البابالتاسع: الاشتراكية والجماعات اليهودية


الفكر الاشتراكي الغربي وموقفه من الجماعات اليهودية
Western Socialist Thought: Its Attitude toward the Jewish Communities
تتسم النظرة الاشتراكيةإلى أعضاء الجماعات اليهودية بالإبهام نفسه الذي تتسم به رؤية عصر الاستنارة إليهم. فقد دعا مفكرو عصر الاستنارة إلى المساواة بين كل البشر، وبالتالي إلى إعتاق اليهودوإعطائهم حقوقهم السياسية والاقتصادية كاملة. وهذا تيار أساسي في الفكر الاشتراكييُوجَد في كثير من كلاسيكيات هذا الفكر.

لكن إعتاق اليهود، بل الإنسانعموماً، يتم في إطار مفاهيم علمانية مادية مثل مفهوم الإنسان الطبيعي أو المادي أوالعالمي أو الأممي. فهو مفهوم مادي اختزالي يُسقط أية خصوصية أو هوية، ويرى الإنسانباعتباره جزءاً من الطبيعة/المادة. ويترتب على هذه المقدمات عدة نتائج أهمها رفضخصوصية اليهود العرْقية، ثم يُنظَر إليهم باعتبارهم مواطنين عاديين وحسب يمكن دمجهمفي المجتمع وإعطاؤهم حقوقهم كافة. ومن ثم نجد أن كثيراً من كلاسيكيات الفكرالاشتراكي ترفض الفكرة الصهيونية التي ترى أن اليهود أمة عرْقية مستقلة.

ولكن، كما أن هناك تياراً داخل فكر حركة الاستنارة يرى أن اليهود عنصر لهخصوصيته، وأن تخلُّصه من هذه الخصوصية أمر صعب بل مستحيل أحياناً، فإن الفكرالاشتراكي قد اشتمل على مثل هذا التيار. وهو يترجم نفسه أيضاً إلى اتجاه معادلليهود ومتحيِّز للصهيونية في آن واحد. ويطرح أتباع هذا التيار فكرة هوية يهوديةمستقلة عضوية يُفترَض فيها عادة أنها ذات طابع شرقي أو آسيوي أو سامي. وقد ازدادالاهتمام بهذا الجانب مع تزايُد الاهتمام بالعنصر الهيليني (الآري فيما بعد) فيالهوية الغربية. وهو اهتمام صار محورياً في الخطاب السياسي الغربي في النصـف الثانيمن القرن التاسـع عشر. وقد أكد هيجل على ما أسماه «الطابع الشرقي» للروح القوميةاليهودية التي لم تدرك المثل العليا (الهيلينية) للحرية والعقل، فظلت اليهودية لذلكمرتبطة بشعائر بدائية لاعقلانية أو طقوس لا روح فيها تسبَّبت في نهاية الأمر فيإدخال العنصر العبراني السلبي على الحضارة الغربية.

وكجزء من هجومهم علىالمؤسسات القائمة في المجتمع، قام المفكرون الاشتراكيون بالهجوم الضاري علىالمسيحية وعلى كل الأفكار الدينية، فوجَّهوا النقد إلى اليهودية باعتبارها أساسالمسيحية، بل باعتبارها شكلاً متخلفاً منها. واتهموا اليهودية أيضاً بأنهـا تتضمنعناصر نفعية أنانية تشجع اليهود على الاهتمام بأنفسهم وعلى كُره البشر. كما أناليهودية تشجع اليهود على ضرب العزلة حول أنفسهم وعلى البقاء سجناء شعائرهمالبدائية المتخلفة مثل قوانين الطعام التي تجعل اندماجهم مع بقية الجنس البشريمستحيلاً. بل إن بعضهم ذهب إلى حد القول بأن اليهودية تتضمن عناصر هضمية أو معوية،وأن كل إشارة إلى الإله في العهد القديم مرتبطة بالطعام، وأن تقديم القرابينالبشرية كان أحد العناصر المكوِّنة للعبادة اليسرائيلية القديمة.

