جزاك الله خيراً اخى الحبيب ثناء اكبر مما استحق ...
السؤال الثانى : اذا حال تطبيق الشريعه التى تنادون بها ستطبقون الحدود فتقطعون الايدى و ترجمون الناس حتى الموت و يجلد كل من خالف شريعتكم ؟!
ليس التشريع في الإسلام محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور بعض الناس أو يصوّرون. إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني و إداري، ودستوري ودولي …… إلخ إلى جانب أنه قانون ديني. ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والعاملات، والأنكحة والمواريث، والأقضية والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والسف والآداب، فهو ينظم حياة الإنسان من أدب قضا ء الحاجة للفرد إلى إقامة الخلافة والإمامة العظمى للأمة. إن الحدود هي السياج، وهى الإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال.
والحدود - كما شرعها الإسلام - ليست بالبشاعة التي يتصورها بعض الناس أو يصورها المبشرون والمستشرقون.
إن الغربيين يستبشعون هذه العقوبات لسببين ذكرهما العلامة المودودي في حديثه عن حد الزنا في كتابه (الحجاب)، قال رحمه الله: (إن الضمير الغربي يشمئز من عقوبة الجلدات المئة. والسبب في ذلك لا يرجع إلى كونه لا يحب إيذاء الإنسان في جسده. بل السبب الحقيقي أنه لم تكتمل بعد نشأة شعوره الخلقي، فهو بينما كان يعد الزنا من قبل عيباً وهجنة إذ به الآن لا يعتبره إلا لعباً وسلوة، يعلل به شخصان نفسيهما ساعة من الزمن! فهو يريد لذلك أن يسامح في هذا الفعل ولا يحاسب عليه، إلا إذا أخل الزنا بحرية رجل آخر أو بحق من حقوقه القانونية. وحتى عند حصول هذا الإخلال لا يكون الزنا عنده إلا من صغار الجرائم التي لا تتأثر بها إلا حقوق شخص واحد، فيكفى المعاقبة عليه بعقاب خفيف أو تغريم ! ) وبديهي أنه من كان هذا تصوره للزنا لا بد أن يرى حد المئة جلدة عقوبة ظالمة لهذا الفعل. ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقي والاجتماعي وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو بالإكراه، وكان بامرأة متزوجة أو باكرة، جريمة اجتماعية في كل حال تعود مضارها على المجتمع بأسره، فإنه لا بد أن تتبدل نظرته في باب العقوبة، ويعترف بوجوب صون المجتمع من تلك المضار، وبما أن العوامل المحركة للمرء على الزنا متأصلة جدا في جبلته الحيوانية، وليس من الممكن قلع شأفتها بمجرد عقوبات الحبس والغرم، فلا مندوحة لقمعه من استخدام التدابير الشديدة. ومما لا شك فيه أن وقاية ملايين من الناس مما لا يحصى من المضار الحفيّة والعمرانية بإيذاء شخص أو شخصين إيذاءً شديداً خير من دفع الأذى عن الجناة، وتعريض الأمة كلها لمضار لا تنحصر فيها، بل تتوارثها أجيالها القادمة أيضاً بلا ذنب لها.
وهناك سبب آخر لاعتبارهم حد المئة جلدة من العقوبات الظالمة، يفطن به المرء بسهولة إذا أنعم نظره في أسس الحضارة الغربية. وذلك أن حضارة الغرب - كما أسلفنا- قد قامت على إعانة ( الفرد ) على ( الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مغلو فيه للحقوق الفردية. لذلك مهما كان من ظلم الفرد واعتدائه على الجموع، فلا ينكره أهل الغرب، بل يحتملونه غالباً بطيبة نفس، ولكنه كلما امتدت إلى الفرد يد القانون حفظاً لحقوق الجماعة، اقشعرت منه جلودهم خوفاً وفزعاً، وأصبح كل نصحهم وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة.
ثم إن ميزة أبناء الجاهلية الغربية - كأهل الجاهلية في كل زمان - أنهم يهتمون بالمحسوسات أكثر من اهتمامهم بالمعقولات. ولهذا يستفظعون الضر الذي ينال الفرد لكونه ماثلاً أمام أعينهم بصورة مرئية. ولكنهم لا يدركون خطورة الضرر العظيم الذي يلحق المجتمع وأجياله القادمة جميعاً، على نطاق واسع، لأنهم يكادون لا يحسون به لسعته وعمق آثاره .
