صفحة 2 من 9 الأولىالأولى 123456 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 106
 

العرض المتطور

  1. #1
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي





    التتار يتوجهون إلى وسط وجنوب أفغانستان


        هذه الصورة بحجم اخر انقر هنا لعرض الصورة بالشكل الصحيح ابعاد الصورة هي 675x434 الابعاد 69KB.

    بتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعد من جنوب دولة خوارزم.. وجنوب دولة خوارزم كانت تحت سيطرة "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه"، وهو ابن الزعيم الخوارزمي الكبير محمد بن خوارزم، والذي فر منذ شهور قليلة أمام التتار.. وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك..

    وجنوب دولة خوارزم كان يشمل وسط وجنوب أفغانستان وباكستان، وكان يفصل بينه وبين الهند نهر السند، وكان جلال الدين - زعيم الجنوب - يتخذ من مدينة "غزنة" مقراً له (مدينة غزنة في أفغانستان الآن، وتقع على بعد حوالي مائة وخمسين كم جنوب مدينة كابول، وهي مدينة حصينة تقع في وسط جبال باروبا ميزوس الأفغانية)..
    ولما انتهى جنكيزخان من أمر الزعيم الرئيسي للبلاد "محمد بن خوارزم شاه" وأسقط دولته، بدأ يفكر في غزو وسط أفغانستان وجنوبها لقتال الابن "جلال الدين"، فوجه إلى "غزنة" جيشاً كثيفاً من التتار..

    وبالطبع.. كان جلال الدين قد جاءته أخبار الاجتياح التتري الرهيب لمناطق الشمال والوسط من الدولة الخوارزمية، وبلغه ما حدث لأبيه، وكيف مات في جزيرة ببحر قزوين، وأصبح هو الآن الزعيم الشرعي للبلاد، ومن ثم عظمت مسئوليته جدًا, فبدأ يعد العدة لقتال التتار، وجمع جيشاً كبيراً من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه "سيف الدين بغراق", وكان شجاعاً مقداماً صاحب رأي ومكيدة في الحروب، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضاً ستون ألفاً من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها، كما انضم إليه أيضاً "ملك خان" أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته.. وبذلك بلغ جيش جلال الدين عدداً كبيراً، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى "بلق"، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة.. وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!..

    دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة.. وقاتل المسلمون قتال المستميت.. فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها، وكان لحمية المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين... كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار..

    واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام..
    ثم أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين.. وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين!! وكثر فيهم القتل، وفر الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، والذي كان يتمركز في "الطالقان" في شمال شرق أفغانستان..
    وارتفعت معنويات المسلمين جداً.. فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في غزنة يؤتي ثماره.. لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين، مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة "سيف الدين بغراق", مع "ملك خان" أمير هراة.. واختار المسلمون مكاناً مناسباً وأخذوا بالأسباب المتاحة.. فكان النصر..
    واطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهز جيشاً أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة "كابول" الأفغانية..

    ومدينة كابول مدينة إسلامية حصينة تحاط من كل جهاتها تقريباً بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان..
    ودارت موقعة كابول الكبيرة.. وكان القتال عنيفاً جداً.. أشد ضراوة من موقعة غزنة.. وثبت المسلمون، وحققوا نصراً غالياً على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار.
    وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار، ولكن سبحان الله، بدلاً من أن تكون هذه نعمة على جيش المسلمين، أصبحت هذه الغنائم نقمة شديدة وهلكة محققة!!..
    روى البخارى ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"..

    لقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العضال، إلا ما رحم الله عز وجل.. لقد كانت حروبهم حروبًا مادية قومية.. حروب مصالح وأهواء.. ولم تكن في سبيل الله.. لقد كان انتصارهم مرة وثانية لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر أو القتل.. فكانت لهم جولة أو جولتان.. لكن ظهرت خبايا النفوس عند كثرة الأموال والغنائم..
    لقد وقع المسلمون في الفتنة!!..
    اختلف المسلمون على تقسيم الغنيمة!!..

    قام "سيف الدين بغراق" أمير الترك، وقام أمير آخر هو "ملك خان" أمير مدينة هراة.. قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم.. فحدث الاختلاف.. وارتفعت الأصوات.. ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف!!..
    نعم.. ارتفعت السيوف ليتقاتل المسلمون على تقسيم الغنيمة.. وجيوش التتار ما زالت تملأ معظم مدن المسلمين!!..
    وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين.. وكان ممن سقط أخ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين ومعه الثلاثون ألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته!! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين أن يحل المشكلة، وأسرع إلى سيف الدين بغراق يرجوه أن يعود إلى صف المسلمين؛ فالمسلمون في حاجة إلى كل جندي وإلى كل طاقة وإلى كل رأي، فوق أن هذا الانسحاب سيؤثر على معنويات المجموعة الباقية؛ لأن الفرقة التركية كانت من أمهر فرق المسلمين.. ولكن سيف الدين بغراق أصر على الانسحاب، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه وذكره بالجهاد، وخوفه من الله تعالى.. لكن سيف الدين بغراق لم يتذكر وانسحب فعلاً بجيشه!!

    وانكسر جيش المسلمين انكساراً هائلاً.. لقد انكسر مادياً، وكذلك انكسر معنوياً!!..
    ولم يفلح المسلمون في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وكابول..
    روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"..
    لم يدرك المسلمون في هذه الآونة حقيقة الدنيا، وأنها دار استخلاف واختبار وامتحان، وليست دار قرار وبقاء وخلود.. نسي المسلمون امتحان ربهم، ولم يستعدوا له..
    نسي المسلمون التحذير النبوي الخطير.. "فاتقوا الدنيا".. فسقط المسلمون سقطة هائلة..
    وبينما هم كذلك إذ جاء جنكيزخان بنفسه على رأس جيوشه ليرى هذا المسلم الذي انتصر عليه مرتين.. ودب الرعب والهلع في جيش المسلمين.. فقد قلت أعدادهم وتحطمت معنوياتهم.. ورأى جلال الدين أن جيشه قد ضعف جداً.. فماذا فعل؟!

    لقد أخذ جيشه وبدأ يتجه جنوباً للهروب من جيش جنكيزخان، أو على الأقل لتجنب الحرب في هذه الظروف..
    ولكن جنكيزخان كان مصراً على اللقاء فأسرع خلف جلال الدين!!..
    وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل..!! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهاً إلى الجنوب، حتى وصل إلى حدود باكستان الآن فاخترقها، ثم تعمق أكثر حتى اخترق كل باكستان ووصل إلى نهر السند، الذي يفصل في ذلك الوقت بين باكستان وبين الهند.. فأراد جلال الدين أن يعبر بجيشه نهر السند ليفر إلى الهند، مع أن علاقاته مع ملوك الهند المسلمين لم تكن على ما يرام.. ولكنه وجد ذلك أفضل من لقاء جنكيزخان !!..
    وعند نهر السند فوجئ جلال الدين وجيشه بعدم وجود السفن لنقلهم عبر النهر الواسع إلى الناحية الأخرى، فطلبوا سفناً من مكان بعيد، وبينما هم ينتظرون السفن إذ طلع عليهم جيش جنكيزخان !!..

    ولم يكن هناك بد من القتال، فنهر السند من خلفهم، وجنكيزخان من أمامهم، ودارت موقعة رهيبة بكل معاني الكلمة.. حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال.. واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة.. واستحر القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان، والذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم.. وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة.. ولكن شتان بين من يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدت إلى هزيمةٍ مُرة..

    وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتب أوراقه، ويضمد جراحه، ويعد عدته.. وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة جداً جاءت السفن إلى نهر السند، ولم يضيع جلال الدين الوقت في تفكير طويل، بل أخذ القرار السريع الحاسم وهو: "الهروب!!.." وقفز الزعيم المسلم إلى السفينة، ومعه خاصته ومقربوه، وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند..
    ولكن.. هل ترك المسلمون التتار وحدهم في هذه الأرض؟

    كلا!!.. إنما تركوهم مع بلاد المسلمين، ومدن المسلمين، وقرى المسلمين.. تركوهم مع المدنيين دون حماية عسكرية.. وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري.. بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيزخان نتيجة كثرة القتلى في التتار في الأيام الأخيرة.. فانقلب جنكيزخان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه.. ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر..
    وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة غزنة، والتي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو شهور عندما كانوا متحدين.. دخل جنكيزخان المدينة الكبيرة.. عاصمة جلال الدين بن خوارزم فقتل كل رجالها بلا استثناء، وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء!!.. وتركها ـ كما يقول ابن الأثير ـ خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس!!..
    ويجدر بالذكر أن نشير إلى أنه في جملة الذين أمسك بهم جنكيزخان من أهل المدن كان أطفال جلال الدين ابن خوارزم.. وقد أمر جنكيزخان بذبحهم جميعاً.. وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه..
    روى البيهقي بسند صحيح، رواته ثقات إلا أنه من مراسيل أبي قلابة - رحمه الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

    "كن كما شئت، كما تدين تدان"..
    وبذلك حقق جنكيزخان حلماً غالياً ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال "أفغانستان"!!..
    ولكن.. لماذا يكون احتلال أفغانستان بالتحديد حلماً لجنكيزخان أو لغيره من الغزاة؟! لماذا يكون احتلال أفغانستان بالذات خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية؟! ولماذا يجب أن يكون سقوط أفغانستان في يد محتل - أياً كان - نذير خطر شديد للأمة بأسرها؟!
    الواقع أن سقوط أفغانستان يحمل بين طياته كوارث عدة:
    أولاً: الطبيعة الجبلية للدولة تجعل غزوها شبه مستحيل، وبذلك فهي تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وهذا الحاجز يخفف الوطأة على البلاد المجاورة لأفغانستان، فإن سقطت أفغانستان كان سقوط هذه البلاد المجاورة محتملاً جداً، وسيكون غزو أو مساومة باكستان وإيران ثم العراق بعد ذلك أسهل جداً..

    ثانياً: الموقع الاستراتيجي الهائل لأفغانستان يعطيها أهمية قصوى، فهي في موقع متوسط تماماً في آسيا، والذي يحتلها سيملك رؤية باتساع 360 درجة على المنطقة بأسرها.. فهو على بعد خطوات من دول في غاية الأهمية.. إنه لا يراقب باكستان وإيران فقط، ولكنه يراقب أيضاً دولاً خطيرة مثل روسيا والهند، وفوق ذلك فهو قريب نسبياً من الصين.. وبذلك تصبح السيطرة على كامل آسيا – بعد احتلال أفغانستان – أمراً ممكناً..
    ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة قد لا تتوفر في غيرها من البلاد، فإن سقط هؤلاء فسقوط غيرهم سيكون أسهل..

    رابعاً: يتمتع سكان هذا البلد بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وظهر ذلك واضحاً في انتصارهم مرتين على التتار بينما فشلت كل الجيوش الإسلامية في تحقيق مثل هذا النصر، ولا شك أن سقوط هؤلاء يُعد نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين..
    خامساً: فوق كل ما سبق، فإن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية، والإيجابي على التتار، سوف يكون عاملاً شديد التأثير في الأحداث، فأنَّى لأمة محبطة أن تفكر في القيام، وأنى لأمة ذاقت طعم النصر الصعب أن تفرط في الانتصارات السهلة!!.. هذا عادة لا يكون!!..

    وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم التركمنستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا وقد اقتربوا جداً من العراق.
    كل هذا في سنة واحدة!!.. في سنة 617 هجرية.. حتى إن ابن الأثير يعلق على هذا فيقول:
    "وقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه، فهذه طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينيا، ويجاورون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا - إذا بَعُدَ العهد - ويرى هذه الحادثة مسطورة فإنه سينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطّرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه، في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، فقد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها"..

    يتبع







  2. #2
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي



    ثم دخلت سنة 618 هجرية


    عودة التتار إلى أذربيجان:
    عاد التتار إلى إقليم أذربيجان المسلم من جديد، ودخلوا مدينة "مراغة" المسلمة.. ومن عجيب الأمور أن امرأة كانت ترأس هذه المدينة، ولا أدري لماذا أعطى المسلمون زمامهم لامرأة، وخاصةً في هذا التوقيت الحساس؟؟ إلا إذا كانت البلاد قد عدمت الرجال الذين يصلحون للقيادة!!..

    حاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وأخذوا يضربون المدينة من كل مكان.. فخرج أهلها للقتال، فإذا بالتتار يدفعون بالأسارى المسلمين الذين أتوا بهم من بلاد متعددة ليقاتلوا عنهم، والتتار يحتمون بهم، ومن تأخر من الأسارى عن القتال قُتل.. فبدأ الأسارى المسلمون يقاتلون إخوانهم المسلمين في مراغة طمعاً في قليل من الحياة.. وسبحان الله!.. إن كان الموت لا محالة آتٍ؛ فلماذا تقتل إخوانك قبل أن تُقتل؟! ولو انقلب الأسارى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان في ذلك فرصة النجاة لبعض المسلمين.. ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في 4 صفر سنة 618 هجرية، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وكل ما استطاعوا حمله، أما ما كانوا يعجزون عن حمله فكانوا يحرقونه كله.. ولقد كانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيضرمون فيه النار!!..
    ويذكر ابن الأثير - رحمه الله - أن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها!! وذكر أيضاً أنه قد سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل مسلم، فما زال يقاتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بالسوء..!! ضربت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان!!..
    التهديد بغزو شمال العراق..

    وبدأ التتار يفكرون في غزو مدينة "أربيل" في شمال العراق، ودب الرعب في مدينة أربيل، وكذلك في مدينة الموصل في غرب أربيل، وفكر بعض أهلها في الجلاء عنها للهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية, فيتجهون إلى بغداد بدلاً منها، فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل إذا وصلوا إليها.. وأعلنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية, وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز..

    تُرى.. كم من الرجال استطاع الخليفة أن يجمع؟
    لقد جمع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" ثمانمائة رجل فقط !!
    ولا أدري كيف سينصر الخليفة دين الله ـ كما يوحي بذلك اسمه ـ بثمانمائة رجل؟!
    أين الجيش القوي؟! وأين الحماية للخلافة؟! وأين التربية العسكرية؟! وأين الروح الجهادية؟!
    لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان "صورة" خليفة.. أو "شبح" خليفة..
    ولم يستطع قائد الجيش "مظفر الدين" طبعاً أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل.. ولكن انسحب بالجيش، ومع ذلك - سبحان الله - فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر، فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن ثمانمائة جندي فقط!.. ولذلك قرروا تجنب المعركة وانسحبوا بجيوشهم..
    وانسحاب جيوش التتار يحتاج منا إلى وقفة وتحليل.. فقد كان الرعب يملأ التتار من إمكانيات الخلافة العباسية التي كانت ملء سمع وبصر الدنيا، وكانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل دولة التتار ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة؛ ولذا فالتتار كانوا يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثم فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يُعرف "بحرب الاستنزاف"، وذلك عن طريق توجيه ضربات خاطفة موجعة للعراق، وعن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضاً عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب..
    لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى..

    اجتياح همذان وأردويل:
    وهما من مدن إيران حالياً، وقد حاصر التتار همذان، ثم دار القتال بعد ذلك مع أهلها بعد أن انقطع عنهم الطعام، ووقعت مقتلة عظيمة في الطرفين، لكن في النهاية انتصر التتار، واجتاحوا البلد، وسفكوا دماء أهلها وأحرقوا ديارها، ثم تجاوزوها إلى أردويل فملكوها وقتلوا من فيها وخربوا وأحرقوا..

    التتار على أبواب تبريز:
    واتجه التتار إلى تبريز.. المدينة الإيرانية الكبيرة.. وكان التتار قد رضوا سابقاً بالمال والثياب والدواب من صاحبها المخمور "أوزبك بن البهلوان"، ولم يدخلوها لأنهم جاءوا إليها في الشتاء القارس.. أما الآن وقد تحسن الجو وصفت السماء، فلا مانع من خيانة العهود ونقض المواثيق..
    ولكنهم - في طريقهم إلى تبريز - علموا بأمر قد جد على هذه البلدة.. لقد رحل عنها صاحبها المخمور أوزبك بن البهلوان، وتولى قيادة البلاد رجل جديد هو "شمس الدين الطغرائي"، وكان رجلاً مجاهداً يفقه دينه ودنياه، فقام - رحمه الله - يحمس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة.. وقوّى قلوبهم على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني.. وعلمهم ما عرفوه نظرياً ولم يطبقوه عملي في حياتهم على الإطلاق: علمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبداً .. وأن رزقه وأجله قد كتبا له قبل أن يولد، وأن المسلمين مهما تنازلوا للتتار فلن يتركوهم, إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم.. أما بغير قوة فلن يُحمى حق على وجه الأرض..

    وتحركت الحمية في قلوب أهل تبريز، وقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخندق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف.. لقد تجهز القوم - وللمرة الأولى منذ زمن - للجهاد!!..
    وسمع التتار بأمر المدينة، وبحالة العصيان المدني فيها، وبحالة النفير العام.. سمعوا بدعوة الجهاد، والتجهز للقتال... سمع التتار بكل ذلك، فماذا فعلوا؟

    قد يعتقد بعض القراء أن التتار قد غضبوا وأرعدوا وأزبدوا، وغلت الدماء في عروقهم، وعلت أصواتهم، وجمعوا جيوشهم، وعزموا على استئصال المدينة المتهورة..
    أبداً - إخواني في الله - إن كل ذلك لم يحدث!!..
    لقد أخذ التتار قراراً عجيباً!!..
    لقد قرروا عدم التعرض لتبريز، وعدم الدخول في قتال مع قوم قد رفعوا راية الجهاد في سبيل الله..!! لقد ألقى الله الرعب في قلوب التتار ـ على كثرتهم ـ من أهل تبريز - على قلتهم - ..
    لقد نُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه صلى الله عليه وسلم..
    لقد فعل الجهاد فعله المتوقع.. بل إن القوم لم يجاهدوا، ولكنهم فقط عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، فتحقق الوعد الرباني ـ الذي لا خلف له ـ وهو وقوع الرهبة في قلوب أعداء الأمة.. وهذا درس لا يُنسى..
    [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل؛ ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون]..

    فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم..
    ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة.. تبريز..

    اجتياح بيلقان:
    وهي من مدن إيران حالياً، وللأسف فإنها لم تفعل مثل فعل تبريز، ودخل التتار البلدة في رمضان 618 هجرية، ووضعوا فيها السيف، فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم ـ كما يقول ابن الأثير ـ كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة، وكانوا يرتكبون الفاحشة مع النساء ثم يقتلونهن، ولما فرغوا من البشر في المدينة نهبوا وخربوا وأحرقوا كعادتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    التتار يقفون على أبواب مدينة كنجة:
    وسار التتار إلى مدينة كنجة المسلمة، وفعل أهلها مثلما فعل أهل تبريز، وفعل التتار معهم مثلما فعلوا مع أهل تبريز..
    لقد أعلن أهل كنجة الجهاد وأعدوا العدة المستطاعة، فما دخل تتري واحد مدينتهم، بل تركوها إلى غيرها..
    وليس من قبيل المصادفة أن البلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له هي البلاد التي لم يجرؤ التتار على غزوها.. ليس هذا من قبيل المصادفة أبداً.. إنها سنة من سنن الله عز وجل.. ولو فعلت ذلك كل مدن المسلمين ما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.. لقد حافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات.. لا بكثرة الأعداد, ولا بالاتفاقيات والمعاهدات.. إنما حافظوا عليها بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة..

    وسنة الله لا خلف لها.. إنما الذين يخالفون هم العباد..
    والله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون..
    اجتياح داغستان والشيشان:
    وهما تقعان في شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين من ناحية البحر الغربية، وهما من البلاد المسلمة الواقعة تحت الاحتلال الروسي الآن، ونسأل الله لهما التحرير الكامل، وقد قام التتار كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتل معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة (في داغستان الآن)..

    اجتياح الجنوب الغربي من روسي:
    استمر التتار في صعودهم في اتجاه الشمال، وبعد الانتهاء من الشيشان وصلوا إلى حوض نهر الفولجا الروسي، واستمروا في قتال أهل هذه المناطق، وكانوا جميعاً من النصارى، وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين..
    وبذلك انتهت سنة 618 هجرية وقد وصل التتار إلى أرض الروس، وأصبحت كل البلاد ما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا ملكاً لهم..

    تقييم الموقف في سنة 619 هجرية
    في هذه السنة استمرت العمليات التترية في منطقة أرض الروس، وأكد التتار سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق، فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب:
    1ـ كازاخستان..
    2ـ قيرغيزستان
    3ـ طاجيكستان..
    4ـ أوزبكستان..
    5ـ تركمنستان..
    6ـ باكستان.. (باستثناء المناطق الجنوبية فيها، والمعروفة بإقليم: كرمان).
    7ـ أفغانستان..
    8ـ معظم إيران (باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق والتي يسكنها الإسماعيلية).
    9ـ أذربيجان..
    10ـ أرمينيا..
    11ـ جورجيا..
    12ـ الجنوب الغربي لروسيا

    يتبع






  3. #3
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    الاجتياح التتري الثاني

    مقدمة

    أتت سنة 628 هجرية تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية.. وقد تضافرت عوامل شتى جعلت هذا الاجتياح الجديد على نفس مستوى الاجتياح الأول الذي حدث سنة 617 هجرية إلى سنة 620 هجرية، أو لعله أبشع وأسرع...
    من هذه العوامل:
    1ـ استقرار ملك التتار في منغوليا بعد وفاة جنكيزخان؛ فقد تولى قيادة التتار الزعيم الجديد "أوكيتاي"، وأخذ ينظم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين، وذلك سنة 624 إلى سنة 627 هجرية..
    وبعد أن تم له ذلك بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا - التي هُزمت فيها قبل ذلك الجيوش التترية -، ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوروبا.. ويبدو أن اجتياح الخلافة العباسية ذاتها وإسقاط بغداد لم يكن من أهداف هذه الحملة؛ لأنها تجاوزتها إلى أوروبا دون الوقوف أمامها كثيراً، وذلك إما لشدة حصانتها وكثافة سكانها، وإما لتجنب إثارة كل المسلمين في العراق والشام ومصر إذا أسقطت الخلافة العباسية، والتي كانت تمثل رمزاً هاماً للمسلمين على ضعفها.. فأراد التتار أن يجعلوها الخطوة الأخيرة في فتوحاتهم.. وهذا هو عين الذكاء..

    كلف الخاقان الكبير" أوكيتاي" أحد أبرز قادته بالقيام بمهمة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد "شورماجان" والذي جمع جيشاً هائلاً من التتر وتقدم صوب العالم الإسلامي من جديد..
    2ـ شهد هذا العام أيضًا (628 هـ) استمرار حالة الفرقة البشعة التي كانت في الأمة الإسلامية، واهتمام كل زعيم بحدود مملكته وإن صغرت، حتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى، ولم يكتف الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن أخاه مطلقاً.. ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً.

    3ـ حملت هذه السنة - أيضًا - النهاية المأساوية الفاضحة لجلال الدين بن خوارزم شاه!..
    فإنه لما جاءت جيوش التتار بقيادة شورماجان اجتاحت البلاد الإسلامية اجتياحاً بشعاً، وقد وصل إلى علمها أن جلال الدين قد ضعف جداً في هذه السنة لحدوث هزيمتين له من الأشرف بن العادل حاكم ديار الجزيرة في شمال العراق وجنوب تركيا، وكانت طائفة الإسماعيلية - وهي من طوائف الشيعة في غرب إقليم فارس - قد راسلت التتار وأخبرتهم بضعف جلال الدين؛ وذلك لأنه كانت بينهم وبين جلال الدين حروب، فأرادوا الانتقام منه بإخبار التتار بوقت ضعفه...

