السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الوحي عند النصارى
العلم كشاف الحقائق ، و في المنطق العلمي ضمان لبلوغ حقائق سليمة ، و على من ارتاب في حقيقة ما أن يبين أسباب ريبته و أن يجئ بالمقابل الذي يراه مدعاة طمأنينة .
و نحن نحترم البرهان و ندعو إلى احترامه و ننزل على حكمه .
و هناك جملة من العقائد و الأخلاق و المسالك و سير الحضارات تقوم على حقائق مُسَلَّمة يكاد البشر يتفقون عليها ، و هناك ما هو موضع خلاف و خصام و قتال .
و إلْف الجماهير لأمر ما لا يعطيه حكماً بالصحة ، فكم يألف الناس أخطاء يحسبونها حقائق ! و كم يرتكبون خطايا يحسبونها فضائل ! { و ما يتبع أكثرهم إلا ظناً و إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليمٌ بما يفعلون } [يونس:36] .
و الدهماء تستريح لما ورثت ، و كذلك أنصاف المتعلمين ، بل إنهم يسعدون بالمدى الذي بلغوه ، و يشبههم في تلك الحال من يغالطون أنفسهم و يتخيلون فيخالون ، كما يقول أبو الطيب :
تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافلٍ عما مضى منها و ما يُتَوَقَّعُ
و لمن يغالط في الحقائق نفسه و يسومها طلب المحال فتطمعُ
و في عالم المجون حكوا أن جحا أراد صرف الغلمان الذين يتبعونه ، فزعم لهم أن وليمة في بيت فلان ينبغي أن يذهبوا إليها .. فلما انصرفوا عنه صدَّق هو ما زعم و تبعهم إلى حيث ذهبوا !!
و في عالم التدين رأيت ناساً يضمون تحت خيمة الغيبيات أشياء من عند أنفسهم ، يزعمونها ديناً و ما هي بدين ، و يخلطون الحقائق بالأهواء متذرعين بأن ما وراء المادة لا يُسْبَر غوره و لا تُعْرَف له حدود .
و فساد الأديان ينشأ غالباً عن هذه الجراءة في الاختلاق و الإضافة ، و ما يقبل هذا رب العالمين الذي منح الناس عقولاً تميز الخبيث من الطيب ، و الدخيل من الأصيل .
إن العقل الإنساني مَناط التكليف ، و هو ضابط محترم و ما يرفضه لا قيمة له ، و لا يجوز الخلط بين ما يحكم العقل باستحالته و بين ما يعجز عن اكتناهه ، أو كما يقولون : إن عدم العلم ليس علماً بالعدم !!
و قد رأيت أنه باسم الدين تقبل فنون من الشعوذة و الترهات ، أو تقبل قضايا مشحونة بالمتناقضات العلمية و الخلقية ، لأنها ـ كما زعموا ـ جاءت من عند الله ... كلا .. فالله لا يجئ من عنده إفك { و من أصدق من الله حديثاً } [النساء:87] .
إن الوحي أساس الدين بلا ريب ، و عندما يلهم الله بشراً بجملة من المعاني فقد ألهمه جملة من الحقائق التي لا يرقى إليها باطل ، و لهذا الإلهام طرقه المحصورة كما جاء في كتابنا { و ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم } [الشورى:51] .
و قد كلم الله موسى من وراء حجاب ، و ألهم إبراهيم ما يريده منه ، و أرسل أمين الوحي إلى محمد فكلفه بما شاء .
و طبيعي أن الموحى إليه يعرف معرفة اليقين أن ما يجيئه هو من عند الله سبحانه ، فلا حيرة و لا قلق و لا تردد ، و علامة الصدق تكمن في الوحي نفسه ، فأي آفة به تصرفنا عن تصديقه : { ... و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [النساء:82] ... إذ يستحيل أن يوحي الله بالأكاذيب و الترهات ، كما يستحيل أن يقع بين الوحي و العقل خلاف ، فلا فجوة ألبتة بين دين صحيح و عقل سليم .
هذا هو الوحي عندنا ، معارف سماوية يتلقاها عن ربه بشرٌ كريم ، يتدبرها أولوا الألباب فيستريحون إليها و يؤمنون بها .
فهل الوحي عند غيرنا كذلك ؟ الظاهر أن عدداً من أهل الكتاب أعطى نفسه حق التفسير و التعليق ، أو حق الإنشاء و التوجيه ، و اطمأن إلى صدق إيمانه عند نفسه ، ثم نسب ما جاء به إلى الله سبحانه ، على طريقة أنا كذبت له و لم أكذب عليه فلا مكان للوم !!
و قد سبق أن نقلنا لك من التوراة النازلة على موسى كيف مات موسى و كيف ناحت عليه نسوان بني إسرائيل أربعين يوماً و كيف دفن في قبر غير معروف .. إلخ .
