قضية (2): سحر النبي_ عليه السلام _.
قد ورد أن النبي_ عليه السلام _سحره لبيد الزريقي_ لعنه الله _، ومما جاء عن أمنا عائشة: «أَنَّ النَّبِيَّ_ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ»، رواه البخاري. وقد قال سفيان: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا.
وقد ردَّ بعض العلماء هذا الحديث أمثال سيد قطب_ رحمه الله _، ود. عدنان إبراهيم_ وفقه الله للخير، وأرشد الأمر _حذا حذوهم، واقتفى أثرهم، وشاطرهم الرأي في ذلك، فبم كان ذلك؟
قالوا بالإجمال: أخبار سحر النبي_ عليه السلام _تتعارض مع العصمة والقرآن من وجوه، وبنيت هذه الوجوه على فهم معين للحديث، فإليكم فهمهم ووجوه التعارض:
* فهمهم للحديث: لقد أصاب رسولَ الله السحرُ بهلوسات جعله يتخيل أمورا لم تقع، فهذا السحر أصعب نوع؛ لأنه أصاب عقل رسول الله، وهذا مردود بوجوه:
1. فيه تكذيب للقرآن؛ لأن الله ينفي قول الكفار: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا)، والحديث يثبت للنبي السحر.
2. فيه تصديق للكفار؛ لأن الحديث يجعل من النبي مجنونا، والله يقول: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).
3. يتعارض مع العصمة في التبليغ، فقد يخيل إليه أن جبريل قال وما قال، وقد يخيل إليه أنه بلغ آية وما بلغ. وهذا يهدم النبوة والعصمة.
وهنا لا بدَّ من قولة حقًّ: كل من فهم من الحديث هذا الفهم، وتبينت له هذه الوجوه يكون زنديقا إن لم يردَّ هذا الحديث؛ لأنه يأتي بنيان الإسلام من قواعده! وعليه، ما ينبغي أن نظن سوءا بمن ردَّ الحديث وقد فهم منه هذا، وقد كنت أردُّ هذا الحديث من قبل بمثل هذا الفهم، وذات مرة صليت لله صلاة الحاجة، وقلت: اللهم فهمني الحديث كما فهمتها سليمان_ عليه السلام _، وقد كان لي فهم وفق هذه القواعد:
1. الروايات يفسر بعضها بعضا.
2. إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
3. التفسير المقبول أولى من المردود إن تمكن حسب اللغة والقواعد الشرعية.
4. العام يحمل على الخاص، والمطلق يحمل على المقيد.
5. القرآن أثبت السحر ووقوعه على الأنبياء.
وإليكم البيان:
بالإجمال؛ الحديث صحيح سندًا ومتنًا، وبالتفصيل؛ أقول:
1. من تمام الفقه أن ينظر المرء في ألفاظ الحديث نفسه، لا أن يأخذ معناها من شخص آخر؛ فيبني عليها ما توصل إليه. وقد ألبس عليَّ فهم الحديث على وجهه قول سفيان الوارد في صحيح البخاري:" وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا"؛ لأنَّ أشدَّ السحر يجعل صاحبه في هلوسة وهذيان وتوهم، والفهم السطحي للفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» يسوقنا إلى قول ذلك، وهذا ما وردت الأدلة في نفيه عن رسول الله_ عليه السلام _.
2. وقبل الانطلاق إلى دحض الأدلة السابقة، لا بدَّ من تحري ألفاظ الحديث، وفهمها حقَّ الفهم:
- متن الحديث: روي عن أمنا عائشة أنها قالت:
(1)...«سُحِرَ النَّبِيُّ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ...»، رواه البخاري.
(2)...«مَكَثَ النَّبِيّ كَذَا وَكَذَا، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي...»، رواه البخاري.
(3)...«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ...»، رواه البخاري.
- الرواية (1) مطلقة، والرواية (2) والرواية (3) تقيد المطلق. إذن، لفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» منوط بوطء زوجاته، ليس غير.
- ولفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» له عدة معانٍ، وهي:
1) التخيُّل، أي: رؤية الشيء على غير حقيقته، نحو: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طه: 66). أي: تخيلها تسعى من سحرهم.
2) الوهم والشك، نحو: «شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ...»، رواه البخاري ومسلم. أي: الرجل يشك أو يتوهم أنه..
3) الصيرورة، نحو: «إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ»، رواه النسائي. وفي لفظ البخاري: «مُثِّلَ لَهُ»، أي: صُيِّرَ له.
4) الظُّهور، نحو: «فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى...»، رواه البخاري. أي: فتظهر أنَّها ملأى. ونحو: يخيل إلي أن الشمس تدور حول الأرض، أي: يظهر أن الشمس...
5) الظنُّ، نحو: «فَقَعَدَ حَزِينًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيهِ شَيْءٌ...»، رواه النسائي. أي: يظنَّ أنه...
- والمتدبر في هذه الجملة: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي»، يرى أنَّ لفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» محصورٌ بين الاستعمال الثاني والخامس، أي بين (الوهم) و(الظنَّ)، أي:
* «يتوهم أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي».
* «يظن أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي».
فأي الاستعمالين أرجح؟
- وحتى يتعين المعنى المرام، لا بدَّ من قرينة ترجِّح إحدى الاستعمالين. وأنا أرجِّح الاستعمال الخامس، وهو: (الظنُّ)، وهذا للآتي:
* لقد حلَّ محلِّ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» لفظ: «يَرَى» في رواية أخرى، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا؛ لذلك ترجح هذه الرواية الاستعمال بمعنى: «ظَنَّ».
* الوهم هو لخلل في العقل أو النفس، وقد قام الدليل القاطع على عصمة النبي من أن يتطرق إليه خلل في عقله أو نفسه؛ لذلك يرجح هذا الأمر الاستعمال بمعنى: «ظَنَّ».
- وعليه، فالرواية تكون هكذا: «يَظُنُّ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي»، أي: يهمُّ رسول الله على وطء إحدى زوجاته؛ لأنَّه يغلب على ظنِّه أنَّ لديه القدرة على نكاحها، فإذا باشر الجماع ضعف ولم يقدر، أي: عندما يلتقي الختانان_ وهي حالة توجب الغسل _يفعل السحر فعلته، فلا يقوى رسولنا الكريم على إكمال ما بدأ به وهمَّ عليه، فيغتسل من دون أمرٍ يظفر به من أمهاتنا رضي الله عليهنِّ.
- ومن عادة العرب في طريقة كلامها والغالب على سننها في التعبير أنَّها تذكر أقوى الأعراض للتدليل على واقع الشيء المتحدَث عنه_ وهو هنا سحر النبي _؛ لذلك، أسوء حالة وصل إليها رسول الله من السحر هي عدم القدرة على الجماع، ولم يفعل به السحر ما يجعله يهذي ويهلوس ويتوهم...إلى غير ذلك من الأمور التي تنال من النبوة، وقد عصم منها رسول الله.
- وعليه، السحر أنواع؛ سحر يندرج تحت الأمراض البدنية، وسحر غير ذلك، وسحر يجمع بين السحرين: ينال من بدنه وغير بدنه. والسحر الذي نزل برسول الله وحلَّ به هو مما يعدُّ مرضًا بدنيًّا من أعراضه (الضعف الجنسي)، وهذا مما لم يعصم منه رسول الله؛ لأنه لا يؤدِّي إلى خلل في رسالة الإسلام العظيم.
3. والآن أشرع بتفنيد الأدلة التي أدت لردِّ الحديث:
* أمَّا بالنسبة للآية: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، (المائدة: 67). فأقول: العصمة من الناس مؤقتة وكيفية؛ فهي تنتهي باكتمال رسالة الإسلام، وهي مما يؤدي إلى نقص في الشريعة أو خلل؛ فالنبي معصوم قبل اكتمال الرسالة من القتل، أو من إذهاب بصره وسمعه ولسانه، أو من الجنون والهلوسة والهذيان. وعليه، لا تعارض بين الآية والحديث؛ لأن السحر الذي يؤدي إلى ضعف جنسي في أسوأ حالاته لا يؤدي إلى خلل في الشريعة.
* وأما بالنسبة للآية: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، (الأحزاب: 21). فأقول: السحر الذي نزل برسول الله هو مما يندرج تحت الأمراض البدنية، ليس غير. وعليه، لم ينتج عنه قول أو فعل بسبب هلوسة أو هذيان أو وهم، بل كان ذا عقل راجح، ونفس مطمئنة، ومعتقد سليم، وهذا ينتج عنه طبيعيا سلوك منه نابع عن الوحي؛ لذلك لا يؤثر على التأسي برسول الله، أو على ما يشرع.
* وأما بالنسبة للآية: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)، (الإسراء: 47). فأقول: لو كان السحر الذي نزل برسول الله ذهب بعقله، أو كانت الهلوسة والهذيان والتوهم من أعراضه لتصادم الحديث مع هذه الآية. لكن، لما كان واقع السحر الذي ينفيه الله عن رسوله، مغايرًا للسحر الذي نزل به من لبيد بن الأعصم من حيث كونه مرضا بدنيا ليس غير, فإنه لا تعارض ولا تصادم بين الآية والحديث.
* وأما بالنسبة لهذا (العصمة في التبليغ)، فأقول: فقد ثبت أنَّ السحر لم ينل من عقل رسول الله، فلا هلوسة ولا هذيان ولا توهم من أعراض سحره، بل أمور لا شأن لها بالعصمة كالضعف الجنسي.
* وأما بالنسبة لهذا (أداء الأحكام الشرعية)، فأقول: هي نقطة بنيت على خطأ في فهم واقع السحر الذي نزل برسول الله، ولما تبين الحق زال اللبس، والحمد لله ربِّ العالمين.
4. من باب التذكير: الفهم الخاطئ للحديث جعلنا نرده دراية، وهذا الفهم كان استنادًا على قول سفيان وقد أخطأ؛ لأنَّ أشدَّ السحر يسوق صاحبه إلى الهلوسة والهذيان والتوهم، ومن ثَمَّ ضياع العقل فالجنون! وهذا ما عصم منه رسول الله_ عليه السلام _.
5. فضلُ شرحٍ:
الرواية كما في صحيح بخاري هكذا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا...»:
لقد رددتُ الحديث دراية بناءً على قول سفيان؛ إمَّا لأنَّه أخطأ في قوله، وإمَّا لأنِّي أخطأت في فهمه، وتفصيل هذا هو في معرفة (أَلْ) في قوله «السِّحْرِ» أهي للجنس أم للعهد:
- فإن كانت للجنس، فقد أخطأ سفيان؛ لأنَّ أشدَّ السحرِ فيه هلوسة وهذيان وتوهم، ومن ثمَّ ضياع العقل!
- وإن كانت للعهد، فقد أخطأت أنا؛ لأنه يكون معنى قوله عندها هو: وأشد أثر من السحر الذي نزل برسول الله هو أنه «يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ»، وهذا يتفق مع ما قلناه آنفا، وهو: ومن عادة العرب في طريقة كلامها، والغالب على سننها في التعبير أنَّها تذكر أقوى الأعراض للتدليل على واقع الشيء المتحدَث عنه_ وهو هنا سحر النبي _؛ لذلك، أسوء حالة وصل إليها رسول الله من السحر هي عدم القدرة على الجماع، ولم يفعل به السحر ما يجعله يهذي ويهلوس ويتوهم...إلى غير ذلك من الأمور التي تنال من النبوة، وقد عصم منها رسول الله .
أسأل الله دائما السداد في القول والفهم والعمل، وحسن التواضع والانقياد للحق حيثما كان.
أ. علي غيث (أبو الحسن)
21/11/2017rqdm (2): spv hgkfd_ ugdi hgsghl _>
المفضلات