بداية الاستيطان الصهيوني في (فلسطين)
القدس قبل الاحتلال
خلال فترة الخلافة العثمانية في "فلسطين" والتي امتدّت من عام ( 923هـ = 1517م) وحتى عام ( 1335هـ = 1917م)، كان هناك العديد من العوامل التي أدّت إلى قيام الكيان الصهيوني، فلقد تميزت الدولة العثمانية بسياسة شديدة التسامح مع الأقليات، وقد ساعد ذلك على حرية الحركة والتخطيط، وخاصة في الفترة التي تميّزت فيها الخلافة العثمانية بالضعف، نتيجة تكالب الدول الاستعمارية عليها، بالإضافة إلى دور محاكم التفتيش الكاثوليكية في أسبانيا ( 1077هـ = 1666م) في تصفية كل من الوجود الإسلامي واليهودي مما أدى إلى هجرة اليهود، وخلق ما يسمى بيهود "الدونما"، والذين رفعوا شعار: "العام القادم في أورشليم".
وقد كان للعديد من الحركات الصهيونية في أوروبا أثر بالغ في تحريك مجريات الحياة الأوربية، وخاصة من الناحية الاقتصادية، وقد ظهر ذلك جليًا في عملية تمويلهم للثورة الفرنسية سنة ( 1213هـ = 1798م)، والتي قامت تحت مسمى التصدّي لظلم الكنيسة الكاثوليكية ورفعت شعار: "اخنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس"، وقد أدَّى ذلك إلى زيادة نفوذهم وتأثيرهم في المجتمع الأوروبي، فكان أول وعد بإقامة كيان يهودي بفلسطين هو ما وعدهم إياهم "نابليون بونابرت" خلال حملته الفرنسية على الشرق سنة ( 1213هـ = 1798م)، من خلال دعوته لليهود في"آسيا" و"أفريقيا" للالتحاق بجيشه من أجل دخول "القدس" ضمن "الحملة الفرنسية" على الشرق، إلا أنه لم يستطع أن يحقق ما وعدهم إياه بعد فشله في فك حصار "عكّا" المشهور في ( 15 من ذي الحجة 1213هـ = 20 من مايو1799م)، وجلاء الجيش الفرنسي نهائيًا إلى "فرنسا" سنة ( 1216هـ = 1801م).
وفي ذلك الوقت ظهرت التوجّهات الفكرية الأوروبية بتهجير اليهود وتوطينهم في "فلسطين"، ليتخلصوا من إزعاج اليهود بالإضافة إلى خلق كيان يهودي في وسط المنطقة الإسلامية يكون مصدر قلق دائم للدولة العثمانية، وفي ذلك الإطار نشأ الفكر البروتستانتي المنادي بأن ثمة رابط بين اليهود والأراضي المقدسة، وأن اليهود هم شعب الله المختار، كما ظهر العديد من الجمعيات اليهودية على الساحة الأوربية، التي تمارس الفكر الصهيوني مثل "جمعية لندن" وغيرها من الجمعيات، وكان مما لفت الأنظار الأوروبية إلى "فلسطين" وقوع "القدس" في يد الوالي "محمد علي باشا" بعد أن دخلها ابنه "إبراهيم باشا "على رأس جيش كبير سنة( 1247هـ = 1831م)، وقد تميّزت سياسة "إبراهيم باشا " في "فلسطين" بالتخفيف عن غير المسلمين والسماح لهم بإقامة مناطق العبادة، واستخراج تراخيص بناء المساكن.
مغتصبات صهيونية
إلا أن بداية ظهور المساعي الاستيطانية للحركة الصهيونية علنًا في "فلسطين" كانت على يد واحد من زعماء الصهاينة، هو السير "موشى مونتفيوري" الذي نجح في استصدار أمر من "محمد علي باشا" يسمح له بموجبه بشراء وتملّك الأراضي الزراعية، وممارسة أعمال الزراعة بالأراضي الفلسطينية، ولكن وقف أمام إصدار ذلك الأمر أعضاء مجلس القدس، فأيّد "محمد علي باشا" رأيهم، ورفضه هو الآخر، ولكن جاءت معاهدة لندن سنة (1256هـ = 1840م) لتقليص ممتلكات" محمد علي"، وقصرها فقط على "مصر"، وإرغامه على سحب قواته من بلاد "الشام"، ثم كانت الديون ذريعة أخرى للتدخل في الشئون الداخلية للبلاد؛ لإجباره على الانسحاب من "فلسطين" ( 1257 هـ = 1841م ) بعد فترة دامت 10 سنوات.
