أسباب نجاح هذه الدعوة:
ولعـل مـن أهـم أسـباب نجـاح دعـوة الشـيخ محـمـد بـن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ بعد توفيق الله عز وجل:
1ـ أنّها انطلقت من التوحيد الذي هو أساس دعوة جميع الأنبياء، ووفَّت العقيدة حقها، ونبذت كل صور الشرك والوثنية.
2ـ أنّها جسَّدت منهجَ أهلِ السنة والجماعة في أجلى صوره، وأنّها سارت على خطى المجددين السابقين وبخاصة شـيخ الإسـلام ابن تيـمية، رحمه الله تعالى. ومعلوم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ربط بين إعادة التمكين للإسلام وبين التزام هذا المنهج في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ تَكُون خِلافَة عَلَىَ مِنْهَاج النُّبُوَّةِ».
3ـ شخصـية الإمام المجدد ـ رحمه الله تعالى ـ المتميزة؛ ولعل عبقرية هذه الشخصية تكمن في إخلاص صاحبها وتجرده، وصدقه الشديد في دعوته، وغيرته الشديدة على حقائق التوحيد، وصبره على الشدائد، "ونكران الذات" فمع أنـّه الرجـل الأول فـي الدعـوة فـإنّك لا تلمس أثرًا لطغيان الـ "أنا" فكان لا يدعو إلى "نفسه" ولا يسعى لبناء مجد شخصي، وإنّما: {دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت: من الآية 33].
4 ـ إنّ الذي بقي من شخص الإمام المجدد سطور خطها يَراعُه، وطبعتها المطابع الحديثة، ومع ذلك فأنت تحس "بنَفَسِهِ" حاضرًا في سطوره النابضة بالحيوية، المشرقة بالبساطة والسلاسة، فلا تقعُّر، ولا تكلُّف، ولا تنطُّع، وحين تقرأ كلماتِهِ فإنّك تشعر أنّك لا تتعامل مع حبر وورق، ولكن مع إنسان حي يخاطب روحك، وينفذ تأثير سطوره إلى أعماق وجدانك، وكأنّ كلماته جمرات وقَّادة تنبعث منها الطاقة النورانية والحرارية فتؤزُّك أزًّا إلى التحرك ونبذ السكون، وتعمل في قلبك ما يعمله الوقود في غرفة الاشتعال داخل محرك السيارة.
إنّما التوحيد إيجاب وسلب
فهما في النفس عزم ومضاء
"لا" و "إلا" قــــــــــــوة قاهــــرة
لهما في القلب فعلُ الكهرباء
لقد صنف هذا الرجل مصنفات عظيمة البركة، كثيرة النفع على السَّنَن نفسها الذي سبقه إليه المصنفون، لكن: مَنْ قَدَرَ على أن يؤلِّفَ "أمة" ويصنفَ "رجالًا" كما فعل الرجل "الأمة"؟
5 ـ ومن أقوى أسباب نجاح الدعوة التجديدية تلك اللحظات التاريخية التي شهدت أروع تحوُّل فكري وسياسي واجتماعي في قلب الجزيرة العربية في ذلك العصر، حين التحم "التوحيد" و"الحديد"، والتقى "القرآن" و"السلطان"، واندمجت "قوة العقيدة والملة" في "قوة السلطة والدولة" مُـمَثَّلَتَيْنِ في شَخْصَيِ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود، ووقَّعا الأحرف الأولى بالتزام تأليف السِّفْر الضخم النابض بالحياة والإيمان والتقوى في صورة من أجمل مشاهد أيام الإسلام في العصور المتأخرة.
لقد كانت مرحلة تحول تاريخي يقول فيه فيليب حِتِّي في كتابه (تاريخ العرب): "إن تاريخ الجزيرة العربية الحديث يبتدئ منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري حين ظهور حركة الموحدين في الجزيرة العربية، وحين شاركت قوة الدين سلطة الحكم". أ.هـ.
خلفيات مصطلح الوهابية:
كان مصطلح "الوهابية" اصطلاحًا سياسيًا مغرضًا يرمي إلى التنفير عن الدعوة وأهلها، وكانوا يريدون بالوهابية أتباع أئمة الدعوة السلفية التي قام بها في نجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، مع أنّه وأتباعه ليس لهم مذهب خاص، بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح، والأئمة الأربعة، ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، وهم لم يختصوا بشيء يقتضي تسميتهم بالوهابية، ولم يبتدعوا جديدًا، ولأنّ القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب، وإنّما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلًا وفرعًا، ثم إنّ الوهابية على أية حال هي نسبة إلى الله تعالى الوهَّاب؛ فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل.
