شرقي في جو غربي
يرحلُ الشرقيُّ العربيُّ المسلمُ المؤْمنُ إلى البلد الغربي مقرونًا به كلُّ ما هو جميل وأمين؛ من أخلاقكريمة، وفِطْرة طيِّبة، وأفكار بنَّاءَة، وسِمَات وضَّاءة، طامعًا في مستقبلٍ أفضل، وثروة صَرْحُهاالحلالُ، وأساسُها الكَدُّ والتعبُ والكفاح، إنَّها نَفْسٌ شرقيَّة مقاتلة، ولكنَّها قتاليَّة خاصَّة من نوعٍ رفيعٍ،سلاحُها الشرفُ والأمانة، وحياتُها الإرادة القويمة والخطوة المستقيمة، وطريقُها نورُ الدين الإسلاميالحنيف، إنَّها نفسٌ آمنتْ بالله العظيم والنبيِّ الأمين.
ويصلُ الشرقيُّ العربيُّ المسلمُ المؤْمنُ إلى ميناء القيام على لسانه البسملة، وفي قلبه اليقين، وفي عينهالأملُ والإيمان، تملأ جوانحه النشوة الغامرة، والإيمان بالإسلام العظيم، وتأتي اللحظة الفاصلة للأُمْنِيَةالغالية، ويركبُ هذا الشرقيُّ المسلم السفينة العملاقة التي تجوبُ به البِحارَ والمحيطات، قاصدة بلادأوروبا القاصية، لا يصحب معه من الأشياء الماديَّة غير حاجاتٍ بسيطة، وليس معه من النقود إلا القليل؛فَقَدْ أنْفَقَ هذا الإنسانُ المؤمن المغامر كلَّ ما معه في ثمنِ التذكرة، ورِحْلة السفر إلى أوروبا، وتُقْلِعُ السفينة،وتبدأ الرحلة والمغامرة، ويجول الشرقيُّ في طُرقات السفينة تناديه أحلامه وآماله، ويهمس برِفْق مُتَمْتِمًا:يا ربّ، أبْعِدْ عنِّي الشيطانَ في تلك البلاد الغربيَّة، ووفِّقْنِي؛ لكي أُسْعِدَ أبي الذي كافحَ من أجلي، وأمِّيالتي تعبت وربَّتْنِي، وأُرْضِي ابنة عمِّي خطيبتي وحبيبتي التي شجَّعَتْنِي.
وتبدأ رحلة الأفْكار الجيَّاشة في هذه الذات الشرقيَّة التَّقيَّة على تلك السفينة، فيؤرِّقه ويشغله فِكْرة الوَهَنالاجتماعي في المجتمع الغربي، فالأخلاق العربيَّة نَهَلَ من شذاها الاحترام والوقار أمامَ نفسِه وبين الناس،بل بين المجتمعات العالميَّة. إنَّ تلك الأصالةَ غَمَرَتْ أنفاسَه وأحاسيسه؛ فهي في كيانه وبينَ جوانبه تشغلُنفائس وقِيَمًا يحبُّ دائمًا أن يقتنيها ويتقلدَها ويرتديها، وتتواصلُ المحادثة الذاتيَّة ويرحلُ إلى جانب آخرَ؛فيتذكَّر ابنةَ عمِّه - خطيبة الحاضر، وزوجة المستقبل - وشغفَه بها واحترامَه لها، وهل تستطيعُ فتاةٌ غربيَّةيُخْفِيها قِنَاعُ الجمالِ والإغراء المزيَّف أنْ تَحْرِقَ هذا الرِّباطَ المقدَّس بابنة العمِّ، الذي تنسجه عناصرُالاحترام والسمو لتلك الخطيبة، وتتشعَّب الذكريات، فيموج إدراكه في خاطرة أخرى، هل سيستطيع أنْيواجهَ إغراءَ المادة، ويطبِّق سياسةَ الأخلاق والمبادئ المسْلِمة الأمينة بين نفسه ومجتمعه الجديد على تلكالبسيطة الغربيَّة؟ هل ستهزمه المادة ويَنْسى الفضيلة والمأثورات النبيلة، وأصول السُّنَّة والقرآن اللَّذَيْنِعلَّمَاهما له شيخُ القرية وأبوه وأُمُّه، والمدرسة والجامعة الإسلاميَّة التي تعلَّمَ فيها؟ هل ستسْقُطُ قوميتُهوماهيتُه من الهُويَّة الشرقيَّة وتَسْكُنُه وتستقطبُه الهُويَّة الغربيَّة؟
