بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و العاقبة للمتقين و لا عدوان إلا على الظالمين.
و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه أجمعين.
أما بعد :
إن أقصى ما يسعى إليه مناظري في نقاط هو :
1 _ بيان تكفير المسلمين بعضهم لبعض و اختلافهم الشديد في دين الله و ها أنتم رأيتم كيف استدل الضيف القبطي بالنصوص من المذهب المالكي و ذكر الشافعي و لا أدري لماذا لم يذكر الحنفي و الحنبلي و بفعله ذلك يعزي نفسه حين يرى فرق النصارى قد الحق بها فرق المسلمين . فالأرثوذكس يكفرون الكاثوليك و العكس.
2 _ إن اختلاف الأسفار بين كتب الضيف أمر مؤرق للغاية و لذلك فمناقشه و مناظرته لنا في الموضوع لإظهار عدم قرآنية البسملة لنكون و إياه سواء خاصة مع ما ضاع من أسفار قد أحال عليها ربهم في كتابهم الذي يقدسون و ذهبت أدراج الرياح ( وكل بالدليل ).
3 _ إن نفي التواتر عن القرآن و القراءات سبيل نحو تسوية كتاب ربنا بكتابه الذي لم يدري من كتبها فأراد إدخال القرآن إلى دياجر ظلام كتبه الذي يقدس .
و في سبيل ذلك كله حشر الضيف من خيل الأدلة ورجلها و خلط الحابل بالنابل و صدق فيه ما قلت له من تدليس و كذب و سيأتي البيان بعد إن شاء الله.
4 _ الإلحاح على إلزامنا باقوال علمائنا إسقاط من ضيفنا لأن علماءنا مع احترامنا و تقديرنا لهم لا نقدس أقوالهم و الحق أحق أن يتبع.
قلت إن الضيف القبطي في كل مداخلاته_ لمن تتبعها _ اعتمد على أقوال المالكية يضرب بها الشافعية و لم يذكر عن الأحناف و الحنابلة تفصيلا . و العجيب الغريب أنه لم يخرج بشيء فكان تحصيل حاصل . لأن الخلاف مذكور في مظانه و قال العلماء إن المسألة خلافية و لا يحق التكفير فيها من الطرفين .
قال الإما شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه :
َفإِنْ قَالَ الْمُنَازِعُ: إنْ قَطَعْتُمْ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، فَكَفِّرُوا النَّافِيَ، قِيلَ لَهُمْ: وَهَذَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ إذَا قَطَعْتُمْ بِنَفْيِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَفِّرُوا مُنَازِعَكُمْ.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى نَفْيِ التَّكْفِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ، مَعَ دَعْوَى كَثِيرٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ.
و قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار 2/218
واعلم أنالأمة أجمعت أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالإجماع .
أنت أيها الضيف عندما حدثتنا عن الإجماع و أوردت في ذلك صورة من كتاب الدرر اللوامع و حكيت ذلك الإجماع عن مالكي ما لبثت أن ضربته في مقتل حين تحدثت عن آراء المالكية و التي تخالف ذلك الإجماع .
و في إيرادك للمقدمات المنطقية فإني لا اسلم لك مقدمتك الكبرى لأنها على العموم فيها نوع تغرير ، فالقرآن غير مختلف فيه إذا أخذنا القراءة كلها أما إذا تحدثنا عن القراءات فيقول صاحب الذخيرة شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي:
البسملة وفيها أربعة مذاهب الوجوب ل ( ش )[ الشافعي ] والكراهة لمالك والندب لبعض أصحابنا والأمر بها سرا عند الحنفية قال في الكتاب لا يقرأ البسملة في المكتوبة سرا ولا جهرا إماما أو منفردا وهو مخير في النافلة قال صاحب الطراز لا يختلف في جوازها في النافلة وأنها لا تفسد الفريضة.
و قال أيضا:
تنبيه جمهور الأصحاب يعتمدون على أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر والبسملة ليست متواترة فلا تكون قرآنا ويعتقدون أنه دليل قاطع وهو باطل لأن قولهم القرآن لا يثبت إلا بالتواتر إن أخذوه كلية اندرجت فيها صورة النزاع فالخصم يمنع الكلية لاشتمالها على صورة النزاع أو جزئية لم تفد شيئا إذ لعل صورة النزاع فيما بقي غير الجزئية ومما يوضح لك فساده أن من زاد في القرآن ما ليس منه فهو كافر إجماعا وكذلك من نقص منه ما هومنه فكان يلزم تكفيرنا أو تكفير خصمنا وهو خلاف الإجماع فدل على أن القرآن ليس ملزوما للتواتر بل عند الخصم القرآن يثبت بالتواتر وبغير التواتر فمصادرته على ذلك لا تجوز لأنه يقول إن البسملة ليست متواترة وهي قرآن ونحن أيضا نقول هي غير متواترة ولا يكفر مثبتها من القرآن فدل ذلك على أننا غير جازمين بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر.
قال أحمد بن غنيم النفراوي في الفواكه الدواني:
لا منافاة بين قول العلماء، ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز فإنه مفتتح بها بإجماع الصحابة قراءة وكتابة، وكذا في أوائل السور خلا سورة براءة، وبين قول مالك إنها ليست آية من الفاتحة ولا من كل سورة لاختلاف العلماء فيها في تلك الأماكن، ولا يقال: لو كانت قرآنا لكفر جاحدها، لأنه يقال عليه: لو كانت من غير القرآن لكفر مثبتها. وفي التتائي: وقد يجاب عن المالكي بأنه أراد أن الكتاب العزيز ابتدأ بها في الكتابة أي وهذا لا يستلزم كونها قرآنا، وقولنا في تلك الأماكن للاحتراز عنها في آية النمل فإنها آية قطعا ثانيتهما: روي عن ابن مسعود رضي الله عنه عنه أنه قال: من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فيجعل الله له بكل حرف جنة من كل واحد.
و أيضا مما يخزي ضيفنا أن المالكية يجوزون البسملة في النفل دون الفرض .قال ابن جزي في القوانين الفقهية:
ولا بأس بالبسملة في التطوع عند الأربعة.
قال محمد بن أحمد في منح الجليل:
وكان المازري يبسمل سرا فقيل له في ذلك فقال مذهب مالك " رضي الله عنه " على قول واحد من بسمل لم تبطل صلاته .
ومذهب الشافعي " رضي الله عنه " على قول واحد من تركها بطلت صلاته انتهى ،
وصلاة متفق عليها خير من صلاة قال أحدهما ببطلانها .
فانظر إلى هذا الإمام الجليل كيف وفق بين الرأيين دون إشكال .
قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل:
وجازت البسملة في النفل.
الرد على ضيفنا في زعمه عدم تواتر القراءات :
للإجابة عن اعتراض الضيف يجب أن نطرح سؤالين مهمين:
الأول : ما العلاقة بين القرآن و القراءة.
الثاني : ما معنى التواتر نفسه؟
الجواب في هذا الإيراد :
يجب التفريق بين نوعين من التواتر :
قال الرازي :" التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترا أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما فكذا التواتر في المخبرين المراد به مجيئهم على غير الاتصال
وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.:[1].
أنتقل الآن لبيان نوعه فأقول :
" التواتر نوعان:
1ـ تواتُرٌ ضرُوريٌّ:
وهوَ ما يقعُ العلمُ به ضرُورةً، فلا إمكانَ لدَفعِهِ ولا التَّردُّدِ فيهِ....
ـ تواتُرٌ نظريٌّ:
وهو ما توقَّف العلمُ به على تتبُّعِ الأسانيدِ وجمعهَا والنَّظرِ فيها.
وكثيرٌ من السُّننِ المتواترَةِ عُرفَ بهذا الطَّريقِ، ولهذا خفي العلمُ بتواتُرِ بعضِ ذلكَ، فكمْ من سنَّةٍ يظنُّ الظَّانُّ أنها سُنَّةُ آحادٍ وهي متواترةٌ، لأنه لم يطَّلعْ في طُرق روايتِهَا على ما جمعَ شُروطَ التَّواتُرِ المتقدِّمة، وهذا جانبٌ يحتاجُ فيه الفقيهُ إلى (علوم الحديثِ) ليعلمَ الوجوه الَّتي وردَ عليها الخبر.
كما يجبُ أن يُلاحظَ أنَّ من المتأخِّرينَ من أغفلَ اجتماعَ الشُّروطِ المتقدِّمةِ في التَّواترِ سِوى مجرَّدِ العدَدِ، وهذا لا يُغني وحدَهُ في إفادَةِ التَّواترِ، فقدْ وُجدَتْ أحاديثُ رواتُها كثيرونَ ربَّما بلغُوا العشرَةَ أو زادُوا، لكنَّ مدارَ أسانيدهم على رواةٍ لم يؤمن تواطؤهُم على الكذبِ أو الخطإ، وهذا يعني وجوبَ النَّظرِ في أحوالِ النَّقلةِ والأمنِ من وقوعِ ذلك منهُم." [2]
لا بد من التمييز بين مصطلح المتواتر عند الأصوليين و المحدثين كما أن مصطلح الحديث نفسه يختلف بينهم و أشرع الآن في بيان الأمر .
قال ابن الجزري: وبقى ما اتحد لفظه ومعناه مما يتنوع صفة النطق به كالمدات وتخفيف الهمزات والإظهار والإدغام والروم والإشمام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات ونحو ذلك مما يعبر عنه القراء بالأصول فهذا عندنا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ أو المعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً وهو الذي أشار إليه أبو عمرو بن الحاجب بقوله: والسبعة متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه، وهو وإن أصاب في تفرقته بين الخلافين في ذلك كما ذكرناه فهو واهم في تفرقته بين الحالتين نقله وقطعه بتواتر الاختلاف اللفظي دون الأدائي بل هما في نقلهما واحد وإذا ثبت تواتر ذلك كان تواتر هذا من باب أولى إذ اللفظ لا يقوم إلا به أو لا يصح إلا بوجوده وقد نص على تواتر ذلك كله أئمة الأصول كالقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني في كتابة الانتصار وغيره ولا نعلم أحداً تقدم ابن الحاجب إلى ذلك والله أعلم نعم هذا النوع من الاختلاف هو دخل في الأحرف السبعة لا أنه واحد منها ."[3].
و قال في شرط القراءة:
وقولنا وصح سندها فإنا نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم، وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وإن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن وهذا ما لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذا ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أم خالفه وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف.
و يظهر من خلال القول الثاني أن الإمام ابن الجزري مضطرب العبارة في المسألة لأنه نظر إلى النوع الأول من التواتر و إن حصل له القول بالنوع الثاني قال:"فإن التواتر قد يكون عند قوم دون قوم." [4]
و العجيب أن هذا الكلام كتبه بعد بيان تاريخ كتابة مؤلفه و قال في موضع آخر تحت عنوان :
في القراءة المتواترة و الصحيحة و الشاذة .
نقول كل قراءة وافقت العربية مطلقا ووافقت أحد المصاحف العثمانية و لو تقديرا و تواتر نقلها هذه القراءة المتواترة المقطوع بها . ."[5]
و قال أيضا:
فالذي وصل إلينا اليوم متواترا و صحيحا مقطوعا به قراءات الأئمة العشرة و رواتهم المشهورين .هذا الذي تحرر من أقوال العلماء و عليه الناس اليوم بالشام و العراق و مصر و الحجاز و أما بلاد المغرب و الأندلس فلا ندري ما حالها اليوم." [6]
و قال أيضا:
الباب الرابع في سرد مشاهير من قرأ بالعشرة و أقرأ بها في الأمصار إلى يومنا هذا
اعلم أن المقرئين بها كثيرون لا يحصون استوعبتهم في كتاب طبقات القراء إلى أن قال منهم من المشاهير دون غيرهم على حسب طبقاتهم خلفا عن سلف ليعلم أنها وصلت إلينا متواترة. ." [7]
و أنشد رحمه الله :
و بعد فإني ناظم الاحرف الثلا
ثة الغر نظما موجزا و مفصلا
لمن أتقن السبع القراءات و هو يطـ
ـلب العشر و الطرق العوالي مكملا
فكم من إمام قال فيها تواترت
و إجماع أهل العصر في ذا تنزلا
و ذا الحق و هو الاعتقاد بلا مرا
فتتلو بها في الفرض مع غيره كلا
وقال ابن الجزري أيضا :
وقد جرى بيني وبينه[ أي السبكي الابن] في ذلك كلام كثير وقلت له ينبغي أن تقول والعشر متواترة ولا بد، فقال أردنا التنبيه على الخلاف فقلت وأين الخلاف، وأين القائل به؟ قال إن قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف غير متواترة فقال يفهم من قول ابن الحاجب والسبع متواترة فقلت أي سبع وعلى تقدير أن يكون هؤلاء السبعة مع أن كلام ابن الحاجب لا يدل عليه فقراءة خلف لا تخرج عن قراءة أحد منهم بل ولا عن قراءة الكوفيين في حرف فكيف يقول أحد بعدم تواترها مع ادعائه تواتر السبع وأيضاً. [8]
فهو يعترف أنها متواترة و إن كان عن له فيها رأي زالت شبهته عنده كما ورد في المنجد.و لذلك نبه الشوكاني على هذا فقال: فانظر كيف جعل اشتراط التواتر قولا لبعض المتأخرين وجعل قول أئمة السلف والخلف على خلافه .[9]
و تحت عنوان : في أن العشرة بعض السبعة و أنها متواترة. ." [10]
و حديثه عن العشرة و ليس عن السبعة فهي مقطوع بأنها متواترة.
و ممن قال بتواتر القراءات السبعة :
الشيخ علي النوري في كتابه غيث النفع في القراءات السبع الذي طبع بهامش كتاب سراج القارئ المبتدي و تذكار المقرئ المنتهي .قال رحمه الله:
و هذه الأحرف السبعة داخلة في القراءات العشرة التي بلغتنا بالتواتر.[11]. بل ذكر أن القول بغير تواترها يؤدي إلى تسوية غير القرآن بالقرآن .[12]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر و مراجع الرد :
[1]الإمام فخر الدين الرازي. المحصول من علم الأصول 4/323
[2]الجديع تيسير أصول الفقه 2/17
[3] النشر في القراءات العشر 1/42
[4] ابن الجزري منجد المقرئين و مرشد الطالبين 78دار الكتب العلمية طبعة 1400
[5] ابن الجزري منجد المقرئين و مرشد الطالبين 15
[6] ابن الجزري منجد المقرئين و مرشد الطالبين23
[7] ابن الجزري منجد المقرئين و مرشد الطالبين 29 .
[8] النشر في القراءات العشر1/60.
[9] الشوكاني .نيل الأوطار 2/262
[10] ابن الجزري منجد المقرئين و مرشد الطالبين 54
[11] غيث النفع في القراءات السبع 16
[12] غيث النفع في القراءات السبع 17.
المفضلات