إسهامات دعوية للإمام الحسن البصري
لمّا ولى الحجّاج بن يوسف الثّقفى "العراق", وطغى فى ولايته وتجبر...كان الحسن اليصرىّ أحد الرجال القلائل الذين تصدوا لطغيانه, وجهروا بين الناس بسوء أفعاله, وصدعوا بكلمة الحق فى وجهه. من ذلك أن الحجّاج بنى لنفسه بناء, فنادى فى الناس أن يخرجوا للفرجة عليه. فلم يشأ الحسن أن يفوّت على نفسه فرصة اجتماع الناس، فخرج إليهم, ولمّا بلغ المكان ونظر إلى جموع الناس وهى تطوف بالقصر مدهوشة به، وقف فيهم خطيباً, وكان فى جملة ما قاله:
لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين, فوجدنا أن "فرعون" شيد أعظم ممّا شيد, وبنى أعلى ممّا بنى...ثمّ أهلك الله "فرعون" ودمرّ على ما بنى وشيد...ليت الحجّاج يعلم أنّ أهل السماء قد مقتوه, وأنّ أهل الأرض قد غرّوه...
ومضى يتدفق على هذا المنوال حتى أشفق عليه أحد السامعين من نقمة الحجّاج, فقال له:
حسبك يا أبا سعيد... حسبك.
فقال له الحسن:
لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيّننّه للنّاس ولا يكتمونه...
• وفى اليوم التالى دخل الحجّاج إلى مجلسه وهو يتميّز من الغيظ وقال لجلاسه:
تبّاً لكم وسحقاً! يقوم عبد من عبيد أهل "البصرة" ويقول فينا ما شاء أن يقول, ثم لا يجد فيكم من يردّه أو ينكر عليه!! والله لأسقينّكم من دمه يا معشر الجبناء.
ثمّ أمر بالسيف والنّطع (بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بقطع الرأس)... فأحضرا...ودعا بالجلاد, فمثل واقفاً بين يديه. ثمّ وجّه إلى الحسن بعض شرطه... وأمرهم أن يأتوه به...
وما هو قليل حتّى جاء الحسن, فشخصت نحوه الأبصار...فلمّا رأى الحسن السيف والنّطع والجلاد, حرك شفتيه...ثمّ أقبل على الحجّاج وعليه جلال المؤمن, وعزة المسلم, ووقار الداعية إلى الله. فلمّا رآه الحجّاج على حاله هذه, هابه أشد الهيبة وقال له:
ها هنا يا أبا سعد... ها هنا...
ثمّ ما زال يوسّع له ويقول:
ها هنا... والنّاس ينظرون إليه فى دهشة واستغراب حتى أجلسه على فراشه. ولمّا أخذ الحسن مجلسه, جعل يسأله الحجّاج عن بعض أمور الدين...
فقال له الحجّاج:
أنت سيد العلماء يا أبا سعيد.
ولمّا خرج الحسن من عنده, تبعه حاجب الحجّاج وقال له:
يا أبا سعيد, لقد دعاك الحجّاج اغير ما فعل بك, وانّى رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيف والنّطع, وقد حركت شفتيك, فماذا قلت؟
فقال الحسن:
لقد قلت: يا ولىّ نعمتى وملاذى عند كربتى, اجعل نقمته برداً وسلاماً علىّ كما جعلت النّار برداً وسلاماً على إبراهيم.
• ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاريّ العراق وأضيفت إليه خُراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك, استدعى كُلاً من الحسن البصريّ و عامر بن شراحبيل المعروف بالشعبىّ وقال لهما:
انّ أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك قد استخلفه الله على عباده, وأوجب طاعته على النّاس. وقد ولاّنى ما ترون من أمر "العراق" ثمّ زادنى فولاّنى "فارس". وهو يرسل إلىّ أحياناً كتباً يأمرنى فيها بإنفاذ ما لا أطمئنّ إلى عدالته. فهل تجدان لى فى متابعتى إياه وإنفاذ أوامره مخرجاً فى الدين؟
فأجاب الشّعبىّ جواباً فيه ملاطفة للخليفة, ومسايرة للوالى...
والحسن ساكت...
فقال عمر بن هبيرة للحسن: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال الحسن:
يا بن هبيرة خف الله في يزيد, ولا تخف يزيد في الله...واعلم أن الله يمنعك من يزيد, وأن يزيد لا يمنعك من الله...يا بن هبيرة أنّه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصى الله ما أمره, فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك...حيث لا تجد هناك يزيد, وإنّما تجد عملك الذى خالفت فيه ربّ يزيد... يا بن هبيرة انّك أن تكُ مع الله تعالى وفى طاعته, يكفك بائقة يزيد بن عبد الملك فى الدنيا والأخرة...وإن تكُ مع يزيد فى معصية الله تعالى, فإنّ الله يكلك إلى يزيد. واعلم يا بن هبيرة أنّه لا طاعة لمخلوق كائناً من كان فى معصية الخالق عزّ وجلّ.
فبكى عمر بن هبيرة حتى بلّلت دموعه لحيته...
فلمّا خرجا من عنده توجّها إلى المسجد, فاجتمع عليهما الناس, فالتفت إليهم الشعبىّ وقال:
أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه فى كل مقام فليفعل...فوالذى نفسى بيده ما قال الحسن لعمر بن هبيرة قولاً أجهله... ولكنّى أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة, وأراد فيما قاله وجه الله...فأقصانى الله من ابن هبيرة وأدناه منه وحبّبه اليه.
• ومن مواعظه التى هزّت وما زالت تهزّ الأفئدة, قوله لسائل سأله عن الدنيا وحالها:
تسألنى عن الدنيا والأخرة!!...
إنّّ مثل الدنيا والآخرة كمثل المشرق والمغرب...متى ازددت من أحدهما قرباً ازددت من الآخر بعداً. وتقول لى صف لى هذه الدار!!...فماذا أصف لك من دار أوّلها عناء وآخرها فناء...وفى حلالها حساب, وفى حرامها عقاب...من استغنى فيها فُتن, ومن افتقر فيها حزن...
• وقيل للحسن إن فلانا اغتابك فبعث إليه طبق حلوى وقال بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك بهذا.
• من كلماته: "ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت".
• وسأله آخر أيضا : ماذا فعلنا بأنفسنا ؟
قال : لقد أهزلنا ديننا ، وسمَّنا دنيانا ، وأخلقنا أخلاقنا ، وجدَّدنا فرشَنا وثيابنا ، يتَّكئُ أحدنا على شماله ، ويأكل من مالٍ غير ماله ، طعامه غصبٌ ، و خدمته سُخرة ، يدعو بحلوٍ بعد حامض ، وبحارٍّ بعد بارد ، وبرطبٍ بعد يابس ، حتى إذا أخذته القِظَّةُ تجشَّأ من البشم...
ثم قال : يا غلام هات هضوما - أي " كازوزا " - يهضم الطعام ، يا أُحَيْمق واللهِ لن تهضم إلا دينك...
أين جارُك المحتاج ؟...
أين يتيمُ قومك الجائع ؟...
أين مسكينُك الذي ينظر إليك ؟...
أين ما وصَّاك به اللهُ عزوجل؟...
ليتك تعلم أنك عددٌ ، وأنه كلما غابت عنك شمسٌ نقص شيءٌ من عددك ، ومضى بعضُه معك ".
المفضلات