و ظاهر لكل ذي لب أن هذا كلام مؤرخين ضموا ما ذكروه عن وفاة موسى إلى كتاب موسى نفسه ، فصار الأصل و الضميمة كتاباً واحداً .
و نزيد الموضوع شرحاً بنقل ما كتبه و نقله الشيخ أحمد ديدات في هذه القضية البالغة الخطورة : "يقول السيد و.جراهام سكروجي عضو معهد مودي للكتاب المقدس و الذي يعتبر من أكبر علماء البروتستانت التبشيريين في كتابه (هل الكتاب المقدس كلام الرب؟) تحت عنوان (كتاب من صنع البشر و لكنه سماوي) ص17 : (نعم ، إن الكتاب المقدس من صنع البشر ، رغم أن البعض جهلاً منهم قد أنكروا ذلك) . (إن هذه الكتب قد مرت من خلال أذهان البشر و كتبت بلغة البشر و بأقلامهم ، كما أنها تحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر) . و يقول عالم نصراني آخر واسع المعرفة ، و هو أسقف بيت المقدس السيد كينيث كراغ في كتابه (نداء المئذنة) : (و بعكس القرآن فإننا نجد أن العهد الجديد يحوي بعض التلخيص و التنقيح ، هناك اختيار للألفاظ و تجديد و شواهد ، إن كتب العهد الجديد قد جاءت من ذهن الكنيسة التي تقف وراء المؤلفين ، فهذه الكتب تمثل الخبرة و التاريخ). "
و رغم أن هذه الكلمات لا تحمل أي معنى آخر نحتاج معه لإضافة أو تعليق لنثبت حجتنا فإن هذا الداعية النصراني المحترف ، حتى بعد أن يكشف نفسه ، تكون لديه الجرأة على أن يقول : إنه قد أثبت إثباتاً قاطعاً بأن الكتاب المقدس هو (كلام الرب المتعذر إنكاره) و إنه لشئ عجيب هذا التلاعب بالألفاظ و الكلمات ، فكلا العالمَيْن يخبراننا بأوضح لغة بشرية ممكنة بأن الكتاب المقدس هو من صنع البشر ، ثم هما بعد ذلك يزعمان أنه من عند الله !!
و يقول الشيخ أحمد ديدات : "و أتذكر أنني قابلت يوماً قسيساً صغير السن كان يتردد على مسجدنا في جوهانسبرج و في ذهنه مهمة نبيلة و هي دعوة المترددين على المسجد إلى دينه ، فدعوته للغداء في منزل أخي القريب من المسجد ، و خلال مناقشتنا حول موضوع أصالة الكتاب المقدس و صحته لاحظت تصميمه العنيد ، فقلت له : إن البروفيسور جيزير (و هو رئيس قسم اللاهوت في جامعتهم) لا يؤمن بأن الكتاب المقدس هو كلام الرب ، فكان رده مباشرة دون أي تردد : أنا أعلم ذلك ، فكررت قولي : إن محاضركم لا يؤمن بأن الكتاب المقدس كلام الرب ! فردد ثانية : أعلم ذلك ، و تابع قائلاً : و لكنني شخصياً أومن بأنه كلام الرب !! "
و أقول لكم : إنه لا يوجد علاج لهذا النوع من الناس المغلقين ، حتى عيسى نفسه كان يقاسي من انتشار هذا المرض بين الذين من حوله (لأنهم يبصرون و لا يبصرون و يسمعون و لا يسمعون و لا يفهمون) (إنجيل القديس متى 13:13) .
و كذلك يقول القرآن الكريم : { و منهم من يستمعون إليك أفأنت تُسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون * و منهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي و لو كانوا لا يبصرون } [يونس:42 ،43] .
البَوْن بعيد بين نظرية الوحي عندنا و نظريته عند أهل الكتاب ..
فالوحي عندنا إلهام إلهي خالص في معناه و مبناه ، لا يستطيع أن يتجاوزه مرسل من الله : { و لو تَقَوَّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين } [الحاقة:44ـ47] .
أما الوحي عند أهل الكتاب فكلام إنسان رباني فانٍ في خدمة الله ، قد يحفظ بقايا ما نزل على موسى و عيسى ثم يرويه كما يتيسر له ، و قد يضم إليه ما اقتنع بصدقه أو ما رسب في نفسه من وقائع شائعة و فلسفات سائدة .
و قد يجمع هذا الخليط بين عواء جسد يطلب الحبيب كما في نشيد الإنشاد الذي لسليمان أو مناجاة لله كما في مزامير داود .
و المأساة تجئ من تسلل عقائد وثنية أو تجريح أنبياء كرام أو تحريف معنىً سامٍ ، و هذا سر الاشتراك المستخفي وراء تعدد الآلهة و وراء القرابين المادية التي يُسترضَى بها الإله الغاضب .
من أجل ذلك جاء وعيد القرآن الكريم : { فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم و ويلٌ لهم مما يكسبون } [البقرة:79] .
منقولhg,pd td hglsdpdm
المفضلات