إنَّ تلك الأفكارَ البنَّاءَة المسْلِمة المؤْمِنَة التي لاحقتْ هذا الشرقيَّ لم تجعلْه يهتزُّ أو يرتدُّ، ولن يجرؤَ الفشلُأن يقتربَ من عرينه وفي نفسه، وأمام الله أنه سيُزْهِقُ الضَّعفَ ويُحَطِّمُ سيفُه قِلاعَ الانهزاميَّة تحتَ لواءالضميرِ والروح المقاتِلة، وأنه سوف يبلغُ أفنانَ الغِنى والسّمو والطموحَ بالفكِّر الإسلامي الراقي، والروحالمسْلِمة المؤْمِنَة، وبِسُلَّم الإرادة الثابت العالي، هذا هو السلاحُ والفكر الإيجابي الخَلاَّق الذي جابه به هذاالشرقيُّ تلك الخواطرَ والأفكارَ التي طرحَها هذا الشرود الجامح، وتلك المحادثة الذاتيَّة، وتتبلْوَر مأثورةعنوانُها، تُقَزِّمُ الشيطانَ عاهِلَها رُوحٌ مقاتِلة تسكنُ آدميًّا سويًّا من فصيلة شرقيَّة أصيلة كرَّمَها الله وأحبَّهاالناسُ، وسطَّرَها الخلودُ والأمجادُ، فهو يحتويه ويقوِّمه.
إنَّ سلاحَ الإيمان والتواصل وسيلةُ النجاح وطَوْق النجاة، وهما دَرْبُ الإصلاح الذي نتاجه وثمارُه الغايةالسعيدة، ويرفع الستارَ عن تلك المنظومة الشرقيَّة التي ينشدُها هذا العربي المسْلِم المؤْمِنُ التَّقِيُّ، وتسيرُسفينة الأحلام، وتصلُ في يوم صبوح بسلامة الله، ويحطُّ الشرقيُّ الأنْوَر على أرضِ ميناء الوصولالأوروبي يبادرُ بالبَسْملة على وجهه الرضا والنور، يحفل بسبحَاتٍ من الأملِ يُضِيءُ شموعَ الميلاد لحياةجديدة يتعشَّم فيها خيرًا، ويأْمُل فيها رِزْقًا، وفي لحظة شاذَّة يرى هذا الشرقيُّ صورةً تخدِشُ حياءَه وتؤذِيعينيه؛ أنه يرى جسدًا عاريًا لفتاة فاتنة على شاطئ قريبٍ من ميناء الوصول، وهو ما يُسَمَّى بشاطئ العُرَاة،فيهتزُّ كيانه، ويرتعدُ كأنه أمامَ شيطان، أو سَبُع ضارٍ يريد أنْ يفترسَه، أو كأنه يُقَاربه نِيران.
إنَّ هذه الأحاسيسَ ليستْ جُبْنًا أو ضَعفًا أمامَ الشهوة، لكنها صحوة الضمير والإيمان اللَّذَيْنِ يريحان هذاالشرقيَّ المسلمَ المؤمنَ النَّقِيَّ، وتحدثُ المواجهةُ الهادفةُ على جبهة الإيمان والضمير، وتتبارى الإرادةالمسْلِمة المؤْمِنة أمامَ ثالوث السوء الفاحش الشرس: الشيطان، والبهيميَّة، والحماقة، وتنتصرُ الروحُالشرقيَّة بجدارة، فيديرُ عينيه بسرعة صوبَ الحقِّ في اتجاه البراءة؛ أي: الاتِّجاه الآخر، ويمشي مُهَرْولاًنافرًا، مُشْمَئِزًّا من تلك الدَّنِيَّة وهذا الإقلال، وأمامَ هذا النقصِ الإيمانيِّ والطُّغْيان الشيطاني الذي يستشفُّههذا الشرقيُّ المسْلِم من تلك الصورة المقززة التي يكرهُها - لا ييئس ولا يَضْعُف، ويأبى الهزيمةَ، وتراودهالمأثورة الشرقيَّة التليدة: لا يأْسَ مع الحياة، ولا حياة مع اليأسِ، وفي محاورة ذاتيَّة رشيدة، يقول في نفسه:بالنسبة لإغراء العين سأغْضُّ بصري، وأغْسِله بماء الوضوء الطاهر، وأصلِّي وأقْرَأ القرآنَ والحديثالنبويَّ الشريفَ، فقدْ جعلتْ تلك النفسُ الجسورُ زئيرَ العودة والرجوع يسكنُ، وقرَّرت الاسْتمرار فيسباقِ الاجتهاد والتصميم والتواصل في تلك الساحة الغربيَّة، وتتواصل الحكاية الشرقيَّة...