وأود أن أذكر هنا: أن الإسلام يشدد في إثبات الجريمة تشديداً غير عادي، وخصوصاً في جريمة الزنا، وهي لم تثبت في عهد النبوة والراشدين إلا بالإقرار، كما أنه يفتح الباب للتوبة، فمن صدقت توبتة سقط عنه الحد على الرأي الراجح. وسقوط الحد لا يعنى إسقاط العقوبة بالكلية، فقد ينتقل إلى التعزير المناسب.
كما أود أن ألفت النظر هنا إلى حقيقة مهمة في أمر الحدود، وهو: أن الإسلام لا يركض وراء إقامة الحد، ولا يتشوف إلى تنفيذ العقوبة، فيمن اقترف ما يستحقها، ولا يضع أجهزة للتصنت على العصاة، أو ينصب لهم (كاميرات) خفية تصورهم حين ارتكاب جرائمهم، ولا يسلط الشرطة الجنائية أو (المباحثية) تتجسس على الناس المخالفين للشرع حتى تقبض عليهم متلبسين. بل نجد توجيهات الإسلام هنا حاسمة كل الحسم في صيانة حرمات الناس الخاصة، وتحريم التجسس عليهم، وتتبع عوراتهم، لا من قبل الأفراد، ولا من قبل السلطات الحاكمة. روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عمر بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه ( أي يقصدونه ) حتى إذا دنوا منه، إذا باب مجاف ( أي مغلق ) على قوم، لهم فيه أصوات مرتفعة، فقال عمر - وأخذ بيد عبد لرحمن-: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب ( أي يشربون الخمر ) فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه: نهانا الله عز وجل، فقال: ( ولا تجسسوا) ، فقد تحسسنا ! فانصرف عمر عنهم وتركهم ).
وروى أبو داود والحاكم أيضاً عن زيد بن وهب، قال: أتى رجل ابن مسعود، فقال: هل لك في الوليد بن عقبة، ولحيته تقطر خمراًٍ ؟! فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهانا من التجسس، إن يطهر لنا نأخذه. وروي أيضاً عن أربعة من الصحابة: جبير بن نفير، وكثير بن مرة، والمقدام بن معديكرب، وأبي أمامة الباهلي - رضي الله عنهم - عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم). بل نرى التعاليم النبوية الصريحة ترغب أبلغ الترغيب في ستر المسلم على نفسه، وعلى غيره.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن أقام الحد على ماعز الأسلمي، قام فقال: (اجتنبوا هذه القاذورة،التي نهى الله عنها، فمن ألمّ ( أي تورط في شيء منها) فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا منفعه ( أي يكشف عن جريمته ) نقم عليه كتاب الله) يعني: حكم الله. وكان الرسول عليه الصلاة و السلام قد أقام الحد على ماعز، بعد أن جاء إليه أربع مرات مقراً بجريمته، وبعد أن حاول النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبعد عنه التهمة، ويلقنه ما يدل على عدم استيفاء أركان الجريمة، ولكنه أمر. ومثله المرأة الغامدية. وقد جاء عن أبى بردة عن أبيه قال: كنا أصحاب محمد نتحدث لو أن ماعزاً وهذه المرأة، لم يجيئا في الرابعة، لم يطلبهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال لهزال - الذي دفع ماعزاً للاعتراف عند النبي (صلى الله عليه وسلم): لو سترته لكان خيراً لك). وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة). وعنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) . فإذا كان الحديث السابق في مثوبة ستر عورة المسلم، فهذا الحديث عام في ستر الإنسان على الإنسان: ستر أي عبد من عباد الله على آخر. وعن كثير مولى عقبة بن عامر: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها). وكذلك نجد التوجيهات الإسلامية صريحة في التحريض على العفو والصفح فيما كان من الحدود متعلقاً بحقوق العباد، مثل السرقة، بشرط ألا تصل إلى سلطة القضاء. فهناك لا مجال لعفو ولا شفاعة. وفي هذا جاء حديث عبد الله بن عمر: ( تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب).
