فصل من كتاب " الفيزياء ووجود الخالق " للشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله ونفع بعلمه .

الفصل الأول
الإلحاد في العصر الحديث


1- ظاهرة الإلحاد :

كان الناس في الماضي يعتقدون اعتقاداً جازماً بوجود خالق مدبر للكون، وكانوا يعدُّون هذا من البدائه العقلية، وكان الإلحاد – بمعناه الحديث الذي هو إنكار وجود هذا الخالق – أمراً شاذاً لا يقول به إلا فرد بعد فرد من الناس.

وظل الأمر كذلك حتى القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً(1) ، ثم بدأ الإلحاد يحل محل الإيمان عند كثير من قادة الفكر الأوروبي، وصار بعد مقدم الشيوعية هو (الدين الرسمي) لدُوَلها.

ولمَّا صارت للإلحاد هذه المكانة في الغرب، ولمَّا كانت هذه الحضارة الغربية هي الحضارة السائدة في عصرنا؛ فقد انتشر هذا الإلحاد، وانتشرت أكثر منه لوازمه في أرجاء المعمورة انتشاراً لم يعهد له مثيل فيما مضى من الزمان(2).

-------------------------------------------------
(1) أول كتاب يصرح بالإلحاد ظهر في أوروبا عام 1770م، وفي بريطانيا في عام 1782م.
(Atheism in Britain, p.3)


(2) هذا مع أن الملحدين ما زالوا – من الناحية العددية – قلة قليلة حتى في الديار الغربية. ففي استطلاع للرأي العام أجرته صحيفة نيويورك تايمز – (27/2/1993م، ص9)، (ثقافة الكفر، ص4) – صرح 96% من الأمريكان بأنهم يؤمنون بالله.

وفي استطلاع أحدث أجرته مجلة US News and World Report كانت النسبة قريباً من ذلك. فقد صرح 93% بأنهم يؤمنون بالله، وصرح 5% فقط بأنهم ملحدون. (4/4/1994م، ص48).
مثل هذه الإحصاءات تُحرج كثيراً من الملحدين الذين يريدون أن يربطوا بين التقدم العلمي والرفاه المادي وبين الإلحاد. فالولايات المتحدة أكثر الدول الغربية تقدماً في الأمرين معاً، وأكثرها ديمقراطية لكنها أكثرها ديناً.

-------------------------------------------------


وكان من نتائج ذلك:

أن صار الإلحاد – من الناحية العلمية والعقلية – هو الموقف الطبيعي الذي لا يحتاج إلى دليل ولا برهان !! وصار المؤمن هو المطالب بمثل هذا الدليل .

وأن صار الملحد هو الذي يتحدى المؤمن ويتهمه بعدم العلمية، وعدم العقلانية، وبالتقليد، والانسياق وراء العواطف !

وأن صار إظهار الاهتمام بالدين – ولا سيما في وسائل الإعلام العامة – أمراً مستغرباً بل منكراً !

يقول صاحب كتاب (ثقافة الفكر):

"إنه ما أن نشرت مجلة نيوزويك مقالاً عن الدين حتى جاءها خطاب – نشرته – من قارئ يلومها على إفساح المجال لمثل هذا الهراء"،

ثم يعلق على ذلك قائلاً:
"من حيث الإحصاء ، فإن كاتب الخطاب ينتمي إلى الأقلية …
أما سياسياً وثقافياً فإنه ينتمي إلى التيار الأمريكي الغالب؛
لأن أولئك الذين يُصلُّون بانتظام – بل أولئك الذين يؤمنون بالله – يحرصون على إبقاء ذلك في السر، بل على عدِّه سراً يخجل من[إفشائه].
وذلك أنه فيما عدا الالتجاء إلى الله الشعائري [الظاهري] المتوقع من سياسيينا؛ فإن الأمريكي الذي يأخذ دينه مأخذ الجد، ويعدُّه شيئاً مأموراً به لا مجرد خيار؛ يخاطر بان يُعدَّ من المارقين" (1).
-----------
(1) ثقافة الكفر، ص4.

-----------

وأن صار الدين هو (الظاهرة الاجتماعية) التي تحتاج إلى تفسير، وأما عدم التدين فهو الأمر الطبيعي الذي لا يستدعي دراسة ولا بحثاً ولا تنقيباً !!

وأن صار الإلحاد هو القاعدة – المعلنة أو المضمرة – التي تقوم عليها فلسفة العلوم، طبيعية كانت أم اجتماعية أم إنسانية !! فصار الإلحاد لذلك جزءاً من مفهوم العلم !!

ومن هنا جاءت المقابلة بين ما يسمى بالتفسير العلمي والتفسير الديني !
فالتفسير العلمي : هو التفسير الذي يفترض أن الكون مكتف بنفسه، لم يخلقه ولا يصرِّف أمره خالق !
وأما التفسير الديني فهو الذي يجعل للإرادة الإلهية تدخلاً في حوادث الكون.

