هل تعرضت لمثل هذا؟
كان يظنُّ نفسَه أشقى الخَلق، فالمصائب لا تعرف سواه،
وكأنَّها ليس لها شأنٌ بغيره، وكان يستعظم كلَّ هينة ويقول دائمًا:
أمَا آن لهذا الليلِ أن ينجلي؟! يقول: حتى علمتُ ما حدث لسيِّد الخلقِ
- صلَّى الله عليه وسلَّم - فعلمتُ أنه لَم يُصبْني شيءٌ!
دعني أفتح لك صفحةً مشرقةً من الابتلاءات العظيمةِ
لرجلٍ عظيمٍ، تكالبَتْ عليه المُدمِعاتُ فما زادته إلا إيمانًا وتسليمًا،
ورضًا ويقينًا، إنَّه حبيبي وحبيبُك وحبيب كلِّ مسلمٍ، الذي
لنا فيه أسوةٌ حسنة، فماذا كان من أمرِه؟!
ها هو بأبي وأمِّي يُولَدُ يتيمَ الأبِ،
ثم تموتُ أمُّه أمام عينيه وهو في سنِّ السادسةِ؛
سنِّ الإدراك، ثم يموت جدُّه الذي كان يَعوله، ثم يموت
عمُّه الذي كان يحوطُه ويغضبُ له، ثم يأوي إلى زوجتِه خديجةَ
بنتِ خويلد - رضي الله عنها - التي جمعَتْ له عطفَ الوالدِ، وسكَنَ الأمِّ،
والمعين والمحفِّز، فكانت بَلسمًا لرُوحِه، ودواءً لجروحِه، ليكمل بفقدِها
بقيَّة تلك المصائبِ، فتودِّعُه راحلةً إلى ربِّها في وقتٍ هو أحوجُ ما
يكون إليها، حيث كان محاصَرًا في الشِّعب.
ولسان حالِه يقول:
وَبَاتَ يُرِينِي الْخَطْبُ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ *** وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُونُ
وبعد مصائبِ الحصارِ والوفاة تأتي مصائبُ
الأذى النَّفسيِّ من النَّاسِ، فبعد أن كانوا يسمُّونه
الصادقَ الأمينَ، يُلصقون به التُّهمَ الباطلةَ؛ فيقولون:
الكذَّاب، المجنون، الشَّاعر، الساحر، ويسخرون منه
لدرجةِ أنهم غيَّروا اسمَه فكانوا ينادونه "مُذَمَّمًا"، وذلك
بقلبِ اسمِه الشريف "محمَّد"، وكان الصحابةُ يتوجَّعون
من هذا، فيقابلُ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا
التَّحطيمَ وتلك السُّخريةَ بتفاؤلٍ جمٍّ، فيقولُ
لأصحابِه رائيًا لنعمةِ الله عليه:
((ألا ترون كيف يصرف اللهُ عني ذمَّهم؟! يسبُّون مذمَّمًا، وأنا محمَّدٌ!)).
ولَم تقفِ المصائبُ التي ابتُلِيَ بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على
موتِ الأصول؛ بل ما زالَت مصائبُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تفجَعُه في
فِلْذاتِ كبدِه من أبناء وبناتٍ، فقد كان له ستَّة أولادٍ من بنين وبنات، وقد
ماتوا جميعًا في حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولَم يبقَ منهم إلا بنتٌ
واحدةٌ، هي الزَّهراءُ فاطمة، أمُّ السِّبْطين - رضي الله عنها - وقد
ماتت بعده بستَّةِ أشهر، مع أنَّه قد نُعِيَ إليها موتُها في حياته!
ثم تعلَّل بعائشةَ - رضي الله عنها - فكانت أحبَّ النَّاسِ إليه،
ومسكنَه الذي يأوي إليه، فأُوذِيَ فيها، واتُّهِمَت وهي الشَّريفةُ بنت
الشريفِ، زوجةُ أشرفِ الخَلق، وينقطعُ عنه الوحيُ شهرًا؛ ليزداد
ابتلاؤُه، ويسمعَ ما يؤذي أذنَه الشريفةَ، ويُدميَ قلبَه الطاهرَ من
طعنِ خبيثٍ في أطهرِ النِّساءِ وأحبِّهنَّ إلى فؤادِه!
ثم بعد أنْ فقدَ أولاده يتعلَّلُ بالحسن والحسين،
فيُخبَرُ بما سوف يصيبُهم من المِحَنِ بعده.