يسير الشرقيُّ في شارع جانبي ضَيِّقٍ، فيرى فتاةً شقراءَ ترتدي زِيًّا متواضعًا يرتديه البُسَطاء، ويبدوأنها تبحثُ عن شيءٍ، وتديرُ عينيها هنا وهناك، وتتجه مسرعة ناحية صيدليَّة لبيع الأدوية، وفي يدهاحقيبة متواضعة، وفي لحظة مفاجأة يأتي شخصٌ مُسْرعًا فيرمي الفتاةَ على الأرض، ويأخذُ الحقيبة منيدها، ويجري مُسْرِعًا، ويري الشرقيُّ المسلم المؤمنُ التَّقِيُّ هذه المأساة، فيجري مُلاحِقًا هذا الوحشَالبشري، ويضربه ضربةً قاصمة شديدة، فيختلّ توازنُه، وتسقط الحقيبةُ على الأرض، ويجري اللصُّمذعورًا، ويلتقطُ الشرقيُّ الحقيبةَ بسرعة، ويعطيها - برحمة وحنان - للشقراء التي وقفتْ تنظرُ لهذاالإنسان الطيِّب التَّقي الشَّهْم المقاتل في ذهول ودَهْشة؛ لأنه موقفٌ تُنْكِره الحياة الغربيَّة؛ بل تجهلهالسينما الغربيَّة، وبدأتِ الشقراء تفيقُ من هذا الذهول، وارتسمتْ الابْتسامة البريئة والفرحة الكبيرةالتي امتزجت بالدموع على وجهِها، ولكنَّها دموعُ الفرح واليقين، فكانتِ الدعوات والسبحات لهذاالشرقي من قلب صادقٍ تحمله شقراءُ غربيَّة،
يسيرُ الشرقيُّ يفكِّرُ في هذه المفارقات التي تبعدُ فِكْرة الاستمرار في هذا الوجود الغربيِّ، فهذان الموقفاناللذان صادفهما أنعشا الحبَّ والتفكير في حياة وذِكْريات الماضي القريب، وتبدأ المحادثةُ الذاتيَّة الأخيرةالتي تديرُ الدفَّة في متجه الصواب والسلامة، فراحَ يتأمَّل الحياةَ الماضية، فرَجَعَ يفكِّر في حقلِ أجدادِهالذين سقوه بعَرَقِهم، وذادوا عنه بأرواحِهم، في عروسه وابنة عمِّة وجمالها البديع، وأدبها العفيفِوسترتِها المسبولة، في الارتقاء بنفسه ومجتمعه وحبِّه لأوطانه، في دينه الذي يرفضُ إباحيَّات المجتمعالغربي، في أبيه وأمه اللَّذَيْن كانا أسْمى آمالهم أن يَحْيَيَا العمرَ الباقي في ظلال هذا الابن الذي يسعدُهمرؤيته وقُرْبه وجوارُه.
وفي لحظة صنعتها الأقْدار الإلهيَّة،لما حَدَثَ، راضيًا بنصيبه ومصيره، ويركب السفينة العائدة إلى الوطن الحبيبِ، ويصول الشرقيُّ مُرَدِّدًا
يعدلُ المسار ويعود إلى الميناء بنفسٍ راضية مطمئنة، قانعًا حامدًا
مُتَرَنِّمًا، آملاً بنفس مؤمنة مُسْلِمة، ليس حزينًا ولا يائسًا، مُبَاهيًا بأوطانه وبلاده، فيُتَمْتِمُ: أنَّ بلادي هيأرضُ الخيْر والسلامة والإيمان، وأنَّ النجاح لا يحدده المكانُ، وإنِّما تبنيه العزيمة المؤمنة، والسير على
الدربِ الإسلامي الإيماني المنير، الذي يضيئه هُدَى الله العظيم، وسُنَّة محمد الصادق الأمين، ويقول آملاًطامحًا: إنني سأعملُ في بلادي عملاً شريفًا، يعفُّني عن المسألة، ويغْنِي كرامتي عن المهانة، وإنْ شاء
الله ستتوِّج حياتي وذاتي الفضيلةُ والنجاح؛ لأنَّ معي الإسلام والإيمان.
وأخيرًا:
أهلاً بالسماء الشرقيَّة العَلْياء الصافية، ووداعًا أيَّتُها البسيطة الغربيَّة الدانية الفانية.
منقولavrd td [, yvfd
المفضلات