قيمة العقل في الإسلام !
يقول تعالى في أول سورة الحجر:( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) وفي أول سورة يوسف:( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:1و2)، والمبين هو الذي يبينُ الحق من الباطل والحلال من الحرام، وهو معجزةٌ عقليةٌ إلى يوم الدين، ويتبع الحق سبحانه وتعالى ذلك البيان بالحضِّ على التعقل، وعبارة "..لعلكم تعقلون" تجيءُ في القرآن الكريم 5 مرات، وتجيءُ "أفلا تعقلون..." 12 مرة، وتجيءُ "..لقوم يعقلون" 7 مرات، إذن فالإسلامُ دينٌ يدعو إلى العقل والتعقل من أجل أن نكونَ جديرين بالكتاب المبين الذي أنزله المولى سبحانه وتعالى بلسانٍ عربي مبين، والإسلام دين يدعو إلى الفكر والتفكر.. فتجيءُ عبارةُ"... لعلكم تتفكرون" مرتان و"..لعلهم يتفكرون" ثلاث مرات وتجيءُ "لقوم يتفكرون...." سبع مرات، كيف يستقيمُ هذا الكلام مع حال العقول المسلمة اليوم؟؟؟؟ وهل يستقيمُ الإيمان بهذا الكلام الداعي إلى التعقل والتفكر مع عقولٍ ونفوس تستسهل أحاديث الخَرَّافة وتحبذُ القعود عن البحث أو استيراد العلم؟؟، وكيف يكونَ التعقلُ والتفكرُ أوامرَ إلهية واضحة يؤمنُ بها الناس وهم لا يؤمنون؟
أعلم أن الإسلام هو دين العقل، وهو الدين الذي حارب الخرافة والأساطير، ودعا صراحةً إلى طلب العلم والمعرفة، وأعلم أن العقلانية الإسلامية المؤمنة جعلت من المنهاج الإسلامي ومن النموذج المعرفي الإسلامي ثورة على الجمود والتقليد، كما جعلت من البرهان سبيلا للإيمان بدلا من الظنون.. وأعلم أن الحضارة الإسلامية قامت على أكتاف جمهور ضخم من علمائها انطلقوا من آيات القرآن ومن الأحاديث النبوية الشريفة يطلبون العلم بكل طريقة وفي كل صوب، ولم يستشعروا قط اهتزاز العقيدة وهم ينفتحون على مختلف نواحي المعرفة (العلوم الطبيعية والأدبية) سواء فيما يتعلق بإنتاجهم المعرفي الذاتي أو بالنقل عن معارف الحضارات الأخرى غير الإسلامية؛
فقد أسس فقهاؤنا وأطباؤنا لمبادئ التفكير العلمي المؤمن ، ولذلك كان من المقتضيات المنطقية أن الإسلام دين العقل ودين العلم لأنه يتفق مع ما يقود العقلُ والعلم إليه، وفي نفس الوقت هو الدين الذي حذر من إتباع الظن، وجعل البرهان والحجة أساس الإيمان:(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148)
كان للشاعر المسلم محمد إقبال رأي أورده في كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" مؤداهُ أن محمدًا عليه الصلاة والسلام، كان لابد أن يكونَ خاتم الأنبياء لأنه جاء برسالةٍ تدعو إلى تحكيم العقل فيما يعرضُ للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليك من أحكام،
أعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء بمعجزةٍ عقلية لا حسية مباشرة هي القرآن الكريم، وأعلم أن العقل هو شرط وأساس التكليف، وأن العقل وكيل الله عند الإنسان كما يقول الجاحظ.،
وأعلم كذلك أن مثال العقل: البصر السليم ، ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق أن يكون طالب الاهتداء إذا استغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل، مكتفيا بنور القرآن، مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور» كما يقول الغزالي في إحياء علوم الدين.
ويقول الدكتور محمد عمارة : ((فالشرع هو الدين جعل العقل مناط التكليف، أي جوهر إنسانية الإنسان.. والقرآن ـ وهو المعجز ـ لم يأت ليدهش العقل، فيشله عن التفكير ـ كحال المعجزات المادية ـ وإنما جاء ـ القرآن ـ معجزة عقلية، تحتكم إلى العقل في فهمه وتدبيره أو استنباط الأحكام من نصوصه، والتمييز بين المحكم والمتشابه في آياته.. بل لقد جعل القرآن من البراهين العقلية السبيل للبرهنة على وجود الخالق، وعلى الخلق في هذا الوجود.. فالمنهاج القرآني يقدم الإيمان بوجود الخالق الواحد على الإيمان بالنقل وبالرسالة التي حملت إلى الناس هذا النقل، وذلك لأن الإيمان بصدق النقل متوقف على الإيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم متوقف على الإيمان بوجود من أرسل هذا الرسول، فلا بد من الإيمان أولا بوجود الخالق، الذي بعث الرسول، وأنزل عليه الكتاب.. وطريق ذلك هو العقل، الذي يتدبر المصنوعات فيؤمن بالصانع القدير لهذه المصنوعات.. فربنا عرفوه بالعقل.. كما يقول الناس أجمعون..)).