وللقضيةأيضاً جانب اقتصادي، فكثير من المفكرين الاشتراكيين ينظر إلى اليهود بوصفهم عنصراًهامشياً غير منتج يتركز في التجارة والأعمال المالية ولا يتجه إلى الصناعة أوالزراعة أبداً (أي أنهم جماعة وظيفية وسيطة). كما أن بعض الاشتراكيين يرون أن ثمةعلاقة عضوية بين اليهود والرأسمالية، خصوصاً في شكلها التجاري المتمثل في الأعمالالمالية والبورصة.

لكل ما تقدَّم، ذهب بعض المفكرين الاشتراكيين إلى أناليهود يشكلون جماعة بشرية غير سوية وغير طبيعية. وكان الحل الذي يطرحونه هو ضرورةتخليص اليهود من هويتهم المتخلفة أو الخسيسة أو الأنانية (البورجوازية أوالرأسمالية) وتحويلهم إلى عناصر منتجة ودمجهم في المجتمع أو تأكيد هويتهم وتوطينهمفي فلسطين داخل مجتمع تعاوني اشتراكي. وقد ساوى كارل ماركس بين " برجزة " المجتمع (أي سيادة العلاقات التعاقدية البورجوازية فيه) من جهة، وبين تهويده من جهة أخرى.

ومن أوائل الدعاة إلى الاشتراكية المفكر كونت دي سان سيمون (1780 ـ 1825)،وهو ممن يسمون «الاشتراكيين الطوباويين»، أي المثاليين. ويبدو أنه يوجد تيار يهوديمشيحاني في فكره، إذ طالب بتأسيس مجتمع صناعي يحكمه نخبة من العلماء وأصحاب الأعمالوالمصرفيين الذين يهتدون بهدي «المسيحية الجديدة» ـ وهي مسيحية علمانية (أولادينية) لا تستند إلى الإيمان بالإله أو باليوم الآخر أو الزهد في الدنيا ـ وهيتشبه في ذلك اليهودية الإثنية. وثمة إشارة في كتابات سان سيمون إلى الماشيَّح الأم،وهي أنثى يهودية من الشرق ستصوغ الأخلاق الجديدة. وبطبيعة الحال، سيتمتع اليهودبالمساواة الكاملة في هذا المجتمع الجديد. وقد كان الكثير من تلاميذ سان سيمونوحوارييه من اليهود.

وأدَّى هذا العنصر اليهودي اللاديني الفاقع فياشتراكية سان سيمون إلى رد فعل عنيف من الكنيسة ومن شارل فورييه (1772 ـ 1837) أحدأهم المفكرين الاشتراكيين وأحد أهم النقاد الاشتراكيين لليهود. ويذهب فورييه إلى أنالتجارة هي مصدر كل الشرور، وأن اليهود هم تجسيد لها، كما أنهم المستغلونالاقتصاديون الرئيسيون في أوربا. واليهود (في تصوُّره) ليسوا جماعة دينية، وإنما همجماعة قومية غير متحضرة وبدائية ومعادية للحقيقة، ولابد للمجتمع من التخلص منهابالدمج أو الطرد. ومعنى ذلك أنه يتحرك في إطار فكرة الشعب العضوي المنبوذ.

