الســــفارد
Sephardim
«سفارد» مصطلح مأخوذ من الأصل العبري «سفارديم». ويُشار إلى السفارد أيضاً بكلمة «إسبانيولي»، وباليديشية بكلمة «فرانك» التي تشبه قولنا بالعربية «الفرنجة» (ومن هنا تسمية جيكوب فرانك، أي جيكوب السفاردي). و«سفارد» اسم مدينة في آسيا الصغرى تم ربطها بإسبانيا عن طريق الخطأ فتُرجمت الكلمة في الترجوم (الترجمة الآرامية لأسفار موسى الخمسة) إلى «إسباميا»، و«سباميا»، أما في البشيطا (الترجمة السريانية لأسفار موسى الخمسة) فهي «إسبانيا». وابتداءً من القرن الثامن الميلادي، أصبحت كلمة «سفارد» هي الكلمة العبرية المستخدمة للإشارة إلى إسبانيا. وتُستخدَم الكلمة في الوقت الحاضر للإشارة إلى اليهود الذين عاشوا أصلاً في إسبانيا والبرتغال، مقابل الإشكناز الذين كانوا يعيشون في ألمانيا وفرنسا ومعظم أوربا. وقد استقر أعضاء الجماعة اليهودية في شبه جزيرة أيبريا في أيام الإمبراطورية الرومانية. ولكن أهم فترة في تاريخهم هي الفترة التي حكم فيها المسلمون شبه جزيرة أيبريا والتي يُشار إليها باسم «العصر الذهبي». وكان أعضـاء الجماعة اليهودية يتحـدثون العربيـة في تلك الفترة، ويفكرون ويكتبون بها. ثم جاء الغزو المسيحي لشبه الجزيرة واستردادها، فاكتسب اليهود الصبغة الإسبانية وتحدثوا باللادينو، وهي لهجة إسبانية، ثم تم طردهم من إسبانيا عام 1492، ومن البرتغال عام 1497، فاتجهت أعداد منهم إلى الدولة العثمانية التي كانت تضم شبه جزيرة البلقان وشمال أفريقيا. ويُعَدُّ ميناء سالونيكا (في شبه الجزيرة اليونانية) عاصمة السفارد في العالم حتى الحرب العالمية الأولى، فقد كانت هذه المدينة تضم أغلبية سفاردية. ومن أهم المدن الأخرى التي استقر فيها السفارد في الدولة العثمانية: أدرنة والأستانة وصفد والقدس والقاهرة.
وبعد قرن من الزمان، لحقت بجماعة السفارد جماعات المارانو، وهم من يهود السفارد المُتخفِّين (البرتغاليين)، فاتجهت جماعات منهم إلى هولندا وفرنسا، كما اتجهت جماعات أخرى إلى أماكن أخرى في أوربا، مثل: إنجلترا وألمانيا وإيطاليا والدنمارك والنمسا والمجر، وإلى العالم الجديد (البرازيل والولايات المتحدة)، حيث أعلنت أعداد منهم عن هويتهم الدينية ومارسوا العقيدة اليهودية بشكل علني. وكان المُبعَدون من السفارد إسبانيين أو برتغاليين في تراثهم وثقافتهم ولباسهم وطَهْوهم وأسمائهم، ولذا كان يُطلَق عليهم اسم «الأسبان» أو «البرتغاليون». وقد احتفظ هؤلاء المُبعَدون بعلاقاتهم الثقافية بوطنهم الأصلي، حيث كانوا معتزين بهذا التراث وبالمكانة العالية التي حققوها في هذه البلاد.
وقد ظهر في صفوف السفارد عدد كبير من المفكرين مثل أورييل داكوستا. وليس من قبيل الصدفة أن أول مفكر يهودي يُعتَدُّ به في العصر الحديث كان سفاردي الأصل، وهو إسبينوزا. كما أن قبَّالاة الزوهار، وكذلك القبَّالاه اللوريانية التي اكتسحت أوربا الإشكنازية، كانت من أصل سفاردي، وكذا الشولحان عاروخ، أهم المصنفات الفقهية اليهودية، حيث وضعه يوسف كارو. وكان شبتاي تسفي (الماشيَّح الدجال) من أصل سفاردي أيضاً، أي أن كل التطورات التي حدثت بين الجماعـات اليهوديـة في هذه الفـترة كانت ذات أصـول سفاردية.
