.... تابع ما قبله ...
وفي تاريخ ابن الأثير رحمه الله : كان الفرنج في مدة مقامهم على عكا قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدا ، طول كل برج منها خمس طبقات ، كل طبقة مملوءة من المقاتلة ، وقد جمع أخشابها من الجزائر ، فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر ، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها ، وأصلحوا الطرق لها ، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات ، وزحفوا بها من العشرين من ربيع الأول ، فأشرفت على السور ، وقاتل من بها من عليه فانكشفوا ، وشرعوا في طم خندقها ، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهرا ، فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنسانا سبح في البحر فأعلمه ما هم فيه من الضيق ، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم ، فركب هو وعساكره ، وتقدموا إلى الفرنج وقاتلهم من جميع جهاتهم قتالا عظيما دائما ؛ يشغلهم عن مكاثرة البلد ، فافترق الفرنج فرقتين ، فرقة تقاتل صلاح الدين ، وفرقة تقاتل أهل عكا ، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد ، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة آخرها الثامن والعشرون من الشهر ، وسئم الفريقان القتال وملوا منه ؛ لملازمته ليلا ونهارا ، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد ؛ لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج ، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا عملوها ، فلم يفد ذلك ، ولم يغن عنهم شيئا ، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها ؛ فلم يؤثر فيها ، فأيقنوا بالبوار والهلاك ، فأتاهم الله بنصر من عنده ، وأذن من إحراق الأبراج ، وكان سبب ذلك أن إنسانا من أهل دمشق كان مولعا بجمع آلات النفاطين ، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار ، فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه ، وهو يقول : هذه حالة لم أباشرها بنفسي ، إنما أشتهي معرفتها ، وكان بعكا لأمر يريده الله ، فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا ؛ شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار ؛ بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما ، فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها ، وقال له يأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه ، وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله ، فازداد غيظا بقوله وحرد عليه ، فقال له قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمكي بالنفط وغيره فلم يفلحوا ، فقال له من حضر : لعل الله تعالى قد جعل الفرج على يد هذا ، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله ، فأجابه إلى ذلك ، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره ، فرمى عدة قدور نفطا وأدوية ليس فيها نار ، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئا يصيحون ويرقصون ويلعبون على سطح البرج ، حتى علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج ألقى قدرا مملوءة وجعل فيها النار ، فاشتعل البرج ، وألقى قدرا ثانية وثالثة فاضطرمت النار في نواحي البرج ، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص ، فاحترق هو ومن فيه ، وكان فيه من السلاح شيء كثير ، وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل يحملهم على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص ، حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة ، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني ، وقد هرب من فيه لخوفهم فأحرقه ، وكذلك الثالث ، وكان يوما مشهودا لم ير الناس مثله ، والمسلمون ينظرون ويفرحون ، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة ؛ فرحا بالنصر وخلاص المسلمين من القتل ؛ لأنهم ليس فيهم أحد إلا وله في البلد إما نسيب وإما صديق، وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والأقطاع الكثيرة فلم يقبل منه الحبة الفرد ، وقال : إنما عملته لله تعالى ، ولا أريد الجزاء إلا منه (12) .
وتأمل معي هذا الموقف الرائع الذي سجله التاريخ بأحرف من نور والذي يُظهر مدى صدق وإيمان المخترع المسلم الشاب علي بن عريف النحاسين لما بذل له السلطان صلاح الدين الأيوبي العطايا والأموال الجزيلة والأقطاع الكثيرة فلم يقبل منه الحبة الفرد ، وقال : إنما عملته لله تعالى ، ولا أريد الجزاء إلا منه ، وقال : إنما عملت ذلك ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده سبحانه ، فلا أريد منكم جزءا ولا شكورا .
وفي كتاب أبي شامة رحمه الله قال : وكان العدو قد اصطنع ثلاثة أبرجه من خشب وحديد ، وألبسها الجلود المسقاة بالخل ؛ بحيث لا تنفذ فيها النيران ، وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال نشاهدها من مواضعنا عالية على الأسوار ، وهي مركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر ، ويتسع سطحه لأن ينصب عليه منجنيق ، وكان ذلك قد عمل في قلوب المسلمين وأودعها من الخوف على البلد مالا يمكن شرحه ، وأيس الناس من البلد بالكلية ، وتقطعت قلوب المقاتلة فيه ، وكان قد فرغ عملها ولم يبق إلا جرها إلى قريب السور، وكان السلطان رحمه الله قد أعمل فكره في إحراقها وإهلاكها ، وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وباحثهم في الاجتهاد في إحراقها ، ووعدهم عليه بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة ، وضاقت حيلهم عن ذلك ، وكان من جملة من حضر شاب نحّاس دمشقي ، فذكر أن له صناعة في إحراقها ، وأنه إن مُكن من الدخول إلى عكا وحصل له الأدوية التي يعرفها أحرقها ، فحصل له جميع ما طلبه ، ودخل إلى عكا ، وطبخ تلك الأدوية مع النفط في قدور من النحاس ، حتى صار الجميع كأنه جمرة نار ، ثم ضرب البرج الواحد بقدر ، فاشتعل من ساعته ووقته ، وصار كالجبل العظيم من النار ، طالعة ذؤابته نحو السماء ، فاستغاث المسلمون بالتهليل والتكبير ، وغلبهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب ، فبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج الثاني بالقدرة الثانية ، والثالث بالثالثة ؛ فاحترقا كالأول (13) .
وغشي الناس من السرور والفرح ما حرك ذوي الأحلام منهم حركة الشباب الرعناء (14) .
... يُتبع .....
المفضلات