مركبةٌعسكرية تلاحق السيارة التي يستقلُّها في إحدىغابات إفريقيا التي يكثرفيها اللصوص، وتضيء أنوارها وتطفئها مما يعنيأمرًا للسيارة الأخرىبالتوقف فورًا بما لم يدع مجالاً للشك بأنها تضم لصوصًاوعلى يدهم قد تكونالنهاية، تمكنت السيارة العسكرية أخيرًا بسرعتهاالصاروخية منإيقافه.. وهنالك حدث عكس المتوقع تمامًا، نزل عقيد وسأل ضيفنا: "أأنت د.عبدالرحمن؟"، ولما أجابه بـ"نعم" أدى "التحية العسكرية، وقال: "أنا أحدأيتامكم، أعمل الآن مديرًا للشؤون الدينية في الجيش، سرتبسيارتي خلفكلأحميك من مخاطر الغابة"، يا له من مشهدٍ كم تأثر به الدكتورعبد الرحمنالسميط، لتجتاحه ذات السعادة الغامرة التي تتملكه كلما التقىأيتامًاتربُّوا ضمن مشاريعه، موصيًا ذلك الشاب بأن يتذكر دائمًا أن يشكر الله عبرخدمة مجتمعه والعمل على التغيير فيه.
حفر قبره في مدغشقر
د.السميط طبيبٌ وداعية كويتي شهير نذر نفسه لخدمة أفريقيا فعاش فيهاالقدر الأكبر من حياته، فأسلم علىيديهأحد عشر مليونًا ونصف المليونأفريقي، من خلال مؤسسته "جمعية العونالمباشر"، والدعاة الأربعة آلاف الذينعملوا معه على مدار اثنين وثلاثينعامًا، ومن نتاج سنوات العمل هذه أيضًا5500 مسجد، و860 مدرسة ضمَّت نصفمليون طالب، وأكثر من 11ألف بئر، وما يزيدعلى 186 مستوصفًا ومستشفى و120مخيمًا طبيًّا، والشيء الجميل أن التحدث بهذهالأرقام لا يروق للسميط، لأن "الله عز وجل لا يتعامل بالأرقام، والأهم هوما عند الله، فالمطلوبدومًا التغيير للأفضل" كما يقول.
ومن بين المعلومات التي شجعت "فلسطين" على البحث على رقم هاتف هذاالرجللإجراء حوارٍ مختلفٍ من نوعه معه، أنه سبق وأن حفر في مدغشقر التيعاشفيها ثلاث سنوات قبرًا له ولزوجته، متخذًا قرارًا أن يقضي فيها ماتبقىمن عمره لولا خروجه منها مكرهًا، كما أنه حائزٌ على جائزة الملك فيصللخدمةالإسلام والكثير من الجوائز والأوسمة للعمل الخيري والتطوعي.
كان يستعد لرحلةٍ قريبة إلى الصومال حين اتصلت "فلسطين" به، فقلبه لايحتمل لوعة فراق القارة السمراء التي يزورها بين فينةٍ وأخرى أو بالأحرى هوشبه مقيم فيها، حيث يعيش مع أهلها في خيام وينام على تراب، ويأكل مماتجودعليهم به المجاعات، ويشرب من مستنقعات أو يرضى بالجفاف، إجاباته عنأسئلتنا جاءت مركزة ومقتضبة بصوت مجهد يبوح بكثرة الأمراض التي يعاني منها،ولا يخفي التأثر بحال إفريقيا المزري.
القارئ الصغير
تَعلُّق السميط بأفريقيا لم ينبع من تعامله مع أهلها وتأثره بأحوالهم،بليكمن السر في مشاعر كانت تداعب خياله عندما كان في السادسة من عمره فكانيرى صورة لنفسه يتجول في غاباتها متكئًا على عصا ويخدم سكانها، غريب أنيكون في عقل طفل في هذه السن الصغيرة حيِّز لمعلومات عن عالم أفريقيا الواسعكصحرائها، لكن الأغرب أن ثقافته عنها تشكلت من خلال القراءة، ليتألم كلماوجد فيها شيئًا عن معاناة الأفارقة ويفكر "لماذا لا نخدمهم نحن المسلمون".
"أيقرأ ابن السادسة؟!.. نعم، كان يقرأ قصص الأطفال، وفي عمر الأحد عشرعامًا دخل مرحلة أخرى من القراءة، إذ انتقل إلى قراءة المجلات الأجنبية رغمبساطة لغته الإنجليزية آنذاك على حد وصفه، وهو اليوم يعترف للقراءةبجميلها وقيمتها في حياته: "القراءة شكلت تفكيري ومستقبلي".
بعد أن تجاوز السميط الخامسة والستين من عمره، ها هو يستبدل عصاهالخياليةبعصا حقيقية تساعده أن يحمل معه آلام ثلاثة عشر مرضًا ألم بهوحدَّ منقدرته على المشي.
بعد أن أنهى السميط دراسة الدكتوراه في كندا، اقترحت زوجته أن يسافرامعًاإلى دول شرق آسيا يدعوان فيها إلى الله كونهما "غير مهتمان بالأمورالمادية"، وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه أن طلب السميط من وزارةالأوقاف الكويتية أن تساعده لتحقيق هدفه، وبعد عدة زيارات للوزارة فشلخلالها في الحصول على مراده، حينها أدرك درسًا اتخذه نهجًا يسير عليه فيحياته ويلخصه في: "تعلمت أن مكاني ليس موظفًا في الحكومة وأني لن أعمل ضمنإطارها وروتينها"، وكان الحل كما يقول: "انصرفت مع إخواني لتأسيس منظمةخيرية لا تخضع لبيروقراطية الحكومة وإن كانت تخضع لقوانينها، ولولاالقوانين التي حدَّت من الكثير من نشاطاتنا لكان بإمكاننا أن نقدم الأفضل".
طرف الحبل
وأخيرا.. جاءت الفرصة التي كانت بمثابة طرف خيط أمسكه السميط للدخول إلىأفريقيا، فقد طلبت منه فاعلة خير أن يبني مسجدًا في ملاوي، وهناك كانت"الصفعة" كما اعتاد أن يصف زيارته الأولى لأفريقيا.
"لا أُظهر مشاعري أمام الناس لكن ما إن أغلق على نفسي باب الغرفة أصبحعاطفيًّا لأبعد الحدود، في هذه الرحلة كنت أبكي يوميًّا وأدعو الله أن يعيننيعلى خدمتهم"، كانت هذه مقدمة إجابته عن سؤالنا: "لماذا كانت صفعة؟ وما كانتآثارها عليك؟، وأضاف :"الوضع الذي رأيته أشعرني أني أعيش في برج عاجيبعيدٍ عن الدنيا وأن مآسي الفقراء والمساكين وغير المحظوظين كبيرة جدًّا، فمارأيته لم يكن يخطر على البال رغم كثرة ما قرأته عن أفريقيا، تألمت كثيرًاوشعرت أني أعبث في حياتي".
وتابع: "عندما يموت طفل أمامي من الملاريا تكلفة علاجه لا تزيد عن 3فلس،وعندما يكون في إقليم واحد في إحدى دول أفريقيا 486 ألف طفل أغلبهممسلمونلا يذهبون لمدارس لعدم امتلاكهم رسوم الدراسة التي هي 5 دولاراتفكانلابد من اتخاذ موقف حيال ذلك كله، فغيرت من توجهاتي في الحياة وتبدلتلديالكثير من القيم، ومن هنا انطلقنا للعمل في أفريقيا".
"خادم أفريقيا" و"رجل الخير" وغيرها من الألقاب التي أُطلِقَت علىالسميطلا ترضيه، فهو يرى أن لا أحد يمنح الشهادات لكن المهم هو ما عندالله،ويقول: "أتمنى لو أعفوني من هذه الألقاب وتركوني أكمل مشواري، أناأكثرالناس معرفة بنفسي وأنا متأكد أني مقصر تجاه أمتي وإخواني والإنسانيةبصورة عامة".
حياته "كلها مواقف لا تنسى"، ومنها يذكر قصة نسي ملامحها بفعل 20 عامًامرت عليها، فعندما أعلنت جمعيته عن مخيم طبي في تشاد في وقتٍ لم يكنبالمستشفى أي نوعٍ من الدواء وقد أضرب الأطباء لعدم تلقي الرواتب لأشهر،اصطفَّ المرضى في طابور لمدة 3 أيام قبل الافتتاح وخلالها توفي3 منهم أثناءالانتظار، يقول: "بكيت حتى شبعت، لكن البكاء لا يحل المشكلة إذا لم يترتبعليه عمل".
الألم الذي تثيره في نفسه هذه الذكريات لمشاهد الموت الكثيرة التيتعجُّبها ذاكرة السميط ومن بينها حالات لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه،منعه منذكر المزيد منها لـ"فلسطين"، لكنه أكد أنها غيرت في حياته الكثيرفقد لايأكل اللحوم في بيته لعدة أشهر ولا يقبل لنفسه أن يحتج على افتقادمكونما في الطعام في حين يموت آخرون جوعًا، ناهيك عن أنه دائم الشعوربالتقصير... لم ينته حديثنا معه بعد، فلا زال هناك "مزيدًا شيقًا".
المصدر: صحيفة فلسطين
ومفكرة الاسلام
يتبع
]>hgsld'>> Hsgl ugn d]di 11lgd,kWh ,gh .hg lrwvWh!
المفضلات