صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 123456 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 62
 
  1. #11
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    تطبيــــع الشـخصيـــة اليهــوديـــة
    Normalization of the Jewish Character
    بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، شاع مصطلح «تطبيع» في الخطاب السياسيفي مصر، بمعنى محاولة جعل العلاقات بين مصر والدولة الصهيونية علاقات عادية طبيعيةمثل العلاقات التي تنشأ بين أي دولتين. ولكن المصطلح في الأدبيات الصهيونية، حينمايُستخدَم للإشارة إلى ما يُسمَّى «الشخصية اليهودية»، تكون له مدلولات مختلفةتماماً. وقد شاع المصطلح في أوربا ابتداءً من القرن الثامن عشر مع مصطلحات أخرى إمامشابهة أو مرتبطة به، مثل «تحويل اليهود إلى قطاع منتج» أو «نفع اليهود»، وهي كلهامصطلحات تفترض شذوذ وضع اليهود وهامشيتهم، وتؤكد الحاجة إلى تغييره عن طريق «إصلاحاليهود» وتحويلهم إلى مادة بشرية استعمالية نافعة يمكن توظيفها في خدمة المجتمع،وهذا يعني أن يصبح اليهودي إنساناً طبيعياً لا يختلف عن غيره من البشر (والإنسانالطبيعي هو مفهوم محوري في فكر عصر الاستنارة) الذي ركَّز على العناصر العامة فيالبشر، وحاول أن يقلل من أهمية الخصوصيات وأن يلغيها تماماً.

    ولكن الظاهرةنفسها، بغض النظر عن المصطلح، تعود إلى تواريخ قديمة، فقد كانت الحاجة إلى تطبيعاليهود أو إصلاحهم تنشأ حينما يواجهون حضارة متفوقة، كما حدث عند التهجير البابلي. وبرزت الظاهرة ذاتها بشكل أكثر إثارة في العصر الهيليني، إذ بدأ أعضاء الجماعةاليهودية التي كانت متركزة أساساً في فلسطين ثم في مصر يشـعرون بالإحسـاس بالنقصوبالتدني الحضـاري إزاء الحضارة المتفوقة، فاصطنعوا أساليبها، وتأغرقت أعداد كبيرةمنهم، وبخاصة أعضاء الطبقات الثرية، وبذلوا جهداً غير عادي ليصبحوا مثل الإغريق. وعلى سبيل المثال، كان بعض اليهود الذين يشتركون في الألعاب الأولمبية يجرون عمليةجراحية تجميلية حتى يبدو وكأنهم لم يُختنوا (أي حتى يبدوا وكأنهم مواطنون طبيعيون) فلا يكونوا محط سخرية المشاهدين أو نساء الأغيار. ويمكن اعتبار الحركات المشيحانيةأول محاولات تطبيع اليهود في الواقع. ولذا، كان من أهداف هذه الحركات إسقاط الأوامروالنواهي المسئولة عن تميُّز اليهود وعزلتهم.

    ولكن عملية التطبيع التيتهمنا هي التي بدأت في نهاية القرن الثامن عشر نتيجةً للانقلاب الصناعي الرأسماليفي الغرب، والتحولات البنيوية التي خاضتها المجتمعات الغربية، إذ أدَّت هذهالتحولات إلى ظهور الدولة القومية الحديثة والرأسمالية الرشيدة والاقتصاد الحديثمما أدَّى إلى الاستغناء عن الجماعات الوظيفية، اليهودية وغير اليهودية، وقد تطلَّبهذا التحول نوعية جديدة من المواطنين ذوي كفاءات وولاءات محددة يختلفون بشكل جوهريعن عضو الجماعة الوظيفية. وقد كان مؤسسو الدولة القومية الحديثة في غرب أورباووسطها وشرقها يرون أن اليهود، بوضعهم الذي كانوا عليه، كجماعات وظيفية وسيطة،أصبحوا شخصيات هامشية غير منتجة وغير محددة الولاء أو الانتماء ودون دور محددتلعبه، أي أن وَضْعهم لم يعُد طبيعياً في الإطار القومي المركزي الجديد. ولذا،ينبغي تطبيعهم، أي صبغهم بالصبغة القومية ليتم دمجهم في المجتمع. فأصدرت حكومةفرنسا ثم النمسا وروسيا وغيرها قرارات لإعادة صياغة هوية أعضاء الجماعات. وقدتفاوتت درجات نجاح المحاولة وإخفاقها من بلد إلى آخر.

    والتطبيع هو أيضاً منأهـم المفاهيم المحـورية في الفكر الصهيوني، فهو العملية التي يتخلَّص اليهودي منخلالها من أمراض المنفى أو الشـتات (الانتشـار في العـالم) خـارج الوطن القومي،والتي تتمثل في عقلية استجداء الأغـيار والاعتماد السياسي عليهم وتتمثَّل كذلك فيازدواج الولاء. وهي تعني أيضاً التخلُّص من أية قداسة يخلعها عليه تراثه الديني،وبالتالي يتعيَّن على اليهود الجدد من المستوطنين الصهاينة ألا ينغمسوا في أعمالالسمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة مثل بني ملتهم أو جلدتهم من يهودالمنفى، وعليهم أن يتحولوا إلى شعب يهودي منتج بمعنى الكلمة، يسيطر على كل مراحلالعملية الإنتاجية، وبالتالي على مصيره الاقتصادي والسياسي. كما أن عليهم أن يطرحواكل المفاهيم الدينية مثل «الشعب المختار» و«الالتزام بأداء الأوامر والنواهي»، وأيةمطلقات دينية أو أخلاقية. وقد عبَّر المفكر الصهيوني العمالي دوف بير بوروخوف عنالقضية نفسها بقوله إن اليهود أعضاء في هرم إنتاجي (أي أنهم مادة إنتاجية)، وأنالحل الصهـيوني يتلخَّص في أن يقـف الهــرم الإنتاجي اليهودي على قاعدته، بحيثيتركز اليهود في العمليات الإنتاجية في قاعدة الهرم ويعملون بأيديهم وتصبح أغلبيتهممن العمال والفلاحين، أما المهنيون والعاملون في القطاع التجاري والمالي فإنهميصبحون قلة في قمة الهرم، شأنهم في هذا شأن قرنائهم في أي مجتمع آخر. وهذا مايُطلَق عليه مصطلح «العمل العبري» و«غزو العمل»، أي أن يستولى الصهيوني على الأرضعن طريق العنف الذي يُطهِّره من مخـاوف المنفى، ويعمل فيهـا بيديه ويسيـطر على كلمراحـل الإنتاج. وهو، إن فعل، يكون قد أنجز الثورة الصهيونية الحقَّة، فاستولى علىالأرض وزرعها، وعلى الهيكل الاقتصادي وعمل فيه، وعلى الهيكل السياسي وتحكَّم فيه. ثم تحوَّل هو نفسه من شخصية هامشية خائفة لا سيادة لها، إلى شخصية شجاعة منتجة ذاتسيادة قومـية، وبذلك يكـون قد تم تطــبيعه، ويصير اليهود شعباً، مثلهم مثل كلالشعوب، لهم وطنهم ولغتهم وجيشهم. ومن هنا، لا يكون الاستيطان الإحلالي (الاستيلاءعلى الأرض وطرد سكانها والعمل فيها) مجرد فعل خارجي يحمل مدلولاً اقتصادياًمحدوداً، وإنما فعل شامل ذو أبعاد سياسية وقومية، وفي نهاية الأمر نفسية. وهو أيضاًيحل مشكلة المعنى بالنسبة للصهاينة، ويُعقلن وجـودهم في فلسـطين التي تلفظـهم والتييقاتل أهلها ضدهم.