وبعد انتهاء حكم "محمد على باشا" لفلسطين كان الطريق ممهدًا أمام الحركة الصهيونية التي لم تتوانَ في انتهاز الفرص،وعاد "مونتفيوري" ليحقق حلمه من جديد بفلسطين فاستطاع الحصول على فرمان عثماني في زمن السلطان "عبد المجيد" سنة ( 1271 هـ = 1855 م ) نتيجة لضغط بريطاني يسمح لليهود بتملك الأراضي في "فلسطين" من خلال خطة كاملة لتوطين اليهود؛ فاشترى أرضًا بالقرب من"القدس" وهي التي أقيم عليها "الحي اليهودي"-فيما بعد- وقد عرفت آنذاك بحي "مونتفيوري" فكانت تلك هي النواة الأولى للمستوطنات اليهودية فتبعتها مستوطنات زراعية في "الجليل" و"يافا" و"حيفا" بالإضافة إلى عدد من المشاريع الصناعية.
وقد قامت الجمعيات العالمية اليهودية وعلى رأسها "جمعية التحالف الإسرائيلي العالمي"، و"شركة تطوير أراضي فلسطين"، و"صندوق اكتشاف فلسطين"، و" الصندوق القومي اليهودي"، و" المصرف اليهودي للمستعمرات" بدور كبير في توطين اليهود من العالم أجمع، والتي كانت تمارس دورها من خلال البعثات الاستكشافية التي لم يكن الهدف العلمي هو هدفها الرئيسي بقدر ما كان هدفها ربط الأراضي الفلسطينية باليهود، وعمل خرائط تفصيلية تساعد اليهود في عمليات الاستيطان، وتوالت البعثات على "فلسطين" لدراسة سبل وخطط الاستيطان، ومن أبرز تلك البعثات البعثة التي كان على رأسها القس "آدم" عام ( 1283هـ = 1866م)، وتبعتها أول مستوطنة أمريكية بفلسطين سنة (1284هـ = 1867م )، ثم إنشاء مدرسة زراعية بفلسطين؛ لتعليم أبناء اليهود الزراعة سنة ( 1287هـ = 1870م )، وفي تلك السنة تم إنشاء مستوطنة "مكفية إسرائيل" على مساحة كبيرة من الأرض بلغت (2600) دونم ـ الدونم مقياس مربع يبلغ نحو ( 900 ) متر مربع ـ التي استأجرتها "جمعية الأليانس الإسرائيلية" من الحكومة العثمانية لمدة (99) سنة.
ومنذ سنة ( 1287هـ = 1870م) وحتَّى سنة ( 1332هـ = 1914م ) امتلك اليهود نحو ( 420600 ) دونم من الأرض اشتريت من غير عرب "فلسطين".
وخلال تلك المرحلة المليئة بالأحداث والصراعات برز دور السلطان "عبد الحميد الثاني" الذي كان على درجة عالية من الوعي المبكّر بخطورة المؤامرة الصهيونية العالمية على "فلسطين"؛ فقد أصدر أمرًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي الفلسطينية إلا في فترة الحج ويمنع المسافرين من اليهود من الإقامة في "فلسطين" أكثر من ثلاثة أشهر، كما أمر بمنع اليهود من شراء أية أراضٍ في "فلسطين".
وقد سعى اليهود إلى محاولة رشوة السلطان "عبد الحميد" سنة (1314هـ = 1896م)؛ فعرضوا عليه سداد جميع ديون الدولة العثمانية، وبناء أسطول لحمايتها، كما عرضوا تقديم قرض قدره (35) مليون ليرة ذهبية، مقابل التنازل عن جزء من أرض "فلسطين"، لكنه رفض عرضهم ورد عليه بكلمته المشهورة: "إن أرض فلسطين ليست ملكي ولا ملك أجدادي، ولن أفرّط في شبر من أرض الإسلام".
وقد أدّى ذلك إلى إثارة نقمة اليهود عليه؛ فسعوا إلى الإطاحة به ثم عملوا على إسقاط الخلافة العثمانية حتى نجحوا في ذلك بعد سنوات قليلة.
• أهم مصادر الدراسة:
الاستيطان.. التطبيق العملي للصهيونية: عبد الرحمن أبو عرفة.
الناشر: دار الجليل للنشر ـ عمان: [ 1406هـ = 1986 م].
إسرائيل الحقيقة والمستقبل: د. محمود متولي.
الناشر: مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة: [ 1394هـ = 1974 م].
تهويد فلسطين: إعداد وتحرير / د. إبراهيم أبو لغد ـ ترجمة : د. أسعد رزوق.
الناشر : منظمة التحرير الفلسطينية ـ مركز الأبحاث ـ بيروت : [ 1392 هـ = 1972 م ].
سلسلة ( كتب فلسطينية : 37 ).
سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني : قسطنطين بازيلي ـ ترجمة : طارق معصراني.
الناشر : دار التقدم ـ موسكو : [ 1409 هـ = 1989 م ].
الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة: وليم فهمي.
الناشر: معهد البحوث والدراسات العربية ـ القاهرة: [ 1391هـ = 1971م].
اليهود والدولة العثمانية: د. أحمد نوري النعيمي.
الناشر: مؤسسة الرسالة، دار البشير ـ بيروت: [ 1418هـ = 1998م].
المفضلات