المسؤولية البريطانية
هل علم البريطانيون بالخطة دالِتْ؟
يفترض المرء أنهم علموا، لكن ليس من السهل إثبات ذلك. غير أنه من اللافت جداً أن البريطانيين أعلنوا بعد أن تم تبني الخطة دالِتْ أنهم لم يعودوا مسؤولين عن الأمن والنظام العام في المناطق التي كانت قواتهم لا تزال مرابطة فيها، وقَصَروا نشاطهم على حماية هذه القوات. وكان ذلك يعني أن حيفا ويافا والمنطقة الساحلية الواقعة بينهما بأسرها باتت مساحة مكشوفة تستطيع القيادة الصهيونية أن تطبق فيها الخطة دالِتْ من دون خوف من أن يحبطها الجيش البريطاني، أو حتى من مواجهة معه. والأسوأ أن اختفاء البريطانيين من الريف والمدن كان معناه انهيار القانون والنظام العام كلياً في أنحاء فلسطين كافة. وعكست الصحف التي كانت تصدر آنذاك، مثل صحيفة «فلسطين»، قلق الناس من ازدياد جرائم كالسرقة والسطو على المنازل في المراكز الحضرية، والنهب في أرجاء القرى. كما أن انسحاب رجال الشرطة البريطانيين من المدن والبلدات كان يعني أيضاً، على سبيل المثال، أن كثيرين من الفلسطينيين لم يعودوا قادرين على قبض رواتبهم في البلديات المحلية لأن مكاتب الخدمات الحكومية كانت في معظمها موجودة في الأحياء اليهودية حيث يمكن أن يتعرضوا للاعتداء.
بالتالي لا عجب من أن المرء لا يزال يسمع فلسطينيين يقولون اليوم: «المسؤولية الرئيسية عن نكبتنا تقع على عاتق الانتداب البريطاني»، كما عبر عن ذلك جمال خضورة، اللاجئ من قرية سحماتا الواقعة بالقرب من عكا. وقد حمل إحساسه هذا بأنه تعرض للخيانة طوال حياته، وعبر عنه أمام لجنة تحقيق بريطانية مشتركة لمجالس الشرق الأوسط البرلمانية شكلت في سنة 2001 لتقصي الحقائق في شأن اللاجئين الفلسطينيين. وكرر لاجئون آخرون أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة الاتهام واللوم لبريطانيا، وعبروا هم أيضاً عن إحساسهم بالمرارة.
وفي الحقيقة، امتنع البريطانيون من القيام بأي تدخل جدي منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1947، ولم يحركوا ساكناً في وجه محاولات القوات اليهودية السيطرة على المخافر الأمامية، كما لم يحاولوا إيقاف تسلل متطوعين عرب بأعداد قليلة. وفي كانون الأول (ديسمبر)، كان لا يزال لديهم 75.000 جندي في فلسطين، لكن جهدهم كان مقصوراً فقط على حماية جلاء الجنود والضباط والموظفين البريطانيين.
وساهم البريطانيون أحياناً بطرق أُخرى، مباشرة أكثر، في التطهير العرقي بتزويدهم القيادة اليهودية بصكوك الملكية ومعطيات حيوية أُخرى، كانوا استخرجوا نسخاً فوتوغرافية عنها قبل إتلافها، على جري عادتهم عندما كانوا ينهون استعمارهم لبلد ما. وأضافت هذه البيانات المفصلة إلى ملفات القرى ما كان الصهيونيون بحاجة إليه لتنفيذ الطرد الجماعي واسع النطاق. إن القوة العسكرية، الوحشية في هذه الحالة، هي المتطلَّب الأول للطرد والاحتلال، غير أن البيروقراطية لا تقل أهمية عنها من أجل التنفيذ الفعال لعملية تطهير ضخمة تتضمن لا سلب الناس فحسب، بل إعادة ترتيب ملكية الغنائم أيضاً.
الأمم المتحدة
بموجب قرار التقسيم، كان ينبغي للأمم المتحدة أن تكون حاضرة على الأرض لتشرف على تنفيذ خطتها للسلام، أي جعل فلسطين بكاملها بلداً مستقلاً، يشتمل على دولتين متميزتين تجمعهما وحدة اقتصادية. وتضمن القرار الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 أموراً إلزامية واضحة جداً، منها التعهد بأن تمنع الأمم المتحدة أية محاولة من أي الطرفين لمصادرة أراض تعود ملكيتها إلى مواطني الدولة الأُخرى، أو أية مجموعة قومية أُخرى- سواء كانت أراضي مزروعة أو غير مزروعة، أي أراضي مُراحة من غير زرع لمدة عام تقريباً.
وإنصافاً لممثلي الأمم المتحدة المحليين، يمكن القول إنهم على الأقل شعروا بأن الأمور تتجه من سيئ إلى أسوأ، فحاولوا الدفع في اتجاه إعادة تقويم سياسة التقسيم، لكنهم عملياً لم يقوموا بأكثر من المراقبة وإرسال تقارير عن بدء التطهير العرقي. وكان وجود الأمم المتحدة في فلسطين محدوداً لأن السلطات البريطانية منعت وجود فريق منظم من المنظمة الدولية على الأرض، متجاهلة بذلك الجزء من قرار التقسيم القاضي بوجود لجنة من الأمم المتحدة في فلسطين. سمحت بريطانيا بحدوث التطهير العرقي الذي جرى تحت بصر وسمع جنودها وموظفيها خلال فترة الانتداب التي انتهت في منتصف ليل 14 أيار 1948، كما أنها أعاقت جهود الأمم المتحدة للتدخل بطريقة كان من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ أعداد من الفلسطينيين. أمّا الأمم المتحدة، فلا يمكن تبرئتها من ذنب التخلي، بعد 15 أيار، عن الشعب الذي قسّمت أرضه وسلّمت أرواحه وأرزاقه إلى اليهود الذين كانوا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، يريدون اقتلاعه والحلول مكانه في البلد الذي كانوا يعتقدون أنه ملك لهم.
لا بد من أن يكون اتضح الآن أن الأسطورة التأسيسية الإسرائيلية في شأن الهروب الطوعي للفلسطينيين في لحظة بدء الحرب- استجابة لدعوة الزعماء العرب إلى إخلاء الطريق أمام الجيوش الغازية- لا أساس لها من الصحة. إنها تلفيق محض من أجل القول إنه جرت محاولات يهودية، كما تصر الكتب المدرسية الإسرائيلية على الادعاء، لإقناع الفلسطينيين بالبقاء. فكما رأينا، كان مئات الآلاف من الفلسطينيين قد طردوا فعلاً بالقوة قبل أن تبدأ الحرب، وسيطرد عشرات الآلاف في الأسبوع الأول منذ بدئها. وبالنسبة إلى معظم الفلسطينيين، لم يكن تاريخ 15 أيار 1948 ذا أهمية خاصة وقتها: كان مجرد يوم آخر في الروزنامة المرعبة للتطهير العرقي الذي كان بدأ قبل أكثر من خمسة أشهر.
المفضلات