الباب الرابع: إشكالية المتحف اليهودي


المتحف اليهودي أم متاحف الجماعات اليهودية؟:إشكالية وتاريخ
The Jewish Museum or Museums of the Jewish Communities: Problematic and History
مصطلح «المتحف اليهودي»، مثل كثير من المصطلحات الأخرى التي تُستخدَم لدراسة الجماعات اليهودية، وهو يُخبِّئ مجموعة من المفاهيم العقائدية المتميِّزة ذات طابع صهيوني. فمفهوم المتحف اليهودي يفترض وجود فن يهودي وفلكلور يهودي وأسلوب حياة يهودي، ويفترض كذلك أن هذا الفلكلور وأسلوب الحياة لا يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان أو يتغيَّر بالمعدل نفسه والطريقة نفسها بين أعضاء الجماعات اليهودية بمعزل عن المجتمعات التي يوجدون فيها، لأن كل هذه الظواهر إنما هي تعبير عن هوية يهودية مستقلة ثابتة، وشخصية يهودية لها سماتها المحددة وخصوصيتها الواضحة، فهي مفاهيم تفترض وجود وحدة قومية يهودية وتستند إليها. وفكرة القومية اليهودية فكرة لا نرفضها لأنها تتناقض مع مصالحنا، وإنما لأنها تتناقض مع واقع أعضاء الجماعات اليهودية ذاتها، إذ أن هوياتهم لا تتحدَّد بالعودة إلى مطلقات يهودية ثابتة أو هوية يهودية مركزية، وإنما تتحدَّد من خلال الحضارات الكثيرة والمتنوعة التي يعيشون بين ظهرانيها. فيهود أثيوبيا، اكتسبوا هويتهم من خلال التشكيل الحضاري الأفريقي، تماماً مثلما اكتسب يهود الولايات المتحدة من محيطهم الحضاري.

ومتاحف أعضاء الجماعات اليهودية ليست ذات أهمية خاصة في ذاتها، غير أنها ذات أهمية منهجية خاصة، إذ تُبىِّن بشكل مثير زيف مقولة الهوية اليهودية والتراث اليهودي وضعف مقدرتها التفسيرية.

ولنتخيل أحد العلماء يود أن يشيِّد متحفاً إثنو جرافياً يهودياً، فماذا سيواجه؟ سيجد أمامه مواد عديدة: أزياء وتماثيل وشمعدانات مينوراه بعضها من بخارى والبعض الآخر من اليمن، ومن الصين القديمة والحديثة، وروسيا في القرن التاسع عشر، وبولندا في القرن السادس عشر، ومن مصر في العصر الهيليني والروماني، ثم في بداية الفتح الاسلامي، ثم بعد ذلك في عصورها المختلفة (الطولوني والفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني)، ثم في العصر الحديث. كما سيجد أمامه مواد من عشرات البلاد والعصور الأخرى. فإن أصر على أن يهودية هذه الأشياء الإثنوجرافية هي العنصر الأساسي فيها، فلن يمكنه التعامل معها ولا تصنيفها، ولذا سيجد نفسه مضطراً لتصنيفها على أساس عشرات المجتمعات التي وُجد داخلها اليهود، وكان لكل منها عاداتها وتقاليدها التي استوعبها اليهود بحيث أصبحوا جزءاً منها وأصبحت جزءاً منهم. ولنتخيل عالماً يحاول أن يؤسس متحفاً للفنون اليهودية، فإنه سيجد لوحات وتماثيل من عشرات الأزمنة والأمكنة لا تتبع نمطاً فنياً يهودياً، وإنما أنماطاً فنية مختلفة. ولا شك في أن الأعمال لها علاقة بأعضاء الجماعات اليهودية كأن يكون العمل الفني يتناول موضوعاً يهودياً أو صاغته يد فنان يهودي، ومع هذا لا يمكن فهم هذا العمل إلا بالعودة للحضارة التي أبدع فيها.

بل إن معمار المتحف نفسه سيكون مشكلة، إذ لا يُوجَد «معمار يهودي». ويتبدَّى هذا في معمار المعابد اليهودية التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. ولذا، نجد أن متحفاً يهودياً في الولايات المتحدة يأخذ شكلاً حداثياً تفكيكياً وآخر يُشيَّد على الطراز القوطي وثالث يأخذ شكلاً يُقال له سفاردي وهو في واقع الأمر إسباني أو برتغالي. وفي إسرائيل شُيِّد أحد المتاحف على هيئة قرية عربية على تل، وأخذ كل جناح شكل منزل عربي، وقد أورد مدير المتحف هذه العبارة في الكتيب الذي يوزع في المتحف فشطبتها الرقابة الإسرائيلية، وكتبت بدلاً من ذلك أن المتحف شُيِّد على طراز قرية من قرى البحر الأبيض المتوسط، وذلك لاستبعاد كلمة «عربية». ولكن ما يهمنا في هذا السياق أنه لم يتحدث عن «قرية يهودية» أو «معمار يهودي».