    ولكن التطبيع في السياق الصهيوني يعني أيضاً التغريب، أيأن يصبح لليهود وطن يؤسَّس على النسق العلماني الغربي. فالصهاينة يرون دولتهمالاستيطانية جزءاً من التشكيل الإمبريالي الغربي. وقد أسس الصهاينة دولتهم، التيحوَّلت الدين إلى رموز قومية خالية من المضمون الأخلاقي على طريقة الدول الغربيةالحديثة، المتمسكةبقيم المنفعة وبالقوة كوسيلة لحل كل مشاكلها. وبعد حرب 1967، معتلاشي ما تبقى من أوهام عن روح الريادة والعمل العبري، ازدادت الروح النفعيةوالاستهلاكية. ولذا، زادت حدة التطبيع، وأصبح يهود إسرائيل مثل كل الشعوب،والأمريكيين على وجه الخصوص. وربما يفسر هذا نزوح كثير من الإسرائيليين إلىالولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الاستهلاكية، فهذه هي النتيجة المنطقيةلمنطق التطبيع بمعنى التغريب.

    ولكن، يبدو أن الدولة الصهيونية لم تنجحتماماً في أن تُطبِّع نفسها أو سكانها، فهي دولة تعتمد على الغرب، وتنتشر فيهاالجريمة، كما أن عدداً كبيراً من سكانها يشتغلون بأعمال السمسرة ويرفضون العمـلاليـدوي، وهـو الأمر الذي كشفت عنه الانتفاضة بشكل واضح وجليّ. أما أعضاء الجماعةاليهودية في الولايات المتحدة، وهم أكبر جماعة يهودية في العالم، فقد تم تطبيعهموعلمنتهم تماماً، فقد تبنُّوا أسـلوب الحـياة الأمريكي دون تحـفُّظ. ونصفهم لا يؤمنبالخالق، كما أن الأغلبية الساحقة ممن يظنون أنهم يؤمنون بالعقيدة اليهودية ينتمونإلى اليهودية الإصلاحية والمحافظة والتي لا تعترف بها اليهودية الأرثوذكسية، ولايقيمون شعائر السبت، وإن احتفلوا به فهم يرونه جزءاً من عطلة نهاية الأسبوع (الويكإند) بما تتضمنه من نشاطات علمانية عديدة لا يربطها رابط بشعائر السبت. بل يُقال إنيهود الولايات المتحدة أكثر ملكية من الملك، وأكثر طبيعية وأمريكية من الأمريكيينأنفسهم. وثمة رأي يذهب إلى أن النشاط الصهيوني، الهستيري في شكله، المترهل فيمضمونه، والذي لا يتجاوز في واقع الأمر دفع التبرعات والاشتراك في التظاهرات ووضعاللافتات على السيارات، ولا يأخذ شكل سلوك ديني في المنزل أو هجرة إلى إسرائيل، ماهو إلا تغطية لعملية التطبيع الجذرية التي تتم بين أعضاء الجماعة اليهودية، والتيتترجم نفسها إلى أمركة كاملة وانصهار تام في المجتمع الأمريكي. ولهذا السبب، يطلقبعض الصهاينة على يهود الولايات المتحدة اسم «الهيلينيين الجدد».

    وغنيٌّ عنالقول إن مفهوم شذوذ الشخصية اليهودية مفهوم محوري في أدبيات معاداة اليهود، وبخاصةفي الفكر النازي. وقد وجد النازيون أن حلَّ قضية الشذوذ هذه لا يتم عن طريق تطبيعاليهود كما يقترح الصهاينة، وإنما عن طريق إبادة العناصر غير النافعة منهم.






  2. #12
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    المســألة اليهوديـــة
    The Jewish Question
    «المسألة اليهودية» مصطلح يتواتر في الكتابات الصهيونية وفي غيرها بصيغة المفرد، وهو مصطلح يفترض أنثمة مشاكل محدَّدة ثابتة لا تختلف تقريباً باختلاف الزمان والمكان، يواجهها اليهودوحدهم ولا يواجهها غيرهم من أعضاء الجماعات أو الأقليات الدينية أو الإثنية. ولذاتتم الإشارة إليها بعبارة «المسألة اليهودية» (الواحدة) لا «المسائل اليهودية» المتنوعة بتنوع تجارب أعضاء الجماعات اليهودية عبر الزمان والمكان. وحلَّ هذهالمسألة يكون عن طريق التخلص من اليهود، إما عن طريق تهجـيرهم إلى وطنهم القومياليهودي، وهـذا هو (الحل الصهيوني)، أو عن طريق طردهم (الحل المعادي لليهود)، أوإبادتهم (الحل النازي).

    ويمكن تصنيف المصطلح، بشكله هذا، ضمن مصطلحات شبيهةأخرى، مثل «الشخصية اليهودية» التي تفترض وجود شخصية يهودية ثابتة مستقلة عما حولهامن ظروف. و«التاريخ اليهودي»، الذي يفترض وجود تاريخ مستقل له سماته المحددة،ووحدته الواضحة، وفتراته المتتالية التي تعرَّف بالعودة إلى جوهر يهودي أو وجودمستقل، هو أمر يتناقض مع الواقع التاريخي الحي المركب. فالمشاكل التي واجهها يهودالإمبراطورية الرومانية هي جزء من تاريخ هذه الإمبراطورية، والمشاكل التي واجههايهود المدينة أيام الرسول (عليه الصلاة والسلام) ناجمة عن وجودهم داخل التشكيلالحضاري الإسلامي في الجزيرة العربية، كما أن المشاكل التي واجهها يهود روسيا فيالقرن التاسع عشر الميلادي كانت نابعة من وجودهم داخل التشكيل السياسي الروسي فيعهد القيصرية، تماماً كما أن المشاكل التي واجهوها بعد عام 1917 هي جزء من تاريخروسيا السوفيتية. أما من هاجر من يهود اليديشية إلى الولايات المتحدة، فقد أصبحتاريخه وكذلك مشاكله جزءاً من تاريخها. ومع أن هذا لا ينفي وجود مشاكل خاصة نابعةمن خصوصية وَضْع أعضاء الجماعة اليهودية داخل هذه التشكيلات، فإنه لا يوجد عنصرمشترك واحد يجمع بين هذه المشاكل الخاصة، إذ أن هذه الخصوصية نفسها مستمدة من طبيعةعلاقة الجماعة اليهودية بالمجتمع الذي تعيش في كنفه (وتتشكَّل في إطاره) وليس لهاعلاقة بخصوصية يهودية تشمل كل اليهود. وقد غيَّر حدث ضخم، مثل الثورة البلشفية،نوعية المشـاكل التي كان يواجـهها أعـضاء الجـماعة اليهودية. فبعد أن كان يُفرَضعليهم الانعزال داخل منطقة الاستيطان، أصبح يتهددهم الاندماج، وبعد أن كانوا بعيدينتماماً عن مؤسسات صُنْع القرار، أصبحوا قريبين منها، لدرجة أن أعداء اليهودوالبلاشفة كانوا يسمون الثورة البلشفية «الثورة اليهودية». بل كانت هناك داخلالتشكيل السياسي الروسي القيصري ثم البلشفي عدة تشكيلات يهودية مختلفة لكلٍّمشاكلها الخاصة، فيهود جورجيا واجهوا مشاكل تختلف نوعياً عن مشاكل يهود اليديشية. أما اليهود القرَّاءون، فلم يواجهوا مشاكل حقيقية نظراً لأن الحكومة القيصريةاعتبرتهم جماعة منتجة، وبالتالي فإنها لم تُطبِّق عليهم أياً من القرارات التيطبقتها على يهود اليديشية. كما أن تواتر المسائل اليهودية داخل المجتمعات البشريةلا يعني بالضرورة أن هذه المسائل متشابهة أو أن الواحدة لها علاقة بالأخرى. فقدتتشابك المسائل كما حدث حينما هاجر يهود اليديشية بأعداد كبيرة إلى ألمانيا وقوضواوضع يهود ألمانيا ومكانتهم. ولكن، مع هذا، تظل كل مشكلة أو مسألة يهودية مستقلة ولايمكن فهمها إلا بالعودة إلى سياقها التاريخي والحضاري والاجتماعي.