واقتباسًا من قول الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ:
إن كان رفْضاً حُبُّ آلِ محمدٍ
فليشهدِ الثقلانِ أني رافضي
أجاب العـلاَّمة الشـيخ مُلاَّ عمران بن رضوان مبينًا أنّه لا مُشَاحَّة في الاصطلاح، وردَّ على من يُعَيِّرون أهلَ التوحيد بوصف "الوهابية" فقال ـ رحمه الله تعالى ـ:
إن كان تابعُ أحمدٍ متوهِّبا
فأنا المُقِرُّ بأنني وهَّابي
أنفي الشريكَ عن الإلهِ فليس لي
ربٌّ سوى المتفردِ الوهَّابِ
لا رقيةٌ تُرجى ولا وثنٌ ولا
قبرٌ له سببٌ من الأسباب
أيضًا ولست مُعَلِّقًا لتَمِيمَة
أو حلقة أو وَدْعَةٍ أو نابِ
لرجاء نفعٍ أو لدفعِ بلية
اللهُ ينفعني وينفع ما بي [1]
وقد عاملهم الله بنقيض ما قصدوا من ذم الوهابية بهذا اللقب، فصار هذا الاسم الآن عَلَمًا على متبعي الكتاب والسنة، والتمسك بالدليل، ومذهب السلف، ومحاربة البدع والخرافات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي هذا يقول الشيخ عبد الرحمن سليمان الرويشد: "لم يكن إطلاق كلمة (الوهابية) التي يراد بها التعريف بأصحاب الفكرة السلفية شائع الاستعمال في وسط السلفيين أنفسهم، بل كان أكثرهم يتهيب إطلاقه على الفكرة السلفية.
وقد يتورع الكثيرون من نعت القائمين بها بذلك الوصف، باعتباره وصفًا عدوانيًا كان يُقصد به بلبلة الأفكار والتشويه، وإطلاق المزيد من الضباب لعرقلة مسيرة الدعوة، وحجب الرؤية عن حقائق أهدافها.
وبمرور الزمن، وإصابة محاولات التضليل بالعجز عن أداء دورها الهدام، تحوَّل ذلك اللقب بصورة تدريجية إلى مجرد لقب لا يحمل أيَّ طابَعٍِ للإحساس باستفزاز المشاعر، أو أي معنى من معاني الإساءة، وصار مجرد تعريف مميِّز لأصحاب الفكرة السلفية، وماهية الدعوة التي بشر بها الشيخ الإمام محمد بـن عبد الوهاب، وأصبح هذا اللقب شائعًا ورائجًا بين الكُتَّاب والمؤرخين، الشرقيين والغربيين على حد سواء.
ومـن ثـم فليس هـناك ما يسـوِّغ هجر استعمال تلك الكلمة، كتعريف شائع، أو تعبير يُستخدم في إطاره الصحيح للرمز إلى المضمون الفكري المقصود: وهو التمسك بالكتاب والسنة، ومحاربة مظاهر الشرك والبدع، وما زُجَّ به في العقيدة السلفية، وأُدخِلَ عليها من انحراف، مع ضرورة العيش في ظل قيادة إسلامية عادلة تُحكِّم الشريعة، وتلتزم تطبيق منهجها عملًا، وتحمل الرعية على امتثال ذلك بأسلوبي الترغيب والترهيب". [2] أ.هـ.
لقد واجهت الدعوة التجديدية الوهابية أخطارًا عديدة، ولكن أخطر ما واجهته سلاح الدعاية والإعلام الكاذب، المتمثل في الكتابات والنشرات التي هاجمت الوهابية هجومًا ظالمًا غاشمًا قفزت فيه على كل المعايير الإسلامية والأخلاقية، فضلًا عن الأمانة العلمية.
ومـن سـوء حـظ أعـداء الدعوة السلفية الوهابية أنّ الله ـ سبحانـه وتعالى ـ كما بـارك في علم ودعوة شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ بارك في أبنائه وذريته وتلامذته، فبرز منهم علماء ربانيون أفذاذ استعملهم الله تعالى في الذب عن دعوة التوحيد بكل كفاءة واقتدار جيلًا بعد جيل، فصنفوا الكتب [3] للرد على الدعايات المغرضة بأسلوب علمي رصين يحيلها هباءً منثورًا، وهذه الخاصية العظيمة جعلت المؤرخ التركي "جودت باشا" ـ مع كونه خصمًا من خصوم الدعوة السلفية ـ يقر ويعترف بضعف وضحالة حجة كل من صـنفوا ضد الوهابية مقارنة بكتابات علمائها الراسخين،فقال: "إنّ الرد على الوهابية يستوجب ثقافة واسعة، ومعرفة بأحوال البلاد العربية الدينية والاجتماعية والسياسية، ووقوفًا على علوم الدين، واطلاعًا واسعًا على الحركات الفلسفية، ومقدرة على الجدل والإقناع.. وكل ذلك مفقود عند العلماء الذين ردوا على الوهابية، وكل ردودهم مشحونة بالسخف والهراء.. وإنّهم يقدمون بأيديهم وسيلة للسخرية منهم ومن ردودهم..". [4] أ.هـ.