وإذا كان العلم قد وُضع – بسبب فلسفته الإلحادية – في مقابل الدين !

فقد وُضع الدين – مهما كان نوعه !! – في زمرة الكهانة والسحر وسائر أنواع الشعوذة والأساطير !!

أو عُدَّ – حين يحترم – من قبيل : الأدب والفن الذي يعبِّر عن المشاعر ولا يقرر الحقائق !


وقد صاحب هذا الإلحاد في أوروبا تطور هائل لم يعهد له مثيل في مجالات العلوم الطبيعية، وما يقوم عليها من تقنية دخلت نواحي الحياة المختلفة وسهلتها.

فربط الناس في الغرب بين هذا وذاك؛ فاعتقدوا أن هذا التطور ما كان ليحدث لولا اطِّراح الدين وإحلال الفلسفة المادية الإلحادية العقلانية التجريبية محله !!

وتبع الغربيين في هذا الاعتقاد خلق كثير من الأمم الأخرى، فظنوا أنهم لا يمكنهم أن يبلغوا شأو الغربيين في التقدم العلمي والتقني، إلا إذا هم حذو حذوهم في اطِّراح الدين واعتماد الفلسفة الإلحادية !

ولم يقتصر أثر هذا الفكر الإلحادي على مجال العلوم، بل دخل حياة الناس الاجتماعية والسياسية.

فكما أن الدين أُقصي عن المجال العلمي المشترك بين العلماء، وصار في أحسن حالاته مسألة خاصة بالعالم لا يجرؤ على ذكرها، دعك من الدفاع عنها أو الدعوة إليها !

فقد أُقصي أيضاً عن المجال السياسي حتى في البلاد الإسلامية – إلا ما رحم ربك – وكاد أن يصير – كما قد صار في الغرب – مسألة ذاتية تخص الفرد، ولا تتعلق بدساتير البلاد وقوانينها وسياستها الداخلية أو الخارجية أو التعليمية أو الإعلامية.


2- أسباب انتشار الإلحاد في هذا العصر:

ما الذي حدث فقلب الأمور هكذا رأساً على عقب ؟

لماذا تحول كثير من الناس في الغرب هذا التحول العجيب من الاعتراف بربوبية الخالق إلى إنكار وجوده، بل إلى محاربة المؤمنين بوجوده حرباً ضارية بالأقلام، وأحياناً بحد السنان، كما حدث في البلاد الشيوعية؟

لقد حاول كثير من الغربيين أنفسهم تفسير هذه الظاهرة، والإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وكتبوا في ذلك كتباً كثيرة.


ويمكن أن نجمل ما ذكروه في الأسباب الآتية:

1- التناقض الشديد بين كثير من دعاوى الدين الذي ورثوه والعلم التجريبي الذي اكتشفوه:
فقد وجدوا وما زالوا يجدون كثيراً من دعاوى دينهم مخالفة لما أثبتته علومهم التجريبية.
والأمثلة على ذلك كثيرة تجد بعضها في كتاب (موريس بوكاي) : (العلم والكتاب المقدس والقرآن).


2- تناقض بين منهج العلم التجريبي القائم على الدليل الحسي أو العقلي، ومنهج دينهم التسليمي :
بين منهج العلم الذي يشترط الاتساق المنطقي، ومنهج الدين الذي يقبل المتناقضات العقلية على أساس أن حقائق الدين يقبلها القلب وإن رآها مخالفة لصريح العقل !


3- خوض كثير من علماء الدين وغيرهم من المثقفين المتدينين في المسائل الغيبية ، والحديث عنها بمجرد الرأي الذي لا سند له من كتابهم ولا دليل عليه من غيره. من ذلك مثلاً ما كتبه (نيوتن) من كلام مفصل عن طبغرافية جهنم !!



4- تعصب بعض العلماء الطبيعيين المتدينين تعصباً يجعلهم يحاولون ليَّ أعناق الحقائق العلمية لتوافق الدعاوى الدينية:

من ذلك أن:
"المطران (جيمز آشر)، وهو دارس مشهور للكتاب المقدس، … استنتج من تحليل متأن لنصوص الكتاب المقدس أن الأرض خلقت عام 4004 قبل الميلاد. نشرت هذه النتيجة التي توصل إليها رئيس الأساقفة في عام 1650م، ولم تلبث أن ألحقت بهامش سفر التكوين من النسخة المعتمدة للكتاب المقدس، وظلت به حتى زمان فكتوريا، ولا يزال من الممكن وجودها أحياناً حتى اليوم" (1).
----------------
(1) Facts, Milton, p.40.

