر المتوسط بحيرة تامَّة لمملكته الناهضة.

    إذًا فكلُّ ما نعرفه عن تفاصيل بلاط الشهداء مأخوذ من الرواية الأوربية لا غير، وخلاصة ما تُقَدِّمه الرواية الغربية نميل إلى تصديقه بعد استخلاصه من المبالغات، وإن كان لا يسلم من مؤاخذات واعتراضات كذلك، وسنعرض لها بعد توقُّفنا أمام المعركة.

    الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة

    رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- تلك إلاَّ أنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنًا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه؛ ومن ثَمَّ فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثَقُلَ في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المحاربون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتَنُون بهذه الأموال الضخمة التي حصَّلوها.

    ثم عندما وصل عبد الرحمن الغَافِقِيُّ –رحمه الله- بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجدَّدت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والأمازيغ (البربر) من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومُتَّفق عليه، وأخذ كلٌّ ينظر إلى ما بيد الآخر؛ يقول العرب: إنهم أحقُّ لأفضليتهم. ويقول الأمازيغ البربر: نحن الذين فتحنا البلاد. ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عربٍ وأمازيغ بربر، بل ما فرَّقوا بينهم وبين مَنْ دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك.

    يمكننا أن نضيف -أيضًا- ما قد يكون من زهو واغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يُسبَقْ في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزَّة، وظنُّوا أنهم لن يُغلَبوا بسبب كثرتهم هذه، لا سيما وأنهم اكتسحوا الجنوب والوسط الفرنسي، ولم تقف لهم قوَّة ذات بال.

    معركة بلاط الشهداء 114 هـ

    التقى الجيشان؛ خمسون ألفًا من المسلمين أمام أربعمائة ألف استطاع شارل مارتل تجميعهم من كل شيء طالته يداه؛ فمحاربون ومرتزقة، وفرنجة وهمج قادمون من الشمال، وأمراء وعامة وعبيد، واندلع القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب.

    حتى إذا كان اليوم العاشر، حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون إلاَّ أن فرقة من فرسان الفرنجة استطاعت أن تنفذ إلى معسكر الغنائم في خلف الجيش الإسلامي، وهنا صاح الصائح ينادي على الغنائم، فقفلت فرقة من الفرسان في قلب الجيش الإسلامي إلى الخلف مدافعة عن الغنائم، فاهتزَّ قلب الجيش الإسلامي، ثم اهتزَّ وضع الجيش جميعه مع هذه الحركة المفاجئة، وما كان عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- ينادي على الناس ويحاول تجميعهم من جديد حتى أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا، فصارت الطامَّة طامتان: ارتباك حركة الجيش، واستشهاد القائد العظيم.

    بالغت الروايات الأوربية كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شَكٍّ رقم مبالغ فيه جدًّا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يَتَعَدَّ خمسين ألفًا، أو ثمانين في أقصى التقديرات.

    بعد انقضاء اليوم العاشر انسحب المسلمون إلى الجنوب، وجاء اليوم الحادي عشر فنهض الفرنجة لمواصلة القتال، فلم يجدوا من المسلمين أحدًا، فتقدَّمُوا على حذر من مضارب المسلمين فإذا هي خالية، وقد فاضت بالغنائم والأسلاب والخيرات، فظنُّوا الأمر خدعة، وتريَّثُوا قبل أن يجتاحوا المعسكر وينتهبوا ما فيه، ولم يُفَكِّر أحد منهم في تتبُّع المسلمين؛ إما لأنهم خافوا أن يكون العرب قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركًا، أو ربما لأن شارل مارتل اطمأن أنه يستطيع العودة إلى بلاده في الشمال مطمئنًّا إلى انصراف المسلمين عنها[9].

    قصة الغنائم
    رأي الدكتور عبد الرحمن الحجي

    يرفض الدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه «التاريخ الأندلسي» قصة الغنائم هذه، ويسوق في الردِّ عليها جملة من الأمور هي: عدم ثبوت شيء متعلق بأن ثمة نزاعًا كان بين العرب والبربر لا من قبل المعركة ولا في الوقت الذي تلاها، كذلك ما يبدو في قصة الغنيمة من أسطورية تجانب ما عُرف عن الأهداف العليا للفتح الإسلامي، ولما عُرف عن الفاتحين في فرنسا من الزهد في مثل هذه الأمور، كما أنه من الغريب أن يحمل الفاتحون غنائمهم وهم متوجهون إلى معركة يعرفون أنها حاسمة، ولو قُدِّر أن اجتمع لهم مثل هذا القدر الضخم من الغنائم -كما تصف الرواية الأوربية- لكانوا أودعوها مدنًا مفتوحة وما حملوها معهم؛ لا سيما وقد أظهرت لنا طبيعة الفتوح في الأندلس اهتمام المسلمين بالخيل والسلاح تحديدًا لا بغير ذلك من الغنائم، كذلك تتناقض الرواية الأوربية حين تقول بأن الفرنج لم يكتشفوا حيلة المسلمين وانسحابهم إلاَّ في صبيحة اليوم التالي، وقد كانوا يتجهزون لقتال، ما يعني أنه لم تكن تبدو بوادر انتصار لهم ولا هزيمة للمسلمين، فضلاً عن أن تكون هزيمة ساحقة كما تمَّ تصويرها، بل الأرجح في هذه الحالة أن المسلمين انسحبوا بشكل تكتيكي طبيعي لَمَّا استشهد الغافقي، وهو قرار عسكري يُؤخذ بلا حرج حين تبدو صعوبة المعركة، ولا يعني في حدِّ ذاته هزيمة فادحة[10].