    لكل هذا،يكون مصطلح «المسألة اليهودية» الذي يَفترض أن هناك مسألة يهودية واحدة، عالميةوعامة، مصطلحاً منافياً تماماً للحقائق المتعيِّنة للتاريخ، ومن ثم فإن قيمتهالتصنيفية والتفسيرية ضعيفة إلى أقصى حد. ومن الأفضل استخدام صيغة الجمع والتحدث عن «مسائل يهودية». وحين يُستخدَم المصطلح في صيغة المفرد، فإنه يشير، في واقع الأمر،إلى المشاكل التي واجهها أعضاء الجماعات اليهودية (في القرن التاسع عشر) في أوربا،وبخاصة في شرقها، وبذلك تُستبعَد الجماعات اليهودية الأخرى كافة. وهذا التحديدالزماني المكاني يعطي المصطلح مضموناً حقيقياً ودلالة ومقدرة تفسيرية وتصنيفيةعالية.

    ويجب التمييز بين المسألة اليهودية في العصر الحديث من جهة، وبينالمذابح التي كانت تُدبَّر ضد أعضاء الجماعة اليهودية في الماضي من جهة أخرى. ورغمأن كلاًّ من الظاهرتين ينبع من أساس واحد وهو كون اليهود جماعة وظيفية وسيطة، فإنأوجه الاختلاف بين الظاهرتين أساسية وجوهرية، فالمذابح التي دُبِّرت ضد أعضاءالجماعة اليهودية حتى بداية القرن السابع عشر تقريباً كانت، في كثير من الأحيان، منقبيل الثورة الشعبية ضد جماعة وظيفية إثنية تُشكِّل أجزاء من الطبقة الحاكمةوتُعَدُّ أداتها. أما المسألة اليهودية الحديثة، فهي مرتبطة بظهور الرأسمالياتالمحلية وتآكل دور الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية "نافعة" وتحولها إلى فائض بشريومحاولة الدولة القومية التخلص من هذا الفائض البشري عن طريق دمجه أو تصديره أوتحويله إلى عنصر بشري نافع. وهي عملية لم تكن مقصورة على أعضاء الجماعات اليهوديةوإنما كانت تسري على أعضاء الجماعات الإثنية والدينية الأخرى في المجتمع، أي أنهامرتبطة بآليات وحركيات خاصة بالمجتمع الغربي بعد تآكل النظام الإقطاعي وانتقاله منالاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الرأسمالي، وأخيراً بالتشكيل الإمبريالي الغربي. ويجب الانتباه إلى أن مسألة يهود شرق أوربا في القرن التاسع عشر ليست مسألة فريدة،فهي نمط متكرر في معظم المجتمعات التي تنتقل من النمط الزراعي التقليدي في الإنتاجإلى النمط الحديث. وعلى هذا، توجد مسألة هندية أو عربية في أفريقيا، ومسألة إيطاليةأو يونانية في مصر، ومسألة صينية في جنوب شرق آسيا، ولعل التشابه بين المسألةالصينية في الفلبين والمسألة اليهودية في بولندا أمر ملحوظ بشكل ما ويستحق الإشارةإليه. لقد كان أعضاء الجماعة الصينية يشكلون جماعة وظيفية وسيطة فكانوا يعملونوسطاء بين المستعمرين الإسبان والعنصر الفلبيني المحلي، تماماً كما كان اليهودوسطاء بين النبلاء البولنديين (الشلاختا) والفلاحين والأقنان الأوكرانيين داخلمؤسسات الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا. وكان الصينيون يعيشون في جيتو يُسمَّى «باريان Parian» خارج مانيلا، تماماً كما كان اليهود يعيشون في الجيتوات والشتتل. وكان يُحظَر خروج الصينيين من الجيتو الخاص بهم بعد الساعة الثامنة. وقد طُردالصينيون من الفلبين عدة مرات (1569 و1755) ودُبِّرت المذابح والهجمات ضدهم (فيسنوات 1603 و1639 و1662 و1764)، وفُرضت عليهم ضرائب خاصة باهظة. وتركَّز الصينيونفي مانيلا في الأعمال التجارية والمالية، ونظموا أنفسهم داخل مؤسسات تشبه القهال. وكان الصينيون يضطلعون بدور مهم في المجتمع الفلبيني، ولكنهم بعد استقلال الفلبينفقدوا دورهم كجماعة وظيفية وسيطة، فحدثت محاولات للتخلص منهم بطردهم أو دمجهم عنطريق تحديثهم.


    ويمكن القول بأن المسألة اليهودية في أوربا، في العصرالحديث، هي محاولة لتحديث أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا بهدف دمجهم فيمجتمعاتهم بعد أن فقدوا دورهم كجماعة وظيفية وسيطة، وهي محاولة حقـقت درجاتمتفـاوتة من النجـاح والإخفـاق. ولفهم هذه الظاهرة، لابد أن نتعامل مع مركب منالأسباب الاقتصادية والسياسية والتاريخية والثقافية التي أدَّت إلى ظهورها، ومعالطريقة التي حاولت كل دولة التعامل بها مع الجماعات اليهودية ومع الجماعات الإثنيةوالدينية كافة، كما يجب أن نتعامل مع العناصر التاريخية والسياسية التي أدَّت إلىنجاح أو تعثُّر أو توقُّف هذه المحاولات. ويمكن القول بأن جذور المسألة اليهوديةتعود إلى ما أسميناه «المسألة العبرانية» الناجمة عن ضعف الدولة العبرانية القديمةسواء في مواردها البشرية أو في مواردها المادية ووجودها في منطقة مهمة إستراتيجياًبين عدة إمبراطوريات عظمى، وهو ما أدَّى إلى تحوُّلها إلى معبر لهذه الإمبراطوريات،وجعل المجتمع العبراني مجتمعاً طارداً لقطاعات من سكانه وأصبح مصدراً أساسياًللمادة البشرية.