---------------

لم يكن غريباً أن يأتي هذا الزعم من رجل دين يعتمد على كتابه المقدس، لكن الغريب أن معاصراً لهذا الأسقف، هو مدير جامعة كيمبردج آنذاك أيَّد هذا الزعم بل ذهب إلى أبعد من هذا؛ إذ زعم أن: " الثالوث خلق الإنسان في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 4004 عند الساعة التاسعة صباحاً. كما أوضح رونالد ميلر؛ فإن مديراً لجامعة كمبردج هو وحده الذي تبلغ به الجرأة أن يجعل تاريخ خلق الإنسان ووقته موافقاً لبداية العام الدراسي" (1) .
----------------
(1)Facts, Milton, P.40

---------------


5- والخلاف بين العلم والدين لم يقتصر على مسائل الدين الفرعية، بل شمل مسائله الأصولية:

فمن المعروف الآن حتى عند علماء اللاهوت أنه ليس هنالك دليل علمي على أن الكتاب الذي يقوم عليه الدين كله هو من قول المسيح. بل المعروف أنه كتبه أناس آخرون منهم من هو معروف ومنهم من ليس بمعروف، وأنهم كتبوه بعد موته بآماد طويلة، وأن هنالك تناقضاً في أقوال هؤلاء الكتاب، حتى صارت دراسة مثل هذا التناقض تسمى عندهم بالنقد الأعلى.



6- قد شمل التناقض فكرة الإلوهية نفسها :
فبينما يوصف الإله بأنه هو الخالق، ينسب إليه الولد !!
وبينما يقال إن عيسى ابن الله، يقال إنه صلب !!
وبينما يقال إن الإله واحد، يقال إنه مكوَّن من ثلاث أقانيم هي الأب والابن وروح القدس !! وهكذا.


7- رأى بعض المؤمنين من النصارى أن وصفاً كهذا لله إذا أُخذ على ظاهره الذي تدل عليه اللغة جعل الخالق – تعالى – مشابهاً للمخلوقات، ففروا من هذا التشبيه إلى ما كان يسميِّه علماؤنا بالتعطيل :

فلم يكتفوا بتأويل هذه الصفات التي تدل على المشابهة ، بل أوَّلوا كل الصفات الأخرى، فجعلوا الخالق شيئاً مجرداً، فهو لا يوصف بالعلو، ولا بالمباينة للمخلوقات ، ولا بأن له ذاتاً ، ولا شخصاً ولا صورة ! وإنما هو شيء مجرد لا يوصف بصفة من الصفات الثبوتية ، كالحياة والسمع والبصر والكلام !!

كتب احد القساوسة قريباً كتاباً أسماه: (الإله الباطني) ! زعم فيه : أنه ليس لله – تعالى – وجود خارجي !!! وأن الإيمان بالله إن هو إلا إيمان بمجموعة من المُثُل والمبادئ الخُلُقية !!

هذا التصور التعطيلي للخالق، أصبح الآن هو التصور الشائع بين جماهير المثقفين من أهل الديانتين النصرانية واليهودية، بل ربما كان الأمر قريباً من ذلك حتى بين كثير من (المثقفين !) من المسلمين.

إن المسافة ليست بعيدة بين هذا التصور التجريدي للخالق وبين الإلحاد : الإلحاد إنكار لوجود الخالق، وهذا إنكار لكل صفاته.

وهل يكون وجود (أي ذات) إلا بصفات ثبوتية ؟!

فمن أنكر كل الصفات الثبوتية فقد أنكر الوجود شعر بذلك أم لم يشعر؛ ولذا كان مثل هذا التصور لوجود الخالق مقدمة ممهدة للإلحاد .

وقد فطن أئمة علماء السنَّة إلى هذا فكانوا يقولون : " إن المشبه يعبد صنماً ، والمعطل يعبد عدماً " .
المشبه هو الذي يجعل صفات الخالق كصفات المخلوقين، فيده كأيديهم وعينه كأعينهم .. وهكذا ؛ مع فارق واحد هو عظم هذه الصفات حين يوصف بها الخالق.

والمعطل هو الذي يفر من تشبيه الله بالمخلوقات ليقع في تشبيه شر منه هو تشبيهه بالمعدومات !! لأن المعدوم هو الذي يوصف بكل صفة سلبية، كأن تقول هو ليس طويلاً ولا قصيراً ولا عالياً ولا سافلاً ولا مادة ولا روحاً، ولا داخل العالم ولا خارجه .. وهكذا، ولا يوصف بصفة ثبوتية كأن تقول هو كبير وعظيم وسميع وبصير وحي وعالٍ .. وهكذا.

أدرك علماء السنَّة خطر هذا التصور للخالق فألَّفوا الكتب الكثيرة في الرد على أصحابه من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، ولولا ذلك لوجد الإلحاد طريقه إلى العالم الإسلامي كما وجده إلى العالم الغربي.

ولكن أنواعاً من هذا التصور التعطيلي تعود الآن فتنتشر بين المثقفين ! في عالمنا الإسلامي بسبب ذلك التاريخ ثم بسبب التأثر بالفكر الغربي.



يتبع ...


hgtd.dJJJhx ,,[JJ,] hgoJJJhgr