3- العالم الديني


واستقبله زعماء الكنيسة الكبرى "أحسن استقبال" (75؟) ولكنهم حين اختلوا به حذروه بأن قالوا له: "أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا وهم جميعاً غيورون للناموس، وقد أُخبروا عنك أنك تعلم جميع اليهود الذين بين الأمم الارتداد عن موسى قائلاً ألا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد... سيسمعون أنك قد جئت، فافعل هذا الذي نقول لك. عندنا أربعة رجال عليهم نذر. خذ هؤلاء وتطهر معهم وانفق عليهم، فسيعلم الجميع أن ليس شيء مما أخبروا عنك. بل تسلك أنت أيضاً حافظاً للناموس"(41).
وتقبّل بولس النصيحة راضياً، وأجرى طقوس التطهير، ولكن بعض اليهود رأوه في الهيكل فرفعوا عقيرتهم قائلين إنه "هو الرجل الذي يعلم الجميع في كل مكان ضداً للشعب والناموس". وقبض عليه نفر من الغوغاء، وجرّوه خارج الهيكل "وبينما هم يطلبون أن يقتلوه" إذ أقبلت كتيبة رومانية وأنقذته من القتل بأن قبضت عليه. والتفت بولس ليتحدث إلى الجماهير وأكد لهم أنه يهودي ومسيحي، فنادوا بقتله، فأمر الضابط الروماني بجلده، ولكنه ألغى الأمر حين علم أن بولس يتمتع بحق المواطنية الرومانية. وجيء بالسجين في اليوم الثاني أمام السنهدرين، فخاطب بولس المجلس وأعلن أنه فريسي، ونال بذلك بعض التأييد، ولكن أعداءه المهتاجين حاولوا مرة أخرى أن يعتدوا عليه، فأخذه الضابط إلى الثكنات. وجاءه في تلك الليلة إبن أخت له يحذره ويقول له إن أربعين من اليهود قد اقسموا ألا يأكلوا أو يشربوا حتى يقتلوه. وخشى الضابط أن يحدث في المدينة اضطراب يضر به، فأرسل بولس ليلاً إلى فيلكس وإلى قيصرية.
وجاء رئيس الكهنة ومعه بعض الشيوخ من بيت المقدس إلى قيصرية بعد خمسة أيام من ذلك الوقت وقالوا إنهم وجدوا بولس "مفسداً مهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة" وأقر بولس أنه يدعو إلى دين جديد، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يؤمن "بكل ما هو مكتوب في الناموس". فما كان من فيلكس إلا أن طرد الشاكين، ولكنه مع ذلك أبقى بولس تحت الحراسة ومنع أحداً من أصحابه أن يأتي إليه. وبقي بولس على هذه الحال عامين كاملين (58 - 60)، ولعل فيلكس كان يرجو أن يحصل على رشوة طيبة.
ولما عُيّن فستوس والياً بعد فيلكس عرض أن يحاكم بولس أمامه في دمشق، ولكن بولس خشى هذا الجو المهتاج فلجأ إلى ما له من حق بوصفه مواطناً رومانياً، وطلب أن يحاكم أمام الإمبراطور نفسه. وبينما كان الملك أغرباس (أجربا) ماراً بقيصرية أذن له بالمثول بين يديه مرة أخرى وحكم عليه بأن علمه الكثير قد جعله يهذي ولكنه فيما عدا هذا بريء. وقال أغرباس إنه "كان يمكن أن يطلق هذا الإنسان لو لم يكن قد رفع دعواه إلى قيصر". وأركب بولس سفينة تجارية سافرت به على مهل، وقضت في البحر زمناً طويلاً صادفتها في أثنائه عاصفة شتوية قبل أن تصل إلى إيطاليا. ويقال إن العاصفة دامت أربعة عشر يوماً ضرب فيها بولس البحارة والمسافرين مثلاً طيباً مشجعاً للرجل الذي يسمو على الموت، الواثق من النجاة. وتحطمت السفينة على صخور مالطة، ولكن من عليها نجوا بالسباحة إلى الشاطئ. وبعد ثلاثة أشهر من هذه الحادثة وصل بولس إلى إيطاليا. وعامله ولاة الأمور الرومان برفق، وانتظروا حتى يأتي الشاكون من فلسطين، وحتى يجد نيرون متسعاً من الوقت يستمع فيه إلى قضيته. وسمح له أن يعيش في بيت يختاره هو لنفسه؛ وأن يوكل جندي لحراسته. ولم يكن في مقدوره أن يتنقل في المدينة بكامل حريته؛ ولكن كان يستطيع استقبال كل مَن يشاء. ولهذا دعا زعماء اليهود في روما أن يوافوه في المنزل الذي يقيم فيه؛ فجاءوا واستمعوا إليه وهم صابرون ولكنهم لما رأوا أنه لا يعتقد بأن مراعاة الناموس اليهودي ضرورية للنجاة، تولوا عنه، فقد كان يبدو لهم أن الناموس هو عماد الحياة اليهودية وسلواها اللذان لا غنى لها عنهما. وناداهم بولس قائلاً: "فليكن معلوماً عندكم أن خلاص الله قد أرسل إلى الأمم وهم سيسمعون!"(42) وغضبت الجالية المسيحية التي وجدها في روما من موقفه هذا كما غضب منه اليهود ذلك أن هؤلاء الأخوان وجلّهم من اليهود كانوا يفضلون المسيحية التي جاءت إليهم من أورشليم، فكانوا يختتنون، وكانت روما لا تكاد تفرق بينهم وبين اليهود الأصليين. ورحب هؤلاء ببطرس ولكنهم قابلوا بولس بفتور؛ واستطاع أن يهدي بعض سكان روما من غير اليهود، ومن بينهم بعض ذوي المناصب الكبرى، ولكنه ضاق ذرعاً بوحدته في سجنه وأحس بوطأة القيود المفروضة عليه.
وكان يجد بعض السلوى فيما يبعث به من رسائل طويلة رقيقة إلى أتباعه البعيدين عنه، وكان قد قضى عشر سنين يكتب مثل هذه الرسائل، وما من شك في أن مجموعها يزيد كثيراً على العشر التي وصلتنا منسوبة إليه . ولم يكن يكتبها هو بقلمه، بل كان يمليها، وكثيراً ما يضيف إليها حاشية بخط يده غير الأنيق ويبدو أنه تركها دون أن يراجعها، تركها بكل ما فيها من تكرار وغموض وخطأ نحوي. واكن ما فيها من شعور عميق يفيض بالإخلاص، وغيرة وغضبة قوية للقضية الكبرى التي وهب حياته للدفاع عنها، وكثرة ما فيها من أقول نبيلة رائعة، كل هذا قد جعلها أقوى وأبلغ ما كتب من الرسائل في أدب العالم كله؛ وإن ما في أدب شيشرون من سحر ليبدو ضئيلاً إذا قيس إلى ما فيها من إيمان قوي فياض. فهي تشتمل على ألفاظ حب قوية ينطق بها رجل كانت كنائسه في منزلة أبنائه الذين يحميهم ويرد عنهم الأذى بأعظم ما يستطيع من قوة، وفيها هجوم عنيف على أدائه الذين لا حصر لهم، وتأنيب شديد للمذنبين والمارقين، والخصيمين الساعين إلى التفرقة؛ ولا يخلو جزء منها من إنذار ونصح رحيم رقيق "وكونوا شاكرين، لتكن فيكم كلمة المسيح بغنىً وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذورون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب"(44) وها هي ذي كلمات كبيرة يرددها العالم المسيحي كله ويعتز بها: "الحرف يقتل، ولكن الروح يحيى"(45)، "المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة"(46)، "كل شيء طاهر للطاهرين"(47). "محبة المال أصل لكل الشرور"(48). وها هي ذي اعترافات صريحة منه بعيوبه بل بريائه الشبيه برياء رجال السياسة:
"استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين، فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس... لأربح الذين بلا ناموس... صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه"(49).
وقد احتفظت بهذه الرسائل الجماعات التي وجهت إليها وكثيراً ما كانت تتلوها على الناس جهرة، ولم يكد يختتم القرن الأول حتى كان الكثير منها معروفاً واسع الانتشار، فها هو ذا كلمنت الروماني يشير إليها في عام 97، ويشير إليها أيضاً بعد قليل من ذلك الوقت كل من أجناسيوس Ignatius وبوليكارب Polycarp؛ ولم تلبث أن دخلت في أخص خصائص اللاهوت المسيحي. ولقد أنشأ بولس لاهوتاً لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد الغموض في أقوال المسيح. وكانت العوامل التي أوحت إليه بالأسس التي أقام عليها ذلك اللاهوت هي انقباض نفسه، وندمه، والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله؛ ولعله قد تأثر بنبذ الأفلاطونية والرواقية للمادة والجسم واعتبارهما شراً وخبثاً؛ ولعله تذكر السنة اليهودية والوثنية سنة التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس: أما هذه الأسس فأهما أن كل إن أنثى يرث خطيئة آدم، وأن لا شيء ينجيه من العذاب الأبدي إلا موت ابن الله ليكفر بموته عن خطيئته . وتلك فكرة كانت أكثر قبولاً لدى الوثنيين منها لدى اليهود، ولقد كانت مصر، وآسية الصغرى، وبلاد اليونان تؤمن بالآلهة من زمن بعيد - تؤمن بأوزريس، وأتيس وديونيشس - التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان. وكانت ألقاب مثل سوتر (المنقذ) واليوثريوس Eleutherios (المنجي) تُطلق على هذه الآلهة، وكان لفظ كريوس Kyrios (الرب) الذي سمى به بولس المسيح هو اللفظ الذي تطلقه الطقوس اليونانية - السوريّة على ديونيشس الميت الُمفتدى(52)، ولم يكن في وسع غير اليهود من أهل إنطاكية وسواها من المُدن اليونانية، الذين لم يعرفوا عيسى بجسمه، أن يؤمنوا به إلا كما آمنوا بآلهتهم المنقذين، ولهذا ناداهم بولس بقوله: "هو ذا سر أقوله لكم"(53).
وأضاف بولس إلى هذا اللاهوت الشعبي المؤسى بعض آراء صوفية غامضة كانت قد ذاعت بين الناس بعد انتشار سفر الحكمة، وفلسفة افليمون. من ذلك قول بولس إن المسيح هو "حكمة الله"(54) و "ابن الله الأول بكر كل خليقة،
فانه فيه خلق الكل... الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل"(55)، وليس هو المسيح المنتظر "المسيا" اليهودي، الذي سينجي إسرائيل من الأسر، بل هو الكلمة الذي سينجي الناس كلهم بموته. وقد استطاع بولس بهذه التفسيرات كلها أن يغض النظر عن حياة يسوع الواقعية وعن أقواله التي لم يسمعها منه مباشرة، واستطاع بذلك أن يقف على قدم المساواة مع الرسل الأولين، الذين لم يكونوا يجارونه في آرائه الميتافيزيقية. لقد كان في وسعه أن يخلع على حياة المسيح وعلى حياة الإنسان نفسه أدواراً عليا في مسرحية فخمة تشمل النفوس على بكرة أبيها والأبدية بأجمعها. وكان في وسعه فوق هذا أن يجيب عن الأسئلة المربكة أسئلة الذين قالوا إنه إذا كان المسيح إلهاً حقاً فلم رضي أن يُقتل؟ فقال: إن المسيح قد قُتل ليفتدي بموته العالم الذي استحوذ عليه الشيطان بسبب خطيئة آدم. فكان لابد أن يموت ليحطم أغلال الموت، ويفتح أبواب السماء لكل مَن نالوا رضوان الله.
ويقول بولس إن عاملين اثنين يُقرران مَن سوف يُنجيهم موت المسيح وهما اختيار الله والإيمان المصحوب بالتواضع. فالله يختار من بداية العالم إلى نهايته مَن ينالون نعمته ورضوانه ومَن تحل بهم نقمته(56). ومع هذا فقد نشط بولس في تقوية إيمان الناس حتى يكون إيمانهم هذا سبيلاً إلى نيل رضاء الله. وقال: إن الروح لا تستطيع أن تحس بذلك التبدل العميق الذي يخلق صاحبها خلقاً جديداً، ويوحد بين المؤمنين وبين المسيح، ويمكنه من الاشتراك في ثمار موته. ويقول بولس إن الأعمال الطيبة، وإطاعة كل ما جاء في أوامر الشريعة اليهودية البالغ عددها 613 أمراً، لا يكفيان للنجاة، لأن هذه الأعمال وتلك الطاعة لا تستطيع أن تبدل طبيعة الإنسان أو أن تُطهّر النفس من الذنوب. لقد اختتم عهد الناموس بموت المسيح، ووجب ألا يكون الآن يهودي ويوناني، أو عبد وحر، أو ذكر وأنثى "لأنكم جميعاً واحد في المسيح"(58). لكن بولس لم يمل قط من أن يغرس في قلوب الناس فائدة للعمل الطيب مقترناً بالإيمان؛ وإن أشهر ما قيل من العبارات عن الحب نفسه لهي ألفاظه هو:
"إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن، وإن كانت لي نبوّة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً؛ وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً، المحبة تتأتى وتترفق، المحبة لا تَحسُد، المحبة لا تتفاخر... ولا تطلب ما لنفسها... وتحتمل كل شيء... أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة"(59).
أما الحب الجنسي فيجيزه بولس، ولكنه لا يشجعه إطلاقاً. ومن أقواله فقرة توصي(60)، ولكنها لا تثبت، إنه قد تزوج: "ألعلنا، هو وبرنابا" ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل واخوة الرب وصفاً؟" ولكنه في فقرة أخرى يسمي نفسه عزباً(61). وكان يشبه يسوع في تجرده من الشهوات الجنسية(62)، ولقد روع حين سمع بالشذوذ الجنسي بين الإناث والذكور(63). وسأل أهل كورنثة قائلاً: "أولستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم... فمجدوا الله في أجسادكم"(64)، وعنده أن بقاء البنات عذارى خير من الزواج، "ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لأن التزوج أصلح من التحرّق" وزواج المطلقين والمطلّقات حرام، إلا إذا كان المطلّق زوجاً لا امرأة غير مؤمنة أو كانت المطلّقة زوجة لغير مؤمن فإن لهما بعد الطلاق أن يتزوجا. وعلى المرأة أن تطيع زوجها، وعلى العبد أن يطيع سيده "الدعوة التي دُعي فيها كل واحد (أي اعتنق المسيحية) فليلبث فيها، دعت وأنت عبد لا يهمك، بل وإن استطعت أن تصير حراً فاستعملها بالحرى لأن من دعا في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب، كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد المسيح"(65).
ذلك أن الحرية والاسترقاق لم يكن لهما شأن يُذكر إذا كان العالم قريباً من نهايته. ولهذا السبب عينه لم يكن للحرية القومية شأن كبير "لتخضع كل نفس للسلاطين القائمة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله"(60). لقد كان خليقاً بروما ألا تقضي على فيلسوف مجامل طيّع إلى هذا الحد.