برغم كل ذلك كان مما ابتليت به أمتنا طوال قرونٍ طويلة مع الأسف، أن تبني المنهج الإسلامي لأصول التفكير العقلي المنطقي ووضعه لأسس التفكير العلمي ، كل ذلك لم يتحول إلى ظاهرة عامة أو حتى شبه عامةٍ تؤثرُ في حياة الناس، وبرغم دعوة الإسلام الصريحة إلى طلب العلم والمعرفة من كل مسلمٍ وكل مسلمة، فإن طريق استقراء العلم الكوني في عالم الموجودات أو عالم الشهادة باستخدام الحواس والمنطق، ظلت حكرا على المشتغلين بالعلوم الدنيوية وعلوم الفقه والكلام والتفسير، إذن فقد ظلت الطريقة العقلية في التفكير مقصورةً على البعض، ولذلك أسبابٌ يصعبُ فهمها.
وقد يكونُ السببُ ببساطة هو أن معنى العقل نفسه مختلف عليه، ولذلك ظل عامة الناس على حالهم في معظم الأوقات والأحيان، وظل الاستعداد للإيمان بالخرافة وهو شيءٌ من طبيعة البشر، شائعا بينهم رغم أن الإسلام جاء ليحاربه، إلا أن معنى العقل الذي يأمرُ به القرآن صراحةً مختلف عليه فيما بينهم، ولذلك فإن من اللازم أن نحددَ معنى العقل كما نقصدهُ في هذا المقال ونستشهدُ بالجاحظ (في رسالة المعاش والمعاد) وهو يصف الحكيم بأنه هو من "يحسنُ الخطوَ إلى الهدف الذي يبتغيه، ويبينُ أسباب الأمور ويمهدُ لعواقبها، فإنما حُمِدتِ العلماءُ بحسن التثبتِ في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيءُ به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهرُ من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون"؛
فالعقل هنا يشير إلى حركةٍ استدلالية من شاهدٍ إلى مشهودٍ عليه، ومن دليلٍ إلى مدلولٍ عليه، ومن مقدمةٍ إلى نتيجةٍ تترتبُ عليها، أو من وسيلةٍ إلى غايةٍ تؤدي إليها تلك الوسيلةُ، وأهم كلمةٍ في هذا التحديد، كما يقول زكي نجيب محمود: {هي كلمةُ "حركة"، فإذا لم يكنْ انتقالٌ من خطوةٍ إلى خطوةٍ تتبعها فلا عقل، إذا أدركت شيئا دونَ أن تنتقلَ من هذه الحالة الإدراكية إلى حالةٍ أخرى تليها وتتوقفُ عليها فلا عقل، إذا حملقتُ ببصري في ثمرةٍ صفراءَ فلا أجاوز منها إلا أنها شيءٌ أصفر، فلا عقل، وإنما يكونُ العقلُ إذا انتقلتُ من رؤية تلك الكرةِ الصفراء إلى العلم بأنها شيءٌ يؤكل، إذا جاءني أحد بنبأٍ، فصدقته إيمانا، ووقفتُ منه عند هذا الحدِّ فلا عقلَ، إنما يكونُ العقلُ حينَ أنتقلُ من ذلك المسموعِ إلى ما يؤيدُهُ أو ينفيه}
فهل هذا المعنى هو المعنى الشائع للعقل في تراثنا؟ للأسف لا !!، فرغم أن النظر بالعقل كانَ أوضح وأبرزَ ما ميزَ حضارة المسلمين، فهم أول من بنوا حضارتهم على أساس النظرة العقلية للوجود وللأشياء، إلا أن الفتن المتتالية التي ابتليت بها الأمة منذ حادثة التحكيم بين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، وبين معاوية ابن أبي سفيان، تلك الفتنة التي أفرزت الفرق الإسلامية، وأفرزت معها متكلميها من الفقهاء، والذين انشغلوا كثيرا في الجدل، إضافة إلى فترات الضعف المتتالية وما سبقها أو تلاها من فتن، كل ذلك جعل الهجوم على كلٍّ من العقل والنقل وقودًا لإنهاك المفكرين أنفسهم في الحجج والبراهين العقلية واللا عقلية من أجل الدوران في حلقاتٍ لا تقود إلى شيء؛
حتى وجد تراثنا من حملوا على العقل واتخذوه عدوا، حتى أن الحافظ العراقي يقول في نهاية تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين التي ورد فيها لفظ العقل: "ولم يصح في فضل العقل شيء"، ويُتهم ذلك الوضع الثقافي المبكر، والذي تذبذبَ لفترةٍ بين إعلاءٍ لقيمة العقل وخفضٍ لها، ثم استمرَّ (الوضع) منذ سقوط بغداد الأول، بأنه كان أحد أسباب انصراف عامة الناس عن تمثل النموذج المعرفي الإسلامي وهو نموذج "اعقلها وتوكل" في حياتهم، وأصبح الاستعداد لتصديق الخرافة بين الناس في مجتمعاتنا أمرًا يحقُّ معه أن نقول أنهم يؤمنونَ بأوامر الله الواضحة وهم لا يؤمنون.
منقول بتصرفrdlm hgurg td hgYsghl !
المفضلات