وقد أشار فورييه إلى قوانين الطعام اليهودية كقرينة على صدْق كل الشائعاتالتي أطلقها أعداء اليهود عنهم مثل اتهامهم بأنهم يعتبرون سرقة المسيحي أمراًمباحاً لهم شرعاً. ولذا، يرى فورييه أن لفظتي «يهودي» و«لص» مترادفتان، وأن الإنسانعند التعامل معهم لا يتوقع سوى أكاذيب ولا شيء سوى الأكاذيب التي يشجعهم عليهادينهم. بل يرى فورييه أن اليهـود عنصر تجاري لا ارتبـاط ولا انتماء له بوطن. ولذا،فهم لا يتورعون عن ارتكاب أعمال الخيانة العظمى ويعملون جواسيس لكل الأمم وجلادينلها. وهم كذلك غير مبدعين في الفنون والآداب ولا يتميَّزون إلا بسجل طويل منالجريمة والقسوة. ونشاطات اليهود الاقتصادية كلها هامشية وشرهة وغير منتجة، فهم لايعملون أبداً بالزراعة ويشتغلون بالتجارة والأعمال المالية. وهم إلى جانب هذامتمرسون في التهرب من دفع الضرائب ولايستثمرون رأسمالهم في الصناعة أبداً حتى لايرتبط مصيرهم بمصير الدولة التي يعيشون فيها. ويقتصر نشاطهم التجاري على الاستيرادوالتصدير حتى يحرموا تجار البلاد المضيفة من الاحتكاك بالبلاد الأخرى. وهم يحققونالثروات الهائلة على حساب المواطنين، خصوصاً أنهم بخلاء إلى درجة أن بإمكانهمالعيـش على أقل القليل وهو ما يسـاعدهم على مراكمة الثروة بسـرعة. ومن الواضح أنفورييه يتحـدث عن الجمـاعة الوظيفيـة الوسيطة، ولكنه نظراً لجهله بهذه الظاهرةوتواتُرها في المجتمعات الأخرى تصوَّر أنها ظاهرة يهودية وحسب، وأن خصائص أعضاءالجماعة الوظيفية هي خصائص لصيقة بطبيعة اليهود، أينما كانوا وعَبْرالتاريخ.

وقد طرح فورييه برنامجاً لحل المسألة اليهودية، وذلك عن طريقدمج اليهود بالقوة اقتصادياً وروحياً. وهذا لن يتأتى إلا بالقضاء على خصوصيتهماليهودية القومية الاقتصادية عن طريق تطبيق قوانين قاسية عليهم، ومنعهم من الاشتغالبالأعمال التجارية، وإبعادهم عن الحدود والسواحل والأماكن التي يمكنهم أن يمارسوافيها التهريب والتجارة، وكذلك عن طريق توطينهم بالقوة في القرى. ويجب أن يواكبعملية الدمج الاقتصادي عملية دمج روحي عن طريق التعليم حتى يتخلى اليهود عن مبادئهمالشريرة.

والحل الثاني للمسألة اليهودية الذي يطرحه فورييه قد يبدو وكأنهنقيض الأول، ولكنه في الواقع امتداد له. فإذا كان الحل الأول يفترض إمكانية التخلصمن الشعب العضوي المنبوذ عن طريق تخليصه من هويته الكريهة ودمجه، فإن الحل الثانيالذي ورد في كتاب الصناعة الزائفة (1835 ـ 1836) إذ يرى أنه يمكن التخلص منهم عنطريق توطينهم في فلسطين وسوريا ولبنان ليصبحوا أمة معترفاً بها لها ملك وعلم وقناصلوعملة! ويتوجه فورييه بالنصح إلى اليهود، فبدلاً من مضاربات البورصة يمكنهم تحويلفلسطين وما حولها في المنطقة الممتدة من لبنان إلى سيناء إلى أرض صالحة للسكنى عنطريق توفير منافذ لنهر الأردن والبحر الميت على موانئ البحر الأحمر، وأن يتم ريالصحراء وزراعة الغابات الخضراء فيها بواسطة الجيوش الصناعية والمزارع التعاونيةوذلك بتمويل روتشيلد وبدعم أوربا، وهذا أدق وصف لعملية الاستيطان الصهيوني وللزراعةالصهيونية التعاونية المسلحة ولكل من الصهيونية التوطينية والاستيطانية (وقد قضتالحركة الصهيونية بين اليهود نحو سبعين عاماً لتكتشف هذه الصيغة البسيطة). ويجب أننشير إلى أن تاريخ نشر الكتاب هو أيضاً الوقت الذي طُرحت فيه المسـألة الشـرقيةوبحدة بسـبب ثـورة محمد علي على السلطان العثماني.