وقد أُسِّس أول متحف لأعضاء الجماعات اليهودية في ألمانيا في برونزويك في منتصف القرن الثامن عشر، وكان متحفاً دينياً، أي أن اليهودية فيه عُرِّفت على أساس ديني وحسب. فكان المتحف يضم بعض الأدوات التي تُستخدَم في الشعائر، وقد عرضت بسبب وظيفتها الدينية لا لأنها تعبِّر عن هوية قومية أو إثنية. ثم بدأت بعض المتاحف القومية تضم أقساماً يهودية (مثل الصالة العبرية في متحف اللوفر)، ويظل الهدف هنا دينياً أو تاريخياً بالمعنى الديني، بمعنى أنه تعبير عن اهتمام العالم المسيحي بالعهد القديم، أحد كُتب المسيحية المقدَّسة. وفي عام 1878، تم تنظيم معرض للأدوات الشعائرية اليهودية والفنون المرتبطة بالشعائر في باريس (في المعرض العالمي في تروكا ديرو).

وكان التوجه، في كل المعارض السابقة دينياً. ولكن، مع تزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، ومع ظهور الحركات القومية والعرْقية، أصبحت كلمة «شعب» مقصورة على جماعة ذات تراث مشترك وتنتمي لعرْق واحد. ولذا، بعد أن كان الشعب اليهودي يُعرَّف تعريفاً دينياً، أُعيد تعريفه تعريفاً عرْقياً علمانياً حتى يصبح « شعب مثل كل الشعوب » كما يقول الشعار الصهيوني. ولكن إشكالية المتحف اليهودي (العامة) تكمن في أن كل جمـاعة يهودية أخـذت تؤسِّـس متحـفاً خاصاً بها، وبالتالي أصبح هذا المتحف تعبيراً عن هويتها المحدَّدة (كالألمان اليهود أو البولنديين اليهود، وهكذا) لا تعبيراً عن هوية قومية يهودية عامة ومجردة. فتم تأسيس متحف في وارسو لأعضاء الجماعة اليهودية في بولندا، ومتحف في برلين لأعضاء الجماعة اليهودية هناك، وعدة متاحف أخرى أُسِّست جميعاً في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والثلاثة عقود الأولى من القرن العشرين، وقد سقطت معظم هذه المتاحف في يد النازي. والنازيون لا يعارضون البتة فكرة الهوية اليهودية القومية العالمية، وفكرة الشعب اليهودي ذي التراث المستقل والشخصية والهوية المستقلة والتراث الحضاري المسـتقل، ولذا أسَّـس النازيون متحـفاً يهودياً في براغ (تشيكو سلوفاكيا)، وهذا ينهض دليلاً حياً على مدى تلاقي الرؤيتين الصهيونية والنازية.

ولكن أهم المتاحف اليهودية هو المتحف اليهودي في نيويورك الموجود في الفيفث آفنيو Fifth Avenue (الطريق الخامس) والذي كان في أصله بيت فيلكس وفريدا ووربورج. ومن المفارقات أن المتحف مبني على الطراز القوطي، وهو طراز معماري وفني انتشر في أوربا في الفترة من القرن الثاني عشر وحتى القرن الخامس عشر حين حل محل الفن الرومانسكي، ويتميَّز الفن القوطي بأنه انسيابي تصوُّفي روحاني. أما المعمار القوطي فكان يتميَّز بالأبراج المرتفعة والأسقف المرتفعة المعقودة (المقنطرة) وتوجد بين النوافذ الملونة المرتفعة ما يُسمَّى بالإنجليزية «تريسري tracery» أي «الزخرفة التشجيرية»، وهي زخرفة قوامها خطوط مشجرة، خصوصاً في أعلى النافذة. كما يتَّسم المعمار القوطي بالأكتاف الطائرة. وهو، على كل حال، طراز مسيحي مرتبط تماماً بالحضارة المسيحية ويعبِّر عن روحها. وحينما تقترب من المتحف لا تجد ما يُميِّزه من الخارج، فالزخارف كلها قوطية. وحتى بعد أن تدخله يظل الطراز القوطي محيطاً بك. ومعروضات هذا المتحف أعمال فنية مختلفة تتبع في أسلوبها وبنيتها ولغتها أسلوب وبنية ولغة الحضارات التي يعيش فيها أعضاء الجماعات اليهودية، وقد تعرَّضنا لبعض مقتنيات المتحف اليهودي في مدخل «الفن اليهودي».

ولكل ما تقـدَّم، نجد أن مصطلح » المتحف اليهودي» لا يتسـم بالدقة، ونجد أن مقدرته التفسيرية والتصنيفية منخفضة للغاية، بل تكاد تكون منعدمة، ولذا نقترح بدلاً من ذلك مصطلح «متاحف أعضاء الجماعات اليهودية.»

متاحف أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية
Museums of the Jewish Community in the U. S. A
الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة أهم الجماعات اليهودية فى العالم وأكثرها ثراءً وثقافةً واندماجاً في المجتمع الذي تعيش فيه. ولكنهم، رغم اندماجهم الفعلي، محتفظون بالخطاب الصهيوني العالي النبرة بشـكل ملحـوظ. وعلـو النبرة يُخبِّئ تزايُد معدلات الدمج والعلمنة. والعقد الاجتماعي الأمريكي مبني على السماح للمواطنين بأن يمارسوا هويتهم الدينية أو الإثنية خارج رقعة الحياة العامة، وبشكل لا يتناقض مع ولائهم للدولة الأمريكية، أي مع العقد الاجتماعي الأمريكي الأكبر. ولذا لا يمانع المجتمع الأمريكي في أن يشيِّد المواطنون متاحف تحتفي بوطنهم الأصلي وبأصولهم الإثنية، وبإسهام أعضاء هذه الأقليات في مجتمعهم الجديد، أي أن الوطن الأصلي يصبح الماضي الجميل ويصـبح موضـع الحنين الذي لا فاعلية لـه، أما أمريكا فهي الوطن الحالي، مسرح العمل والإنتاج ومصدر القيم. ومتاحف أعضاء الجماعات اليهودية تُعبِّر عن هذا الازدواج، حنين رومانسي دون مضمون أو انتماء حقيقي.

وفيما يلي عرض لأهم متاحف أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة.

1 ـ المتحف اليهودي في نيويورك:

من أكبر وأهم متاحف الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، ومن أقدمها حيث تأسَّس عام 1904، ويضم واحدة من أكبر مجموعات المقتنيات الخاصة بالجماعات اليهودية المختلفة، وأكثرها تنوُّعاً في العالم، وتغطي فترة زمنية تمتد من العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر.

وتشمل المقتنيات التي يبلغ عددها 16.000 قطعة، قطعاً تخص الشعائر والطقوس الدينية اليهودية، ومنسوجات وأعمالاً خشبية ومعدنية، ومخطوطات، وعملات وميداليات وصوراً زيتية، ومطبوعات وأعمال نحت وصوراً فوتوغرافية. وتضم هذه القطع أعمالاً لفنانين قـدامى ومعاصـرين تتناول أعمـالهم موضوعات تخص الجماعات اليهودية، كما تضم أعمالاً لفنانين إسرائيليين.

ورغم أن هذا المتحف، مثله مثل غيره من المتاحف اليهودية الأمريكية، يحاول طرح تصوُّر لهوية يهودية عالمية، إلا أنه في الواقع يبرز عدم التجانس بين الجماعات اليهودية المختلفة وغياب ما يمكن أن يُسمَّى «الفن اليهودي»، حيث نجد أن مقتنياته من قطع إثنوجرافية وفنية تتنوَّع، من حيث البنية الجمالية وطريقة التناول والصناعة والطراز، بتنوُّع التشكيل الحضاري الذي يُوجَد فيه أعضاء الجماعات اليهودية وباختلاف المرحلة التاريخية التي ترجع إليها كل قطعة.
ومخزون المتحف من المعروضات ضخم والمساحة ضيقة، ولذا يتم تغيير المعروضات دائماً. وإن كان هناك بعض اللوحات والأعمال الفنية المهمة (والتي أشرنا لبعضها في مدخل «فنون الجماعات اليهودية») تُعرَض بشكل دائم.

كما يضم المتحف قسماً لأرشفة البرامج الإذاعية والمرئية والتي تتناول مواضيع تخص الجماعات اليهودية أو أعمالاً يشارك فيها الأمريكيون اليهود. ويقوم المتحف بنشاطات كثيرة، كما هو الحال مع متاحف الولايات المتحدة التي تحوَّلت إلى مؤسسات تعليمية مجانية. وهناك عروض سينمائية ومحاضرات وجولات في المتحف (أسبوعياً)، بل وينظِّم المتحف رحلات خارج الولايات المتحدة لأعضائه. ويُوجَد فيه محل لبيع الكتب والتحف ذات المضمون اليهودي الأمريكي وغير الأمريكي.