    وجاءت جحافل التتار ودمرت في طريقها كل ما يمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، وكان لها هدف رئيسي هو الإمساك بجلال الدين بن خوارزم.. والتقى بهم جلال الدين في موقعة انهزم فيها شر هزيمة، وأسرع بالفرار من أمام التتار وقد تمزق جيشه، وإذا به يلقى نفس المصير الذي لقيه أبوه منذ أحد عشر عاماً.. فهو يفر من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى مدينة، والتتار خلفه يقتلون ويسبون وينهبون، حتى وصل جلال الدين إلى أرض الجزيرة بشمال العراق حيث تفرق عنه جنوده أجمعون، وبقى وحيداً شريداً طريداً كما حدث مع أبيه تماماً, وأخذ يتنقل بمفرده بين القرى فراراً من التتار، واختفى ذكره من البلاد شهوراً متصلة؛ فلا يعرف أحد إن كان قُتل أو اختفى أو هرب إلى بلد آخر.. ثم وصل إلى إحدى القرى حيث استقبله فلاح من الأكراد وسأله من أنت؟ وقد تعجب الفلاح من كثرة الجواهر والذهب الذي عليه، فقال له جلال الدين: أنا ملك الخوارزمية..! يقول ذلك ليلقي الرهبة في قلب الفلاح، ولكن- سبحان الله - كان ذلك الإعلان ليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ فقد كانت جنود الخوارزمية قتلت أخاً لهذا الفلاح!! فلما علم الفلاح بأن هذا هو جلال الدين استقبله وأكرمه وقدم له الطعام، ثم اطمأن له جلال الدين فنام، وهنا قام الفلاح وقتل جلال الدين بالفأس، وأخذ ما عليه من الجواهر وسلمها إلى شهاب الدين غازي صاحب هذه المنطقة، والذي طالما ذاق من ويلات جلال الدين...
    هكذا كانت نهاية الظالمين.. ونهاية المفرِّطين.. ونهاية الذين تملكوا رقاب العباد فما رعوا لله حقاً، وما رعوا للرعية حقاً، وما رعوا للرحم حقاً، وعاشوا لأنفسهم فقط، وصدق القائل: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط".

    روى البخارى ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليملي للظالم.. حتى إذا أخذه لم يفلته .. ثم قرأ: [وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد]
    4ـ نتيجة العوامل السابقة، ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسك بالدنيا إلى أقصى درجة، وعدم وضوح الرؤية عند الناس.. فلا يعلمون العدو من الصديق، ونتيجة الحروب التترية السابقة، والتاريخ الأسود في كل مدينة وقرية مر عليها التتار.. نتيجة كل هذه العوامل فقد دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفاً، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة.. وهذا ولا شك سهّل جداً من مهمة التتار الذين وجدوا أبواباً مفتوحة، ورقاباً جاهزة للقطع!!..
    يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث السنة الثامنة والعشرين بعد الستمائة بعض الصور التي استمع إليها بإذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول:
    __ كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحداً تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!!..

    __ أخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً ثم قتله!!..
    __ ويحكي رجل من المسلمين لابن الأثير فيقول: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس واحد من التتر، وأمرنا أن يقيد بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟!! فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير!!..

    __ دخل التتار بلدة اسمها "بدليس" (في جنوب تركيا الآن) وهي بلدة حصينة جداً ليس لها إلا طريق ضيق جداً بين الجبال.. يقول أحد سكانها: لو كان عندنا خمسمائة فارس ما سلم من جيش التتار واحد؛ لأن الطريق ضيق، والقليل يستطيع أن يهزم الكثير.. ولكن - سبحان الله- هرب أهلها إلى الجبال وتركوا المدينة للتتار فقاموا بحرقها!!..
    __ كان كل مسلم قبل أن يقتل يستحلف التتري بالله ألا يقتله.. يقول له: "لا بالله لا تقتلني"، فمن كثرة ما سمعها التتار، أخذوا يتغنون بكلمة "لا بالله".. يقول رجل من المسلمين اختبأ في دار مهجورة ولم يظفر به التتار: إني كنت أرى التتر من نافذة البيت بعد أن يقتلوا الرجال ويسبوا النساء، يركبون على خيولهم وهم يلعبون ويضحكون يغنون قائلين: "لا بالله.. لا بالله"، وهذه - كما يقول ابن كثير -: "طامة عظمى وداهية كبرى فإنا لله وإنا إليه راجعون.."
    كان هذا هو وضع المسلمين في ذلك الوقت.. هزيمة نفسية مرة.. واجتياح تتري رهيب..





  4. #4
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    ماذا فعل شورماجان بعد موت جلال الدين؟



    لقد ضم "شورماجان" شمال إقليم فارس (شمال إيران حالياً) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629 هجرية، ثم زحف بعد ذلك على إقليم أذربيجان فضمه إلى أملاكه..

    وبتلك الانتصارات التترية - إلى جانب موت جلال الدين على النحو الذي مرّ بنا – اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار باستثناء الشريط الغربي الضيق الذي تسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية.



    ثم بدا لشورماجان أن يستقر في هذه المناطق ولا يكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة... وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة..

    ظل "شورماجان" يرسخ حكم التتر في هذه المناطق لمدة خمس سنوات كاملة.. من سنة 629 هجرية إلى سنة 634 هجرية، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة!! ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم!! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها.. لكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهم أهل فارس وأهل أذربيجان، وليس مصيبة عامة على عموم المسلمين..!! لم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تُصَب بعد بِوَيْلات التتار أن عليهم واجباً تجاه هذه البلاد المنكوبة.. وفي ذات الوقت لم يشعروا أن الدائرة حتماً ستدور عليهم في يوم من الأيام.. أضف إلى ذلك أن المسلمين في مناطق العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما كان غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخوارزمية من غير العرب.. ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح.. وغياب الاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يُبنى عليها هذا الدين، ما عاد العربي يشعر بأخيه غير العربي، ولا العكس... كأنهم غرباء بعضهم عن بعض.. بينما هم في الحقيقة.. إخوة!

    [إنما المؤمنون إخوة]

    أمر شنيع حقاً ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي... هذا أمر شنيع.. وقاصمة لظهر الأمة الإسلامية؛ لأن الإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس.. إنما الرابط الوحيد هو الإيمان بالله ورسوله وبهذا الدين.. رباط العقيدة.. ولا شيء غير العقيدة..

    روى الإمام أحمد بسند مرسل عن أبي نضرة - رحمه الله - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    "يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"..

    هكذا جاءت القاعدة واضحة.. لا مكان لعرق أو لون في الإسلام.. إنما المكانة والاعتبار للتقوى..

    بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم المسلمين إلى طائفتين رئيسيتين لا ثالث لهما.. واعتمد في تقسيمه هذا على مسألة التقوى.. جاء ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وكذلك ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وكذلك رواه ابن مردويه في تفسيره بسندٍ رجاله ثقات.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " أما بعد، يأيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها، يا أيها الناس، الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ثم تلا: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى] والعبية هي الكبر والفخر..

    فالمسلم الصادق هو الذي يتحمس لمن اشترك معه في عقيدة واحدة ولو اختلف أصله أو لونه أو نسبه..

    وهكذا فالاعتبار الوحيد المقبول في الإسلام هو اعتبار العقيدة والتقوى..

    الاجتياح التتري في الفترة من سنة 634 إلى 649 هـ



    بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأذربيجان بدأ "شورماجان" في سنة 634 هجرية في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالاً لاستكمال فتوحاته.. وبسرعة استطاع أن يسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكرج النصرانية) والشيشان وداغستان..

    ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة "باتو بن جاجي" في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين، وذلك في نفس السنة (634 هجرية)، و أخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهر الفولجا، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وذلك في سنة 635 هجرية..

    وبدأ هذا الجيش التتري الرهيب يقوم بالمذابح الشنيعة في روسيا النصرانية.. فاستولى على العديد من المدن الروسية، وذلك في سنتي 635 و636 هجرية.. سقطت تحت أقدام هذا الجيش مدن "ريدان"، ثم "كولومونا" بعدها بأيام، ثم سقطت مدينة "فلاديمير" الكبيرة بعد صمود ستة أيام فقط، واقترن سقوطها بمذبحة بشعة، ثم سقطت "سوذال", ثم توجهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا "موسكو" فتم اجتياحها وتدميرها، ثم سقطت بعد ذلك مدن "يورييف" و"جاليش" و"بريسلاف" و"روستوف" و"ياروسلاف"، ثم سقطت مدينة "تورزوك" وبذلك احتل التتار دولة روسيا بكاملها!!.. (ومع أن مساحة روسيا سبعة عشر مليون كيلومتر مربع.. إلى جانب أعداد سكانها الهائلة وأحوالها المناخية القاسية إلا أن التتار احتلوها بالكامل في عامين فقط!!)

    وفي سنة 638 هجرية تحركت جيوش التتار غرباً بقيادة "باتو بن جاجي" فاحتلوا دولة أوكرانيا بكاملها (ومساحتها ستمائة ألف كيلومتر مربع), واجتاحوا العاصمة "كييف", ودمروا كنوزها العظيمة، ولقى أكثر سكانها مصرعهم..

    وفي سنة 639 هجرية زحفت فرقة من قوات التتار بقيادة "بايدر" إلى الشمال الغربي من دولة أوكرانيا فدخلت مملكة بولندا، ودمرت الكثير من المدن البولندية، فلم يجد الملك البولندي إلا أن يستعين بالفرسان الألمان القريبين منه (ألمانيا تقع في غرب بولندا مباشرة) فجاء الأمير هنري دوق "سيليزيا الألمانية" واشترك مع ملك بولندا في تكوين جيش واحد لملاقاة التتار، غير أن هذا الجيش لقي هزيمة ساحقة على أيدي الجيوش التترية بقيادة "بايدر".. وبذلك سقطت بولندا أيضاً تحت حكم التتار!..

    وفي هذه الأثناء وفي نفس السنة - سنة639 هجرية - ترك "باتو" قائد التتار المتمركز في أوكرانيا فرقة تترية في هذه المنطقة، واتجه بجيشه الرئيسي غرباً إلى مملكة المجر حيث التقى مع ملك المجر في موقعة رهيبة دمر على أثرها الجيش المجري بكامله، وبذلك احتُلت المجر أيضاً!

    ثم نزل "بايدر" من بولندا في اتجاه الجنوب لمقابلة جيوش التتار بقيادة باتو في المجر، وفي طريقه للنزول اجتاح دولة "سلوفاكيا" وضمها بكاملها إلى دولة التتار!!..

    ثم تدفقت الجيوش التترية إلى دولة "كرواتيا" فاجتاحتها!!

    وبذلك وصلت الجيوش التترية إلى سواحل البحر الأدرياتي (وهو البحر الفاصل بين كرواتيا وإيطاليا)، وبذلك يكون التتار قد ضموا إلى أملاكهم نصف أوروبا تقريباً!!..

    وكان من الممكن أن تستمر الفتوحات التترية في أوروبا - وقد وصلت حدود دولة التتار إلى دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا- لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار "أوكيتاي" مات في هذا العام (639 هجرية) فاضطر الأمير "باتو بن جاجي" أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى "قراقورم" عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري الجديد..

    تقييم الأوضاع عالميًّا في سنة 639 هـ وما بعدها





  5. #5
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    ـ أولاً: وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً.. وهو اتساع رهيب في وقت محدود.. وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع..

    ـ ثانياً: تولى قيادة التتار بعد" أوكيتاي" ابنه "كيوك بن أوكيتاي"، وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلاً من إضافة بلاد جديدة قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها، ومن ثم فقد توقفت الفتوحات التترية في عهد هذا الخاقان، وإن ظل التتار يحافظون على أملاكهم الواسعة..

    ـ ثالثاً: ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تماماً على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة، وظل الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة..

    ـ رابعاً: ظل القسم الأوسط من العالم الإسلامي - والذي يبدأ من العراق إلى مصر- مفرقاً مشتتاً، لا يكتفي فقط بمشاهدة الجيوش التترية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم، وازداد تفككهم بصورة كبيرة..

    كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي الذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب افريقيا.. كان هذا القسم مفككًا تمامًا بعد سقوط دولة الموحدين..

    ـ خامساً: ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبل، وذبح منهم مئات الآلاف أو الملايين، ودمرت كنائسهم، وأحرقت مدنهم، بل هُددوا تهديداً حقيقياً أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثولكية النصرانية في روما..

    ـ سادساً: ومع أن النصارى رأوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوربا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا) كانوا يرون أن هذه مرحلة مؤقتة سوف تقف عند فترة من الفترات، أما حروب النصارى الصليبيين ضد المسلمين فهي حروب دائمة لا تنتهي.. ومن ثم فقد كان ملوك الصليبيين على استعداد كامل للتعاون مع التتار رغم كل الأعداد الهائلة التي قتلت منهم بدلاً من التعاون مع المسلمين!!