وقد ترك فورييه أعمقالأثر في الفكر الاشتراكي بعده. فنجد أن تلميذه ألفونس توسينيل (1803 ـ 1885) يؤلفكتابه اليهود ملوك العصر: تاريخ الإقطاع المالي (1845) حيث يمثل الإقطاع الماليالبنوك في أوربا وفرنسا. والكتاب ليس هجوماً عنصرياً تقليدياً على اليهود إذيُحذِّر الكاتب في البداية من أنه سيستخدم كلمة «يهودي» لا بمعناها المحدد الذييشير إلى جماعة إثنية أو دينية، وإنما يستخدمها بالمعنى الشائع لها، أي «مصرفي» أو «مراب» أو «تاجر». ولذا، فإنه يستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى كل من يشتغل في الأمورالمالية، كل الطفيليين غير المنتجين الذين يعيشون على وجود الآخرين وجهدهم. وقد ربطتوسينيل بين القدس اليهودية وجنيف البروتستانتية الكالفنية، فكأن من يقول « يهودي» يقول «بروتستانتي، أي تجار وطيور جارحة». وقد وصل توسينيل إلى أن اليهود، أي كبارالمموِّلين، هيمنوا على أوربا في القرن التاسع عشر.

وقد ظهر هذا الاتجاهأيضاً في كتابات أدولف ألايزا الذي ترأَّس مجلة لا رينوفاسيون الناطقة باسم الحركةالاشتراكية من أتباع فورييه وأعطاها اتجاهاً معادياً لليهود. ويرى ألايزا أن اليهودمثل البكتيريا القذرة (وهذه صورة مجازية استخدمها الزعيم الصهيوني نوردو ثم الزعيمالنازي هتلر من بعده) تؤدي إلى عفن المكان الذي تصل إليه. فاليهودي يتآمر ضد الأمنالوطني مثل دريفوس. وربطت مدرسة فورييه أيضاً بين ماركس والبلشفية من جهة، وبينماركس واليهودية من جهة أخرى.

وتُعبِّر آراء ميخائيل باكونين (1814 ـ 1876)، المنظِّر والمفكِّر الفوضوي الروسي، عن كُره عميق لليهود. ففي كتابهالاعتراف الذي ألفه في السجن عام 1851، انتقد قادة الاستقلال في بولندا لاتخاذهمموقفاً إيجابياً تجاه اليهود. وقد نُشر عام 1869 رداً على خطاب من موسى هس أشار فيهإلى اليهود باعتبارهم أمة من المُستغلِّين تقف على الطرف النقيض تماماً من مصالحالبروليتاريا. ويمكن فَهْم موقفه هذا من اليهود من خلال حقيقتين، أولاهما: خلافهالفكري الحاد مع الاشـتراكيين وبالذات اليهـود، منهم كارل ماركـس وموسى هسوأمثالهما. وثانيتهما: الدور البارز لأعضاء الجماعة اليهودية في التجارة والمال فيأوربا، وهو ما كان نتاجاً لميراثهم التاريخي كجماعات وظيفية هامشية. وقد ذهبباكونين إلى أن اليهود يشكلون خطراً أكبر من اليسوعيين، وأنهم القوة الحقيقية فيأوربا، إذ يسيطرون بشكل مطلق على التجارة والبنوك وعلى ثلاثة أرباع الصحافةالألمانية وعلى جزء كبير من صحافة الدول الأخرى. ووصف باكونين الفوضوي ظهور ماركسوأعماله بأنها ظهور جديد للنبي موسى، وأنه يعتبر نموذجاً يمثل الشعب اليهودي.

