1 - منظور حضاري:
إن غياب التَجانُس بين الجماعات اليهودية في العالم هو أكبر دليل على معدلات الاندماج الحضاري العالية، ذلك أن عدم التجانس يقف دليلاً على أنه لا توجد خصوصية يهودية عالمية بقدر ما توجد خصوصيات يهودية نابعة من المجتمعات المختلفة وتتحدد من خلالها وبسببها لا من خارجها ورغماً عنها. ويمكن أن نضرب العديد من الأمثلة على ذلك:
أ) خضع يهود كايفنج في الصين تماماً لحركيات المجتمع الصيني الحضارية، وهو المجتمع الذي كان يتسم بالتعددية الدينية ورَفْض مفهوم القومية. فالإمبراطورية هي العالم، وبالتالي فهي تضم أقواماً مختلفة. ولم يتم حصر اليهود داخل دور اقتصادي أو اجتماعي محدَّد بل أتيحت أمامهم كل الوظائف، فبدأوا يتبنون لغة المجتمع الثقافية وفقدوا أية خصوصية جلبوها معهم، وبدأت العناصر غير اليهـودية تدخـل اليهـودية (وهـذا تقـليد صيني في حـد ذاته: أن تستوعب العبادة عناصر من خارجها)، فاختلطت العقيدة اليهودية بعبادة الأسلاف وأطلقت أسماء صينية على الإله، وانتهى الأمر بأن فقد اليهود هويتهم تماماً.
ب) اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في الهند في مجتمعهم الهندي المبني على فكرة الطائفة المغلقة والفصل الحاد بين الجماعات، فتَبنَّى أعضاء الجماعات اليهودية هذه اللغة الثقافية وفصلوا بينهم وبين أعضاء المجتمع. بل وساد داخل الجماعات اليهودية نفسها هذا الفصل الحاد بين البيض والسود وبين اليهود البغدادية وغيرهم، بحيث تكونت طوائف مغلقة داخل الجماعات اليهودية. وثمة مفارقة طريفة تستحق الملاحظة وهي أن عزلة أعضاء الجماعة اليهودية هي في الواقع تعبير عن الاندماج وتعبير عن تَقبُّل لغة المجتمع الحضارية وعاداته وتقاليده.
جـ) اندمج يهود جمهورية جورجيا السوفيتية (سابقاً) تماماً في مجتمعهم، وتَبنَّوا مأكله وملبسه ولغته، وانخرطوا في شبكة العلاقات التقليدية التي ظلت قائمة بعد سنوات طويلة من الحكم البلشفي. وكانوا يشاركون الجورجيين في رفض الحكم السوفيتي المركزي. وحينما سنـحت ليهـود جـورجيا فرصة الهجـرة إلى إسرائيل، فعلوا ذلك. فهجرتهم الاستيطانية، هنا أيضاً، تعبير عن اندماجهم لا عن رفضهم مجتمعهم.
د ) تَحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة إلى أمريكيين يهود، وهم الأمريكيون الذين يكتسبون الهوية الأمريكية ويحتفظون بأبعاد إثنية خاصة لا تتناقض مع انتمائهم الأمريكي. والواقع أن الاستقلال النسبي الذي يتمتع به الأمريكيون اليهود في مجتمعهم هو، بالمثل، علامة على اندماجهم الكامل، فهذه هي اللغة الحضارية السائدة والنمط المتكرر في المجتمع. فالعقد الاجتماعي الأمريكي لا يمانع بتاتاً في أن يحتفظ المواطنون الأمريكيون برابطة ما مع وطنهم، وأن يحتفظوا بقَدْر من إثنيتهم الحقيقية أو الوهمية، ما دامت هذه الإثنية لا تتعارض مع انتمائهم لوطنهم الأمريكي ولا مع مصالحه. ولذا، فإن المجتمع الأمريكي مُكوَّن من أمريكيين إيطاليين (أي من أصل إيطالي) وأمريكيين أيرلنديين (من أصل أيرلندي) وهكذا. ويظهر مدى اندماج يهود الولايات المتحدة في مجتمعهم في موقفهم من تجارة الرقيق والحرب الأهلية الأمريكية. فيهود الشمال عارضوا هذه التجارة، شأنهم شأن أهل الشمال، وتَبنَّوا موقفاً مناوئاً لهذه التجارة. أما يهود الجنوب، فقد تَبنَّوا موقف أهل الجنوب، فاقتنوا العبيد والمحظيات السود، وكان منهم تجار الرقيق بمعدل يفوق المعدل على المستوى القومي. ولم تظهر شخصية يهودية واحدة في الجنوب عبَّرت عن تَحفُّظها على تجارة الرقيق، كما لم يُثر أي صحفي أو كاتب أو داعية يهودي أيَّ تساؤل بشأن العدالة الاقتصادية والاجتماعية لمؤسسة الرقيق. ولم يساهم اليهود في حركة تهريب العبيد إلى الشمال بهدف إعتاقهم، فلا يوجد سوى سجل لحالة واحدة. فاليهود، إذن، كانوا بشراً يشكلون جزءاً لا يتجزأ من محيطهم الحضاري والإنساني بكل ما يتضمن من خير وشر.