  3. #13
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    وقد أدَّى هذا الوضع، في نهاية الأمر، إلى انتشار اليهود،كما جعل عندهم قابلية لأن يتحولوا إلى جماعات وظيفية (قتالية أو استيطانية أوتجارية). ومع العصور الوسطى، كانت معظم الجماعات اليهودية في الغرب جماعات وظيفيةوسيطة تضطلع بوظيفة التجارة والربا وجمع الضرائب وأعمال مالية وإدارية مماثلة أخرى. لكن التجارة التي كان يضطلع بها أعضاء الجماعة الوسيطة هي ما يُطلق عليه «التجارةالبدائية». فالتاجر اليهودي لم يكن يُوظِّف أمواله في الإنتاج، كما كان يفعل تجارمدن العصور الوسطى الكبيرة، ولا يشتري مواد أولية ولا ينفق على صناعة الأقمشة جزءاًمن رأسماله، بل كان مجرد وسيط يوزع منتجات لا يسيطر عليها ولا يخلق ظروف إنتاجها. وهكذا، لم تكن التجارة اليهودية تنطوي على أسلوب معيَّن لإنتاج فائض القيمة، وإنماكانت، على عكس التجارة المسيحية التي كانت تجارة تبادلية مرتبطة بالاقتصـادوالإنتاج ذاته، تعيـش على فائض القيمة الذي ينتجه الفلاحون، فهي تجارة توجد فيالشقوق بين المجتمعات. وحينما تحوَّل الرأسمالي اليهودي إلى الإقراض كان إقراضهأيضاً استهلاكياً، على عكس الإقراض المصرفي الذي كان يساهم مباشرة في إنتاج فائضالقيمة لأنه كان يُموِّل المشاريع التجارية والصناعية الكبيرة. ولقد لعب اليهود دورالتاجر والمرابي والخمَّار ووكيل السيد الإقطاعي والوسيط في جميع الأمور. والمجتمعالإقطاعي المستند إلى إنتاج القيم الاستعمالية لا يتناقض مع الرأسمالية بشكلهاالتجاري الربوي البدائي، بل يضمن بقاءها واستمرارها. ولذلك لم يكن هناك وجود لأيةمسألة يهودية في المجتمعات الإقطاعية، فالتاجر والمرابي اليهوديان كانا يقومان بدورحيوي مهم، إذ كان التاجر يُورِّد للمجتمع الإقطاعي السلع التي يحتاج إليها ويُصدِّرالفائض الإنتاجي، بينما كان المرابي يقرض الأمير الإقطاعي، وكذلك الفلاح، لشراءالسلع الكمالية. بل إن التاجر أو المرابي اليهودي كانا أداة في يد النخبة الحاكمةالإقطاعية. وبهذا، كان اليهود أقنان بلاط (مماليك تجارية) يُستخدَمون لامتصاصالثروة من المجتمع ولضرب الطبقات التجارية الصاعدة. وقد ظهر، بين اليهود، يهودالبلاط، وهم من كبار المموِّلين الذين كانوا يقومون بإدارة الشئون المالية لبعضالإمارات الألمانية والدول الغربية في عصر الملكية المطلقة، ويساعدون حكامها علىتأسيس صناعات جديدة وارتياد آفاق اقتصادية لم يرتدها أحد من قبل. ولكن الوضع لميختلف كثيراً، إذ كان يهود البلاط مرتبطين ارتباطاً كاملاً بالنخبة الحاكمة، وظلنشاطهم الاقتصادي محصوراً بحدود الملكيات والإمارات المطلقة. كل هذا كان يعني أنأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية (أقنان بلاط أو يهود بلاط) كانوا خارجالتشكيلات البورجوازية والرأسمالية الغربية الصاعدة التي يشير إليها ماكس فيبرباعتبارها «الرأسمالية الرشيدة». كما أن تبعيتهم هذه كانت تعني أن نشوء رأسماليةيهودية مستقلة مستحيل، إذ كان الحاكم يصادر أموالهم حينما يصلون إلى درجة عالية منالثراء كما حدث لكثير من يهود البلاط.

    وهذا الوضع في حد ذاته لا يخلق مسألةيهودية، بل إن مثل هذه المسألة تبدأ في الظهور حينما تتناقص حاجة المجتمع إلىاليهودي كتاجر أو مراب أو مدير مالي أو متعهد عسكري، وذلك بعد أن تنشأ طبقات تجاريةومالية محلية أو بعد أن تضطلع الدولة نفسها بمثل هذه الوظائف. وهذه عملية تتطوربالتدريج إلى أن يستغني المجتمع عن الجماعات الوظيفية الوسيطة تماماً.

    وقدبدأ تقلقل وضع اليهود كجماعة وظيفية وسيطة في غرب أوربا (في إنجلترا وفرنسا) فيالقرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين وطُردوا منهمـا، كما طُردوا من إسـبانيافي القرن الخامس عشر الميلادي. وكان يتم طردهم من الولايات الألمانية حتى القرنالسابع عشر الميلادي، ولكنهم كانوا ينتقلون من واحدة إلى الأخرى، ولذا لم يتم طردهممنها نهائياً.

    وقد كان اليهود يحلون مشكلتهم بالتقهقر إلى الماضي، إذ هاجرتأعداد كبيرة منهم إلى شرق أوربا، وبخاصة بولندا، حيث لعبوا دورالتاجر والمرابيومحصِّل الضرائب مرة أخرى، واستمر وضعهم مزدهراً حتى أواخر القرن الثامن عشرالميلادي. ولكن، بنشوء طبقات رأسمالية محلية في مجتمعات شرق أوربا، وتزايد دورالدولة فيها، بدأ اليهود يواجهون مشكلة التأقلم مع الوضع الجديد. فمراكز التجارةالإقطاعية كانت قد بدأت تنحل لتحل محلها مدن صناعية وتجارية جديدة، وهو ما ضيَّقالخناق على جماهير التجار اليهود وأدَّى إلى تدفُّق المهاجرين إلى مناطق أكثر قدرةعلى استيعابهم داخل روسيا ذاتها في بداية الأمر، ثم إلى غرب أوربا، وأخيراً إلىالولايات المتحدة.

    وعند هذه النقطة، تُطرَح قضية مدى نَفْع اليهود ومدىإنتاجيتهم، وتُثار الأسئلة الخاصة بازدواج الولاء، بكون اليهود يشكلون دولة داخلدولة. وبالتالي، فإن المسألة اليهودية (أي بداية الاستغناء عن الجماعات الوظيفيةاليهودية) بدأت مع الثورة التجارية وظهور الدولة القومية المركزية (المطلقة ثمالليبرالية ثم الشمولية) التي قامت بتوحيد جميع مناحي الحياة ودمج المواطنين كافة،وطالبتهم بالولاء الكامل والانتماء غير المشروط لها، وحاولت أن تصهرهم جميعاً (بمافي ذلك أعضاء الأقليات) في بوتقة واحدة ينتظمها إطار واحد. وعلى هذا، أُعطىَ اليهودحقوقهم السياسية (أي تم إعتاقهم)، وفُتحت أمامهم مجالات الحراك الاجتماعي، وسُمحلهم بالعمل في جميع الوظائف وفي الخدمة العسكرية، وأُسقطت حوائط الجيتو. ولكنهمطُولبوا في المقابل بأن يصلحوا أنفسهم وأن يتخلوا لا عن انعزاليتهم وحسب، وإنما عنخصوصيتهم أيضاً، فالمُثُل السائدة في الغرب آنذاك كانت هي مُثُل عصر الاستنارة "الأممية" التي تدور حول فكرة الإنسان الطبيعي. ومن ثم تعيَّن على أعضاء الجماعاتاليهودية ألا يستخدموا سوى لغة الوطن الأم وأن ينبذوا اليديشية أو أية لغات أولهجات أو رطانات سرية أو علنية خاصة بهم. وبخاصة في المعاملات التجارية حتى لايغشوا أحداً (مثلما حُرِّم على الصينيين استخدام الصينية في المعاملات التجارية فيالفلبين)، كما طولبوا بتغيير أزيائهم وأسمائهم، بل إدخال إصلاحات على عقيدتهمالدينية بحذف الجوانب القومية من عقيدتهم لتصفية أي اشتباه في ازدواج الولاء. كماأصبح مفروضاً على اليهود عدم تدريس التلمود إلا بعد سن معينة. وكانت الدولة تقومبتدريب حاخامات في مدارس دينية يهودية تشرف عليها، كما كانت تتدخل في تعليم اليهودكلَّ شيء بما في ذلك تعليمهم الدين، بل كانت تتدخل أحياناً في تحديد سن الزواج وعددالأطفال المصرَّح بإنجابهم.

    التحديث وظهور الرأسمالية الرشـيدةوالمسـألة اليهوديـة
    Modernization, Emergence of Rational Capitalism and the Jewish Question
    أدَّت عمليات التحديث وظهور الرأسمالية الرشيدة إلى تدهوروَضْع أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الغرب بسبب فقدانهم دورهم، وهو مايُسمَّى «المسألة اليهودية». ولكن التحديث نفسه وكذا الرأسمالية الرشيدة هما اللذانأدَّيا إلى حل المسألة. ويمكن تقسيم أوربا إلى ثلاث مناطق أساسية، وأساس التصنيف هونمط التحديث السائد ومدى قوة أو ضعف الرأسمالية الرشيدة:

    1
    ـ غرب أوربا (إنجلترا وفرنسا وهولندا وغيرها)، ثم الولايات المتحدة فيما بعد، وهي دول التحديثالحر: وهي مجتمعات حققت معدلات عالية من التقدم الاقتصادي في فترة مبكرة، وكان لهامشروع استعماري قوي ساهم في حل معظم مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وحقق قدراً منالوفرة ساعد على خفض حدة الصراعات الطبقية والتوترات الاقتصادية الداخلية.

    وقد قامت الطبقة البورجوازية بعملية التحويل الاجتماعي في هذا البلدوتبنَّت مُثُلاً ليبرالية منفتحة. وكانت الرؤية القومية التي سادت هذه المجتمعات هيالأخرى منفتحة، فكانت مسألة الانتماء للوطن مسألة غير عضوية أو عرْقية، وإنما مسألةانتماء قومي متاح لكل من وُلد داخل المجتمع ونشأ على أرضه وكان على استعدادللاضطلاع بوظيفته وأداء واجبه. ولذا، لم تستبعد المُثُل القومية في هذه المجتمعاتأعضاء الجماعات اليهودية، وإنما فتحت الأبواب والفرص أمامهم فحققوا الحراكالاجتماعي الذي يحتاجون إليه.

    وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشرالميلادي، لم تكن معظم هذه البلاد تضم جماعات يهودية كبيرة، إما لعدم وجود يهودفيها أصلاً أو لأنهم طُردوا منها في مرحلة سابقة. وحينما استوطن اليهود مرةً أخرىفي هذه البلاد، ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي أي مع بدايات التحديث، فإنهماستقروا في بلاد تحددت فيها الملامح الأساسية للاقتصاد التجاري الرأسمالي، وكانتتضم طبقة تجارية محلية قوية لا تخشى منافسة رأس المال اليهودي بل ترحب به لحاجتهاإلى الاستثمارات في المشاريع الرأسمالية والاستعمارية المختلفة. وقد تم توطين أعضاءالجماعات اليهودية في هولندا وإنجلترا في القرن السابع عشر، ثم في العالم الجديدداخل هذا الإطار.

    وقد كان اليهود الذين استقروا في هذه البلاد من أصلسفاردي ولديهم كثير من الكفاءات المطلوبة والاتصالات الدولية المهمة، كما كانوامتقدمين من الناحية الحضارية. ثم انضمت إليهم عناصر من الإشكناز شكلوا الأغلبيةفيما بعد واستوعبوا كثيراً من عناصر الحضارة الغربية حولهم.

    ورغم أن العنصرالإشكنازي كان متمايزاً حضارياً ووظيفياً، إلا أن هذا التمايز تقوَّض بمرور الوقتمن خلال المعدلات السريعة للتحديث وفتح باب الحراك الاجتماعي، وكذلك من خلالالتقاليد السياسية الليبرالية السمحة. واستمرت عملية دمجهم في المجتمع حتى زالالتمايز الوظيفي والاقتصادي تماماً، ثم تبعه التمايز السياسي والحضاري.

    لمتكن عملية التحديث سهلة أو متيسرة في أول الأمر، بل كانت بعض الحكومات مثل فرنساتضطر إلى استصدار قوانين خاصة لفرض التحديث على اليهود الإشكناز في الألزاسواللورين. كما حدثت بعض المشاكل والتراجعات والترديات مثل حادثة دريفوس (في فرنسا). ولعل ظهور الفكر العرْقي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وانتشاره فيها، هوشكل من أشكال التردي. وقد ظهرت بعض التوترات ذات الطابع العرْقي في إنجلترا فيأواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، وذلك بعد هجرة يهود شرق أوربا بأعدادمتزايدة، كما ظهرت التوترات نفسها فى الولايات المتحدة مع أزمتها الاقتصادية فيالثلاثينيات. لكن مثل هذه المشاكل والتوترات لا تختلف كثيراً عن تلك التي تنشأ فيأي مجتمع في فترات الأزمات الاقتصادية، بين أعضاء الأقليات فيها من جهة وبعضالعناصر المتطرفة من أعضاء الأغلبية الذين يُضخِّمون خطر أعضاء الأقلية من جهةأخرى، وهي عادةً ما يتم التغلب عليها، كما حدث بالفعل في نهاية الأمر.

    2
    ـوسط أوربا (النمسا وألمانيا)، وهي دول التحديث المختلط والشمولي والتحديث تحت رعايةالدولة: وقد بدأ التحديث في هذه الدول وغيرها من دول وسط أوربا في وقت متأخرقليلاً، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وتم تحت إشراف بعض العناصر التقليديةفي المجتمع (الملك وبعض النبلاء) أو بإشراف الحكومة، أي أن عملية التطور الصناعي لمتتم حسب النمط الرأسمالي الحر وإنما بتدخل الحكومة.

