التعاقب والتزامن (نموذج تاريخى وبنيوى أو يدور حول موضوعات)
«تعاقَب الشيئان» عبارة معناها «خَلَف أحدهما الآخر»، و«تعاقَب القوم في الشيء أو الأمر» معناها «تناوبوه»، ومن ذلك كلمة «تعاقُب». أما «التزامن»، في علم الطبيعة، فهو ما يتفق مع غيره في الزمن. ومن ثم، يجيء «التعاقُب» في مقابل «التزامن». والوجود الإنساني يكون داخل كل من التعاقُب والتزامن، فالأيام تجري الواحدة تلو الأخرى، ومراحل حياة الإنسان تتعاقب وكذا الفصول. والتجربة الأساسية في حياة الإنسان (التاريخ والزمن) هي أيضاً تجربة تعاقُب، فتدول الدول وتحل محلها أخرى.
ولكن، إلى جانب التعاقُب، توجد تجربة التزامن. فإذا كان الزمان متغيِّراً، فإن المكان يتسم بقدر أكبر من الثبات، بل إن الزمان المُتعاقب نفسه يأخذ شكل أنماط متكررة تتسم بنفس السمات ومن ثم بقدر من الثبات. وهكذا يعيش الإنسان في تَعاقُب وتَزامُن يتغير ويتطور دون أن يعني تغيُّره وتطوُّره تحوُّله الكامل.
والتضاد بين التعاقب والتزامُن مقولة أساسية في الفلسفة البنائية التي تُعرِّف البنية بأنها مجموعة العلاقات بين العناصر المختلفة للظاهرة والتي تعطي لهذه الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. ومن يؤمن بالتَعاقُب وحسب يرى أن العالم لا ثبات فيه وأن كل الأمور زمنية نسبية (وهذا هو جوهر التفكير التاريخاني [بالإنجليزية: هيستوريسيست historicist])، أما من يؤمن بالتزامُن فهو يؤمن بالثبات والجمود وكأن الشيء الوحيد الحقيقي هو المُثُل الأفلاطونية وأن الواقع إن هو إلا انعكاس خافت لها، ومن ثم يكون البحث عن الثابت دون المتحول. والفكر الكـموني الواحـدي المـادي يتأرجح بين التعاقُب والتزامُن (تماماً مثلما يتأرجح بين الذات والموضوع من جهة، واليقين الكامل والنسبية الكاملة من جهة أخرى). وهو انعكاس للإشكالية الأساسية في النظم الكمونية بين النزعة نحو تأليه الكون وإنكاره. فالنزعة نحو تأليه الكون تأخذ شكل تَبنِّي نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التَعاقُب (نماذج تاريخية)، أما النزعة نحو إنكاره فتتبني نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التزامُن والثبات (نماذج بنيوية). ويُلاحَظ الانتقال من النماذج التفسيرية التاريخية إلى النماذج التفسيرية البنيوية في الحضارة الغربية، فقد كانت النماذج التفسيرية التاريخية تسود فيها في عصر المادية البطولي والتحديث مع الإيمان بفكرة التقدم وبمقدرة الإنسان على أن يسيطر على الزمان والمكان من خلال مسار التاريخ. ومع أن النزعة الإمبريالية الغربية تنزع نحو إنكار تواريخ الآخرين (كما يفعل الصهاينة مع الفلسطينيين)، إلا أنها نزعة تستند أيضاً إلى رؤية تاريخية محددة للذات باعتبارها ثمرة تطور تاريخي حتمي وضعها في قمة سلم التقدم والتطور وأسبغ عليها حقوقاً مطلقة لهذا السبب. ولكن، مع فقدان الإنسان الغربي ثقته في نفسه ومع تراجُع الإمبريالية، بدأ الإنسان الغربي يفقد ثقته في التاريخ كمجال لتَحقُّق ذاته التاريخية، وبدأ الانتقال إلى نماذج بنيوية (الانتقال من هيجل وماركس إلى كيركجارد ونيتشه وأخيراً دريدا)، وبدأ الاهتمام بالأسطورة التي عرَّفها ليفي شتراوس بأنها آلات لخنق الزمان إلى أن نصل إلى أسطورة نهاية التاريخ.
المفضلات