خلق الله عباده، وسخَّر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليهم نِعَمه ظاهرةً وباطنة، ليُفرِدوه -سبحانه- بالعبادة، والشيطان يسعى لإفساد فِطَر الخلق؛ ليحرم العبادَ من رضا ربهم عنهم، ومن النعيم المُقيم المُعَدّ لهم في جنّات عدن، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (قال الله -عزّ وجل-: إني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالَتْهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا)[1].
ولئلا يقع العباد في شَرَك الشيطان ويُسخِطوا ربهم ويُخلَّدوا في النار أرسل الله لكل أمةٍ رسولًا يُحذِّرهم من دعوة الشيطان، ويأمرهم بعبادة الرحمن، وأنزل الكتب، ودعا إليه في أكثر آيات القرآن، وجميع ما في القرآن دالٌّ عليه، وأول أمرٍ في كتاب الله هو الأمر به، قال -جلّ وعلا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة: 21]؛ أي: وحِّدوا ربكم، وأول نهيٍ يتلوه قارئُ القرآن هو النهي عن ضِدِّه، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
وأعظم سورةٍ في كتاب الله ما اشتملت على التوحيد "سورة الإخلاص"، وأعظم آيةٍ في كتاب الله ما اشتملت على وحدانيته "آية الكرسي"،ومَكَثَ النبي -صلّى الله عليه وسّلم- بعد بعثته يدعو إلى توحيد الله عشر سنين لا يدعو إلى شيءٍ سواه، ثم تتابَعَت عليه الشرائع، فكان يدعو إليها مع التوحيد إلى مماته.
وكان يأمر أصحابه أن يُبايعوه على عبادة الله وحده، وهو من حق الله على العباد، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟)، قال: الله ورسوله أعلم، قال: (حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا)[2]، ويُقرِّب العبدَ من الجنّة ويُباعده من النّار.
ولا سعادة في الدّنيا والآخرة إلا به، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (قولوا: لا إله إلا الله تُفلِحوا)[3].
ومن كانت خاتِمته عليه دخل الجنّة، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (من كان آخرَ كلامه: لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنّة)[4].
ومن مات عليه دخل الجنّة ونجا من النّار، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (من لقِيَ الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنّة، ومن لقِيَه يُشرك به دخل النّار)[5].
وأعمال المُوحِّدين تتفاضلُ بتفاضُل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وأعزُّ ما يملك المسلم هو توحيده لربه، وأهم ما عليه حِفاظه عليه من البُطلان أو القوادح أو النواقص الواردة عليه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "التوحيد ألطف شيءٍ وأنزهُه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيءٍ يخدِشُه ويُدنِّسُه ويُؤثِّر فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يُؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصّافية جدًّا أدنى شيءٍ يُؤثِّر فيها".
والله -عزّ وجل- أوحي إلى رسله إن وقع منهم شركٌ حبِطَت أعمالهم؛ فكيف بغيرهم؟ قال -جلّ شأنُه-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، ولذا خاف الخليل -عليه السّلام- من الشّرك، فدعا ربه وهو يبني الكعبة: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وإذا كان الخليل -عليه السّلام- يخشى من الشّرك فغيره أولى.
وتعليم الأبناء أصل دينهم وسؤالهم الدائم عنه هو نهج الرسل، يعقوب -عليه السّلام- وهو في نزع الروح يسأل أبناءه عن توحيدهم {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، ونبينا محمد -صلّى الله عليه وسلم- يسأل جاريةً صغيرةً: (أين الله؟) قالت: في السماء[6].
ومُدارسة كتب الاعتقاد السلمية، ومُلازمة حِلَق أهل العلم من أسباب الثبات على الدين، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (تركت فيكم ما إن تمسكتُم به لن تضِلُّوا: كتاب الله وسنتي)[7]، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "أهم ما عليك: معرفة التوحيد قبل معرفة العبادات كلها حتى الصّلاة".
والدعاء على الثبات على الدين سبيلُ الأنبياء، قال يوسف -عليه السّلام-: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. [يوسف: 101]، وتعظيم توحيد الخالق وإدراك أهميته والبُعد عن الشبهات من أسباب الهدى.
التوحيد أعظم ما تزكو به النفوس، ولا يتحقَّق إلا بالكفر بجميع ما يُعبد من دون الله، وهو معنى الشهادة، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعبَد من دون الله حرُمَ ماله ودمُه وحِسابه على الله)[8].
ومن حقَّق التوحيد فُرِّجَت كُروبه، ونال رضا ربه، وقُبِلت أعماله، وضُوعِفَت أجوره، وكانت حياتُه طيبة، وغُفِرت ذنوبه، ودخل الجنّة بلا حسابٍ ولا عذابٍ، ولا نعمة أعظم من نعمة الدين والثبات عليه.
للشيخ: عبد المحسن القاسم -حفظه الله-
(بتصرف)
[1] رواه مسلم.
[2] متفق عليه.
[3] رواه أحمد.
[4] رواه مسلم.
[5] رواه مسلم.
[6] رواه مسلم.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه مسلم.
Hu/l lh j.;, fi hgkt,s
المفضلات