    ولم يكن لهذه الدولمشروع استعماري قوي يساهم في تخفيف حدة التوترات الاجتماعية والاقتصادية (أو أنمشروعها الاستعماري تم إجهاضه على يد دول غرب أوربا ولصالحها)، كما لم تَسُدالمُثُل البورجوازية الليبرالية فيها، لأن الطبقة البورجوازية لم تكن قوية بما فيهالكفاية ولم تتول قيادة كل الطبقات، وقنعت في غالب الأمر بدور التابع. وعلى مسـتوىالرؤية القومية، ظـهرت فكرة القومـية العضـوية (الجامعة الألمانية)، وفكرة الشعبالعضوي (الفولك)، وهي التي حددت مسألة الانتماء القومي على أساس عضوي ثقافي ضيق، ثمحوَّلته في مرحلة لاحقة إلى مسألة انتماء عرْقي أو انتماء قومي ديني (القوميةالمسيحية). وهذا الأمر ينطبق على ألمانيا أكثر من انطباقه على الإمبراطوريةالنمساوية المجرية، التي كانت تشجع التعددية كما هو الحال مع الإمبراطورياتالمتعددة القوميات. وإن كان هذا لم يمنع من انتشار الرؤية الألمانية العضوية فيالنمسا التي كانت دائماً في محيط ألمانيا الثقافي.

    ولم يكن هناك جماعةيهودية كبيرة في وسط أوربا. فيهود ألمانيا، على سبيل المثال، لم يزد عددهم على 1% من عدد السكان، ولذا، فإنهم لم يكونوا جماهيراً بمعنى الكلمة. وقد حققوا معدلاتعالية من الاندماج في محيطهم الثقافي، فكانوا يتحدثون اللغة الألمانية ويتبعونأسلوب الحياة السائد في المجتمع، وازداد الزواج المُختلَط بينهم. وقد برز كثير منأعضاء الجماعات اليهودية من الرأسماليين (من ورثة يهود البلاط) ولعبوا دوراً مهماًفي تطوُّر الرأسمالية والصناعة الألمانية. إلا أن ثمة عناصر أخرى فصلتهم عن محيطهمالثقافي وخلقت لهم وضعاً خاصاً وأعاقت عملية التحديث، منها:

    أ) يُلاحَظ أنالهجرة من شرق أوربا في منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1880، والتي كانت هجرةداخلية أي من بلد أوربي إلى آخر، كانت تقذف بأعداد كبيرة من يهود اليديشيةالمتخلفين، المتمايزين حضارياً وطبقياً، إلى ألمانيا والنمسا. وحينما ضم هذانالبلدان أجزاء من بولندا، ضما معها أعداداً كبيرة من يهود اليديشية، الذين هاجرتأعداد منهم إلى المدن الألمانية والنمساوية وبدأوا يصبغون الجماعات اليهودية فيهابصبغة يهودية فاقعة. وكان هؤلاء المهاجرون يُشكِّلون التربة الخصبة للأفكارالصهيونية، كما كانوا يفرضون على يهود هذه البلاد تبنِّي الصهيونية التوطينية حلاًّلمشاكل اللاجئين. ولا يمكن فهم دعوة هرتزل للصهيونية، وهو اليهودي المندمج بلالمنصهر، إلا بإدراك أنه كان مهدداً بفقدان موقعه الطبقي ومكانته الاجتماعيةوانتمائه الحضاري بسبب وفود الآلاف من يهود اليديشية. وقد كان عدد أعضاء الجماعةاليهودية في فيينا لا يزيد عن بضع مئات في أواخر القرن الثامن عشر، ثم قفز عددهمإلى نحو 176 ألفاً مع بداية القرن العـشرين.

    ب) ورغم أن يهود ألمانياوالنمسا كانوا مندمجين في محيطهم الثقافي، فإنهم كانوا يتميَّزون طبقياً ووظيفياً. فعدد كبير منهم، وبخاصة في ألمانيا، كان من العاملين بالتجارة وشئون المال وبنسبةتفوق نسبتهم إلى عدد السكان. وبعد تَصاعُد عملية التحديث في ألمانيا، وبخاصة بعدحرب عام 1870 وضم الألزاس واللورين. ومع بدايات المشروع الاستعماري الألماني، ازدادالمموِّلون من أعضاء الجماعة اليهودية نشاطاً، وازداد وجودهم وضوحاً حتى ارتبطاليهود في الوجدان الشعبي بالمشروع الحر والاستغلال الرأسمالي والمضاربات، هذا علىالرغم من وجود أعداد كبيرة من اليهود المتسولين والفقراء.

    جـ) ارتبطت عناصريهودية أخرى بالحركات الثورية، بحيث ارتبط اليهود في الوجدان البورجوازي في هذهالدول بالشيوعية والحركات الفوضوية والثورية، وزادت هذه العناصر تميُّز اليهودوعزلتهم عن كثير من الطبقات والقطاعات داخل المجتمع. وظل الجو في وسط أوربا مشحوناًبالكراهية العنصرية ضد أعضاء الجماعات اليهودية حتى الحرب العالمية الأولى، حينتحوَّلت النمسا إلى بلد صغير لا أهمية له، وتم تحطيم ألمانيا وإذلالها والقضاء علىمشروعها الاستعماري، ثم تحويلها هي ذاتها إلى شبه مستعمرة. وعندما عاودت ألمانياالتحديث، تم ذلك تحت مظلة الدولة وتحت لواء فلسفة شمولية ترفض كلاًّ من البلشفيةوالليبرالية، وتطرح رؤية عرْقية عضوية صارمة تُهمِّش مختلف أعضاء الجماعات الذين لاينتمون انتماءً عضوياً كاملاً إلى الأغلبية، وبخاصة اليهود الذين تركَّزوا فياليمين واليسار. وقد سقط رأس المال الذي يملكه الرأسماليون من أعضاء الجمـاعاتاليهودية ضحية هذه العملية وهاجرت أعداد كبيرة منهـم إلى الولايات المتحـدةالأمريكية وفلسطين، بما تبقى من ثرواتهم.

    3
    ـ شرق أوربا (أي روسيا وبولنداورومانيا)، وهي الدول ذات الاقتصاد الرأسمالي المتخلف التي تعثَّر فيها التحديثوتوقف، ثم استؤنف على النمط الاشتراكي: وقد بُذلَت محاولات شتى في هذه البلادلتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، وخُصِّصت الجوائز للحرفيين وأصحاب العملالذين يُشغِّلون الصناع اليهود، وأُرسل ألوف اليهود لاستصلاح الأراضي في بعضالمناطق الروسية. وحاولت الحكومة إدخال التعليم العلماني بين اليهود ليكتسبوا خبراتتؤهلهم للتعامل مع البنيان الاقتصادي الجديد، واستمرت هذه المحاولات التي ساهم فيهاأثرياء اليهود في الغرب حتى عام 1880 تقريباً، ولذلك يُلاحَظ أن الهجرة اليهودية،حتى ذلك الوقت، كانت هجرة داخلية إلى المراكز الصناعية.

    ومما ساعد علىتخفيف حدة الانتقال إلى النمط الرأسمالي في الإنتاج، في مرحلة ما قبل عام 1880، أنالنمط الرأسمالي (في مراحله الأولى) كان يتم بأشكال بدائية، وهو ما أتاح لعدد مناليهود أن يجدوا مجالاً رحباً للعمل في التجارة (في المدن الصناعية الجديدة) وفيالحرف. وقد ظهرت حركة التنوير اليهودية تعبيراً عن تقبُّل اليهود واليهودية لعمليةالتحديث.

    ولكن محاولات تحديث اليهود تعثَّرت في شرق أوربا، وتفاقمت المسألةاليهودية لأسباب مركبة يرجع بعضها إلى طبيعة تركيب الدولة الروسية وطبيعة النظامالاجتماعي السائد فيها وفي دول شرق أوربا، والبعض الآخر يرجع إلى بعض السمات الخاصةبالجماعة اليهودية في روسيا وبولندا، ومن هذه الأسباب:

    1
    ـ بدأت عمليةالتحـديث، في روسـيا وبولندا، في مرحلة متأخرة جداً، إذ كان اقتصادهما، حتى بعدمنتصف القرن التاسع عشر الميلادي، اقتصاداً يشبه من الناحية الأساسية اقتصاد البلادالتي يُقال لها متخلفة. ولم يكن لبولندا أو رومانيا مشروعات استعمارية مستقلة، بلكانتا مستعمرتين من قبل روسيا والدولة العثمانية. أما روسيا، فقد كان لها مشروعهاالاستعماري الجديد في آسيا على حدودها مع تركيا في منطقة البحر الأسود، وعلى حدودهامع بولندا وأوكرانيا وغيرهما، وعلى حدودها مع الصين واليابان. ولكن هذا المشروع بدأمتأخراً أيضاً ولم يكن قد آتى أُكله بعد نظراً لحداثته ولعدم كفاءة البيروقراطيةالروسية وعدم وجود رأس المال الروسي الكافي للاستثمار فيه. بل يُقال إن المشروعالاستعماري لروسيا القيصرية كان يُشكّل عبئاً على الخزانة الروسية، ولذا كان بعضالمفكرين الروس يطالبون الدولة القيصرية بالانسحاب من مستعمراتها. ولهذا، لم يساهمالمشروع الاستعماري الروسي في حل المشاكل الداخلية للدولة، بل لعله زادها تفاقماً.

    2
    ـ لم تسُد المُثُل الليبرالية لا في المجال الاقتصادي ولا في المجالالسياسي. ويعود هذا إلى عدة أسباب من بينها حجم الدولة الروسية الضخم، وهذه هي إحدىسمات التشكيل الحضاري المتعدِّد القوميات المترامي الأطراف والذي تلعب الدولة فيهدائماً دوراً مركزياً في عمليات النهضة كما تُشكِّل عنصر التوحيد الأساسي. ومنناحية أخرى، فإن البورجوازية الروسية كانت ضعيفة وهزيلة إلى أقصى حد، ولذا فإنعملية التحديث تمت بقيادة الحكومة الأرستقراطية الروسية الملتصقة بالكنيسة. كما أنالقومية البولندية كانت دائماً ملتصقة بالكنيسة الكاثوليكية. وقد سادت مُثُل قوميةعضوية منغلقة تجعل الانتماء مسألة ثقافية عضوية أو مسألة عرْقية أو دينية.

    3
    ـ لم تكن عملية الدمج في دول شرق أوربا تتم داخل إطار حضاري منفتح يفترضالمساواة بين الأفراد ويُظهر الاحترام للتراث الحضاري لكل الأقليات، وإنما كان ثمةافتراض بأن حضارة الأغلبية المسيحية أكثر أهمية، وأنَّ من واجب اليهود اللحاق بركبهذه الحضارة.

    4
    ـ لم تكن عملية الدمج والتحديث والإعتاق تتم عن طريقالإقناع أو عن طريق إظهار النتائج الإيجابية والمكاسب التي قد تحرزها الجماهيراليهودية، وإنما كانت هذه العملية تتم عن طريق الإرهاب والقسر، الأمر الذي كان يثيرمخاوف الجماهير اليهودية فتندفع عائدة إلى الجيتو (الفعلي والنفسي) حيث الأمنوالطمأنينة.

    5
    ـ ونظراً لتميُّز الوضع الطبقي لأعضاء الجماعات اليهوديةوارتباطهم بالطبقات الحاكمة وبالنظام الإقطاعي داخل نظام الإقطاع الاستيطانيوالأرندا، كانت الحركات القومية والثورية الصاعدة تناصبهم العداء ولا تحاول تجنيدهمفي صفوفها (إلا في حالات نادرة)، إذ كان اليهود يُعَدُّون من الغرباء والأعداء. وبعد الحرب العالمية الأولى، استُؤنف التحديث في روسيا. أما بولندا وغيرها من دولشرق أوربا، فقد خرجت من الحرب بعد أن عانت من دمار رؤوس الأموال والممتلكاتوالحياة. وقد ضعفت السوق المحلية تماماً، وحلَّت محلها وحدات اقتصادية صغيرةمتنافسة. وقد تدخلت حكومات هذه الدول، وكانت دولاً مركزية حديثة، فقامت بالدفاع عنمصالحها ومصالح طبقاتها الوسطى على حساب الأقليات التي تعيش داخل حدودها. ومما زادالتناقض تفاقماً أن انخفاض مستوى المعيشة كان يعني، أحياناً، ارتفاع مستوى معيشةأعضاء الجماعة اليهودية نظراً لاشتغالهم بالتجارة ولوجود كفاءات لديهم لم تكنمتوافرة لبقية أعضاء المجتمع. كما أن تحويلات المهاجرين اليهود، من الخارج (الولايات المتحدة وغيرها من الدول) إلى ذويهم، ساهمت في هذا الإنعاش أيضاً. كل هذهالعناصر ساهمت في عزل أعضاء الجماعات اليهودية عن بقية المجتمع وعمَّقت وضعهمكغرباء، وهذا ما جعل الدول لا تكترث بدمجهم وتحديثهم، بل تبذل قصارى جهدها أحياناًلطردهم. ومن هنا، فقد تبنَّت الحكومات الرجعية في هذه الدول سياسة صهيونية تجاهالمسألة اليهودية.

    6
    ـ ومما ساعد أيضاً على تعثُّر عملية تحديث اليهود أنمجتمعات شرق أوربا كانت تخوض تحولات اقتصادية وسياسية عميقة بسبب سرعة معدل النموالاقتصادي والحضاري في هذه المجتمعات، فهي مجتمعات لم تكن تمارس عملية النمو علىالنمط الأوربي الغربي البطيء الذي استغرق مئات السنين، وإنما كانت مجتمعات تنمو علىنمط العالم الثالث، حيث تحاول الدولة القومية الجديدة أن تقوم بالثورة التجاريةوالقومية والاجتماعية والصناعية في وقت واحد، رغم ما قد يكون بين هذه الثورات منتناقض في الأهداف والوسائل في بعض الأحيان. كما أن معدلات النمو السريع لا تسمحبتاتاً بالعمل البطيء أو الخطأ المحتمل ومحاولة علاجه، بل تتطلب تحديد الأهدافوالاندفاع نحوها. كما أن عملية التحول البطيئة تسمح لأعضاء الأقليات بأن يكتسبواالخبرات المطلوبة للعمل في الاقتصاد الجديد، وأن يكتسبوا الهوية الجديدة الملائمةللمجتمع الجديد. ففي روسيا مثلاً،كانت المراحل الأولى للانتقال إلى الرأسماليةبطيئة نوعاً،كما أسلفنا،ولم تكن حركة شاملة بعد.غير أن النمو الرأسمالي لم يتوقفعند هذه المرحلة،بل اتسعت رقعة الصناعة لتشمل الصناعة الخفيفة أيضاً،فكان ذلكبمثابة ضربات قاضية دمرت الاقتصاد الإقطاعي ودمرت معه الفروع الرأسماليةالحرفية،حيث كان اليهود يتركَّزون بنسبة مرتفعة.وهكذا،تشابكت عملية تحويل التاجراليهودي لما قبل الرأسمالية إلى عامل حرفي أو تاجر رأسمالي مع عملية أخرى وهيالقضاء على العمل الحرفي لليهودي.ولكن الحرفي اليهودي لم يتمكن من التحول إلى عاملبسبب منافسة الفلاحين الروس المقتلَعين من مزارعهم ذات المستوى المعيشيالمنخفض.