    أما لماذا يعتقد الصليبيون أن حرب المسلمين دائمة وحرب التتار مؤقتة، فإن ذلك يرجع إلى أن حروب الصليبيين مع المسلمين هي حروب عقيدة، والعداء بين المسلمين والصليبيين يقوم على أساس ديني، والصراع بينهما أبدي.. والنصارى لن ينهوا القتال إلا بدخول إحدى الطائفتين في دين الأخرى، كما يقول الله عز وجل في كتابه: [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم]

    أما حروب التتار مع الصليبيين فلم تكن حروب عقيدة؛ فعقيدة التتار كانت عقيدة مشوهة باهتة.. مجموعة من أديان شتى.. لم يسع قائد تتري واحد لنشر هذه العقيدة في البلاد المغنومة، إنما كان هدف التتار فقط هو الإبادة والتشريد، وجمع المال وسبي النساء والأطفال.. ومن كانت هذه صفته فلا يُتوقع له الاستمرار..

    لذلك فإنه على الرغم من الصدمات التي تلقتها أوروبا على يد التتار، إلا أن أوروبا استمرت في تجهيز حملاتها لغزو بلاد المسلمين من ناحية مصر والشام بدلاً من تكثيف الجهود لصد التتار، وفي ذات الوقت فإن حكام أوروبا الغربية الصليبيين ما يئسوا من إمكانية التعاون مع خاقان التتار لسحق الأمة الإسلامية..

    ـ سابعاً: أخذت عقائد الجيش التتري في التغيّر بعد الحملات التي وجهوها إلى أوروبا.. فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبياً في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين..

    ـ ثامناً: استمرت الحروب الصليبية الأوروبية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شقي الرحى: بين التتار من ناحية، والصليبيين من ناحية أخرى..

    ـ تاسعاً: في سنة 640 هجرية توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة ابنه "المستعصم بالله"، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عاماً، وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير، إلا أنه لم يكن يفقه كثيراً - ولا قليلا!!ً - في السياسة ، ولم يكن له علم بالرجال؛ فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه... وسنأتي إلى ذكره بعد ذلك؛ فهو آخر الخلفاء العباسيين، وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك..

    ـ عاشراً: لم يبق فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس، (غرب إيران الآن).. وهو على قدر من الأهمية- وإن كان ضيقاً - ؛ إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلاً عن طبيعة المكان الجبلية.. وكانوا على خلاف دائم مع الخلافة العباسية.. وكراهية شديدة للمذهب السني، وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيراً.. فمرة يراسلون التتار، ومرة يراسلون الصليبيين.. وكان التتار يدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنون لهم؛ فالتتار ما كانوا يرغبون في بقاء قوة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض..

    وخلاصة القول بعد هذا التحليل فإن "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد استلم مملكة واسعة تعد هي القوة الأولى في العالم، وأن الصليبيين بالرغم مما ذاقوه من التتار فإنهم ما زالوا يطمعون في التعاون معهم ضد المسلمين، أما المسلمون فكانوا في خلافات مستمرة، وتحت ضغوط تترية من ناحية، وصليبية من ناحية أخرى، وليس لأي قائد مسلم في ذلك الوقت أي طموح - كبير أو صغير- في تحرير البلاد واستنقاذ العباد، إنما كانت رغبتهم فقط في تثبيت السلطان على البقعة التي يعيشون عليها مهما صغرت أو ضعفت، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    أحداث الفترة من 639 إلى 649 هجرية

    بعد تولية "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد قرر أن يوقف الحملات التوسعية، ويتفرغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة.. وقد ظل "كيوك" يحكم من سنة 639 هجرية إلى سنة 646 هجرية وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلاداً جديدة إلا فيما ندر.. وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار، وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الاحتلال التتري..

    وعندما رأى الصليبيون في غرب أوروبا النهج غير التوسعي عند "كيوك" تجددت آمالهم في التعاون مع التتار ضد المسلمين، فأرسل البابا "إنوسنت الرابع" سفارة إلى منغوليا في سنة 643 هجرية، وكان غرض السفارة هو التوحد مع التتار لحرب المسلمين في مصر والشام، (لم يكن همّها - مثلاً - أن ترفع الاحتلال والظلم عن نصارى أوروبا وروسيا), واستقبل "كيوك" السفارة الصليبية بحفاوة لكثرة النصارى في البلاط المغولي، ولكن عندما قرأ كيوك رسالة البابا وجده - بالإضافة إلى طلبه توحيد العمل العسكري ضد المسلمين - فإنه يدعوه إلى اعتناق النصرانية، واعتبر خاقان التتار أن هذا تعدياً من البابا؛ إذ كيف يطلب من خاقان التتار أن يغير من ديانته؟! فأعاد الخاقان "كيوك" السفارة الصليبية بعد أن حملها برسالة إلى البابا يطلب منه أن يجمع أمراء الغرب الأوروبي جميعاً ليأتوا إلى منغوليا لتقديم فروض الولاء والطاعة للخاقان التتري، وبعد ذلك يبدأ التعاون.. وبالطبع رفض ملوك أوروبا الغربية هذا الطلب، وبذلك فشلت السفارة الصليبية في تحقيق أهدافها..

    لكن البابا الكاثوليكي "إنوسنت الرابع" لم ييئس من فشل هذه السفارة، بل أرسل سفارة صليبية أخرى، ولكنه هذه المرة أرسلها إلى قائد القواد التترية في مدينة "تبريز" بمنطقة فارس الملاصقة للخلافة الإسلامية، وكان اسمه "بيجو" وذلك في سنة 645 هجرية، وقد لمس فيه البابا حباً للعدوان والهجوم، وعلم أنه من أنصار التوسع من جديد في أراضي المسلمين، وقد لاقت السفارة ترحيباً كبيراً من "بيجو" الذي توقع أن هجوم الصليبيين على مصر والشام سوف يشغل المسلمين في هذه الأقاليم عن الدفاع عن الخلافة العباسية في العراق، وبذلك تسهل مهمته في اقتحامها.. ولكن لا يخفى على أحد أن صلاحيات "بيجو" لم تكن تؤهله لاتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الخطير بالتعاون مع الصليبيين، وكان "كيوك" ما زال على رأيه في عدم التوسع، وعدم التعاون مع الصليبيين إلا بعد خضوعهم له، ومن ثم فشلت أيضاً هذه السفارة الثانية..

    في هذه الأوقات كان "لويس التاسع" ملك فرنسا يجهز لحملته الصليبية على مصر، والتي عرفت في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة، وكان يجمع جيوشه في جزيرة قبرص، وذلك في سنة 646 هجرية، وقد رأى "لويس التاسع" أن الأمل لم ينقطع في إمكانية التحالف مع التتار ضد المسلمين، فأرسل سفارة صليبية ثالثة من قبرص إلى منغوليا لطلب التعاون من "كيوك" في هذه الحملة، وزود السفارة بالهدايا الثمينة، والذخائر النفيسة.. لكن عندما وصلت هذه السفارة إلى "قراقورم" العاصمة التترية في منغوليا فوجئت بوفاة خاقان التتار "كيوك" ولم يكن "كيوك" قد ترك إلا أولاداً ثلاثة صغاراً لا يصلحون للحكم في هذه السن الصغيرة فتولت أرملة "كيوك", وكانت تدعى "أوغول قيميش" الوصاية عليهم، ومن ثم تولت حكم التتار وذلك ابتداءً من سنة 646 هجرية, ولمدة ثلاث سنوات..

    توجهت إلى ملكة التتار الجديدة سفارة لويس التاسع فاستقبلتها بحفاوة، لكنها اعتذرت عن إمكانية المساعدة في الحملة الصليبية الآن لأنها مشغولة بالمشاكل الضخمة التي طرأت في مملكة التتار نتيجة موت "كيوك"، بالإضافة إلى أن عامة قواد التتار لم يكونوا موافقين ببساطة على حكم امرأة لدولة التتار العظيمة، والتي تعتمد في الأساس الأول على البطش والإجرام والقوة، فكانت الأوضاع غير مستقرة تماماً في منغوليا..

    لكن لويس التاسع أصر على القيام بحملته حتى مع عدم اشتراك التتار، فتوجه فعلاً من قبرص إلى مصر، ونزل بدمياط في سنة 647 هجرية، واحتل دمياط, ثم تجاوزها إلى داخل مصر - عبر نهر النيل - في اتجاه القاهرة، ولكن الجيش المصري قابله في المنصورة، وكان معه سلطان مصر "الصالح أيوب" الذي مات بعد ثلاثة أيام من بداية المعركة في المنصورة، وتولت أمر مصر السلطانة "شجرة الدر" زوجة الصالح أيوب التي أخفت خبر وفاة زوجها، وراسلت توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان يحكم إحدى المناطق في تركيا، وقامت شجرة الدر - بالاشتراك مع قواد الجيش فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس - بإدارة موقعة المنصورة المشهورة ضد الصليبيين، وانتصر المسلمون في هذه الموقعة، ثم وصل توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى مصر، وتولى حكم البلاد، وانتصر مرة أخرى على الصليبيين في موقعة فارسكور، وأسر لويس التاسع وذلك في سنة 648 هجرية، ثم حدثت بعض الفتن في مصر، وقتل توران شاه، وتولت شجرة الدر ملك مصر علانية، ولكن الجو العام في مصر لم يكن يقبل بولاية امرأة, فتزوجت من أحد قادة المماليك وهو "عز الدين أيبك"، ثم أصبح سلطاناً على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفاً للأيوبيين، وسيأتي تفصيل عن نشأة المماليك وطبيعتهم بعد ذلك.

    لكن المهم في تلك الأحداث أن نشير إلى ظهور قوة المماليك، وفشل الحملة الصليبية السابعة، وهذا ولا شك قد زاد من حقد الصليبيين، وأكد على ضرورة التعاون مع التتار لحرب المسلمين..

    أما الوضع في منغوليا فلم يكن مستقراً؛ فالتتار لم يستطيعوا قبول أرملة "كيوك" كملكة عليهم، ومن ثم اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمى "بالقوريلتاي"، وذلك في سنة 649 هجرية، وقرروا اختيار خاقان جديد للتتار، وبالفعل اختاروا "منكوخان" ليكون زعيماً جديداً للتتار..

    وكان اختيار "منكوخان" زعيماً لمملكة التتار بداية تحول كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كانت لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوروبا في عهده... ومن ثم بدأ "منكوخان" يفكر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين..

    وللأسف الشديد فإن أمراء المسلمين وقت تولية "منكوخان" لم يكونوا على مستوى الحدث الكبير، والمسلمون - وإن كانوا قد انتصروا في موقعة المنصورة في مصر سنة 648 هجرية - كانوا مشغولين جداً بأنفسهم، ففضلاً عن الفتن الداخلية في كل إمارة، والتصارع على الحكم، فقد كانت تقوم حروب مريرة بين الإمارات الإسلامية، والضحايا جميعاً من المسلمين..

    ومن ذلك الحرب الكبيرة التي دارت بين الجيش المصري بقيادة عز الدين أيبك والجيش الشامي الذي أرسله الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ودارت رحاها في منطقة تسمى "العباسية" (18 كيلومتر شرق مدينة الزقازيق المصرية حالياً) وانتصر فيها الجيش المصري، ولا أدري كيف كانت تطيب نفوسهم بهذه الحروب، والحملات الصليبية لا تتوقف، والتتار يقفون على أبواب الخلافة العباسية!..

    والغريب جداً في هذه الفترة أن الحكام والشعوب - بل والعلماء - كانوا قد نسوا تماماً أن نصف الأمة الإسلامية يقع تحت الاحتلال التتري، ونسوا أن التتار أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخلافة العباسية، ومن الحجاز ومصر والشام، لدرجة أن المؤرخين الذين يؤرخون لهذه الفترة لا يذكرون البتة أي شيء عن التتار!!..

    فعلى سبيل المثال تجد ذكر التتار يختفي في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير - رحمه الله - عند تأريخه للفترة من سنة 639 هجرية إلى 649 هجرية (فترة حكم "كيوك" ثم أرملته) والتي لم يحدث فيها توسع تتري، وكأن القضية التترية قد حلت، وما ترك ابن كثير - رحمه الله - الكلام عن التتار إلا لقلة المصادر التي تتحدث عن هذه الفترة، ولقلة الأخبار التي كان أهل العراق والشام ومصر يتناقلونها عن جيوش التتار أو عن المسلمين الذين يعيشون تحت الظلم التتري المستمر..