    إلاَّ أننا لا نميل كل الميل إلى كلام الدكتور الحجي، وإن كان طرح بعض ما يحتاج إلى دراسة متخصصة، ذلك أن الفاتحين من البشر ويجوز أن يحرصوا على الغنائم وأن يُفتنوا بها، وليسوا –على عظمتهم- بأكرم من الصحابة –رضي الله عنهم- الذين فُتنوا بها في غزوة أُحُد، كما أن الهزيمة في بلاط الشهداء إذا لم تكن كبيرة لكُنَّا سمعنا بعودة أخرى للمسلمين إلى تلك المناطق، إلاَّ أن ذلك لم يحدث؛ وهذا ما يعطينا الإيحاء القوي -الذي يفتقر للدليل الأكيد- بأنها كانت حقًّا هزيمة مؤثِّرة، وبها توقَّفت الفتوحات في شمال فرنسا، كذلك لا يُفَسِّر الدكتور الحجي طبيعة الصعوبات التي تدفع المسلمين لانسحاب ليس بعده رجعة، وقد عهدناهم في كل مراحل التاريخ -وفي فتح الأندلس نفسها- يُقاتلون في عدد وعدَّة أقل كثيرًا من عدوهم، وفي أرض لا يعرفونها كما يعرفها أصحابها.

    رأي الدكتور عبد الحليم عويس

    وأمَّا الدكتور عبد الحليم عويس فيبدو أنه ممن يميل إلى تفسير الغنائم كسبب للهزيمة؛ يقول: «قصة الغنيمة‏ في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تُلقيه علينا -كذلك- أغرب! لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين -عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة- كذلك! فقصة الغنيمة‏.‏‏.‏ هي قصة الهزيمة في تاريخنا. كان قائد المعركة الأولى هو الرسول .‏‏.‏ وخالف الرماةُ أمرَه، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة‏.‏‏.‏ فكانت أُحُد،‏ وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خِيرَة المسلمين‏.‏‏.‏ بسبب الغنيمة‏.‏‏.‏ نعم بسبب الغنيمة!

    وكان قائد المعركة الأخيرة عبد الرحمن الغافقي‏ آخر مسلم قاد جيشًا إسلاميًّا منظمًا لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغُّل -بعد ذلك- في قلب أوربا. وهُزِمَ الغافقي‏.‏‏.‏ سقط شهيدًا في ساحة بلاط الشهداء‏ إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة‏.‏‏.‏ وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا، وطَوَوا صفحتهم في هذا الطريق‏.‏‏.‏ وكان ذلك للسبب نفسه الذي استفتحنا به دروس الهزيمة‏.‏‏.‏ أعني بسبب الغنيمة. ومنذ تمَّ الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفَتْح ما وراءها، هكذا أراد موسى بن نصير،‏ لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك‏ خشي أن يُغَامِر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكَّر على نحو جدي السمحُ بن مالك الخولاني والي الأندلس ما بين عامي 100-102هـ‏‏، وتقدَّم فاستولى على ولاية سبتمانيا‏‏ إحدى المناطق الساحلية المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا، وعبر -بذلك-‏ السَّمْح‏ جبال البرانس، وتقدَّم فنزل في أرض فرنسا مُنعطِفًا نحو الغرب؛ حيث مجرى نهر الجارون، مُستوليًا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى تولوز -في جنوب فرنسا- لكنه لم يستطع أن يستقرَّ فيها، وقُتِلَ السَّمْحُ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده عبد الرحمن الغافقي‏‏ فكأن السَّمْح لم ينجح إلاَّ في الاستيلاء على سبتمانيا»‏[11].

    وعلى كل حال، فما زال الباحثون في انتظار الجديد الذي تجود به الأيام من نفائس المخطوطات، مما عسى أن يساعدنا في فهم هذه المعركة التي بها توقفت فتوحنا في أوربا.‏

    النصر الكارثي

    ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض؛ لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس: "إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية[12]".

