أخي الأستاذ الفاضل : أبا جاسم

بداية أريد أن أنبه إلى أن خلافنا في هذه المسألة لا يفقد للود قضية كما يقولون .

بغض النظر عن مصطلحات أهل الكلام التي تستخدمها فأنت هنا تعترف أن صفة الكلام صفة مختلفة عن صفة العلم و هو المطلوب ، أما كونهما يندرجان تحت قسم الحكم العقلي و ينتميان إلى صفات المعاني فهذا خارج عن نطاق السؤال فأنا لم أسألك عن هذا أصلاً و إن كنت أتمنى أن توضح لنا ماذا تقصد بالحكم العقلي هنا ؟؟؟

نعم هناك اختلاف ، فالله عز و جل يوصف بكونه عليما و بكونه متكلما باتفاق أهل العلم ، فصفة الكلام تتعلق بالنهي و الأمر و الخبر ، أما صفة العلم فتتعلق بجميع المعلومات ما كان منها واجبا و جائزا و مستحيلا ، فيعلمها الله على ما هي عليه من الحالات جليّها و خفيّها أو بعبارة أخرى إن علم الله يتعلق بالموجودات و المعدومات . و أما مجال الاشتراك بين الصفتين فكونهما يتعلقان بالمعلومات ، فالكلام الالهي يندرج ضمن الخبر سواء كان طلبيا أو خبريا غير أنه يتعلق بالموجود في حين يتعلق العلم بجميع الموجودات و المعدومات . أما كيف يندرجان ضمن الحكم العقلي ، فلكونهما يتعلقان بالمعلومات.

و أنا ما أدراني ما الذي يدور بخلدك حتى تقول لي أنك تريد التخصيص ؟؟؟
على العموم تعريفي لصفة الكلام تعريف شامل و لا غبار عليه .


عندما نعرّف حد الشيء لا بد أن نخصصه بمعنى حتى لا يشكل علينا فيتداخل مع مفاهيم أخرى ، و هذا ما كنت أقصده ، أما كونه صفة لذات الله فلا يختلف حولها أحد من المسلمين . أما و قد بيّنت ذلك في الإجابات اللاحقة ، فسنأتي إليها إن شاء الله .

بالنسبة للصوت و الحرف فنعم الله سبحانه يتكلم بصوت و حرف و نثبت له ما أثبت لنفسه

لا خلاف في إثبات لفظ الكلام لله سبحانه ، أما معنى ذلك على وجه الحقيقة فهنا مدار الخلاف ، فلم يرد في القرآن و لا في الحديث النبوي بصريح العبارة أن الله يتكلم بصوت و حرف ، و كل ما هنالك ورود لفظ التكلم و لفظ القول و ما يمكن أن يترادف مع ذلك . أما حين نحملها على معنى المشافهة ، أي أن الله يتكلم بصوت و حرف ، فذلك تأويل لمتشابه لا يليق بذات الله ، لأنك ههنا تثبت معنى مشتركا بين الله و البشر ، و الله تعالى يقول :" ليس كمثله شيء " ، و يقول أيضا :" و لم يكن له كفؤا أحد " . فوجه الشبه ههنا في لفظ الكلام هو الصوت و الحرف ، فهل يعقل - يا أخي أبا جاسم - أن نثبت لله صفة للمخلوق أو أن نثبت للمخلوق صفة للخالق ، هذا مستحيل .

هل القرآن الذي تقرأه و تتقرب إلى الله بقراءته كلام الله أم لا ؟؟؟ لا بد لك أن تقول أنه كلام الله و عليه أسألك هل هذا الكلام من حروف أم لا ؟؟ إن قلت من حروف فلم أنكرت الحرف مسبقاً ؟؟ و إن قلت أنه كلام من غير حروف فهذه مكابرة تخالف الشرع و العقل و بطلانها واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، فإنه من المعلوم أن القرآن الذي نقرأه و الذي هو كلام الله مكون من حروف بل قد دل على ذلك الحديث (( لا أقول ألم حرف و لكن ألف حرف و لام حرف و ميم حرف .


القرآن الذي أقرأه و أتعبد به هو كلام الله ، أما الحروف و تصويتي بها و المداد و الورق مما يتكون منه المصحف ، فهي محدثة ، مخلوقة . أما كلام الله الذاتي ، فهو بدون حرف و لا صوت ، و هو الموصوف بالأزلي و القديم ، أما وحدة هذا الكلام فمردها إلى وحدة الخبر في ذاته تعالى .
و في هذا الشأن اتفق أهل السنة على "وحدة كلام الله تعالى" قاله الإمام أبو علي السكوني الإشبيلي (ت717هـ)، في كتابه "التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب العزيز" وعبارته: "وكلام الله سبحانه واحد بإجماع الأمة".اهـ، وكذلك الإمام البيهقي ذكر "وحدة الكلام" في كتابين من كتبه. وعبارته في كتابه الاعتقاد ما نصه: "وكلام الله واحدٌ لم يزل ولا يزال"اهـ. الفائدة الثالثة: قال الشيخ الإمام ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي ما نصه(ص ٥٥٩ "مخطوط"): قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم فإن القديم لا ابتداء لوجوده، وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارىء جل جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه، ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محالٌ ."
و الحديث الشريف الذي أوردته لا يراد به أن هذه الحروف صفة لله ، و إنما الثواب المترتب عن قراءتها . و معلوم أن نطقي لهذه الحروف و الأصوات هو المحدث و المخلوق .
و في هذا الصدد سأنقل إليك بعض أقوال العلماء الكبار :

قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وهو من أساطين علماء السلف فقد ولد سنة ثمانين للهجرة، في كتابه الفقه الأكبر: "ويتكلم لا ككلامنا نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بلا ءالة ولا حرف" اهـ بحروفه.

و قال أيضا - رحمه الله - في"الفقه الأكبر" و "الوصية": "والقرءان كلام الله غير مخلوق، ووحيه وتنـزيله على رسول الله مكتوب في المصاحف مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور غير حالّ فيها والحبر والكاغد والكتابة والقراءة مخلوقة لأنـها أفعال العباد ".انظر إشارات المرام شرح عبارات الإمام أبي حنيفة، للبياضي، ص/ 167

يتبع