وقد كان السفارد يُصرّون على الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الإشكناز، الذين كانوا يتسمون بقدر كبير من العزلة والتخلف الحضاريين. وأخذت هذه المسـافة شـكل مؤسـسات دينية وتعليمية مستقلة، ورفض الزواج المُختلَط من الإشكناز، حتى أن السفاردي الذي يتزوج من إشكنازية كان يُطرَد من الجماعة السفاردية ولا يُدفَن في مدافنها. وحينما كانت الجماعة السفاردية تضطر إلى السماح لبعض الإشكناز بحضور الصلوات في معبدها، فإن أعضاءها كانوا يصلون وراء حاجز خشبي يُقام بهدف الفصل بين أعضاء الجماعتين. وحينما كانت أية جماعة سفاردية تهاجر إلى أية مدينة، فإنها كانت تحتفظ باستقلالها وبإحساسها بتَفوُّقها وتَفوُّق قيمها، حتى أنها كانت تصبغ بقية الجماعة بصبغة سفاردية. هذا ما حدث على سبيل المثال في الدولة العثمانية، حين امتزج اليهود الروم (الرومانيوت) واليهود المستعربة باليهود السفارد، فأصبحت اللادينو هي اللغة السائدة بينهم. وقد حدث الشيء نفسه في شمال أفريقيا.
وفي العصر الحديث، كانت الهجرة اليهودية في الغرب تأخذ الشكل التالي: يستقر أعضاء جماعة سفاردية تمتلك من الخبرات ورؤوس الأموال والاتصالات الدولية ما يجعل منها جماعة تجارية إدارية متقدمة، ثم تأتي الجماهير الإشكنازية وتلحق بهم، وكان السفارد يشغلون في معظم الأحيان قمة الهرم. ولذا، لعب السفارد دوراً مهماً في تَطوُّر الرأسمالية الغربية وبروز النظام الاقتصادي الجديد (في العالم) واتساع نطاق حركة الاكتشافات الجغرافية. وقد بدأ السفارد يستثمرون في كثير من المشروعات الاستعمارية الهولندية، فامتلكوا عدداً كبيراً من أسهم شركة الهند الغربية الهولندية. في حين ظل الإشكناز على هامش هذا التطور، فكان منهم صغار التجار وكان منهم المرابون المرتبطون بالنظام الاقتصادي القديم. ولعل هذا يُفسِّر بقاء المسألة اليهودية مسألة إشكنازية بالدرجة الأولى. ففي فرنسا مثلاً، اصطدم النظام الجديد بعد الثورة بيهود الألزاس واللورين، وهم من يهود اليديشية الإشكناز، بينما لم تَحدُث أية مواجهة بين هذا النظام وبين يهود بايون وبوردو من السفارد. وفي إنجلترا، لم تكن هناك مسألة يهودية إلا بعد هجرة يهود اليديشية بجحافلهم المتخلفة إليها.
وقد حقق السفارد بروزاً غير عادي في المجتمعات الغربية خصوصاً هولندا. وكان منهم أعداد كبيرة من يهود البلاط. كما اشتركوا في تمويل بعض الشركات الاستيطانية. وقد بلغ اليهود السفارد قمة نفوذهم المالي في نهاية القرن السابع عشر. ولكن وَضْعَهم أخذ في التدهور بعد ذلك التاريخ، وذلك مع ظهور القوة البريطانية وانكماش القوة الهولندية، ومع تَزايُد حجم التجارة الدولية التي لم يتمكن رأس المال السفاردي من استيعابها، ومع ظهور بورجوازيات محلية حلت محل يهود البلاط. وقد أدَّى وصول قوات الثورة الفرنسية إلى هولندا إلى قطع علاقة أعضاء الجماعات اليهودية فيها بالشبكة التجارية اليهودية في ألمانيا وبولندا والدولة العثمانية، ومن ثم فَقَد السفارد ما تَبقَّى لهم من قوة وثروة، وحدث التراجع الذي رجَّح كفة الإشكناز.