وقد كان عداء الاشتراكيين والثوريين لليهود يستند إلى تحليل طبقي يفترض فيهأصحابه علميته وموضوعيته. ولكن مع العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وظهورالخطاب العرْقي واكتساحه الفكر الأوربي، نجد أن أتباع فورييه أيضاً يتبنون التفسيرالعرْقي. فالعرْق اليهودي، بحسب تصوُّرهم، قبيح من الناحية الجسدية، فوجوههم تخرققواعد الجماليات تماماً كما تخرق روحهم الروح الآرية (الهيلينية من قبل) التي تتسمبالجمال. والعرْق اليهودي لا يمكن دمجه ولا هضمه، وهو عرْق طفيلي كليةً، فاليهوديفي كل مكان وزمان كان طفيلياً يصيب المجتمعات بالتحلل. وهم طفيليون لأسباب عرْقيةولا يمكنهم أن يغيِّروا دورهم، تماماً كما لا يمكن للمخلوقات الطفيلية التي تقتلالأجساد الحية أن تتوقف عن وظيفتها. وهم معروفون بشكل خاص بمقدرتهم على تخريبقوانين البلاد التي ينتمون إليها.

ويُلاحَظ أن كل هذه الأوصاف هي أوصافالشعب العضوي المنبـوذ ، فما الحــل إذن؟ طرحت المجلة، الناطقة بلسان أتباع فورييه،حلاًّ صهيونياً حيث طلبت من اليهود الجلاء عن فرنسا طواعية. ولذا، توجهت بنداء إلىاليهود: "أيها اليهود! إلى أعالي سيناء، حيث أرسل الإله بالوصايا العشر التيتخرقونها دائماً، إلى موسـى والإلـه الذي تركتمـوه بسـبب حبكم الشديد للذهب... اعبروا البحر الأحمر مرة أخرى، ولتنزلوا إلى الصحراء مرة أخرى، إلى أرض الميعادالتي تنتظركم، الأرض الوحيدة التي تناسبكم، أيها الشعب الشرير الوقح الخائن، اذهبواإلى هناك". وهذا هو الحل الاستعماري الصهيوني، إرسال كل مشاكل أوربا إلى الشرق.

ومن الطريف أنه برغم صهيونية مثل هذه الحلول التي طُرحت عام 1899 بعد عقدالمؤتمر الصهيوني الأول، فإن المجلة لم تُعط أية أهمية للحركة الصهيونية أو المنظمةالصهيونية. بل إنه حينما نشر أحد أتباع فورييه ويُدعى فيرييه كتيبه المسألةاليهودية (1902)، فإنه يقدِّم رؤية إيجابية للحركة الصهيونية ويفرق بين يهود الغربالمندمجين الذين سيبقون في أوطانهم ويهود شرق أوربا (أي يهود اليديشية) الذين يجبتهجيرهم إلى وطن قومي خارج فلسطين لأنها ـ حسب تصوُّره ـ غير مناسبة. ورد عليهألايزا قائلاً إنه يؤيد الحل الصهيوني الذي طرحه تيودور هرتزل من ناحية المبدأ،ويحب أن يرى اليهود في وطنهم وأن هذا سيحقق مصلحتهم، وأكثر من هذا فإنه سيحقق مصلحةفرنسا ذاتها! ولكنه عبَّر عن شكه في إمكانية تحقُّق هذا الحلم بسبب طبيعة اليهودالهامشية.

وقد أصبح ارتباط اليهود بالرأسمالية وكبار المموِّلين موضوعاًأساسياً متواتراً في الفكر الغربي امتزج بالأطروحة العرْقية التي تنظر إلى اليهودبوصفهم ساميين (مقابل الآريين). ويُلاحَظ أن مقولة «الآريين» انفصلت بالتدريج عنمقولة «الهيلينيين»، وبالتالي فقدت بعدها الثقافي واكتسبت بعداً عرْقياً فاقعاً. ولذا، نجد أن بعض الكتاب يقرنون بين التاجر اليهودي والتاجر اليوناني باعتبارهما منالتجار الوسطاء.