ذ ) و قد لاحظ بعض المراقبين أن يهود الجنوب الأمريكي حققوا حراكاً اجتماعياً أكثر من يهود الشمال وتم تَقبُّلهم من جانب المجتمع ومن جانب النخبة، كما شغلوا تقريباً مختلف الوظائف المتاحة لأعضاء النخبة. وتُفسَّر هذه الظاهرة على أساس وجود العبيد في الجنوب. فالجنوب تَبنَّى اللون (أي العرْق) معياراً وحيداً لتعريف الآخر وأساساً للتضامن، ومن ثم أسقط المعيار الديني أو الإثني، وأصبح اليهـودي (الأبيـض) أيضـاً جـزءاً لا يتجزأ من المجتمع الجنوبي، وذلك على عكس الشمال حيث كانت النخبة بروتستانتية بيضاء وتَبنَّت المعيار الإثني العرْقي الديني الذي صُنفت على أساسه الجماعات. فكان البروتستانت البيض في أعلى الهرم، والزنوج في أسفله، أما الكاثوليك البيض فكانوا يأتون في مرتبة أقل من البروتستانت البيض ويليهم في المنزلة اليهود البيض، وهكذا حتى نصل إلى قاع السلم. ويُلاحَظ، مع تزايد معدلات العلمنة، أن اللون أصبح الأساس الوحيد للتصنيف، ومن ثم تزايد اندماج اليهود والتحامهم بالنخبة. ومن هذا المنظور، لعبت مؤسسة الرقيق دوراً حاسماً في صياغة شكل الحياة العامة في الجنوب وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيه، وضمن ذلك حياة أعضاء الجماعة اليهودية وعلاقاتهم ببقية طبقات المجتمع وقطاعاته. وقد حدث هذا رغم أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يلعبوا دوراً ملحوظاً أو مؤثراً أو فريداً في تأسيس أو تسيير هذه المؤسسة ولا في التصدي لها.
بل يمكننا القول بأن صهيونية الأمريكيين اليهود نفسها تعبِّر عن اندماجهم، فصهيونيتهم تعبير عن الأبعاد الإثنية في شخصيتهم الأمريكية، أي أنها نابعة عن حركية أمريكية خاصة لا حركية يهودية عامة. ولهذا، فهي تأخذ شكل صهيونية توطينية تدعم إسرائيل (مسقط الرأس!) مالياً وسياسياً ولا تأخذ شكل صهيونية استيطانية تتطلب الهجرة. كما أن سلوك اليهود لا يختلف كثيراً عن سلوك الأمريكيين الأيرلنديين الذين يشكلون لوبي ضغط لصالح بلدهم الأصلي، مع أنهم لا يفكرون أبداً في العودة إليه.
هـ) اندمج يهود جنوب أفريقيا في مجتمع يشجع الفصل بين الشعوب والأعراق. ولذا، شكَّل أعضاء الجماعات اليهودية هناك جماعة عرْقية مستقلة، وأصبحوا من أكثر الجماعات اليهودية صهيونيةً في العالم. وهنا يمكن القول بأن صهيونيتهم تعبير عن اندماجهم في مجتمعهم. لكن جنوب أفريقيا مجتمع استيطاني يعتبر الهجرة منه خيانة وطنية. ولذا، فإن صهيونية يهود جنوب أفريقيا هي الأخرى من النوع التوطيني لا الاستيطاني، وإن كانت توطينيتها تنبع من حركيات مختلفة تماماً.
و) يتجلَّى الاندماج في المؤسسات الاجتماعية والدينية للجماعات اليهودية المختلفة. فالقهال في بولندا، الذي يتم انتخاب أعضائه من بين أعضاء النخبة، لم يكن سوى صدى للسييم أو البرلمان البولندي الذي كان يضم النبلاء الذين كان من حقهم انتخاب الملك رئيساً لجمهورية بولندا الملكية. ويُلاحَظ أن إنجلترا التي يُوجَد فيها أسقف كانتربري باعتباره رئيساً للكنيسة الإنجليزية، يُوجَد فيها أيضاً منصب الحاخام الأكبر الذي يُعَدُّ صدى لأسقف كانتربري. كما تَقبَل المعابد اليهودية في بريطانيا التنظيم المركزي على نمط كنيسة إنجلترا. أما في الولايات المتحدة، حيث لا يوجد تنظيم مركزي ينتظم كل الكنائس الأمريكية، فإننا نجد أن المعابد اليهودية تَتبنَّى نوعاً من الوحدة الفيدرالية. ولا يوجد، بطبيعة الحال، منصب مثل الحاخام الأكبر.
ز) بل يمكن أن نرى الاندماج الحضاري متبدياً من خلال العقيدة اليهودية، فهي في العالم الإسلامي تميل نحو التوحيد والفلسفة. أما ألمانيا، بلد الإصلاح الديني، فقد ظهرت فيها اليهودية الإصلاحية. وفي روسيا وبولندا، حيث كانت توجد جماعات المنشقين والمتصوفة من الأرثوذكس، ظهرت الحسيدية. وهكذا، فإن العقيدة اليهودية تتبنى اللغة الحضارية السائدة. وفي الهند، كان اليهود يظنون أن اليهودية تُحرِّم أكل لحم البقر. وفي الصين، كانوا يؤمنون بحُرمة التضحية للأسلاف بلحم الخنزير، ولكنهم كانوا يأكلونه باعتباره لحماً مباحاً شرعياً، وهكذا. أما في إثيوبيا، فإن يهود الفلاشاه يصلون في مكان يُسمونه المسجد، ولهم كهنة يُسمون القساوسة، كما يوجد لديهم رهبان. ويتحدث يهود الفلاشاه الأمهرية ويتعبدون بالجعيزية، لغة الكنيسة القبطية في إثيوبيا، وهذا كله انعكاس للسياق الإسلامي المسيحي الذي يعيش الفلاشاه في كنفه.
المفضلات