    بل وتجد ابن كثير - رحمه الله - عند وصفه للحياة في العراق والشام ومصر في هذه السنوات العشر يصف حياة طبيعية جداً، فالخليفة يعالج بعض المشاكل الاقتصادية، ويتصدق على بعض الفقراء، وقد يحدث وباء فيعالج، أو غلاء فيشق ذلك على الناس إلى أن يمنح الخليفة بعضاً من المال لمقاومة الغلاء، وهذا يفتح مدرسة، وذاك يفتح داراً للضيافة، وغيره يفتح داراً للطب، ومن أحوال هذه السنوات أن مات فلان من الشعراء وفلان من الأدباء وفلان من الكرماء وفلان من الوزراء!.. لكن أين العلماء الذي يخطبون على المنابر وفي حلقات العلم يشرحون للناس خطر التتار، ومصيبة المسلمين في البلاد المنكوبة بالتتار؟ وأين الحكام الذين يجهزون شعوبهم ليوم لا محالة هو آت؟ لم يكن هذا مشتهراً في ذلك الوقت.. ومن ثم اختفى ذكره من كتب التاريخ!..

    وهكذا فأحداث ذلك الزمان كانت تشير جميعاً إلى أن اجتياحاً تترياً جديداً سوف يحدث قريباً، وذلك على غرار الاجتياح التتري الأول الذي حدث في زمان جنكيزخان، أو على غرار الاجتياح التتري الثاني الذي حدث في زمان أوكيتاي.. ولعله يكون أشد وأنكى؛ لأنه كلما ازداد خنوع المسلمين ازداد طمع التتار وغيرهم فيهم، وكلما فرط المسلمون في شيء طمع أعداء الأمة في الشيء الذي يليه، وهذه سنة ثابتة لأهل الباطل، وراجعوا التاريخ والواقع!!





  6. #6
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    الاجتياح التتري الثالث

    مقدمة

    منذ تولى "منكوخان" زعامة دولة التتار وهو يفكر في إسقاط الخلافة العباسية، واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام ومصر.. وكان منكوخان قائداً قوياً حازماً، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عوناً له في تحقيق أحلامه.. فأحد إخوته وهو "أريق بوقا" ظل معه في "قراقورم" العاصمة؛ ليدير معه الإمبراطورية الواسعة.. وأما الأخ الثاني "قبيلاي" فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية، والتي تضم الصين وكوريا وما حولها من أقاليم.. وأما الأخ الثالث "هولاكو" فقد أصبح مسئولاً عن إدارة إقليم فارس وما حوله، مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة.. ولا شك أن الجميع قد سمع عن اسم "هولاكو" قبل ذلك!!..
    هولاكو هو الزعيم التتري السفاح.. الذي لا يمتلك أية نزعة إنسانية.. الرجل الذي كان لا يرتوي إلا بدماء البشر.. تماماً كسلفه جنكيزخان، لعنهما الله..
    هولاكو.. شخصية من أبشع الشخصيات في تاريخ الأرض!!..
    ولأنه كان موكلاً بقيادة إقليم فارس، فإن مجال عمله الرئيسي كان البلاد الإسلامية.. وكانت معظم الدماء التي أراقها دماءً إسلامية.. ومعظم الآلام التي زرعها في قلوب البشر كانت في قلوب المسلمين.. وسبحان الله!.. كأن الحقد الذي كان في قلب هولاكو لم يكن كافياً لتدمير الأرض، فقد تزوج امرأة لا تقل عنه حقداً وبطشاً وظلماً.. لقد تزوج من الأميرة المغولية "طقزخاتون"، وكانت امرأة قوية ذات نفوذ في البلاط المغولي، وكانت فوق ذلك قد انتقلت إلى النصرانية، وكانت شديدة التعصب لديانتها، وشديدة الكراهية للإسلام..
    وهكذا اجتمع هولاكو مع زوجته "طقزخاتون" ليصبا جام غضبهما على الأمة الإسلامية.. وكان الهدف واضحاً في ذهن هولاكو.. إنه كان يريد بوضوح أن يُسقط "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية، ثم يتجاوزها إلى ما بعدها..
    ومنذ تسلم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يعد العدة لإسقاط الخلافة العباسية.. والحق أن إعداده كان مبهراً عظيماً.. بقدر ما كان رد فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهاً حقيراً.. وإذا كان الوضع كذلك فلابد أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله عز وجل سننًا لا تتبدل ولا تتغير، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يعطيه الله عز وجل وإن كان كافراً، والذي لا يُعد نفسه ليوم اللقاء لابد أن ينهزم وإن كان مسلماً..
    [من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يبخسون]..
    وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعد لها إعداداً جيداً، فأخذ نصيبه من الدنيا ولم يُبخس منه شيئاً..





  7. #7
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    ماذا فعل هولاكو لكي يسقط الخلافة العباسية؟

    لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649 هجرية بحمية شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة.. فمع حقده الشديد ورغبته الملحة في تدمير الخلافة الإسلامية، واشتياقه الكامل لكنوز العباسيين، ومع كثرة جنوده وتفوقه العسكري الظاهر، إلا أنه ـ برغم كل هذا ـ لم يتسرع في اتخاذ قرار الحرب ضد الخلافة العباسية.. بل ظل يعد العدة في صبر حتى مرت خمس سنوات كاملة من سنة 649 هجرية إلى سنة 654 هجرية، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزاً تماماً..

    وتعالوا نتابع - كما كان المسلمون آنذاك يتابعون! - خطوات هولاكو في إعداده: لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة.. هذه المحاور الأربعة تزيد جداً من فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وكل هذا العمل يتم قبل حركة الجيوش، وقبل النزول الفعلي إلى ساحة المعركة في بغداد.. والجدير بالذكر أن هذا الإعداد -في معظمه - كان يتم علناً على مرأى ومسمع من المسلمين وغير المسلمين..!! والتاريخ يتكرر!!...

    المحور الأول

    الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين:

    1ـ بدأ هولاكو في إصلاح كافة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وهي مسافات رهيبة، لكنه عمل على تهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة الجبلية لمنطقة طاجيكستان وأفغانستان وفارس، والموانع الطبيعية الصعبة..

    2ـ أقام هولاكو الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، وبالذات نهري سيحون وجيحون، ووضع قوات كافية تحمي هذه الجسور، وبذلك ضمن استمرار عمليات التموين، وفي ذات الوقت تفتح هذه الجسور الطريق لخط رجعة لجيوش التتار في حال الهزيمة..

    3ـ جهز هولاكو مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة صنعت خصيصاً لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد، وبذلك لا يأخذ وقتاً طويلاً في نقل المعدات الثقيلة عبر هذه المسافة الطويلة..

    4ـ بدأ هولاكو في السيطرة على كل المدن والمراكز التي تتحكم في محاور الطرق، وبذلك تجنب حدوث أي مباغتة أو قطع لطرق جيشه أثناء سيرها..

    5ـ قام هولاكو بشيء عجيب فيه ذكاء شديد، وهو إخلاء كل الطرق من الصين إلى بغداد من قطعان الماشية سواء البرية أو المملوكة للسكان، وذلك لترك الحشائش والأعشاب لتكفي لطعام الأعداد الهائلة جداً من الخيول الخاصة بالفرسان، والدواب المكلفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام وغير ذلك.. وبذلك لا يحتاج أن يحمل معه طعاماً للحيوانات.. ولا يتعرض لمفاجأة غياب الطعام، وهو كفقد البنزين بالنسبة للسيارات، بل أشد؛ فالسيارة تظل بحالتها إذا غاب البنزين حتى يؤتى به، أما الحيوانات فلا تصبر على غياب الطعام..

    المحور الثاني

    الاستعداد السياسي والدبلوماسي:

    بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة، وذلك لضمان نجاح المهمة الكبيرة، وهو تغير كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفاً ولا دبلوماسية..

    ولما كانت هذه نقطة تحول في السياسة التترية، وفي ذات الوقت كانت هذه الأحلاف في منتهى الخطورة، فقد تكفل بالقيام بهذه المعاهدات الخاقان الكبير "منكوخان" شخصياً، ولم يترك فيها حرية التصرف "لهولاكو"، وإن كان هولاكو من أكثر الناس الذين يعتبر برأيهم في هذا المجال..

    1ـ استقبل "منكوخان" زعيم التتار سفارة صليبية أرسلت في سنة 651 هجرية من قبل "لويس التاسع" ملك فرنسا.. الذي ما يئس من إمكانية التعاون مع التتار، وكان بالطبع يُكِنّ حقداً كبيراً على المسلمين لهزيمته في موقعة المنصورة سنة648 هجرية، (منذ ثلاث سنوات فقط)، وكان يتزعم السفارة راهب دومينيكاني اسمه "وليم روبروك"، ومَثُل فعلاً بين يدي "منكوخان"، وبدأت المفاوضات للتعاون، ولكن سرعان ما فشلت هذه المفاوضات، والسبب أن "منكوخان" كان رجلاً صريحاً للغاية؛ فلم يكن دبلوماسيًّا بما يكفي لإبرام معاهدات أو عقد أحلاف, ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، ولم يكن يعرف الطرق الغربية الملتوية، وتنميق الألفاظ، واختيار العبارات، والحصول على ما تريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه يفرط، ولم يكن يعرف شيئاً عن النفاق الأوروبي، أو عن الابتسامة الأوروبية التي تخفي وراءها كل الحقد... لم يكن يعرف كل ذلك.. إنما كان رجلاً بسيطاً واضحاً، مباشراً في كلامه، محدداً في رغباته..

    لقد قال "منكوخان" في بداية مفاوضاته: إنه لا يقبل أن يكون في العالم سيد سواه!! وإنه لا يعرف كلمة "صديق" إنما يعرف كلمة "تابع"!!.. فأصدقاؤه هم من يتبعونه.. ويعلنون الولاء له والطاعة، وأعداؤه هم الذين يحاربونه، أو الذين لا يقبلون طاعته، وهؤلاء ليست بينه وبينهم مفاوضات، إنما لهم السيف والإبادة..

    سياسة بسيطة جداً!!.. سياسة "القطب الواحد" في العالم!!..

    يقسم العالم إلى دولة "صديقة" أي: تابعة.. ودولة "مارقة" أي: معادية!..

    وبالطبع رفض ملك فرنسا أن يتحالف على أساس هذا الشرط، ومن ثم فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوروبا..

    2ـ وإذا كان نصارى غرب أوروبا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع "منكوخان" على أساس التبعية فهناك من الملوك الآخرين من يقبل بذلك، ويعتبره نوعاً من الواقعية..

    لقد فكر "هيثوم" ملك أرمينيا النصرانية في التحالف مع التتار على أساس التبعية كما يريد "منكوخان"؛ فملك أرمينيا يعلم قوة التتار؛ إن بلاده قد دُمِّرت من قبل على أيديهم في عهد جنكيزخان ثم في عهد أوكيتاي.. كما يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة لا تقارن بأي حال من الأحوال مع دولة التتار؛ فمساحة أرمينيا أقل من 30 ألف كيلومتر مربع.. ويعلم ملك أرمينيا - أخيرًا - أنه محصور بين قوات التتار من جهة وقوات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جداً بينه وبين المسلمين، وهو يتحرق شوقاً لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيرغم عليها غداً، وساعتها سيفقد ملكه بلا ثمن..

    كل هذا دفع "هيثوم" ملك أرمينيا أن يذهب بنفسه لمقابلة "منكوخان" في قراقورم عاصمة المغول.. ويبدو أن منكوخان قد بدأ يتعلم طرق السياسة، وبدأ يتعلم الاعتماد على المظاهر والكلمات المنمقة المختارة، فقد أقام "منكوخان" احتفالاً كبيراً، واستقبالاً رسمياً مهيباً "لهيثوم" ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع، وإن كانت كل بنود الاتفاق بينهما لا تصلح إلا بين سيد وتابع، لا ملك وملك..

    فبعد الاستقبال الحافل لملك أرمينيا (الذي قدم نفسه على أنه من رعايا "منكوخان").. بدأ منكوخان يعطي وعوداً كبيرة وهدايا عظيمة إلى هذا الملك، وهو يشتري بذلك ولاءه وتبعيته.. فماذا أعطاه "منكوخان"؟..

    لقد أعطاه ما يلي:

    1ـ ضمان سلامة الممتلكات الشخصية للملك "هيثوم" ..

    2ـ إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب..

    3ـ مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون منهم خلال الحروب التي دارت بينهم..

    4ـ اعتبار ملك أرمينيا هو كبير مستشاري الخاقان الكبير "منكوخان" فيما يختص بشئون غرب آسيا..

    وهكذا سعد ملك أرمينيا "هيثوم" بقربه من ملك التتار..

    ولكن يجب أن نتساءل: في مقابل ماذا كان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني؟! إن الناظر للقوى العسكرية في ذلك الوقت يجد أن القوة العسكرية لأرمينيا لا تقارن بالمرة بقوة التتار، وقد لا تضيف إليها عدداً مؤثراً، فلماذا يتواضع ملك التتار ويعقد معاهدة مع ملك أرمينيا؟

    الناظر والمحلل لهذا الحدث يجد ما يلي:

    ـ أولاً: ملك التتار سيستفيد من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين.. فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة، وقد خبر الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، ولا شك أن المعلومات الصادقة التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في حرب المسلمين.. (تمامًا كما تحالفت أمريكا القوية مع إنجلترا الضعيفة فقط لأن عندها الخبرة في أرض المسلمين والخبرة في أرض العراق بالتحديد..)

    ـ ثانياً: سيحتاج ملك التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، فإذا كان المدير من أهل البلد، وله ولاء ووفاء له فهو أفضل من الإدارة الخارجية، وأقدر على التحكم في الموقف، وأقوى على تهدئة غضب الشعوب..

    ـ ثالثاً: بهذه الخطوة يفتح ملك التتار "منكوخان" باب المعاملات مع النصارى من جديد, الذين قد يحتاجهم بعد ذلك عند استكمال فتوحاته في داخل الشام ومصر، وقد يحتاج إلى ملك أرمينيا في استئناف المفاوضات مع ملوك أوروبا، هذا بالإضافة إلى أنه يعلم أن في قلوب النصارى كراهية شديدة للتتار، وذلك بسبب المذابح البشعة التي قام بها التتار في روسيا وشرق أوروبا.. وقد تكون فرصة المعاهدة مع ملك أرمينيا داعية إلى شيء من التعاون لرعاية المصالح المشتركة..

    ـ رابعاً: الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي عند المسلمين؛ فالحرب مع التتار شيء، والحرب مع قوات "التحالف" شيء آخر!.. نعم القوات المتحالفة مع التتار لا تمثل شيئاً يذكر في الجيش التتري.. ولكن كلمة "التحالف" لها وقع خاص في نفوس الناس..

    ـ خامساً: قد توكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهام الخطرة، والتي قد يرغب ملك التتار في تجنبها، وبذلك تكون الخسارة البشرية في جانب الأرمن بدلاً من التتار..

    وهكذا فالناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار والأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئاً مطلقاً، وأن المفاوضات بين سيد يملك كل شيء، وتابع لا يملك أي شيء، وهكذا يفعل الزعماء الكبار في العالم، فإنهم يعقدون معاهدات مع ملوك صغار لا يحملون من صفات الملك إلا الاسم فقط، ويوكلون إليهم القيام بمهام كثيرة، ولا يكون المقابل أكثر من السماح لهم بمجرد العيش إلى جوارهم في الأرض، مع إمكانية منحهم بعض الألقاب الفخرية مثل: "كبير مستشاري ملك التتار لشئون غرب آسيا" أو لقب: "الملك الصديق" أو "الدولة الصديقة" أو "العلاقات الحميمة بين البلدين" أو "فخامة الرئيس" أو "جلالة الملك"....

    مجرد ألقاب لا تسمن ولا تغني من جوع، والواقع الحقيقي أن القوة التي بيد التتار هي التي فرضت بنود المعاهدة، وهذا يحدث ويتكرر في كل الأزمان والأمكنة.. فالحقوق لا تُحمى إلا بالقوة..

    وهكذا عاد ملك أرمينيا "هيثوم" منتشياً بمعاهدته، فخوراً بعلاقته مع ملك التتار، معظماً في شعبه؛ لأنه استطاع بسياسته التي يسمونها "حكيمة" أن يجنب مملكته ويلات الحروب!!..

    3ـ كان من رغبات "منكوخان" أيضاً أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، وكان لهم أكثر من مملكة في أنطاكية وطرابلس وصيدا وحيفا وعكا، وذلك لشغل المسلمين في منطقة الشام فلا يدافعون عن الخلافة العباسية إذا هوجمت..

    ولتشجيع هؤلاء الأمراء فقد أوصل لهم ملك التتار طلب التحالف مع "صديقه" الجديد ملك أرمينيا، والذي بدأ يقوم بدور السفير التتري في هذه المنطقة.. ولزيادة التشجيع فإن ملك التتار وعد الأمراء الصليبيين في الشام بأن يعطيهم بيت المقدس "هدية" لهم في حال اتفاقهم معه.. (وكان بيت المقدس قد حُرِّر مرة ثانية على يد الملك الصالح أيوب سنة 643 هجرية بعد أن أهداه أمراء الشام الأيوبيون إلى الصليبيين سنة 626 هـ).. وكأن منكوخان يملك بيت المقدس، وله الحق في إهدائه!! وهكذا وعد من لا يملك بإعطاء من لا يستحق.. والتاريخ يتكرر بحذافيره!!..

    ومع كل هذا التشجيع إلا أن أمراء الممالك الصليبية بالشام ترددوا كثيراً في قبول هذه الاتفاقيات، باستثناء أمير أنطاكية "بوهمند" الذي استحسن هذا الأمر، وانضم فعلاً إلى ملك التتار..

    أما لماذا لم يستحسن بقية الأمراء الصليبيين في الشام هذه الفكرة فذلك لأنهم أولاً: يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، أو يضحون بهم في مقابل أي شيء.. أو ربما دون مقابل..

    وثانياً: لأنهم في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار، بل لعلها خطورة أقرب.. ومن ثم لم يتحمس هؤلاء الأمراء للتحالف المعلن مع التتار، وإن كانوا لم يرفضوا الأمر صراحة، وتعاملوا مع الطلب بالطريقة السياسية النفاقية المعروفة، مع شيء من الابتسامة وبعض كلمات التبجيل، واختاروا أن يقفوا على الحياد بصورة مؤقتة إلى أن ترجح إحدى الكفتين: التتارية أو الإسلامية، وهنا سوف يسارعون في الفئة المنتصرة: يصافحون ويباركون ويهنئون ويؤيدون.. ويعتذرون أنه لولا "الظروف القاسية" التي كانت تمر بها بلادهم لهان عليهم كل شيء في سبيل راحة المنتصر.. وهذا ما يسميه البعض "السياسة"..!!

    4ـ سعى "منكوخان" أيضاً إلى عقد بعض الاتفاقات مع نصارى الشام والعراق، وهؤلاء ليسوا من الأمراء أو الملوك، ولكنهم من النصارى الذين يعيشون في كنف الإمارات الإسلامية في الشام، أو في الخلافة العباسية في العراق.. وهذه بالطبع لم تكن اتفاقات رسمية ولا معلنة، وإنما كانت اتفاقات سرية مع بعض رؤوس النصارى، ومع بعض القساوسة، وذلك لتسهيل مهمة دخول التتار إلى هذه البلاد، ولنقل الأخبار من وإلى التتار.. وقد نجح "منكوخان" فعلاً في الوصول إلى عدد كبير من هؤلاء النصارى، وعلى رأسهم بطريرك بغداد شخصياً وكان اسمه "ماكيكا"، وكان عاملاً مساعداً هاماً في دخول بغداد..

    5ـ عقد "منكوخان" أيضاً معاهدات مع مملكة الكرج النصرانية (في جورجيا الآن).. ومع أن تاريخ التتار مع مملكة الكرج كان تاريخاً أسود، إلا أن تاريخ الكرج مع المسلمين لم يكن أقل سواداً؛ ومن ثم فضل نصارى الكرج التعاون مع عدوهم الجديد التتار ضد عدوهم القديم المسلمين؛ وذلك لأمرين.. الأول: هو أن التتار لهم القوة الأعلى، ويغلب على الظن جداً أن ينتصروا، وثانياً: لأن الحرب بين النصارى والمسلمين حرب عقائدية أبدية كما ذكرنا من قبل، والكراهية أصيلة بين الطرفين، ولا تغير في العقيدة، ولذلك لا تغير في الكراهية.. وغياب الكراهية لن يكون إلا بغياب العقيدة.. : [ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا]

    أما الحرب مع التتار فهي حرب مصالح.. فإذا تعارضت المصالح حدثت الحرب، وإذا اتفقت المصالح حدث الوئام والألفة والصداقة.. وقد اتفقت مصالح مملكة الكرج النصرانية مع مصالح التتار الوثنية، فلا مانع من السير معاً في طريق واحد.. وهذا أيضاً مما يسمونه: "سياسة"!!..

    6ـ وإذا كانت كل هذه المفاوضات والمعاهدات في كفة، فالمفاوضات التي سأذكرها الآن في كفة أخرى.. ليس لأهميتها فقط ولكن لغرابتها.. أو قل: لبشاعتها!!..

    فهذه المعاهدات عقدت مع بعض "أمراء المسلمين" لتسهيل ضرب "بلاد المسلمين"..!!

    ولم يعقد "منكوخان" هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جداً بهؤلاء الأمراء؛ فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يسمي نفسه أميراً، بل ويلقب نفسه بالألقاب الفاخرة مثل المعظم والأشرف والعزيز والسعيد وغير ذلك..

    وكّل "منكوخان" أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية.. فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء..

    ]فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين[..

    ـ فجاء إلى هولاكو "بدر الدين لؤلؤ" أمير الموصل ليتحالف معه..

    ـ وجاء سلطانا السلاجقة وهما "كيكاوس الثاني"، و"قلج أرسلان الرابع" ليتحالفا أيضاً مع هولاكو، وكانا في مكان حساس جداً، فهما في شمال العراق (تركيا الآن)، وتحالفهما يؤدي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزياً جداً إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!..

    ـ ورضخ أيضاً "الناصر يوسف" أمير حلب ودمشق، ومع كونه حفيد "الناصر صلاح الدين الأيوبي" رحمه الله، بل شبيهه في الاسم واللقب.. إلا أنه لم يكن يشبهه في شيء من الأخلاق أوالروح، بل كان مهيناً إلى الدرجة التي أرسل ابنه "العزيز" لا ليقدم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه!!..

    ـ وكذلك جاء "الأشرف الأيوبي" أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار..

    لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة.. فهي - بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها - قد زادت جداً من قوة التتار الذين أصبحوا يحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حكامها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وانعدمت الثقة في القادة، ومن ثم لم يعد لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار..

    لقد كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس!!..

    7ـ ووصل هولاكو أيضاً في مجهوده السياسي والدبلوماسي إلى شخصية خطيرة في البلاط العباسي نفسه.. فقد وصل إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة.. وهو الوزير "مؤيد الدين العلقمي الشيعي"..!!

    كان مؤيد الدين رجلاً فاسداً خبيثاً رافضياً (يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما)، وكان شديد التشيع، كارهاً للسنة ولأهل السنة، ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سنية تحمل اسم الخلافة، ولا شك أن هذا كان قلة رأي، وضحالة فكر، وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الخطير..

    وهذا الوزير هو ممن ينطبق عليهم وصف "بطانة السوء".. ولا يخفى على عاقل كيف يكون دور بطانة السوء في فساد البلاد، وهلاك العباد..

    روى البخارى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما استخلف خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله"..

    والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبق في مكانه شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين، وإنما بقي في مكانه أربعة عشر سنة كاملة، من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية عندما سقطت بغداد.. وإذا مرت كل هذه الفترة دون أن يدرك الخليفة خطورته، فلاشك أن هذا دليل واضح على خفة عقل الخليفة..

    لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاً فساده وتشيعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في "مجلس الحكم" الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة.. وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون.. وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرت بالمنطقة في تلك الأوقات..

    بالاطلاع على هذه الجهود الدبلوماسية التي قام بها "منكوخان" و"هولاكو" يتبين أنهما بذلا جهداً كبيراً ضخماً للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، والتي تهدف إلى أمر خطير لم يحدث قبل ذلك في الدنيا.. ولو مرة واحدة، وهو إسقاط عاصمة الخلافة الإسلامية..

    وخلاصة الجهود الدبلوماسية التترية أنهم تعاونوا تعاوناً قوياً مهماً مع ملوك أرمينيا والكرج وأنطاكية النصارى، وحيّدوا إلى حد كبير جانب حكام الإمارات الصليبية بالشام، وأقاموا تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وكذلك تحالفوا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي.

    ولا شك أن هذه الجهود الدبلوماسية كان لها دور ملموس في إنجاح الخطة التترية لإسقاط الخلافة الإسلامية..

    ويجدر القول هنا: إن المسلمين بصفة عامة ـ إلا من ندر ـ كانوا يراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم.. أو وهم يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمس من القيام أو الحركة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..





  8. #8
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    المحور الرابع
    إضعاف جيوش الخلافة العباسية:
    وقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد "مؤيد الدين العلقمي" أن يقنع الخليفة العباسي "المستعصم بالله" أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب.. بل يُحول الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها.. والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات وبناء الجسور.. وأعمال المخابز والنوادي...!! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد..! وقد قام بذلك فعلاً الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يستغرب من مثله، ولكن الذي يستغرب فعلاً أن الخليفة قبل هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد حتى لا يثير حفيظة التتار، وليثبت لهم أنه رجل سلام ولا يريد الحروب!.. لقد قام الخليفة فعلاً بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضاً بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله وذلك في سنة 640 هجرية، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654 هجرية!!!.. وهذا يعني هبوط مروع في الإمكانيات العسكرية للخلافة.. ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق!.. وأهملت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش أي مكانة لهم، ولم يعد يذكر من بينهم من له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد!!..

    وهذه والله الخيانة الكبرى.. والجريمة العظمى!!..

    ويلقي ابن كثير ـ رحمه الله ـ باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة المستعصم بالله، ولكني ألقي باللوم الأكبر على الخليفة ذاته، الذي قبل بهذا الهوان، ورضي بهذا الذل، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يدافع عن ترابه وأرضه ضد أي غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه، وتسليح جنده، وأن يربي الشعب بكامله ـ لا الجيش فقط ـ على حب الجهاد والموت في سبيل الله..

    لم يفعل الخليفة المستعصم بالله كل ذلك، ولا عذر له عندي؛ فقد كان يملك من السلطان ما يجعله قادراً على اتخاذ القرار.. لكن النفوس الضعيفة لا تقوى على اتخاذ القرارات الحاسمة..

    ولابد أن نقف الآن وقفة مع هولاكو في سنة 654 هجرية بعد خمس سنوات كاملة من الإعداد والتجهيز للحرب الكبيرة القادمة:

    ـ أولاً: أصبحت كل الطرق الواصلة بين الصين والعراق قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، وصنعت العربات اللازمة لنقل المعدات الثقيلة، وفرغت السهول والطرق من المواشي لترك الأعشاب لخيول التتار..

    ـ ثانياً: سيطر التتار على كل المحاور المهمة في المساحات الشاسعة التي تقع بين الصين والعراق، وبذلك تحققت مهمة تأمين الجيوش التترية أثناء سيرها واختراقها لهذه الأراضي..

    ـ ثالثاً: توفرت لدى هولاكو المعلومات الكافية عن أرض العراق، وتحصينات بغداد، وأعداد الجنود العباسيين وحالتهم العسكرية، واطلع اطلاعاً كاملاً على خبايا الاقتصاد الإسلامي، وتوفرت له أيضاً المعلومات عن عناصر القوة والضعف في الخلافة العباسية، وعن الأسماء التي لها دور في تغيير مسار الأحداث، وكذلك جمع المعلومات عن حالة الناس النفسية، وعن طموحاتهم ورغباتهم..

    كل هذه المعلومات توفرت له عن طريق عيونه الكثيرة، ومخابراته الماهرة، واتصالاته مع بعض الرموز الهامة في البلاد الإسلامية، والتي وصلت أحياناً إلى الاتصالات مع الأمراء والوزراء كما وضحنا..

    ـ رابعاً: عقد التتار معاهدات وتحالفات مع نصارى الأرمن والكرج وأنطاكية، وأخذوا الوعود منهم بالمساعدة العسكرية والمخابراتية في المعركة القادمة..

    ـ خامساً: تم تحييد ملوك أوروبا الغربية، ولم يكن هذا التحييد سياسياً في المقام الأول، إنما كان عن طريق السلطان، وفرض الكلمة بقوة الرأي والسلاح..

    ـ سادساً: تم الاتفاق مع معظم أمراء الممالك الإسلامية المحيطة بشمال وغرب العراق (تركيا وسوريا) على أن يعطوا الولاء الكامل، والمساعدة غير المشروطة لهولاكو، وذلك في حال حربه مع الخلافة العباسية، وللأسف فمعظم هؤلاء الأمراء كانوا من الأكراد من أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله!..

    ـ سابعاً: تأكد هولاكو من انهيار الروح المعنوية عند المسلمين في العراق وما حولها، واستوى في ذلك الحكام والمحكومون..

    ـ ثامناً: أقام هولاكو علاقات وثيقة مع وزير الدولة الأول مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وضمن ولاءه التام له..

    ـ تاسعاً: تيقن هولاكو من ضعف جيش الخلافة العباسية وقلة حيلته، وأدرك أنه لا يستطيع بأي حال أن يدافع عن نفسه فضلاً عن بغداد!..

    ـ عاشراً: أدرك هولاكو كل شيء عن الخليفة "المستعصم بالله" خليفة المسلمين، وعرف إمكانياته، وقدّر طاقته، وعلم نقاط ضعفه..

    تمت كل هذه الأمور واكتملت لهولاكو في سنة 654 هجرية..

    وهنا - وبعد خمس سنوات من الإعداد - أدرك هولاكو أن المناخ العام أصبح ملائماً للهجوم المباشر على الخلافة العباسية, وإسقاط بغداد.. فبدأ عملية حشد هائلة للجنود التتار؛ ليجمع بذلك أكبر جيوش التتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيزخان.. بحيث كان الجنود المكلفون بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه، والقوات المكلفة بحماية الطرق وتأمين الإمداد والتموين، هذا غير الفرق المساعدة للجيش سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة..

    ونستطيع أن نتبين تركيبة الجيش التتري كما يلي:

    ـ أولاً: الجيش التتري الأصلي، والذي كان يتمركز منذ سنوات في منطقة فارس وأذربيجان شرق العراق..

    ـ ثانياً: استدعى هولاكو فرقة من جيش التتار المتمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، والتي كانت تحت زعامة القائد التتري الشهير "باتو" (فاتح أوروبا)، ولكن باتو لم يأت بنفسه وإنما أرسل ثلاثة من أبناء أخيه، وكان "باتو" وعائلته قد كونوا دولة مستقرة في منطقة حوض نهر الفولجا، وأطلقوا على أنفسهم اسم "القبيلة الذهبية"، ومع استقلالهم النسبي في إدارة أمورهم إلا إنهم كانوا في النهاية يتبعون زعيم التتار "منكوخان"..

    ـ ثالثاً: أرسل هولاكو في طلب فرقة من جيش التتار المكلف بفتح أوروبا، والذي كان يتمركز على أطراف الأناضول (شمال تركيا)، فجاءت الفرقة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير "بيجو"، وقد جاءت هذه الفرقة مخترقة الأناضول وشمال العراق ومتجهة إلى بغداد، ولم تلق أي نوع من المقاومة أثناء هذا الطريق الطويل؛ لأن حكام هذه المناطق المسلمة كانوا قد أفرغوا المجال الأرضي لقوات التتار، فسارت في أمان وسط إمارات الأناضول والموصل وحلب وحمص!..

    ـ رابعاً: أرسل هولاكو إلى "صديقه" ملك أرمينيا يطلب المساعدة، فجاءه "هيثوم" ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من جيشه..

    ـ خامساً: طلب هولاكو أيضاً من ملك الكرج أن يرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فوراً..

    ـ سادساً: استدعى هولاكو ألفاً من الرماة الصينيين المهرة الذين اشتهروا بتسديد السهام المحملة بالنيران..

    ـ سابعاً : وضع هولاكو على رأس جيوشه أفضل قواده، وكان اسمه "كتبغا نوين" وفوق إمكانياته القيادية والمهارية فإنه كان نصرانياً، وبذلك يستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش.. وبذلك ضم الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار، وهم هولاكو وكتبغا وبيجو.

    ـ ثامناً: راسل هولاكو أمير أنطاكية "بوهمند"، ولكن تعذر عليه أن يخترق الشام كله للذهاب إلى العراق، ولكنه كان على استعداد تام للحرب، فإذا سقطت العراق شارك في إسقاط الشام..

    ـ تاسعاً: أرسل الناصر يوسف أمير دمشق ابنه العزيز ليكون في جيش هولاكو..

    ـ عاشراً: أرسل أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ فرقة مساعدة لجيش التتار.. وهاتان الفرقتان وإن كانتا هزيلتين إلا إنهما كانتا تحملان معاني كثيرة.. فهناك في جيش التتار مسلمون يشتركون مع التتار في حرب المسلمين!! بل قد يشارك في عملية "تحرير العراق" عراقيون متحالفون مع التتار!!.. عراقيون باعوا كل شيء في مقابل كرسي صغير أو إمارة تافهة أو دارهم معدودات.. أو مجرد حياة.. أي حياة..

    وبهذا الإعداد رفيع المستوى اكتمل الجيش التتري، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطة المعركة..

    وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثل خطورة على الجيش التتري.. فطائفة الإسماعيلية مشهورة بقوة القتال، وبالحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان.. ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية كانوا على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، ومع أنهم راسلوا قبل ذلك التتار ليدلوهم على ضعف جلال الدين بن خوارزم قبل مقتله في سنة 629 هجرية، ومع أنهم من المنافقين الذين يتزلفون لأصحاب القوة.. مع كل هذه الاعتبارات إلا أن التتار لم يكونوا يأمنون أن تتحرك الجيوش التترية إلى العراق، ويتركون في ظهرهم قوات عسكرية للإسماعيلية.. هذا بالإضافة إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية، فقد قتلت الإسماعيلية ابناً من أبناء جنكيزخان اسمه "جغتاي"، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس، منذ أكثر من ثلاثين سنة..! ولم ينس التتار هذا الثأر لأنه يخص ابن الزعيم الأكبر لهم، والذي جعل منهم مملكة لها شأن في الدنيا، كما أن حكام التتار من نفس عائلة جنكيزخان، ويعتبرون الثأر من الإسماعيلية مسألة شخصية بحتة، حتى إن الجيوش التترية كانوا يصحبون معهم في حربهم ابنة "جغتاي" القتيل القديم، وذلك لزيادة حماستهم في القتال، ولكي تقوم بنفسها بالثأر لأبيها..

    كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلص من الإسماعيلية نهائياً.. وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود..

    وتحركت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية، واقتربت من أقوى حصونهم على الإطلاق وهو حصن "آلموت" في غرب فارس، وما هي إلا أيام حتى تم تطويق الحصن المنيع، ولما شاهد زعيم الإسماعيلية "ركن الدين خورشاه" هذه الأعداد التي لا تحصى طلب أن يقابل هولاكو، وقبل هولاكو ليختصر الوقت؛ فالإسماعيلية ليست إلا محطة صغيرة قبل الوصول إلى بغداد.. والتقى هولاكو بركن الدين خورشاه الذي أعلن خضوعه الكامل لهولاكو، وتسليمه للقلعة الحصينة، ولكن قائد القلعة رفض التسليم، وصمم على القتال عاصياً بذلك أمر قائده ركن الدين خورشاه، ففتح التتار القلعة عنوة بعد ذلك بأيام، وذبحوا كل من فيها، وطلب ركن الدين خورشاه من هولاكو أن يرسله إلى "منكوخان" ليتفاوض معه شخصياً في تسليم كل قلاع الإسماعيلية في مقابل بعض الوعود، وقد أرسله فعلاً هولاكو إلى منكوخان محاطاً بفرقة تترية، ولكن منكوخان رفض أن يقابله واستحقره جداً وقال: "إن هولاكو قد أخطأ بإرهاق الخيول التترية الجيدة في هذه الرحلة الطويلة من أجل هذه السفارة التافهة.." ثم أمر جنوده بإعادة ركن الدين خورشاه إلى فارس، وفي الطريق قتل ركن الدين خورشاه كما يقولون "في ظروف غامضة"، وإن كانت الظروف ليست بغامضة فمن الواضح أن "منكوخان" قد أوصى بقتله، ولكن خارج البلاط المغولي لئلا يتهم البلاط بالغدر!..

    وبعد قتل ركن الدين خورشاه قام" هولاكو" بخدعة خبيثة قذرة في مناطق الإسماعيلية، فقد أظهر لهم أنه على استعداد للاتفاق معهم، والتعاون سوياً لدخول بغداد، وطلب من قواد الإسماعيلية أن يقوموا باستدعاء الإسماعيلية من كل مكان حتى يقوم التتار بعملية إحصاء لأعداد الإسماعيلية، وعلى ضوء هذا الإحصاء سيكون الاتفاق، فإن هولاكو - كما يزعم - يخشى أن يضخم الإسماعيلية أنفسهم للحصول على مكاسب أكبر، وبهذه الحيلة بدأ الإسماعيلية في جمع كل أعوانهم حتى جاء رجال من العراق ومن الشام، وعندما اجتمع هذا العدد الكبير قام هولاكو بمذبحة بشعة فيهم، وقتل كل من أمسكه في يده، ولم ينس أن يأخذ مجموعة من الرجال إلى "سالقان خاتون" ابنة "جغتاي" وحفيدة جنكيزخان لتقتلهم بيدها لتأخذ بثأر أبيها "جغتاي" المقتول على يد الإسماعيلية قبل ذلك..

    وهكذا تم في خلال سنة 655 هجرية استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريباً، ولم ينج منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، ولم يأت في عملية الإحصاء المزعومة..

    وبذلك أصبح الطريق آمناً مفتوحاً إلى بغداد .. وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء - ولكن بنظام - في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة.. بل قليلة جداً!!..

    وقبل التحدث عن حصار بغداد وسقوطها، فإنني أود أن أشير إلى أن هذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم يُقصد منه إبراز الانبهار "بهولاكو"، أو إبراز الاحتقار للمسلمين، إنما هو محاولة للبحث عن مبرر واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد، فالناظر إلى الأحداث دون تعمق، والدارس للأمر دراسة سطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله عز وجل للتتار وهم من أخس أهل الأرض، ومن الوثنيين الظالمين السفاكين للدماء المستبيحين للحرمات بأن يفعلوا كل هذا الذي فعلوه بالمسلمين.. والمسلمون مهما كانوا فهم من الموحدين لله المقيمين للصلاة والقارئين لكتاب الله؟!

    فأحببت أن أتجول معكم في هذا الإعداد الطويل المرتب الذي لم يقابل بأقل درجات الاهتمام من جانب المسلمين لتحدث المأساة الكبرى.. والبلية العظمى..

    إن الذي يعتمد فقط على كونه من الموحدين المسلمين، ولا يعد العدة ولا يأخذ بالأسباب واهم في إمكانية تحقيق النصر.. إن التتار لم ينتصروا على المسلمين لكرامة لهم عند الله عز وجل، فهم من أقبح شعوب الأرض فعلاً، ومن أسوأهم أخلاقاً، ولكنهم أعدوا العدة.. وأخذوا بالأسباب فتحققت على أيديهم النتائج التي خططوا لها..

    وهذه سنة مطردة.. وكثيراً ما رأينا اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس ينتصرون على المسلمين، ويكثرون من إهانتهم، إذا أخذ هؤلاء بالأسباب المادية، وتركها المسلمون..

    وليس المقصود من وراء ذلك أن يعتمد المسلمون على الأسباب المادية فقط ويتركوا مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.. إنما المقصود هو العمل الجاد الدءوب المتواصل مع رفع الأيدي إلى الله طلبًا للتوفيق والنصر.. وإذا تم النصر علمنا أنه من عند الله، ولم نتكبر أو نتجبر أو نعتقد في خروجنا عن دائرة حكم الله عز وجل..

    والتاريخ ـ يا إخواني ـ يتكرر..

    وما فعله التتار من إعداد ضد المسلمين فعله غيرهم بعد ذلك..

    وما فعله المسلمون من تهاون وإهمال فعله المسلمون بعد ذلك أيضاً..

    وإذا كانت النتائج التي حدثت في أيام التتار قد جاءت على تلك الصورة، فلا شك أن النتائج في عصرنا ستأتي على نفس الصورة إذا لم يفقه المسلمون الأمر فيعيدوا ترتيب أوراقهم وفقاً للفهم الصحيح..

    ولذلك نقص التاريخ..

    فهل من مدكر!!..





  9. #9
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    من هم التتار؟


    ظهرت دولة التتار في سنة 603 هجرية تقريبًا، وكان ظهورها الأول في "منغوليا" في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو "جنكيزخان".

    و"جنكيزخان" كلمة تعني: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي.. حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية.. واسمه الأصلي "تيموجين".. وكان رجلاً سفاكًا للدماء.. وكان كذلك قائدًا عسكريًّا شديد البأس.. وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله.. وبدأ في التوسع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتسعت مملكته حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالاً إلى بحر الصين جنوبًا.. أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًا: (الصين ومنغوليا وفيتنام وكوريا وتايلاند وأجزاء من سيبيريا.. إلى جانب مملكة لاوس وميانمار ونيبال وبوتان)!!

    ويطلق اسم التتار - وكذلك المغول - على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين في صحراء "جوبي"، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة.. ومن التتار جاءت قبائل أخرى مثل قبيلة "المغول"، وقبائل "الترك" و"السلاجقة" وغيرها، وعندما سيطر "المغول" - الذين منهم جنكيزخان - على هذه المنطقة أطلق اسم "المغول" على هذه القبائل كلها.

    وكان للتتار ديانة عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة.. فقد جمع جنكيزخان بعض الشرائع من الإسلام والبعض من المسيحية، والبعض من البوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور للتتار وسمى هذا الكتاب بـ "الياسك" أو "الياسة" أو"الياسق".

    وكانت حروب التتار تتميز بأشياء خاصة جدًّا مثل:

    1- سرعة انتشار رهيبة.
    2- نظام محكم وترتيب عظيم.
    3ـ أعداد هائلة من البشر.
    4- تحمل ظروف قاسية.
    5- قيادة عسكرية بارعة.

    6- أنهم بلا قلب!! فكانت حروبهم حروب تخريب غير طبيعية.. فكان من السهل جدًّا أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا، فدمروا كل المدينة وقتلوا سكانها جميعًا.. لا يفرقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مدني ومحارب!! إبادة جماعية رهيبة، وطبائع دموية لا تصل إليها أشد الحيوانات شراسة.

    وكما يقول الموفق عبد اللطيف في خبر التتار: "وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال".

    7- رفض قبول الآخر.. والرغبة في تطبيق مبدأ "القطب الواحد!".. فليس هناك طرح للتعامل مع دول أخرى محيطة.. والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائمًا بأنهم ما جاءوا إلا ليقيموا الدين، ولينشروا العدل، وليخلصوا البلاد من الظالمين!!

    8- أنهم لا عهد لهم.. فلا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق.. لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.. كانت هذه صفة أصيلة لازمة لهم، لم يتخلوا عنها في أي مرحلة من مراحل دولتهم منذ قيامها وإلى أن سقطت.

    هذه هي السمات التي اتصف بها جيش التتار، وهي صفات تتكرر كثيرًا في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله عز وجل.. فالذي يملك القوة ويفتقر إلى الدين لابد أن تكون هذه صورته.. قد يتفاوتون في الجرائم والفظائع.. لكنهم في النهاية مجرمون.

    كانت حروب المرتدين قريبًا من هذا.. كذلك حروب الفرس.. وكذلك كانت حروب الرومان.. وكذلك كانت حروب الصليبيين في الشام ومصر.. وكذلك كانت حروب الصليبيين في الأندلس.. ثم سار على طريقتهم بعد ذلك أتباعهم من المستعمرين الأسبان والبرتغال والإنجليز والفرنسيين والطليان واليهود، ثم الأمريكان!!

    قد يختلف الشكل الخارجي.. وقد تختلف الوجوه والأجسام.. ولكن القلوب واحدة.. حقد وضغينة وشحناء وبغضاء على كل ما هو مسلم، أو كل ما هو حضاري.

    وسبحان الله إذ يقول في حقهم جميعًا: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات: 53].





  10. #10
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 31

    افتراضي


    اجتياح فارس


    كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في "سمرقند" تزيد على ستمائة وخمسين كيلومترًا.. هذا في الطرق السوية والمستقيمة، فإذا أخذت في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة، وإذا أخذت في الاعتبار أيضاً الأنهار التي تفصل بين "سمرقند" ومنطقة بحر قزوين والتي كانت تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، بالإضافة إلى أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية، كل ذلك إلى جانب العداء الشديد الذي يكنه أهل هذه المناطق المنكوبة للتتار.. إذا أخذت كل ما سبق في الاعتبار فإنك تعلم أن جيش التتار أصبح مقطوعاً عن مدده في "سمرقند" بصورة كبيرة.. وأصبح في موقف حرج لا يحسد عليه بالمرة.. وهو ليس بالكبير العدد.. إنما هو عشرون ألفاً فقط.. فإذا أضفت إلى كل الاعتبارات السابقة الكثافة السكانية الإسلامية الهائلة في تلك المناطق أدركت أن فرقة التتار ستهلك لا محالة؛ فلو خرج عليها أهل البلاد - وقد تجاوزوا الملايين بلا مبالغة - فإن التتار لا يقدرون عليهم بأي حال من الأحوال..
    كان هذا هو تحليل الورقة والقلم..
    فماذا حدث على أرض الواقع؟!
    لقد شاهدنا أمراً عجيباً مخزياً مشيناً!!..
    لقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين.. وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً لا يُفهم.. ورضوا أن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرقة التترية الصغيرة..

    روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم, وليقذفن الله في قلوبكم الوهن", فقال قائل: يارسول الله, وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

    لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل.. إذا توجه السيل شرقاً شرَّقوا معه، وإذا توجه السيل غرباً غرَّبوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار؛ فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تترياً واحداً!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    ماذا فعلت الفرقة التترية الخاصة؟
    لقد عادوا من شاطئ بحر (قزوين) إلى بلاد "مازندران" (في إيران) فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، وكانت من أشد بلاد المسلمين قوة.. حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستطيعوا أن يدخلوا مازندران، ولم تُدخل إلا في زمان سليمان بن عبد الملك -رحمه الله - الخليفة الأموي المعروف.. ولكن التتار دخلوها بسرعة عجيبة، لا لقوتهم ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت، ولما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذبوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد..

    ثم اتجهوا من مازندران إلى الري (مدينة إيرانية كبيرة)، وسبحان الله!! وكأن الله عز وجل قد أراد أن يتم الذلة لمحمد بن خوارزم شاه حتى بعد وفاته؛ فإن التتار وهم في طريقهم من مازندران إلى الري وجدوا في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبياً وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في "سمرقند" آنذاك..

    ثم وصل التتار إلى الري فملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واسترَقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يُسمع بمثلها، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة حتى دخلوا مدينة قزوين (من المدن الإيرانية أيضًا) واقتتلوا مع أهلها في داخل البلد، وقتلوا من أهل قزوين المسلمين ما يزيد عن أربعين ألفًا!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..





 

صفحة 2 من 9 الأولىالأولى 123456 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رسول الله في كتب السابقين !( فى كتب الهندوس) د . راغب السرجانى
    بواسطة عبدالرحمن السلفى في المنتدى البشارات الحق بمبعث سيد الخلق
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 2012-06-09, 02:30 PM
  2. قصة الحروب الصليبية مع د. راغب السرجاني
    بواسطة kholio5 في المنتدى ثمار النصرانية
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 2011-04-16, 01:17 PM
  3. عناية الاسلام بالنفس الانسانية : د. راغب السرجانى
    بواسطة بن الإسلام في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-01-19, 11:26 AM
  4. جميع مقالات الدكتور راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 95
    آخر مشاركة: 2010-10-31, 01:37 PM
  5. سلسلة فتح مصر بقلم د. راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 2010-10-20, 09:39 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML