كذلك بعد ذلك كله، على المسلمين أن لا يحترموهم، يمنعونهم من كل شيء فيه رفع لشأنهم، فلا يجوز تصديرهم في المجالس، إذا دخلوا مجلسا يجلسون في طرفه، قرب الأبواب لا يتصدرون المجالس؛ لأن في ذلك شيء من الترفع، وهم ليسوا أهلا أن يترفعوا وأن يرفع مكانهم، إذا رآهم المسلمون فلا يبدءونهم بالسلام، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه » ولو كانوا ذميين، بمعنى أن وسط الطريق لكم أيها المسلمون، واجعلوا لهم حافات الطريق، لا يتوسطون في الطريق.
كذلك أيضا لا يجوز للمسلم أن يقوم لهم إذا جاءوا ليدخلوا في مجلس ولو كانوا كبراء، ولو كانوا رؤساء ولو كانوا علماء، ولو كانوا مفكرين، ولو كانوا أغنياء، فلا يجوز القيام لهم، ولا يجوز بداءتهم بالسلام، وإذا سلموا نقول عليكم أو وعليكم، لأنهم قد لا يخلصون في السلام، قد يحرفونه ويقولون: السام عليكم.
ذكر أن « جماعة من اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقال: وعليكم، فسمعت ذلك عائشة -وكانت جريئة- فقالت: بل السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فأنكر عليها وقال: مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، إن الله يحب الرفق في الأمر كله، قالت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا، قال: ألم تسمعي ما قلت، ردوا علينا ورددنا عليهم فيستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا » يعني أنه لما قال: وعليكم، رد عليهم تحيتهم.
ومع ذلك لو تحققت أنهم يقولون: السلام عليكم، وهم ليسوا بمسلمين؛ فإنك تقول: عليكم، أو تقول: وعليكم، ولا ترد عليهم تقول: عليكم السلام، قول: وعليكم، وأما أنت فلا تبدأهم حتى ولو كانوا أكبر منك، أكبر أو أفقه أو نحو ذلك، عليك أن لا تبدأهم بالسلام، العادة أن الذي يبدأ بالسلام هو الذي يدخل على القوم، فإذا دخلت عليهم وهم ليسوا مسلمين فلا تقل: السلام عليكم، لك أن تحييهم بكلمة يعرفونها أو يصطلحون عليها، كالكلمات التي هي تحية في لغاتهم، بعضهم يعني كلمة أو كلمتان تكون كالتحية، فإن لم تعرف لا بأس أنك تقول كيف أنتم، أو كيف أمسيتم، كيف حالكم، وما أشبه ذلك. /5 ومع ذلك فقد كره ذلك كثير من العلماء، فقالوا: لا يجوز أن تقول كيف أصبحتم، ولا كيف أمسيتم، ولا كيف حالك، ولا مساء الخير، ولا مساء النور، لأن ذلك كله تحيات من تحيات المسلمين.
هكذا يمنعون من أن يبنوا بناء بيوت مساوية لبيوت المسلمين، وبالطريق الأولى يمنعون من أن يكونوا أرفع بيوتا من المسلمين، بعض العلماء يقول، يكون بيته أخفض، إذا كان بيت المسلم مثلا خمسة أمتار أو عشرة، يكون بيت الذمي أنقص، أنزل منه بمتر أو نحوه، وأجاز بعضهم المساواة، أن يكون بيته مساويا لبيت المسلمين، لأدون وأنزل بيت من بيوت المسلمين.
إذا نظرنا في هذه البلدة وإذا أقلها بيتا ارتفاعه أربعة أمتار، فتكون بيوتهم بهذا المقدار، المسلمون قد يرفعون بيوتهم وعماراتهم إلى ثلاثين مترا أو أكثر أو أقل، وأما هؤلاء الذميون فيجعلون كأنزل واحد من بيوت المسلمين، ولو أنه من بيوت الضعفاء وبيوت الفقراء؛ حتى لا يكون ذلك فيه شيء من رفع معنوياتهم.