2 ـ متحف سكيربال لكلية الاتحاد العبري بلوس أنجلوس:

يُقارب هذا المتحف، المتحف اليهودي في نيويورك من حيث أهمية مقتنياته. افتُتح عام 1972. وتضم مقتنياته قطعاً أثرية من الشرق الأدنى القديم، وقطعاً فنية تخص الشعائر والطقوس الدينية، من أهمها: أغلفـة مُطرَّزة للتـوراة من بافاريا، وعقــود زواج (كتوبوت) إيطالية مزخرفة، ومجموعة من المشغولات الفضية الأوربية من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

3 ـ متحف بناي بريت كلوتزنيك في واشنطن:

تأسَّس عام 1957، وتضم مقتنياته قطعاً فنية تخص الشعائر والطقوس الدينية، وقطـعاً من الرسم والصور الزيتية والنحت والمطبوعات. ومن أهم المقتنيات، غلاف حريري ايطالي للتوراة من القرن السادس عشر، وأزياء السيدات البولنديات اليهوديات تعود للقرن الثامن عشر.

4 ـ متحف يهودا ماجنيس التذكاري في بركلي (كاليفورنيا(:

افتُتح عام 1962، وهو من أكبر متاحف الجماعات اليهودية. وتتميَّز مقتنياته بتنوُّع مصادرها، فيضم قطعاً قيمة تخص الشعائر الدينية ومنسوجات وأزياء وميداليات وأحجبة تخص الجماعات اليهودية في أوربا وفي المغرب وتونس ومصر والهند، والتي تعكس اللغة الفنية والتقاليد الحضارية السائدة في هذه المجتمعات. كما يضم مجموعة من المقتنيات الخاصة بالإبادة. كما يضم المتحف مكتبة وثائقية تعرض إسهامات الأمريكيين اليهود في تطوُّر الفن الأمريكي، ومكتبة من الكتب النادرة والمخطوطات تضم كتباً ودوريات بالإنجليزية والعبرية واليديشة واللادينو. ومن بين المخطوطات: خطابات تحمل توقيعات من شخصيات يهودية شهيرة مثل ألبرت أينشتاين وهنريش هايني.

5 ـ متحف إسبيرتوس للمقتنيات اليهودية في شيكاغو:

تأسَّس عام 1967، ويتشكل الجزء الأكبر من مقتنياته من قطع تخص الشعائر والطقوس الدينية، خصوصاً المنسوجات والأزياء، وقطع ذات صلة بالإبادة النازية. ومن بين مقتنياته، مخطوطات يمنية من القرن التاسع عشر وقطع فنية دينية من شمال أفريقيا.

ونظراً لأن الجزء الأكبر من المقتنيات تنتمي إلى فترة ما بعد القرن الثامن عشر، فإن كثيراً منها يعكس القيم الجمالية وتأثيرات الحركات الفنية السائدة في بدايات القرن العشرين. فهناك مثلاً كثير من القطع المتصلة بالشعائر الدينية تعكس الطراز الفني الألماني المعروف باسم آرت نوفو. ويقدِّم المتحف، مثله مثل غيره من المتاحف الأمريكية، خدمات تثقيفية وتعليمية.

6 ـ متحف جامعة يشيفاه في مدينة نيويورك:

تأسَّس عام 1973، وتضم مقتنياته قطعاً ذات صلة بالشعائر الدينية، ومنسـوجات وأزياء تنتمي إلى القرنين الثامن عشـر والتاسع عشر، وصوراً زيتية وقطعاً من النحت، ومخطوطات، وكتباً نادرة وصوراً فوتوغرافية. كما يضم قطعاً تخص الأمريكيين اليهود. ومن بين المقتنيات، قطعة من منسوجات الجوبلان من القرن الثامن عشر لفنان فرنسي، ومتعلقات تخص بعل شيم طوف مؤسِّس الحسيدية في شرق أوربا، وقطع فنية لفنانين من اليهود في فترة بداية الحركة الصهيونية. ويقدِّم المتحف أيضاً برامج تثقيفية وتعليمية.

7 ـ المتحف القومي للتاريخ اليهودي الأمريكي في فيلادلفيا:

تأسَّس عام 1976، وهو مخصَّص لتوثيق تاريخ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، ولعرض إسهام أعضائها ودورهم في الحياة والحضارة الأمريكية، ولكنه لا يطرح تصوُّر هوية يهودية عالمية.