وقال ابن مسعود: ( إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى بسارق، فأمر بقطعه، وكأنما أسف وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ( أي بدا عليه الأسى) فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ قال: ( وما يمنعني؟ لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم! إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو: ( وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم). وكان الرجل يأتي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فيعترف بأنه أتى ما يوجب الحد، فلا يسأله عن هذا الحد: ما هو؟ وكيف اقترفه؟ بل يعتبر اعترافه هذا - الذي قد يعرضه للعقوبة - توبة من ذنبه، وندماً على ما فرط منه، فهو كفارة له. ولا سيما إذا أقام الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقد روى أبو داود في باب ( في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) عن أبي أمامة: أن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي. قال : ( توضأت حين أقبلت ) ؟ قال: نعم. قال: ( هل صليت معنا حين صلينا ) ؟ قال: نعم. قال : ( اذهب، فإن الله تعالى قد عفا عنك ). ومن ثم ذهب من ذهب من علماء السلف إلى أن من حق الإمام أو القاضي أن يسقط الحد بالتوبة إذا ظهرت أماراتها، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية والمحقق ابن القيم. وهو ما أختاره حين (نقنن) عقوبات الحدود في عصرنا.
إن مما يلحق بما ذكرناه من حرص الإسلام على الستر والعفو في قضايا الحدود: ما أصبح معروفا في الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه المتبوعة، وهو: درء الحدود بالشبهات. وقد جاء في ذلك حديث رواه الحاكم وصححه يقول: (ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ بالعقوبة). نعم إن الحافظ الذهبي اعترض على تصحيح الحاكم للحديث، ولكن الأحاديث التي سقناها من قبل تشد عضده. وكذلك ما صح عن الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه من قوله: ( ادرأوا الحدود بالشبهات). وما ثبت من فعله. من إيقاف حد السرقة عام المجاعة، لوجود شبهة الحاجة، وموافقة الصحابة - وفيهم الفقهاء وأهل العلم والفتوى - له في ذلك، ومثل هذا يعتبر نوعاً من الإجماع. فإنهم لا يسكتون جميعاً على باطل، ولا يجمعون على ضلالة. ولا يعتبر هذا إسقاطاً للحد كما يذكر بعض الكاتبين، بل إن الحد لم يجب أصلاً ! لعدم استفاء كل أركانه وشروطه.
ومثل ذلك: ما روى من عدم إقامته الحد على الغلامين اللذين سرقا من سيدهما؛ لأنه رأى أنهما لم يسرقا إلا لظلم السيد لهما، وعدم إعطائهما ما يكفيهما من الحاجات اللازمة لها. ولا عجب أن سامحهما مقدراً ظروفهما، ثم وجه تهديده إلى مخدومهما بأنه سيقطع يده هو، إذا اضطرا إلى السرقة مرة أخرى ! ومن قرأ كتب الفقه وجد فيه أشياء كثيرة ذكرها الفقهاء باعتبارها شبهات تمنع إقامة الحد. وبعضها يعتبر ضرباً من التمحل أو الادعاء، ولكنهم رأوا أن أدنى شك يفسر لصالح المتهم.
خلاصة ما سبق انه يجب تطهير المجتمع من أسباب الإغراء والفتنة فكما بين القرآن الكريم أنه قطع السبيل على اسباب الزنا و ليس الزنا نفسه فقال ( ولا تقربوا الزنا ..)، وسد الذرائع إلى الفساد. وأهم من ذلك كله الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء، ومخاطبة المجتمع كله بذلك، باعتباره مسؤولاً مسؤولية تضامنية: ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم ). ومسؤولية المجتمع هنا -وعلى رأسه الحكام - تتمثل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سد أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق المادية والاجتماعيه أمام راغبي الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهداايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتصل بذلك من شؤون، ومساعدتهم- مادياً وأدبياً - على تكوين بيوت مسلمة. فليست إقامة الحد إذن هي التي تحل المشكلة، والواقع أن الحد هنا لا يمكن أن يقام بشروطه الشرعية إلا في حالة الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرات، على ما يراه عدد من الأئمة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك. فكأن القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة. أما من ابتلى بها مستتراً فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيوي وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.
يتبع بأذن الله تعالى ...
المفضلات