متى ينتقض عهدهم؟ إذا منعوا الجزية؛ وذلك لأن الجزية هي التي أقروا بها، فإذا منعوا الجزية انتقض العهد وحل قتالهم، ذكروا أيضا أنه يلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام، في النفس والمال والعرض؛ ذلك لأنهم دخلوا تحت ولاية المسلمين بهذا العهد، وبهذه الذمة، فيأخذهم بحكم الإسلام، فإذا قَتَلوا قُتِلوا، لأن هذا حكم الإسلام، وإذا سرقوا قطعوا، لأن هذا حكم الإسلام، وإذا زنوا رُجِموا أو جُلِدوا، لأن هذا حكم الإسلام، أما إذا سكروا فلا يقام عليهم الحد؛ لأنهم يقرون على شرب الخمر لأنهم يعتقدون إباحتها.
كذلك بقية أحكام الإسلام، فيمنعون مثلا من الغش في المعاملات، وإذا غشوا أو حاولوا انتقض عهدهم، ذكر أن رجلا من اليهود في المدينة، جاءته امرأة من المسلمين وكانت متحجبة، ساترة لوجهها فطلب منها أن تكشف وجهها فأبت، جلست عنده تريد الشراء، ولما جلست تغافلها وربط أسفل ثوبها بأعلاه بزر أو بشباك، ولما قامت -ما علمت بهذا- لما قامت ارتفع الثوب إلى أن بدا شيء من سوءتها، فعلمت بأنه حيلة، فصاحت يا للمسلمين، فكان ذلك سببا لأنه انتقض عهدهم، أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الفعل.
كذلك كان يهودي في الشام بعدما فتحت الشام وأقروا على الجزية استأجرته امرأة على حمار، كان معه حمار فحملها وحمل متاعها، ولما كان في أثناء الطريق صرعها حتى سقطت وحاول أن يزني بها، فكان ذلك نقضا لعهده، فرفع أمره إلى عمر فأمر بقتله، وقال: ما على هذا عاهدناكم. يعني على هذه الخيانة، نحن أعطيناكم عهدا على أن لا تفعلوا ما ينقض ذلك العهد.
كذلك إذا قاتلوا المسلمين انتقض عهدهم، بمعنى أنهم حاولوا أو قتلوا إذا عرف ذلك، فإذا عرف عين القاتل قتل؛ لقصة ذلك اليهودي الذي قتل جارية على أوضاح لها، رأى معها أوضاح -يعني حلي من فضة- فأراد أن يأخذه منها فامتنعت، فشدخ رأسها بحجر، وأخذ تلك الأوضاح، وجيء بها وفيها رمق قالوا: من فعل هذا أفلان أفلان، حتى سمي ذلك اليهودي، لما جيء به وجد معه تلك الأوضاح، ورؤيت عليه هذه العلامات، فاعترف بذلك، فقتل، فكان ذلك نقضا لعهده.
كذلك إذا استوطن دار الحرب ذمي من أهل الذمة، خرج من بلاد الأمن ومن بلاد استولى عليها المسلمون، واستقر في بلاد المحاربين الذين بيننا وبينهم حرب قائمة، في هذه الحال انتقض عهده، أصبح ليس بذميا ولا حرمة لدمه، ولا حرمة لماله، يحل قتله إذا قدر عليه، ويحل أخذ ماله.
كذلك إذا تجسس على المسلمين، التجسس هو: التماس الغفلة وتتبع العثرات بخفية والتسمع للأسرار، أسرار الناس في بيوتهم ومنازلهم. التجسس والتحسس نهى الله عنه في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾.