ويذهب إلى الطَّائفِ؛ ليدعوَ أهلَها إلى جنَّةٍ عَرضُها السَّمواتُ
والأرض، فيخرجون له بالحجارةِ، ويُرسلون خلفه سفهاءَهم وأولادَهم
ليرموه، فيدمون عقِبَه الشَّريفَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُسمعونه
سيِّئَ القولِ، وهو الذي يؤمِّلُ في دعوتِهم ونُصرتِهم، فيقول أحدُهم:
"أمَا وجد اللهُ خيرًا منك ليرسلَه إلينا؟!"، وآخَرُ يقول: "واللهِ لو رأيتُك
متعلِّقًا بأستار الكعبةِ وتُقسم على أنَّك نبيٌّ، ما صدَّقتُك"، ويلمزونه
بابنِ أبي كَبشة، ولسانُ حاله يقول كما قال الرَّجلُ الصالحُ:
﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴾
[غافر: 41].
فهل عرَفت - أخي الكريم، أختي الكريمة
- أو سمعتم يومًا من الدَّهرِ أحدًا تعرَّضَ لمثل
الذي تعرَّض له نبيُّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟!
لا والله، ولا حتى نصفَه، أو ربعَه، ومع ذلك لَم يَشُكَّ
طرفةَ عينٍ في قدرِه عند الله، ومنزلتِه التي ادَّخرها له
مولاه، فكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - رابطَ الجأشِ في
كلِّ أمرِه، صابرًا محتسبًا، تدمع عينُه، ولا يقول لسانُه
إلا ما يُرضِي ربَّه، حتى انتقل إلى الرَّفيقِ الأعلى.
فأيُّ مصائبَ كانت تلك المصائب؟!
وأي صبرٍ يوازي ذلك الصَّبرَ العظيم؟!
الرَّجُل منَّا أو المرأة إذا مات له ولدٌ واحدٌ،
فكأنَّ اللهَ لَم يبتلِ أحدًا بمثل ما ابتلاه، وكأنَّ اللهَ
عناه بالمصائبِ دون سواه، ولا يزال الشيطانُ يكبِّرُ
عنده المصيبةَ، فيذكِّرُه بولدِه أو أولاده؛ ليتشتَّتَ فكرَه،
ويَنْفَدَ صبرُه، ويصيبَه الهمُّ من كل جانبٍ، حتى تجدَه
لا يسمعُ ناصحًا، ولا يُصغِي لكلام عاقلٍ،
ولا يستجيبُ لنداء الإيمان.
فتراه منطويًا مسودَّ الوجهِ، عابسَ المُحيَّا، واجمًا ساكتًا،
يخيَّلُ إلى من رآه أنَّه قد خسِر الدنيا والآخرة، والله المستعان.
فإذا ابتُلِيت بفجيعةٍ محرقةٍ، أو مصيبةٍ جاءتك
على غيرِ ميعادٍ، فخاطب نفسَك، وقل لها: إذا كان
النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو حبيبُ ربِّ العالَمين،
وأفضل الخَلقِ أجمعين - رسلِهم وأنبيائِهم، وإنسِهم
وجنِّهم وملائكتِهم - يتعرَّض لمثلِ هذا، فكيف بي
وأنا واحد من عامَّةِ الخَلقِ، عليه من الذُّنوب
ما يستحقُّ به كلَّ مصيبةٍ؟
وتذكَّرْ أنَّ كلَّ صغيرٍ يُغمُّك، وكبيرٍ يُمرضُك، وهمٍّ يصيبُك،
حتى ما كان أهونَ وأصغرَ من ذلك، فإنَّ لك به خيرًا عند ربِّك؛
فاحتسِبْه ولا تضيِّعْ؛ فعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ
النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يُوعَك، فمسستُه بيدي، فقلتُ:
يا رسولَ اللهِ، إنَّك لتُوعَك وعكًا شديدًا، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((إنِّي لأُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلانِ منكم))، قال: فقلتُ: ذلك أنَّ لك
أجرينِ؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أجَلْ))، ثم قال رسولُ
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((ما من مسلمٍ يصيبُه أذًى من مرضٍ فما سواه،
إلا حطَّ اللهُ به سيِّئاتِه كما تَحُطُّ الشَّجرةُ ورقَها))؛
متفق عليه.
(من كتاب "ولكن سعداء..
" للكاتب أ. محمد بن سعد الفصّام)
ig juvqj gleg i`h?
المفضلات