السّؤال الأول:
ما حكم الإقامة في بلاد الكفر، والسّفر إليها، مع التّفصيل وذكر الشّروط ؟ وما معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( أَنَا بَرِيءٌ..)) كما جاء في الحديث ؟
الجواب:
لا يخلو المقيم في بلاد الكفر من أربع حالات وهي:
1- أن لا يستـطيع إظـهار دينه، ويمكنه الهجرة.
فهذا قد اتّفق أهل العلم على أنّ الهجرة في هذه الحالة واجبة عليه، وأنّ الّذي لا يهاجر فهو المعنِيّ بالوعيد الشّديد، الّذي أتى في كلام ربّ العبيد: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
بل إن كانت أنـثى لا تجد مَحرَمًا، وكانت تأمن على نفسها في الطّريق وجبت عليها الهجرة.

2- أن لا يستـطيع إظهار دينه، ولا يمكنه الهجرة، فهذا قد اتّفق أهل العلم أيضاً في مثل هذه الحالة على عدم وجوب الهجرة لقوله تعالى:{ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً }، وعدم الاستطاعة هنا إمّا أن تكون لمرض، أو إكراه على الإقامة في دار الكفر، أو ضعف كالنّساء والولدان، أو غير ذلك من أنواع العجز المسقط لحكم وجوب الهجرة.
3- أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر، ولا يمكنه الهجرة، وهذا لا تجب الهجرة في حقّه من باب أولى، ولكنها تستحبّ.
4-أن يستطيع إظهار دينه، و يمكنه الهجرة، فالصّحيح من أقوال أهل العلم وجوب الهجرة، ويأثم القادر عليها ولم يهاجر.
ذلك لأنّ الله لم يعذره، وهذا مذهب عامّة أهل السلف، وهو قول اللّجنة الدّائمة ( فتوى رقم 1393)، والشّيخ الألباني ( شريط رقم 730)، وابن عثيمين وغيرهم، والأدلّة ما يلي:
أ) قوله تعالى في الآية السّالف ذكرها:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
ب) عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيٍّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ : (( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَرَاءَى نَارُهُمَا )) رواه أبو داود.
ج) عَنْ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أُبَايِعُهُ فَقُلْتُ: هَاتِ يَدَكَ وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالشَّرْطِ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم : (( أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَنْصَحَ الْمُسْلِمَ وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكَ )) رواه أحمد.

د) عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلًا حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ )) رواه أحمد.
وممّا يؤيّد هذا القول مقاصد الشّرع، ونذكر منها:
1-وجوب هجر المكان الذي يكفر فيه بالله، :{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ }.
2- تكثيف سواد المسلمين.
3- تيسير الجهاد على أهل الإسلام.
4- اجتناب المفاسد المترتبة من الإقامة بين الكفّار ومنها: خطر الردّة عن الدّين، الزّواج بالكافرات، الجناية على الأبناء، التجنّس بجنسيّتهم-وفي هذا إعلان الولاء التامّ لهم-، محبّة الكفّار وموالاتهم دون أن يشعر المسلم مع الأيّام، ذهاب الغيرة والحمية على الدّين، الذلّ والصّغار الّذي يلحق المقيم بينهم، كثرة التّفكير في السّفر لبلاد الكفر.
فالأصل وجوب الهجرة من بلاد الكفر إلا لحاجة وبشروط، وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن السفر إلى بلاد الكفر.
( تنبيه مهّم ) : يعتقد كثير من الناس أنّ المقصود من إظهار الدّين هو إقامة الصّلاة، والصّيام، وقراءة القرآن في الدّيار الكافرة، دون أذيّة أو اعتداء، وأنّ من فعل ذلك فقد أظهر دينه بينهم، وهذا غلط فظيع، وخطأ شنيع، ويحسن بنا أن ننقل كلام أهل العلم في بيان معنى إظهار الدّين:

قال الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب كما في " الدّرر السنيّة ": "وإظهار الدّين تكفيرهم وعيب دينهم، والطّعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم، واعتزالهم، وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين، وقول القائل إنّا نعتزلهم في الصلاة ولا نأكل ذبيحتهم حسن، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده بل لا بدّ ممّا ذكر ".
وقال الشّيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: " والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يُوَحّد ربه، فمن حقّق ذلك علماً وعملاً، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان، وأمّا من لم يكن كذلك، بل ظنّ أنّه إذا تُرِك يصلي ويصوم ويحج، سقطت عنه الهجرة، فهذا جهل بالدين، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين".
و قال الشّيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ: " إظهاره دينَه ليس مجرّد فعل الصّلاة وسائر فروع الدّين واجتناب محرّماته من الرّبا وغير ذلك، إنّما إظهار الدّين مجاهرته بالتّوحيد، والبراءة ممّا عليه المشركون من الشّرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".

أماّ السفر إلى بلاد الكفر:
فإنّه محرّم لما سبق من الأدلّة، ولما في ذلك من الخطر على العقيدة والأخلاق، بسبب ما ينتشر في هذه الدول من الكفر والفسوق والانحلال، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في زماننا هذا الذي نرى فيه حرص كثير من المسلمين على تقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو بين أظهرهم، والمسافر عندما يشاهد أهل الكفر أول مرة قد يستغرب ما هم فيه وينكر عليهم ويبغض ذلك، لكن بالتكرار يألفه ويعتاده، وكثرة المساس تفقد الإحساس.
فالأصل : تحريم السفر لبلاد الكفر لما سبق ذكره، ولكن قد يجوز ذلك إذا كان لحاجة شرعية - كالعلاج والتجارة وتعلّم التخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلاّ بالسفر إليهم - و إذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين.
ويشترط للذاهب في هذه الحالة أن يكون معه علم يدفع به الشّبهات، وإيمان يدفع به الشهوات، وأن يكون مظهرًا لدينه معتزًا بإسلامه، مبتعدًا عن مواطن الشر، حذِرًا من دسائس الأعداء ومكايدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.

أمّا معنى قوله في هذا الحديث وغيره من الأحاديث : ( أنا بريء )، ومثله قول: ( ليس منّا ) فقد ذكر ابن حجر أقوالاً للعلماء في تفسير ذلك منها:
أ) ليس منّا: أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللّفظ المبالغة في الرّدع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرّجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست منّي، أي ما أنت على طريقتي .
ب) المراد أن الواقعَ في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه، فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له.
ج) وحكى الزين بن منيّر عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله، ويقول ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر.
د) وقيل المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربي.