1 ـ تركيبية الواقع وخصوصية الظواهر:

الواقع المادي ليس بسيطاً ولا منبسطاً ولا صلباً ولا صلداً وإنما مركب ومليء بالثغرات والنتوءات، ولا ترتبط معطياته الحسية برباط السببية الصلبة الواضحة إذ ثمة عناصر مبهمة فيه وثمة احتمالات وإمكانيات كثيرة يمكن أن يتحقق بعضها وحسب ولا يتحقق البعض الآخر.

وكما بيَّن الدكتور حامد عمار فإن صورة عالم نيوتن المادي الآلي الثابت لم تَعُد الصورة المهيمنة في العلوم الطبيعيـة، فقد جاءت نظرية النسبية والحركة والطاقة لتكمل مفهومنا عن عالم المادة التي تبدو في السطح مستقرة ثابتة، لكن استقرارها إنما هو نتيجة لدينامية في انتظام الحركة داخل مكوناتها. والجُزَيْءُ النووي يتمثل في مادة كما يتمثل في موجات، ويتوقف التعامل معه على نوع السؤال الموجه له في أي من البُعدين. كذلك أدَّت نظرية أينشتاين في النسبية إلى القضاء على المفهوم المطلق لكل من الزمان والمكان، وإلى اعتبارهما بُعداً واحداً رابعاً يعمل في سياق بيئة معيَّنة. وامتدت أبحاث الفيزياء الحديثة من خلال نظرية الكم (كوانتوم) إلى أن الحقائق الكونية تتحدد أكثر ما تتحدد بعلاقتها بغيرها. وأن تعريفها يعتمد أكثر ما يعتمد على نوع علاقتها المتبادلة مع غيرها. أضف إلى ذلك أن تحديد المادة وفهمها إنما يتأثر إلى حدٍّ ما بالمشاهد نفسه، فهو مشارك في تحديد طبيعة ما يراه، وليس مجرد ملاحظ سلبي لما يراه. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نفصل العقل عن إدراك عالم الإلكترون كما يقول علماء الفيزياء، باعتبار أن له خصائص مستقلة عن الشخص المُدرك، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن عالم الطبيعة والمادة دون أن نتحدث عن أنفسنا وطبيعة ذواتنا، ووعينا ومقاصدنا.

ومن خلال هذه الجهود والنظريات العلمية في عالم الفيزياء الحديثة أصبح التوجه العام في النظر إلى الكون نظرة يمكن وصفها بأنها عضوية وكلية بيئية، أي من خلال نظرية المنظومة العامة. وهذا المنطلق العلمي يناقض النظرة الميكانيكية التي تنظر إلى الكون باعتباره (آلة ـ ماكينة) تتألف من أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، لكنها أجزاء مترابطة في علاقات متبادلة في هذا الكل الكوني الموحد. فالأشياء إنما هي علاقات بين أشياء، وأن هذه الأشياء إنما هي علاقات بين أشياء أخرى، وهكذا.

وينبع قدر كبير من الخلل في تَصوُّر الكائنات الحية عموماً باعتبارها آلات، مع أن هناك خلافاً جوهرياً بينهما، فالآلات تُصنَع وتُركَّب، بينما الكائنات الحية تنمو وتتطور. كذلك فبينما تتحدد أنشطة الآلة من خلال بنية أجزائها، فإن نشـاط الكائنـات الحية، وبخاصة الإنسـان، إنما يتحدد بالعكـس، أي أن بنيتها تتحـدد من خلال العمليات التي تقوم بها. ثم إن عمل الآلة محكوم بسلسلة خطية من السبب والنتيجة، وحين يحدث خلل يمكن التعرف على السبب في ذلك الخلل، أما في الكائن الحي فإن جسمه يعمل من خلال علاقات دائرية يؤثر بعضها في البعض، ثم يعود ليؤثر مرة أخرى في المؤثر الأول من خلال التغذية الراجعة. ومن ثم يصبح الخلل ناجماً عن مجموعة مركبة من العوامل يعزز بعضها بعضاً، وبالتالي يصبح التعرف على السـبب الأول غير ذي موضوع، وإنما الأهـم هو محصلة العلاقات المتداخلة".