وتبلور كتابات يوجين دوهرنج ( 1833 ـ 1921) هذه الاتجاهاتكافة، فكتابه الحالة اليهودية كمسألة عرْقية وأخلاقية وحضارية ينسب النزعةالليبرالية في الاقتصاد السياسي (أي الرأسمالية والديموقراطية) إلى اليهود الذينيتهمهم باستغلال مبدأ الاقتصاد الحر وتسخيره في خدمة الاحتكار اليهودي الذي يحاولاستعباد كل الناس. ورغم أن اليهود يلعبون دوراً طبقياً، فإنهم يُشكِّلون عرْقاًوضيعاً لا مثيل له. واتجاه اليهود نحو التجارة يعود إلى أن جمجمة الإنسان اليهوديليست جمجمة إنسان مفكر فهي ملأى على الدوام بالربا والشئون التجارية. فاليهود، إذن،فئة تجارية نظراً لأن خصائصهم العرْقية تجعلهم ينزعون نحو التجارة، وهم يحققونترابُطاً غير عادي بسبب شعائرهم القديمة التي لم يطرحوها جانباً تماماً. وتهمةالدم، بحسب رأي دوهرنج، ذات أساس علمي، فهي تعود إلى التضحيات البشرية التي كاناليهود يقدمونها. وقد استمرت هذه التضحيات بسبب رغبة قيادات اليهود في أن تجعل كلفرد في الجماعة اليهودية متورطاً في جريمة قتل الأطفال المسيحيين.

وحلالمسألة اليهودية بالنسبة لدوهرنج هو أيضاً خليط عرْقي اشتراكي علمي، فهو يناديباعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي وبالاقتصاد الموجَّه وبنوع من الاشتراكية المقيدةوبالحفاظ على الشرف العرْقي الذي يستدعي إنقاذ جميع الدوائر العامة وعالم المالوالأعمال من تسلُّط اليهود وسيطرتهم. وبهذا، فإن دوهرنج قد وحَّد بين الرأسماليينبوصفهم تشكيلاً اقتصادياً واليهود بوصفهم عرْقاً وقرن بينهم. ولهذا، فهو يرفض الحلالصهيوني لأن الصهيونية ستدعم قوة اليهود العالمية، ويجد أن الحل الأسمى للمسألةاليهودية هو القتل والطرد. ومن هذا المنظور، فإن مفكراً اشتراكياً مثل ماركس، فيرأي دوهرنج، هو الشر المجسد بسبب نظرياته الشيوعية وعرْقه اليهودي، فقد استقى كلنسقه الفكري من القانون الموسوي رغم أنه قد تم تعميده. وقد ظهرت الأطروحة مرة أخرىفي كتابات ورنر سومبارت عن علاقة الرأسمالية باليهودية ووصلت إلى ذروتها في الفكرالنازي.

وينبغي ألا نتصوَّر أن هذه الرؤية المعادية لليهود مقصورة علىالمفكرين غير اليهود وحدهم، ففرديناند لاسال (1825 ـ 1864) المفكر الألمانيالاشتراكي اليهودي كانت له آراء شبيهة. فقد أكد تنصُّله من اليهودية لأنه يبغضاليهود، إذ لا يرى فيهم سوى سلالة منحلة لماض عظيم ولَّى. وبعد قرون طويلة منالعبودية، اكتسب هؤلاء الرجال سمات العبيد. ويجب ذكر أنه كان يوجد عديد منالمفكرين، من الاشتراكيين اليهود، لم يهتموا باليهود واليهودية، وإنما افترضوا أنالمساواة داخل المجتمع الاشتراكي ستحل المشاكل كافة.

وقد يكون من المفيدذكر أن ماكس فيبر يستخدم أيضاً منظوراً دينياً لتحليل إشكالية ظهور الرأسمالية فيالحضارة الغربية، ولكنه طرح فكرة الرأسمالية الرشيدة مقابل الرأسمالية المنبوذة. وقد وجد أن الرأسمالية الرشيدة مرتبطة بالكالفنية في حين ترتبط الرأسمالية المنبوذةباليهود، وبالتالي فإن اليهود من هذا المنظور غير مسئولين عن ظهور الرأسمالية. (انظر الباب المعنون «الرأسمالية والجماعات اليهودية»).