صــلاح الامــــام | 08-08-2011 01:30
قاعة واحدة، شهدت آخر ظهور رسمى للرئيس المخلوع حسنى مبارك، ولوزير داخليته حبيب العادلى، ونفس القاعة شهدت أول ظهور للإثنين معا بعد الثورة، مع الفارق الكبير بين الحدثين.
فى 23 يناير 2011، شهدت هذه القاعة لقاء مبارك بقيادات وضباط الشرطة، وكان العادلى هو عريس الحدث، تباهى يومها بما أنجزته أجهزته الجهنمية فى كشف مرتكبى جريمة تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، وبما حققته تلك الأجهزة من أمن وأمان للمواطن، وقام مبارك يلقى خطابا (تاريخيا مثل كل خطاباته) أشاد فيه بجهود رجال الشرطة، وتفانيهم على خدمة وحماية الأمن الداخلى، وردد وكرر عبارات محفوظة، نسمعها دائما فى هذه المناسبة.
شتان ما بين دخول مبارك لهذه القاعة يوم 23 يناير، ودخوله إياها يوم 3 أغسطس، وبين التاريخين 190 يوما، سقط خلالهم عرشه، وسارعت أيدى العدالة تقبض على كل رموز نظامه، الذين عاشوا حياتهم عيشة أمراء المماليك، كل أمير له منطقة نفوذ يحلب ثرواتها لنفسه ويمتص دماء أهلها دون مراعاة لأى اعتبار، كذلك كان رجال حكم مبارك، أو بمعنى أدق أعضاء عصابته، الذين استباحوا الممتلكات والحرمات، الدماء والأعراض، ومن ورائهم جهاز أمن رهيب، يعد على الناس أنفاسهم، ويحاسبهم على عدد عبرات دموعهم إذا تركوا أحداقهم تبكى كل حين.
حينما دخل مبارك أكاديمية الشرطة الجديدة، كانت تسمى وقتها "أكاديمية مبارك للأمن"، وكانت منطقة شرق القاهرة بكاملها تنتفض انتظارا لزيارة الفرعون الإله، ولحظة دخول موكبه كانت الأرض ترتج فى محيط المنطقة لها، فموكبه لم يكن له مثيل بين مواكب الملوك والرؤساء، من حيث الحجم والأبهة، ومن حيث الترتيب والتنظيم، وأيضا من حيث التكلفة، ويكفى أن من بين مكونات موكبة كتيبة تضم عشرات من الكلاب المتوحشة الشرسة، والتى تصل نفقات الواحد منها فى اليوم لأكثر من ألف جنيه، فى حين كان أغلب مواطنى مصر دخلهم فى الشهر حوالى 300 جنيه، أى عشرة جنيه فى اليوم، بمعنى أن مصروفات أحد كلاب مبارك كانت تساوى مصروفات ثلاثين أسرة من رعاياه.
كانت مصر تغلى، والنار على بعد خطوات منه، وكانت نواقيس الخطر تدق، وكل الأنوار الحمراء تلمع، لكن الرجل كان قد بلغ منه الغرور والعتو مبلغا، وظن أن لن يقدر عليه أحد، فألقى خطابه الحافل بالتهديد والوعيد لكل من يعبث بأمن مصر، وأمن مصر هذا كان يعنى أمنه الشخصى هو وزوجته وأولاده وأحفاده، وسيناريو التوريث الذى كان قد وصل لحلقته الأخيرة، وكان إعلانه سيتم فى غضون أسابيع قليلة، لولا عطل بسيط فى برنامج الفرعون، أدى إلى انقطاع الكهرباء وشلل جهاز الأمن يوم 25 يناير، فقامت قيامته فى الدنيا على غير ما كان يتوقع هو وزمرته، وإن كانت كل مصر بل وكل العالم كان يتوقع هذه النهاية لكن ليس بمثل ما تمت فى الحقيقة.
بعد 190 يوما، من الإختفاء فى غياهب السجون، عاد مبارك للظهور، فى نفس القاعة التى شهدت آخر ظهور له وهو فوق عرشه، لكنه فى هذه المرة دخل نفس المكان ذليلا مهانا، معلق قلبه بكلمة قاض فوق منصة العدالة التى تلوثت فى عهده، يتستر بجرائمه خلف فصاحة أحد من المحامين أو أكثر، ليس له من أمل سوى محامى نابغة، وكذا شأن وزير داخليته صاحب السجل الأسود فى التعذيب والإرهاب، الآن عرفوا قدر المحامين، وكم من مئات المحامين، ـ وقد يكونوا بالآلاف ـ أهدرت كرامتهم فى أقسام الشرطة على يد شاويش أو مخبر نكرة، دارت الأيام ليجد هؤلاء أنفسهم فى بحر لجى ليس لهم من قشة يتعلقون بها سوى المحامى.
هو يوم لا يتكرر كثيرا، وقد يكون فريدا لا مثيل له فى التاريخ الإنسانى، والتف العالم كله يراقب ويشاهد أول رئيس دولة يحاكم من قبل شعبه محاكمة عادية خالية من أية استثناءات، سواء فى هيئة المحكمة،أو إجراءاتها، أو القانون الذى حكمت به، شاهد العالم الرجل الذى ألفه على مدى ثلاثين سنة يأمر وينهى، يمنح ويمنع، يحيى ويميت (تماما مثل النمرود) شاهده العالم وهو مهان محقر، يدفع ثمن جرائم ليس لها من سجل يحصرها، فهى فوق الحصر.
مبارك الذى مثل أمام المحكمة يوم 3 أغسطس يحاكم فقط بتهمة قتل المتظاهرين يوم 28 يناير وما بعده من أيام، وتصدير الغاز المصرى إلى اسرائيل (أعدى أعداء مصر والعرب والمسلمين)، وهى تهم لا تذكر فى سجل جرائمه المتخم، فكل أسرة مصرية لها فى عنق هذا الرجل ثأرا، ولو لم يكن له من جرائم سوى ما كان يجرى من تعذيب فى سجونه ومعتقلاته، لاستحق أن يعدم بعدد الذين تعرضوا وذاقوا آلام وهوان هذا التعذيب، والذين فاضت أرواحهم إلى بارئها من شدة ما لاقوه من تعذيب، وهم بالآلاف.
إن مبارك بداخل القفص يعد رمزا لحقبة زمنية مريرة فى حياة المصريين، حيث عانوا الفقر والعوز، الذل والمهانة، القمع والظلم، وكل صنوف الهوان والمرار، إنها محاكمة تاريخية، وبالتالى تستلزم ألا تقتصر المحكمة على شخصه فقط، بل أرى أنها محاكمة عهد كامل، استبيحت خلاله حرمات المصريين وحقوقهم، والجميع يحبس أنفاسه فى انتظار ما ستسفر عنه تلك المحاكمة.rhui ,hp]i ,g;k ajhk
المفضلات