الدكتور يوسف زيدان يحكى لنا فى رواية عزازيل مشهد مقتل العالمة العظيمة هيباتيا باسم الكنيسة و كأننا نراها، و هذ هى تلك الفقرة الهامة:
جئناك يا عاهرة يا عدوة الرب
التقط بطرس السكين الطويلة الصدئة , راة سائق عربة هيباتيا , فقفز كالجرذان وجرى متواريا بين جدران البيوت , كان بامكان السائق ان يسرع بحصانية فى الشارع الكبير , وما كان لأحد ان يلحق بالعربة , لكنة هرب ولم يحاول احدهم ان يلحق بة , ظل الحصانان يسيران مرتبكين , حتى أوقفهما بطرس بذراعة الملوحة بالسكين .... أطلت هيباتيا برأسها الملكى من شباك العربة , كانت عيناها فزعة مما تراة حولها , انعقد حاجباها وكادت تقول شيئا لولا ان بطرس زعق فيها : جئناك يا عاهرة يا عدو الرب .
امتدت نحوها يدة الناهشة وأيد أخرى ناهشة ايضا حتى صارت كانها ترتقى نحو السحاب فوق اذرعهم المشرعة
وبدأ الرعب فى وضح النهار
الايادى الممدودة كالنصال منها ما فتح باب العربة ومنها ما شد ذيل الثوب الحريرى ومنها ما جذب هيباتيا من ذراعها فألقاها على الارض , انفلت شعرها الطويل الذى كان ملفوفاً كالتاج فوق راسها فانشب فية بطرس اصابعة ولوى الخصلات حول معصمة , فصرخت فصاح :بأسم الرب سوف نطهر ارض الرب , سحبها بطرس من شعرها الى وسط الشارع , وحوله اتباعة من جند الرب يهللون .
حاولت هيباتيا ان تقوم , فرفسها احدهم فى جنبها , فتكومت , ولم تقو على الصراخ , اعادها بطرس الى تمددها على الأرض بجذبة قوية من يدة الممسكة بشعرها الطويل . الجذبة القوية انتزعت خصلات من شعرها فرماها , نفضها من يدة , ودس السكين فى الزنار الملفوف حول وسطة , وامسك شعرها بكلتا قبضتية , وسحبها خلفة .. ومن خلفة اخذ جند الرب يهتفون هتافة , ويهللون لة , وهو يجر ذبيحتة .
كنت لحظتها واقفا على رصيف الشارع ,. مثل مسمار صدىء . لما وصلوا قبالتى نظر بطرس ناحيتى بوجة ضبع ضخم , وتهلل وهو يقول : ايها الراهب المبارك , اليوم نطهر ارض الرب .. وبينما هى تتأرجح من ورائة على الارض , تقلبت هيباتيا , استدار وجهها نحو موضعى . نظرت الى بعين مصعوقة , ووجة تكاد الدماء منة تنفجر , حدقت فى وجهى لحظتها فأدركت انها عرفتنى مع اننى كنت فى الزى الكنسى !
مدت ذراعيها ناحيتى وصاحت مستصرخة بى
يا أخى
تقدمت الى منتصف الشارع خطوتين , حتى كادت اصابعى تلمس اطراف اصابعها الممدودة نحوى .
كان بطرس القارىء يلهث منتشياً وهو يمضى ناحية البحر ساحباً غنيمتة . وكان البقية يتجمعون حول فريستهم , مثلما تجتمع الذئاب حول غزال رضيع .. لما اوشكت اصابع هيباتيا ان تعلق بيدى الممدودة اليها , امدت يد نهشت كم ثوبها , فتطوحت كفها بعيداً عنى , وتمزق الثوب فى اليد الناهشة , فرفعة الناهش ولوح بة , وهو يزعق بعبارة بطرس :
باسم الرب , سوف نطهرأرض الرب ..
العبارة التى صارت يومها أنشودة للمجد الرخيص
من بعيد , اقبلت امرأة حاسرة الرأس كانت تصرخ وهى تقبل نحونا مسرعة فزعة قائلة :
يا أختاة .. ياجنود الرومان ..
أغثنا يا سرابيس !
المرأة المسرعة نحونا كان ثوبها وشعرها يرفان ورائها وكنا قد اقتربنا من ناحية البحر .. أقبلت المرأة تجرى نحو الجمع حتى أرتمت فوق هيباتيا , ظانة انها بذلك سوف تحميها فكان ما كان متوقعا. أندثت فيها الاذرع فرفعتها عن هيباتيا وألقتها بقوة الى جانب الطريق , أصطدم رأسها بالرصيف , وأنسحج وجهها , فتلطخ بالدم والتراب . حاولت المرأة ان تقوم , فضربها أحدهم على رأسها بخشبة عتية , بأطرافها مسامير فترنحت المرأة وسقطت من فورها على ظهرها أمامى , والدم يتفجر من أنفها وفمها , ويلطخ ثوبها . عند سقوطها أمامى صرخت من هول المفاجأة فقد عرفتها .. هى لم تعرفنى , فقد كانت تنتفض وهى تلفظ اخر انفاسها وهكذا ماتت أوكتافيا يوم الهول , تحت أقدامى من دون ان ترانى .
