فإن عثرة القافية تذهب برأس العبد، وربما تصليه جهنم عند الباري سبحانه..
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. أول المقتولين في هذه القائمة -ولم أذكره في كتابي قصائد قتلت أصحابها إنما ذكرتُ غيره- هو: علي بن جبلة العكوك ،
وشعره كله نُخَب، وهو من أشعر الشعراء على الإطلاق،
وقد أعجب الذهبي بشعره، وله قصائد مدوِّية، يقول في بعضها:
بأبي من زارني مكتتماً حذراً من كل واشٍِ جَزِعا
يطرق السن على تلك الخطا ثم ما سلَّمَ حتى ودَّعا
قال العلماء: ليته زادنا قليلاً، وهي ثمانية أبيات؛ لكنه يتركك ويُنْهِيك وقد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]
ثم يقطع القصيدة، فيقول:
عسى فرج يكون عسى نعلِّل نفسنا بعسى
فلا تجزع إذا حصَّلتَ هماً يقطع النفَسا
فأقرب ما يكون المرءُ من فرج إذا يئسا
وقد ذكرت هذا في كتاب لا تحزن وهو شعر جميل وليته أطال فيه..
وقد وفد على أبي دلف -وهذه هي التي أذهبت رأسه، وذهب في خبر كان-
فدخل على أبي دلف الشجاع الأمير الجواد، فصنَّف فيه قصيدة تبلغ سبعين بيتاً، فلما انتهى منها اهتز أبو دلف -أتته حمى تهامة -
وقال: احتكم، إما أن تأخذ نصف ما عندي -وهو أمير-
وإما أن تأخذ على كل بيت مائة ألف درهم، وإلا فاحكم أنت. قال: بل مائة ألف على كل بيت.
يقول في هذه القصيدة:
ذاد ورد الغي عن صَدَرِهْ وارعوى واللهو من وَطَرِهْ
إلى أن قال:
دع جدا قحطان أو مضر في يمانيه وفي مضره
وامتدح من وائل رجلاً عصر الآفاق من عصره
المنايا في مقانبه والعطايا في ذرا حجره
إلى أن يقول:
إنما الدنيا أبو دلف بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
كل من في الأرض من عرب بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة يكتسيها يوم مفتخره
وطارت القصيدة وصارت من عيون الشعر،
وعارضها عشرون شاعراً لكنهم أخفقوا كلهم، وقع الرمي تحت خشبة المرمى، حتى إن أبو نواس أراد أن يَنْظُم قصيدة على هذا النسق؛ فما استطاع.
ثم سمع المأمون بهذ القصيدة؛ فاستدعاه وقال: يا بن الفاعلة! والله لأقتلنك في قولك لـأبي دلف :
كل من في الأرض من عرب بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة يكتسيها يوم مفتخره
ماذا تركت لنا؟ ثم استشار الهيئة الشرعية، فقالوا: نحن سنبشرك بأبيات تقدح في الشرع؛
حتى إذا قتلتَه فسيقال: إن ذلك غيرة على الدين، قال: وما هي؟ قالوا: يقول أبو دلف من قصيدة سابقة:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنقل الشهر من حال إلى حالِ
وما مددتَ بأقلام لها شبة إلا قضيت بأرزاق وآجالِ
وهذا لا يكون إلا لله الواحد الأحد.
انظروا! فقد أساء كل الإساءة، ووجدها المأمون فرصة،
حتى يظهر أمام الناس أنه عَفٌّ طاهرٌ يغار لدين الله ويحفظ محارمه، والسياف حاضر، فأمره أن يضرب رأسه فصار كأنه بدون رأس، وذهب في خبر كان،
المفضلات