    بين التاريخ والواقع


    يقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. فالملاحظ أن المسلمين قد اغترُّوا بهذه الدنيا التي فُتحت عليهم فتنافسوها؛ ففي الحديث عن عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله قال: «فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[13]. فسُنَّة الله في خلقه أنه إن فُتِحَت الدنيا على الصالحين؛ فاغترُّوا بها وتنافسوا فيها؛ فإنها ستُهلكهم لا محالة كما أهلكت مَنْ كان قبلهم؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

    أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة؛ وهو العنصرية والعصبيَّة القَبَلِيَّة، التي كانت بين العرب والأمازيغ (البربر) في هذه بلاط الشهداء، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذه العصبية ووَعَته كتبهم، وظلَّ في ذاكرتهم على مدار التاريخ، حتى مرَّت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830م حتى سنة 1960م، فلمَّا قامت الحركات الاستقلاليَّة منذ سنة 1920م وما بعدها، فكَّرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة، ولم تجد أمامها إلاَّ إشاعة الفتنة بين العرب والأمازيغ (البربر)، وضَرْب بعضهم ببعض، فكانت تُشِيعُ بين الأمازيغ البربر أنهم قريبون من العنصر الآري وهو العنصر الأوربي، وبعيدون عن العنصر السامي وهم العرب؛ أي: أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء. وذلك للتشابه الكبير بين الأمازيغ (البربر) والأوربيين في المظهر، وهذا ما لا يعترف به الإسلام ولا يُقِرُّه على الإطلاق، فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.

    ولم تكتفِ فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق الأمازيغ (البربر)، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتمَّ فصل الأمازيغ (البربر) عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء، إلاَّ أنها لم تُفلح على الإطلاق في تحويل الأمازيغ البربر من الإسلام إلى النصرانية، فظلَّ الأمازيغ (البربر) على إسلامهم، وإن كانت لغتهم قد تغيَّرت.

    وكانت قبائل الأمازيغ (البربر) تمثِّل 15٪ من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية، إلاَّ أنهم كانوا يتمسَّكون بالعربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، لكن حين قامت فرنسا بنفخ نار العصبية، بدأت تُذْكي الروح الأمازيغية (البربريَّة) في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تُعَلِّم اللغة الأمازيغية؛ حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967م أكاديميةً خاصةً لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية؛ رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، وقامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة، وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة الأمازيغية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من الأمازيغ (البربر) لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا؛ حتى إنها في عام 1998م أنشأت ما يُسَمَّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تُجَمِّع الأمازيغ (البربر) من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتُعَلِّمهم اللغة الخاصة بهم؛ وكل ذلك لفصل الأمازيغ (البربر) عن العرب، تلك الجموع التي ما هي إلاَّ جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في بلاط الشهداء وما تلاها فلم تتوانَ، وفي الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد مسلم عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تَقَدَّم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردَّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تُريد بلقنة فرنسا. أي: جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، فهذا الأمر -في رأيهم- حلال على الجزائر حرام على فرنسا[14]
    !

    [1] آرل: هي مدينة في جنوب فرنسا، تقع في مقاطعة بوشيه دو رون، بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط.[2] بوردو (بالفرنسية: Bordeaux‏): هي مدينة فرنسية. تقع في جنوب غرب فرنسا.
    [3] بواتييه: مدينة فرنسية على بعد 332 كم إلى الجنوب الغربي من باريس.
    [4] تور: مدينة فرنسية تقع على نهر اللوار في وسط غرب فرنسا.
    [5] انظر تفصيل زحف عبد الرحمن الغافقي في بلاد فرنسا: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 87-91، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص193-203، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص221-227.
    [6] البلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر.
    [7] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص227.
    [8] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص228.
    [9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص229.
    [10] انظر التفصيل: عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص197 وما بعدها.
    [11] عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية ص7، 8.
    [12] انظر: شوقي أبو خليل: بلاط الشهداء ص 44، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص199-203.
    [13] البخاري: كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961.
    [14] فهمي هويدي: مقال: «درس فتنة الأمازيغ»، صحيفة الأهرام 3/7/2001م.
















    [SIGPIC][/SIGPIC]


  11. #19
    الإدارة العامة
    ذو الفقار غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 47
    المشاركات : 17,892
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 26
    البلد : مهد الأنبياء
    الاهتمام : الرد على الشبهات
    معدل تقييم المستوى : 35

    افتراضي


    ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية
    فأين نحن من هذا اليوم ؟!!! .اللهم إنا نسألك العزة

    بارك الله فيك ولك أخي الكريم وزادك من فضله ، فقد استمتعت بقراءة الموضوع وربما كان تاريخ الأندلس يستهويني جدا لما فيه من أمجاد وعبر وبطولات، وان كانت احزانه تنزف لها جراح النفس

    حياك الله




    إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .



    ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)



  12. #20
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 41
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ذو الفقار مشاهدة المشاركة
    فأين نحن من هذا اليوم ؟!!! .اللهم إنا نسألك العزة

    بارك الله فيك ولك أخي الكريم وزادك من فضله ، فقد استمتعت بقراءة الموضوع وربما كان تاريخ الأندلس يستهويني جدا لما فيه من أمجاد وعبر وبطولات، وان كانت احزانه تنزف لها جراح النفس

    حياك الله
    جزاك الله خيرا استاذي ... تشرفت كثيرا بمرورك وبجميع الاخوة .... صدقت والله فكلما قرأت فتوحاتنا سواء الاندلس او الشام والعراق وفارس اشعر بضألتي امام هؤلاء العمالقة من السلف والله احيانا اشعر انهم ليسوا بشرا مثلنا ..




    [SIGPIC][/SIGPIC]


 

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML