ما أشأم الجهل على أهله !والدعاوى إذا لم تقيموا عليها *** بينات أصحـــــابها أدعيـــاءُ
وقديماً قالوا : " ادفعوا الجهل بالعلم ، فما أُتي أحد من شيء مثل ما أُتي من جهله " .
والناس تعرف في كتاب الصحف طائفة لو شاء إبليس لاتخذ فيهم حراساً وآثرهم على من سواهم من أخدانه الجن ، أعطاهم بذل شيطانيته فنفضوا إليه ببذل نفوسهم ، وإن نفوسهم لتسع من الكذب ما يسع النهار من ضوء الشمس !
وآفة هؤلاء في الناس أنهم يتلبسون لبوس العلم في ظاهرٍ يضربون به على باطن هو معين من الجهل لا تنضب ، فإن أنت ألقيت إليهم السمع أوقفتك كل كلمة أو قالة منهم على مواطن النقص فيهم ، وانقلب ظاهرهم الذي يستغشونه لباطنهم مرآة تعكس صورته ، أو انماث كاشفاً عما فيه ؛ وصورته السخف والسفه ، وفيه اجتماع الجهل إلى الكذب .
كلمة من أولئك كانت لكاتب اختص لنفسه الرواية عن أرذال الناس وسقاطهم من كل عاهر وفاجر ، يكتب عنهم ويقص أخبارهم ويتحيل لأحوالهم فيبدلهم من بعد فجورهم تقوى ، وإذا كل ذي رذيلة في الناس هو عنده أكرمهم وأبرهم وذو الفضيلة فيهم .
وكان ممناصا قال : " حدثت مخالفات من الخليفة عثمان بن عفان، الذى لم يعدل بين المسلمين وآثر أقاربه بالمب والعطايا " ، فتلك جناية على عثمان رضي الله عنه لها شقان تستخفي بهما الجناية العظمى ؛ جناية التنقص من قدر عثمان رضي الله عنه ذي النورين المبشر بالجنة ورميه أنه لم يعدل في أمره وهو الخليفة الراشد المهدي .
نحن لا نزعم العصمة لعثمان ولا لغيره من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ لا يزعمونها هم لأنفسهم ، ولكن أمر التاريخ كما يقول القائل :
فليقم لنا الكاتب بيّناته على دعواه وإلا فهو مدعٍ كذوب يتكلف من أمره ما لا يحسن ويريد نفسه على ما فيه متلفها ومهلكها ونعوذ بالله من الخذلان !ونبين أمرهم للناس ..
ولست بسبيل ذكر مناقب عثمان رضي الله عنه ، فلو سئل عنه تلميذ الابتدائية ومن دونه لعدها له منقبة منقبة ، ولكن فليعدد لنا الكاتب أقارب عثمان الذين آثرهم بالولاية على المسلمين الذين هضمهم فيها حقهم !
ولكنا نقدم بين يدي ذلك مسألة للكاتب : ما وجه العدل عندك فيما ترى عثمان قد حاد عنه ؟ وما صورته ؟ وكيف كان على عثمان أن يعدل بين المسلمين في أمر الولاية ؟ أكان عليه أن يداولها بين الناس جميعاًِ حتى يستوي لديك عثمان عادلاً ؟ وكم كان ولاة عثمان رضي الله عنه وكم ولّى من أقاربه ؟
لقد مات عثمان رضي الله عنه وأقاربه في الولاية ثلاثة هم من خيرة الصحابة يومئذ ، ولم يستعمل في الولاية من أقاربه إلا خمسة من عشرين ونيف هم عدة ولاته في خلافته ، وقد كان له في استعمالهم أسوة حسنة بسابقيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومن قبلهما رسول الله عليه صلوات الله وسلامه ، فالطعن على عثمان رضي الله عنه في استعماله ذوي قرابته إنما هو طعن على من قد كان استعملهم قبله وإن لم يكن ذلك مراده فيما كتب .