رجعت خطوات حتى ألتصق ظهرى بجدار بيت قديم , لم أستطع انتزاع عينى عن جثة أوكتافيا التى اهاجت دماؤها الصخب , فاشتدت بجند الرب تلك الحمى التى تتملك الذئاب حين توقع صيداً . صارت عيونهم الجاحظة مثل عيون المسعورين , وهاجت بواطنهم طلبا لمزيد من الدم والإفتراس , تجمعوا فوق هيباتيا , حين وقف بطرس ليلتقط انفاسة أمتدت الى يدها يد مازعة , ثم امتدت اياد اخرى الى صدر ردائها الحريرى الذى تهرأ , واتسخ بالدماء والتراب , أمسكوا برداء الثوب المطرز وشدوا فلم ينخلع وكاد بطرس يقع فوق هيباتيا من شدة الشدة المباغتة , لكنة سرعان ما عاد واستعاد توازنة , ومضى يجر ذبيحتة , ومن ورائة انحنى اتباعة محاولين اقتناص رداء هيباتيا ..
هيباتيا .. استاذة الزمان .. النقية .. القديسة ..
التى عانت الام الشهيد وفاقت بعذابها كل عذاب
على ناصية الطريق الممتد بحذاء البحر صاحت عجوز شمطاء
وهى تلوح بصليب , أسحلوا العاهرة
وكأن العجوز نطقت بأمر إلهى
توقف بطرس فجأة , وتوقف اتباعة , ثم تصايحوا بصرخات مجلجلة , تركت جثة أوكتافيا ورائى , ولحقت بهم مبهوتاً , املا ان تفلت هيباتيا من ايديهم , او يأتى جنود الحاكم فيخلصوها منهم أو تقع معجزة من السماء .. أو ..
كنت غير بعيد عنهم وغير قريب , فرأيت نتيجة ما أوحت بة المرأة الشمطاء .. رأيت .. انهالت الايدى على ثوب هيباتيا فمزعتة .. الرداء الحريرى تنازعوة حتى انتزعوة عن جسمها , ومن بعدة انتزعوا ما تحتة من ملابس كانت تحيط بجسمها بإحكام . كانوا يلتزون بنهش القطع الداخلية ويصرخون , وكانت العجوز تصرخ فيهم كالمهووس : أسحلوها
وكانت هيباتيا تصرخ يا اهل الاسكندرية !
وكان البعيدون عن الوصول الى جسمها , يصرخون , العاهرة , الساحرة ! .. وحدى أنا , كنت صامتاً
صارت هيباتيا عارية تماماً ومتكومة حول عريها تماماً
ويائسة من الخلاص تماماً
ومهانة تماماً
لا اعرف من اين اتوا بالحبل الخشن الذى لفوة حول معصمها وأرخوة لمترين أو ثلاثة , ثم راحوا يجرونها بة وهى معلقة من معصمها .. وهكذا عرفت يومها معنى كلمة السحل التى أوحت بة المرأة الى بطرس القارىء واتباعة .
شوارع الإسكندرية تفترشها بلاطات حجرية متجاورة , تحمى الطرقات أيام الشتاء من توحل الأرض بسبب المطر . البلاطات متجاورة لكنها غير متلاحمة , وحوافها حادة بفعل طبيعتها الصلبة , فإذا جر عليها أى شىء مزقنة وإن كان ذا قشر قشرتة , وإن كان إنساناً كشطتة .. وهكذا سحلوا هيباتيا المعلقة بحبلهم الخشن الممدة على الأرض , حتى تسحج جلدها وتقرح لحمها .
وسط الصخور المتناثرة عند حافة الميناء الشرقى , خلف كنيسة قيصرون التى كانت فى السابق معبداً , ثم صارت بيتاً للرب يقرأ فية بطرس الأنجيل كل يوم !
كانت هناك كومة من أصداف البحر . لم أر أول من ألتقط منها واحدة , وجاء بها نحو هيباتيا , فاللذين رأيتهم كانوا كثيرين . كلهم أمسكوا الصدف , وأنهالوا على فريستهم .. قشروا بالأصداف جلدها عن لحمها ..
علا صراخها حتى ترددت أصداؤة
فى سماء العاصمة التعيسة
عاصمة الله العظمى , عاصمة الملح والقسوة
الذئاب انتزعوا الحبل من يد بطرس وهم يتصايحون , وجروا هيباتيا بعدما صارت قطعة , بل قطعاً من اللحم الأحمر المتهرىء . عند بوابة المعبد المهجور الذى بطرف الحى الملكى البرخيون ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب , وبعدما صارت جثة هامدة .. ثم .. أشعلوا النار علا اللهب , وتطاير الشرر ..
وسكتت صرخات هيباتيا بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم عنان السماء
حيث كان الله والملائكة والشيطان يشاهدون ما يجرى
ولا يفعلان شيئاً
المفضلات