والجدير بالذكر أن عبرية السفارد مختلفة عن عبرية الإشكناز. وهذا يعود إلى أن يهود العالم العربي كانوا منذ أيام الأندلس لا يتحدثون إلا العربية، واقتصر استخدام العبرية على الكتابة الدينية المتخصصة. وقد كان لاحتكاك اليهود بالعرب أثر عميق في لغتهم، فقد ازدادت عبريتهم فصاحة بمجاورتها اللغة العربية التي تُعدُّ أرقى لغات المجموعة السامية كلها. وقد تَرتَّب على ذلك أن دولة إسرائيل، التي قامت على أكتاف الإشكناز، وجدت نفسها رغم كل شيء مُضطرَّة إلى اعتبار عبرية السفارد هي لغة المسرح الرسمية وكذلك لغة الإذاعة والتعليم في الجامعات والمدارس. وقد اضطر المؤلفون في الأدب العبري الحديث، أو العاملون في مجال الدراسات اللغوية، حتى وإن كانوا من الإشكناز، إلى الخضوع المُطلَق للسان السفارد. ولكن هذا لا ينفي أن هناك مزيجاً لغوياً في جبهة السفارد ذاتها، فبعضهم (مثل المارانو) يتحدث اللادينو أو البرتغاليـة، أما البعـض الآخر فيتـحدث اليونانيـة أو التركـية وهم أقلية. وقد انعكس هذا التباين اللغوي على طريقة نطقهم للعبرية. بل إن هذا التباين يمكن ملاحظته في نُطْق العبرية بين اليهود الذين يتحدثون اللغة نفسها، فثمة سمات محلية في النطق أصبحت تُميِّز اليهودي العراقي عن اليهودي اليمني أو المغربي، ليست نتيجة احتكاكه باللغة العربية الفصحى وحسب بل ونتيجة احتكاكه العميق باللهجة التي يتحدث بها مواطنو بلده. وفي الوقت الحاضر، بدأ السفارد يتحدثون (أساساً) لغة البلاد التي يتواجدون فيها.
ولا يوجد اختلاف جوهري بين السفارد والإشكناز في العقائد، فكلاهما يعتبر أن التلمود البابلي هو المرجع النهائي. ومع هذا، كان ليهود إسبانيا طريقتهم الخاصة في الصلاة وإقامة الشعائر الدينية التي تُعَدُّ استمراراً للتقاليد الدينية اليهودية التي نشأت وتطورت في بابل. أما الإشكناز، فتعود عبادتهم أساساً إلى أصول يهودية فلسطينية. وقد تعمَّقت الفروق بين الفريقين نتيجة تأثر السفارد في عبادتهم وتلاوتهم وترتيلهم وإنشادهم بالذوق العربي، كما انفردوا بنصوص شعرية ونثرية في أدعيتهم وصلواتهم قريبة الشبه بما يماثلها عند المسلمين.
ويُلاحَظ أن السفارد، بسبب مستواهم الثقافي العالي، كانوا أكثر تَسامُحاً وأوسع أفقاً. ومن هنا نجد أن الشولحان عاروخ (المُصنَّف التشريعي الذي وضعه كارو السفاردي) أكثر ليبرالية من تلك الرؤية التي سادت بين الإشكناز عند صدوره. وهناك اختلافات بين السفارد والإشكناز تعود إلى اختلاف البيئات الحضارية التي عاش في كنفها أعضاء الجماعات اليهودية السفاردية والإشكنازية. ففي عيد الفصح، يستخدم السفارد الخس باعتباره أحد الأعشاب المُرَّة التي تُؤكل في هذه المناسبة بدلاً من الفجل الحار. أما الصلـوات في المـعبد، فهي مخـتلفة في كثـير من النواحي السطحية، وعلى سبيل المثال، يرفع السفارد مخطوطة التوراة قبل قراءتها على خلاف الإشكناز الذين يفعلون ذلك بعدها. كما أن الخط المستخدم في كتابة المخطوطة مختلف. وكذلك، فإن معمار المعبد السفاردي يختلف، في بعض التفاصيل، عن معمار المعبد الإشكنازي.
المفضلات