خطأ تاريخي حول الوهابية يجب تصحيحه:
لقد بلغ التدليس ببعض المشنعين إلى حد أنّهم نسبوا الوهابية إلى دعوة خارجية إباضية في شمال أفريقية دُفن خبرها في سجل التاريخ، وكانت قد نشأت في القرن الثاني الـهجري، وعرفت باسم "الوهابية" نسبة إلى عبـد الوهاب ابـن عبد الرحمن بن رستم الخارجي الإباضي، الذي عطل الشرائع الإسلامية، وألغى الحج، وحصل بينه وبين معارضيه حروب، وقد توفي سنة (190هـ) أو (197هـ) بمدينة تاهرت بالشمال الأفريقي، وكان الونشريسي المتوفى في (914هـ) بفاس بالمغرب قد ذكر في كتابه (المعيار) (11/168) أنّ اللخمي (ت 478هـ) سئل عن أهل بلد بنى عندهم الوهابيون مسجدًا، ما حكم الصلاة فيه؟
فأجاب: "هذه فرقة خارجية ضالة كافرة، قطع الله دابرها من الأرض، يجب هدم المسجد، وإبعادهم عن ديار المسلمين". [5] أ.هـ.
فطـار المدلِّـسون بـهــذا فــرحـًـا، ونــشـروا تـلك الفتوى ونظـائـرهـا، مـع أن بـين وفـاة شـيخ الإسلام محمد بن عـبـد الوهـاب (ت 1206هـ) رحمه الله تعالى، وبين وفاة عبد الوهاب بن رستم أكثر من ألف سنة، وبينه وبين اللخمي (728) سنة، وبينه وبين الونشريسي (292) سنة، ومع ذلك طوعت لهم أنفسهم أن يشنِّعوا على دعوة شيخ الإسلام بهذا الأسلوب الظالم [6].
لقد تركت الحملات الإعلامية المناهضة أثرًا لا يُستهان به في العامة والخاصة، وشكَّلت موقفهم العدائي المتعجل من الشيخ ودعوته، في وقت كان خصومه يملكون الآلة الإعلامية الفعالة، والآلة العسكرية القتَّالة، وكان مجرد التلويح بتهمة "الوهابية" كافيًا في قمع من يُشَم منه رائحة السلفية، لا في البلاد العربية وحدها، بل في سائر أرجاء العالم الإسلامي.
ولْنضرِبْ الهند مثالًا:
فهذا ملك العلماء، وعالم الملوك، العلاَّمة السيد صِدِّيق حسن القنوجي البخاري (ت 1307هـ) بقي في الحكم أربع عشرة سنة ملأها عدلًا ونورًا وعلمًا، ثم عُزل بسب الوشاة والنمامين من أعداء السنة والتوحيد، واتُّهم لدى الحكومة الإنجليزية المستعمِرة بأنّه يحرِّض النّاس على الجهاد، وينشر المذهب الوهابي [7].
وهذا الإمام السيد نذير حسين بن جواد علي بن السيد أحمد شاه الدِّهْلَوي (ت1320هـ 1902م عن مائة سنة) مجدد السنة النبوية في القارة الهندية، والملقب بشيخ الكل، وهو شيخ السهسواني صاحب (صيانة الإنسان) عُذِّب كثيرًا في سبيل نشر التوحيد، والدعوة إلى السنة النبوية، فسُجن في روالبندي سنة 1864م بتهمة الوهابية، وبقي في السجن مدة سنة كاملة، وسافر إلى الحج سنة 1300هـ، فسعى النمامون إلى الباشا في مكة المكرمة، فاتهمه أعداء التوحيد بأنّه وهابي، ومعتزلي، ويبيح شحم الخنزير، ونكاح العمة والخالة، وقدَّموا إليه رسالة باسم: (جامع الشواهد في إخراج الوهابيين من المساجد)، ولكن الباشا لما علم بحقيقة الحال أكرمه أيَّما تكريم، ورجع الأعداء خائبين [8].
وبلغ الاضطهاد والقهر أنّ كل من كان يرفع يديه في الصلاة من الهنود أو جَهَر بآمين يتعرض لأشد أنواع الأذى لأنّه "وهابي" [9].
المفضلات