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد شمس - وهي قبيلة عثمان - أكثر مما استعمل من غيرهم فقد كانوا كثيرين ، وفيهم شرف وسؤدد ، وحسبك بمن يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم ويأتمنه على النور الذي أُنزل إليه ، أتكون من بعدُ مثلبة أو منقصة فيمن يسارع فيهم ويرضاهم ؟! وما له لا يرضاهم وقد رضيهم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم ؟
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة ، وأبا سفيان بن حرب على نجران ، وخالد بن سعيد على صدقات بني مذجح ، وأبان بن سعيد على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين ، ومن بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فاستعمل أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام وأقره عمر ، ثم ولّى عمر بعده معاوية أخاه .
فكان من ولاهم عثمان من بني قرابته مدة خلافته خمسة هم معاوية وعبد الله بن أبي السرح والوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر ، ومات عثمان وقد عزل الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص ، فأنت ترى أن أمر توليتهم كان إلى نقص لا إلى زيادة ، فكيف هي المحاباة والأثرة ؟
ولو نظرت في سير من ولّاهم عثمان رضي الله عنه لم تجد إلا ذوي فضل وكرامة أحسنوا سياسة الناس وكفوا ووفوا ولست بمقام سردٍ لكريم خصالهم وفعالهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد موته ، وأخبارهم منثورة في الكتب ، ولكن العقل ضيق والبصر أعور !
وهب أن من هؤلاء من لم يرضه الناس حكماً لهم ولم يقوموا على رعيتهم بحق الله فيهم ، أفترى عثمان رضي الله عنه كان يعرف منهم ويسكت عنهم ؟ فكيف وقد عزل منهم أبا الوليد وسعيداً لما بدا له من أهل الكوفة سخط عليهما ، ولا غرو ، فهم أهل الكوفة الذين اتهموا من قبلهما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في دينه فقالوا : " لا يحسن يصلي " ، والقصة معروفة مشهورة !
هل آن لمعين جهل الكاتب أن يجف ؟ أو آن له أن يسكن فيعود رهواً لا يفور ؟ كلا ، ولو كان للشمس أن تأفل أو تغيب ، فليس لمعينه أن تنضب أو تغور .
أوغل الكاتب في إفكه وبهتانه ولم يشف غيظه ما خطت يده . قال : " ثم أقام معاوية بن سفيان -كذا- حكما استبداديا دمويا - كذا كذا - أخذ فيه البيعة من الناس كرهاً - كذا كذا - لابنه يزيد من بعده ليقضى إلى الأبد - كذا كأنه قضاء الله ! - على حق المسلمين فى اختيار من يحكمهم ويحيل الحكم من وظيفة لإقامة العدل إلى ملك عضوض " . علم الله لو نطق التاريخ على هؤلاء لاستحالت كلماتهم تنزل على رؤوسهم لعناتٍ طباقاً ! ولو قام حكماً على هؤلاء لأقام من صحيفته " ميدان تحرير " تهدر فيه كلماته أن : " قطع الله لسانك وأراق حبرك وكسر قلمك " .
ولقد صدق من قال : " الكفر ملة واحدة " ، وأزيد : " ومسلكه واحد هو الكذب " ، كذب في الدين للرافضة وكذب في التاريخ للكاتب وللرافضة جميعاً .
سلك الكاتب مسلك الرافضة وسارع إلى رواياتهم وأحاديثهم والرافضة أشد الناس كذباً على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أفيصدهم عنه منزلة وإن كانت بمنزلة صالح المؤمنين ؟!
معاوية رضي الله عنه خال المؤمنين وكاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم الذي دعا له فقال : " اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به " وقال : " اللهم علّم معاوية الكتاب والحساب ، وقه العذاب " أيكون ذلك جواب الله لدعاء نبيه فيه ؟! إذن لم تبق بعدُ نبوة ولا كتاب ! وذلك لعمري مقصد الطاعنين فيه .
لكن ما قول الكاتب في عمر بن عبد العزيز ؟ أتراه يتنكب في التاريخ سبيله ويقلبه على عقبيه ويأتي منه بما لم يذكره فيه كتاب قط لا سني ولا شيعي فيدعي أنه كان ظالماً ؟ لم يفعل الكاتب ، ولم يزد على الذي قالوا فيه : أن لو كان الراشدون خمسة لكان خامسهم عمر .
