أصدقاء لا تعرفهم
نحن نعرف أصدقاءنا بأسمائهم وعوائلهم، وأين يسكنون، وصِلتُنا بهم قوية.
لكن هل تعلم أن هناك أصدقاء لنا لا نعرفهم، وربما قدموا لنا ما لم يقدمه أصدقاؤنا
الذين نودهم ونحبهم ونلتقي بهم دائمًا؟ إنهم أصدقاء، وليس بالضروري أن يكونوا
محبين ما دام أنهم يصدُقوننا القول، فالصديقُ من صدَقك لا من صدَّقك.
فيا تُرى من يكون أولئك الأصدقاء؟
كثيرٌ منا له خصومٌ وأعداءٌ، يسميهم "المتربصين"، وإذا رجعت إلى أرشيف
علاقته معهم، وبحثت عن سبب الالتواء الذي تحولت معه الصداقةُ إلى عداءٍ، تجدُ
سببه انتقادًا حصل لشخصه الكريم، أو لأسلوبه الرائع، أو لثقافته الواسعة!
والتي من يتعرض لها، فقد تجاوز الخط الأحمر!
في حين أن الأولى والمفترض أن يكون ذلك الانتقادُ في أي مجال
سببًا في المحبة والولاء.
الانتقاد الجيدُ يُعدِّل المسار، ويصلحُ الشخصية، ويجعلُك تثقُ بعقل
من صدر منه؛ لكونه له شخصيةٌ تستفيد منها، الناسُ لا يحبون المجاملين
والمطبلين في كل أمرٍ تافهٍ أو عظيمٍ؛ فإن هؤلاء ضعافُ شخصيةٍ، أو أصحابُ
مصالح، لا يمكنُ أن يؤخذ منهم رأيٌ، أو يُشد بهم ظهرٌ، أو ينفعوا في الملمات؛
وإنما الناقدون الناصحون هم من يَلتمس عندهم الناسُ الرأيَ الحسن، والحكمة
الرشيدة، حتى لو كان نصحُهم محل غضبك، فإنما هم أطباءُ مؤتمنون،
أفيحسُن أن تغضب على طبيبك حينما يصارحُك بوجود الداء،
وينصحُك بتجنب أسبابه؟!
قولٌ يُعيذُك من سُوءٍ تُفارقُـهُ *** أبقى لعرضك من قــولٍ يُداجيكا
لقد رمَى بكَ في تيهاء مُهلكةٍ *** من بات يكتُمُك العيبَ الذي فيكا
وما أجملَ ما قاله الشافعي - رحمه الله -:
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكُن بها *** صديقٌ صدُوقٌ صادقُ الوعد مُنصفُ
فاقبل النقد الهادف، ولا تثرب أو تجرح في قائله.
وإذا أردت ألا تُنتقد، فلا تكن شيئًا، ولا تفعل شيئًا، وحينها
سوف تعيشُ على الهامش، وتموتُ في الهامش.
إذًا لا تنزعجُ بكل ما تسمعُ من الانتقادات، واجعل لديك آلة ترشيحٍ،
فما كان من نقدٍ صوابٍ، فلزام عليك أن تُصلح الخلل، وما كان من باطلٍ
وهُراءٍ - وما أكثرها! - فأمِرَّها كما سمعتها، وافتح لها نافذة البيت
لتخرُج على الهواء.
والانتقاد الظالم مديحٌ مبطن،
وإذا رُكلت من الخلف، فاعلم أنك في المقدمة.
لذا علينا إذا سمعنا أحدًا ينتقدُنا ويذكرُنا بسوءٍ
أن نحبس أنفسنا عن الثوران والدفاع الفوري، فبإمكان
أي أحمق أن يثور؛ إذ إن هذا لا يتطلبُ ذكاءً.
وأرجعُ بك إلى التاريخ؛
لأذكرك بواقعةٍ لرجلٍ أحبه أنا وتحبه أنت، إنه
الخليفةُ الزاهد عمرُ بن عبدالعزيز - رحمه الله -: بينما هو
يمشي في المسجد بعد صلاة العشاء، والظلامُ حالكٌ، إذ عثرت
قدمُه بقدم رجلٍ مضطجعٍ، فقال له الرجلُ: أمجنونٌ أنت؟! قال:
لا، ثم مضى، فغضب الحارسُ الذي مع عمر على الرجل،
وأراد أن يوبخه، كيف يقول ذلك لأمير المؤمنين؟!
فقال عمرُ: دعهُ إنما سألني: أمجنونٌ؟! فأجبتُه.
موقفٌ استفزازي من الدرجة الأُولى، وردة فعلٍ ذكية لا تصدرُ إلا من
العباقرة المخلصين، الذين يتحكمون في أعصابهم عند المواقف الصعبة.
ألست تذكرُ المقولة الشهيرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
"رحم اللهُ من أهدى إلينا عيوبنا"، ورُويت أيضًا: "رحم اللهُ من هدانا إلى عيوبنا"؟
فانظر كيف وظف الفاروقُ - رضي الله عنه - الانتقاد إلى هدايةٍ وإرشاد،
وجعل القدح سبيلاً إلى المدح؛ فقد دعا لمن انتقده بالرحمة،
واعتبر من وجَّهه وانتقده أنه قد هداه!
لذلك أذكر لك:
شركة "بيبسو دانت" كان رئيسُها "تشارلز لوكمان" يُنفق مليون دولار
في السنة للدعاية والإعلان، لكنه لا يقرأُ الرسائل التي تمدحُ برنامجه، بل
يصر على قراءة رسائل النقد؛ لأنه يعلم أنه ربما استفاد منها أو تعلم شيئًا،
أو عرف أخطاءه التي يجهلها.
كذلك قامت شركة "فورد" المعروفة في إنتاج السيارات بطلبٍ
من جميع موظفيها بانتقاد الشركة، سواءٌ كان في مكاتبها، أو موظفيها
أنفسهم، أو الأنظمة ذاتها، وكانت تلك محاولةً منها لاكتشاف أخطاء
الإدارة والعمليات، وتصويب مسار عملها.
إذًا لا تعجب ولا تغضب حين تُنتقدُ، بل الأولى أن يكون غضبُك
وعجبُك حين لا تسمع ناقدًا، فلن يسلم بشرٌ من خطأٍ ونقصٍ، وما دام
أنها عُدت، فهذا فخرٌ يبعث إلى الارتياح؛ فقد قيل قديمًا:
كفى المرءَ نُبلاً أن تُعد معايبُهْ
(من كتاب "ولكن سعداء.."
للكاتب أ. محمد بن سعد الفصّام).Hw]rhx gh juvtil
المفضلات