فإذا تجسس انتقض عهده، ومن ذلك سمي الجواسيس، الجاسوس هو: الذي يتجسس أخبار الناس بحيث يتتبعها بخفية ثم يدل عليها من يريد أن يأخذ بها. فإذا تجسس، عمل جاسوسا؛ انتقض عهده، أو زنى، زنى بمسلمة؛ انتقض عهده؛ لأن هذا ينافي أمانه الذي أمناه به، أما إذا زنى بكتابية، وكان خاضعا لأحكام الإسلام فإننا نقيم عليه الحد، إن كان محصنا رجم، أو بكرا جلد، كما يقام على المسلمين، فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- رجم اليهوديين، يهودي زنى بيهودية، وشهد عليه أربعة أنه رأوه يزني، فأمر برجمهما. هذا دليل على أنهم إذا كانوا تحت ولايتنا فإننا نقيم عليهم الحد.
أما إذا كان زناه بمسلمة، وبالأخص إذا كان مُكرها لها فإنه يقتل، ينتقض عهده، وما ذاك إلا أنه ما عوهد على هذا، ولو كانت المسلمة مختارة، موافقة لذلك، يقام عليها الحد، تجلد إن كانت بكرا، أو ترجم إن كانت ثيبا، وأما هو فإنه يقتل بكل حال؛ لأن هذا نقض عهد.
أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء؛ انتقض أيضا عهده، كتب في ذلك شيخ الإسلام كتابا كبيرا، والذي سماه "الصارم المسلول على شاتم الرسول" وذلك لأنه كان هناك بدمشق يهودي، ثم إنه أعلن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنقصه وذكره بسوء، ادعى أنه مفتر وأنه كذاب وأنه متخرص، وأنه وأنه، فتوقف أن الإمام ونحوه في قتله هل يحكم بردته، هل يحكم بنقض عهده، كان شيخ الإسلام من أشدهم عليه، فألف كتابه الكبير "الصارم المسلول على شاتم الرسول" وأوضح أدلة كثيرة في أن من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يقبل رجوعه ولا تراجعه بل يقتل بكل حال، ولو أظهر التوبة إذا كان ذلك دليلا على استهتاره وتنقصه.
وهكذا يجب عند القدرة، تذكرون في الأيام القريبة ما حصل من دولة صغيرة هي دولة الدنمارك، لما أنهم تنقصوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصوروه بصور محتقرة، وأظهروا احتقاره وتكذيبه والتخرص عليه، كان ذلك من الاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان الواجب قتالهم، ولكن لما كانت الأنظمة لا تمكن قيل لا بد أن نعمل معهم عملا يحقرهم ويذلهم ويهينهم ولو بمقاطعة إنتاجاتهم، كما عمل ذلك المسلمون، وما داموا كذلك فإن على المسلمين أن يتكاتفوا ويقاطعوهم.
وهكذا أيضا كل دولة تعلن سب الإسلام، أو تنقص الرسول، أو السخرية بالقرآن، أو تتنقصه، فلا عهد لهم ولا ذمة، يصبحون محاربين، على المسلمين مقاطعتهم، على المسلمين الابتعاد عنهم والحذر منهم، وعدم تشجيعهم بأي شيء يكون فيه رفع لشأنهم ورفع لمعنوياتهم وإعزاز لهم حتى يشعروا بعز المسلمين وبقوتهم وبتكاتفهم وبغيرتهم على دينهم، سواء استهزءوا بالله تعالى كإله ورب وخالق، أو استهزءوا بالقرآن وادعوا أنه متناقض أو أنه مفترى أو مكذوب، أو استهزءوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وادعوا أنه كذاب أو أنه متقول، أو أنه لا علم عنده، أو أنه وأنه؛ إن ذلك نقض لعهدهم إذا ذكروا ذلك بسوء.
كذلك أيضا من لحق منهم بدار الحرب إذا انطلق من بلاد الإسلام ولا جاء إلى المحاربين الذين بيننا وبينهم الحرب قائمة، ثم بعد ذلك استولينا عليه، بأن رجع فقبض عليه المسلمون، فماذا يعاقب؟ يخير فيه كالأسير، يعني الأسير ذكرنا أنه يخير الإمام فيهم: إما أن يقتله، وإما أن يسترقه، وإما أن يطلب منه فدية، وإما أن يمن عليه.
المفضلات