فليسمع الكاتب إذاً قول ابن المبارك رحمه الله حين سئل : " معاوية خيرٌ أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : ترابٌ دخل في أنف معاوية رحمه الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز " وهو عمر ! وقال : " معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم ( يعني الصحابة ) " .
واسمع أيها القاريء لقول العالم الذي قوام كلامه الحجة والبرهان ، ثم قابِل بكلامه سخف هذا الكاتب يستبن لك التاريخ وينطق على كليهما بالحق .. يقول ابن خلدون رحمه الله : " والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه - و حينئذ من بني أمية - ثم يضيف قائلاً : و إن كان لا يُظَن بمعاوية غيرُ هذا ، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ، و عدالتهم مانعة منه " فانظر قوله عن الصحابة : " فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة... إلخ " وقابلها بتخليط الكاتب في قوله إن معاوية أخذ البيعة ليزيد كرهاً ! فيوشك أن يكون الكاتب معرة التاريخ إن كانت للتاريخ معرة .
ويقول رحمه الله في موضع آخر من مقدمته : " عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ، مع أن ظنهم كان به صالحاً ، ولا يرتاب أحد في ذلك ، ولا يظن بمعاوية غيره ، فلم يكن ليعهد إليه ، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق ، حاشا لله لمعاوية من ذلك " اهـ ، ورحم الله العلم والعلماء !
نحن لا نطلب من هذا وضربائه أن يقوم على نفسه فيأخذها بما يَحسُن فإن ذلك على هؤلاء عزيز ، ولكنا نطلب إليه أن يقوم عليها فينهاها عما لا تُحسِن ، وقد قالت الحكماء : " من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب " ومن معاني العجائب أن يدير من مرت بك حاله لسانه بالسوء في أشراف القوم وساداتهم ومن لم يقم أمر الدين إلا بهم .. لكنه الجهل حين تنزل مشأمته بساحة الذين يسارعون فيه .
كان ذلك أبعد ما شط الكاتب في شأوه من مقالته ، وقد نحى في بقية كلامه هذا المنحى من الخلط العجيب من التقول على أيام الخلافة الإسلامية ، فركب الشطط ولم يتورع عن الكذب يزجي به جهله ، وحسبك من الجهل امرؤ يقول : " إن أول خلفاء بني العباس لُقب بـ ( السفاح ) من كثرة ما سفك من الدم " .. وإنما كان اسمه " السفاح " لكثرة عطاياه في الناس. جاء في لسان العرب : " ورجل سفاح : معطاء - والسفاح : لقب عبد الله بن محمد أول خليفة من بني العباس " .
قال الصولي : " وكان السفاح أسخى الناس ما وعد عدة فأخرها عن وقتها ولا قام من مجلسه حتى يقضيه وقال له عبد الله بن حسن مرة سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها قط فأمر بها فأحضرت وأمر بحملها معه إلى منزله " اهـ
وقال الذهبي رحمه الله في السير : " قال الصولي : "وكان يُضرب بجود السفاح المثل" " اهـ
فانظر هل يُؤخذ من هؤلاء علمٌ أو يُعرف منهم تاريخ ؟ فأنت ترى سبيل العلم مظلماً مستوحشاً إن سلك فيه أمثال هؤلاء ممن لا يعرفون من معاني الحياة إلا نصف جسومهم الأسفل .
ولا يضرك منه إنكاره الخلافة الإسلامية ، أو مماراته في عودتها ، فإنما هي عندنا حقٌ ، وعدة وعدنا إياها من لا ينطق عن الهوى القائل : " ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ، فلتكونن ولو تمارى فيها المتمارون وأجلب بخيلهم ورجلهم المبطلون .
فهذا ردنا على ضلالات الكاتب وما إياه أردنا ، ولا بخاصته نعبأ به ، ولكن امتثالاً لقول أحمد بن حنبل رحمه الله حين بلغه مثل قول الكاتب في معاوية رحمه الله ، فقال : " هذا قول سوء ردي ، يُجانَبون هؤلاء القوم ، ولا يُجالَسون ، ونبين أمرَهم للناس " ..
,kfdk Hlvil ggkhs ! v] ugn hgHs,hkd
المفضلات