    7
    ـ ومما زاد الأمور تشابكاً وتعقُّداً أن الحرفي اليهودي كان يعملفي كثير من الأحيان فيما يمكن تسمَّيته «الحرف اليهودية» التي وُلدت في الظروفالخاصة بالشتتل والجيتو اليهودي. فلم يكن الحرفي اليهودي يعمل من أجل الفلاحينالمنتجين، بل كان يعمل من أجل التجار والصيارفة والوسطاء، ولذلك نجد أن إنتاج السلعالاستهلاكية هو الشاغل الرئيسي للحرفي اليهودي، ذلك لأن زبائنه يتألَّفون من رجالمتخصصين في تجارة الأموال والبضائع وغير منتجين أساساً. أما الحرفي غير اليهودي،فإن ارتباطه بالاقتصاد الزراعي جعله لا يُنتج سلعاً استهلاكية، لأن الفلاح يكفينفسه بنفسه. وهكذا، كان الحرفي غير اليهودي (الحدّاد) يوجد إلى جانب الفلاح، وإلىجانب رجل المال اليهودي كان يوجد الحرفي اليهودي (الخياط). وقد ساعد على تطوُّرالحرفي المسيحي ارتباطه بالتاجر المسيحي الذي كان يُوظِّف أمواله في حرف متخصصة غيرمرتبطة بالنظام الإقطاعي (مثل نسج الأصواف)، وهي حرف كان الغرض منها الإنتاجللتصدير وليس للاستهلاك المباشر، أي أنهـا تقـع خارج نطاق النظام الإقطاعي وتُمثِّلنواة الاقتصـاد الجديد، وبالتالي فهي لم تسقط مع الاقتصاد القديم. وانعكس هذا الوضععلى الطبقة العاملة اليهودية، فكانت الحرف الأقل قابلية للتطور إلى صناعة محصورةًفي أيدي الحرفيين اليهود، على حين انحصرت المهن الأكثر قابلية لهذا التطور في أيديالحرفيين غير اليهود. فمثلاً نجد أن 99% من صانعي الأقفال كانوا من غير اليهود، فيحين كان 94% من الخياطين من اليهود. ويُلاحَظ أن أول الكوادر العمالية التي وُجدَتفي صناعات التعدين والنسج قد تشكَّلت بصورة مطلقة من غير اليهود.

    8
    ـ وثمةعناصر أخرى زادت من حدة المسألة اليهودية في أوربا الشرقية، من أهمها أن الأغلبيةالعظمى من يهود أوربا ويهود العالم كانت موجودة في بولندا وأوكرانيا التي كانتتتبعها. وقد تم تقسيم بولندا عدة مرات، وتم تقسـيم أعضـاء الجماعة اليهودية فيهابين عدة دول، لكل منها لغتها وسياستها وتوجُّهها الحضاري. فضمت روسيا الجزء الأكبرمن الجماعة اليهودية وحاولت ترويس اليهود، أي صبغهم بالصبغة الروسية. وضمت ألمانياجزءاً آخر، واعتبرت اليهود مواطنين ألمانيين نتيجةً لأنهم كانوا يتحدثون اليديشية (وهي رطانة ألمانية)، وذلك حتى تضرب بهم السكان السلاف. وُضمَّت جاليشيا إلىالإمبراطورية النمساوية المجرية التي حاولت أن تفرض عليها الولاء والانتماء إليها. أما بولندا، فكانت تطالب من تبقَّى من اليهود فيها بأن يصبغوا أنفسهم بصبغةبولندية. وقد تضاعف عدد يهود رومانيا بعد أن ضمت مقاطعات كانت توجد فيها نسبة عاليةمن اليهود. وكانت هذه التقسيمات تتم بسرعة وتتضمن تحولات حضارية جوهرية وعميقة دونأن تكون هناك الفسحة الزمنية اللازمة لإنجاز التحول المطلوب.

    ويُلاحَظ أنهأثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، وقبل قيام الثورة البلشفية، كانت الحدودالجغرافية في المنطقة الحدودية التي يقطنها اليهود في حالة سيولة كبيرة، إذ أصبحتجاليشيا وبكوفينا وبولندا الروسية وليتوانيا مسرحاً للعمليات العسكرية تتحرك فيهاالجيوش الألمانية والروسية. وقامت القوات الألمانية في بولندا بمحاولة تجنيد اليهودباعتبارهم عنصراً ألمانياً، وأصدرت القيادة العسكرية الألمانية منشورات بالعبريةواليديشية إلى « إخواننا اليهود». وقام الروس البلاشفة أيضاً بطرح أنفسهم باعتبارهممحرِّري اليهود وكل الأقليات. ومن ثم فقـد طالبـوا أعضـاء الجمـاعة اليهوديةبمساندتهم والتحالف معهم. وقد انتهزت العناصر الأوكرانية هذه الفرصة وهاجمت العناصراليهودية المحلية. وتسبَّب ذلك في إخفاق أعضاء الجماعة في تحديد ولائهم وفي تحديثأنفسهم كما هو مطلوب منهم، وكما حدث فعلاً بين بني ملَّتهم في غرب أوربا.

    وبعد هذا الحديث العام والشامل عن مسألة يهود شرق أوربا من ناحية العناصرالمشتركة، يمكننا أن نقلِّل من مستوى التعميم قليلاً ونركِّز على روسيا. ونحن فيواقع الأمر، حين نتحدث عن يهود شرق أوربا أو يهود اليديشية، نتحدث عن روسيا التيضمت بولندا مع بداية القرن التاسـع عـشر الميـلادي فظـلت تابعة لها حتى الحربالعالمية الأولى. وبالتالي، فإن روسيا كانت تضم داخل حدودها الأغلبية الساحقة منيهود اليديشية، أي معظم يهود العالم. ومن أهم الأسباب التي ساهمت في عرْقلة عمليةتحديث أعضاء الجماعة اليهودية في الإمبراطورية القيصرية ما يلي:

    1
    ـ كانيهود بولندا يلعبون دوراً تجارياً محدداً ونشطاً في بولندا بسبب إحجام الأرستقراطيةالبولندية عن العمل في التجارة. وكان النبيل الإقطاعي يفقد منزلته الطبقية إن عملفي التجارة، وهو ما ترك المجال مفتوحاً أمام اليهود. وحينما ضُـمَّت أعداد كبيرةمنهم إلى روسيا، وجدوا أنفسهم داخل تشكيل حضاري جديد توجد داخله طبقات تجارية كبيرةونشيطة، خصوصاً أن النبلاء الروس لم يكن مُحرَّماً عليهم الاشتغال في التجارة. وقدشهدت الصناعة والتجارة الروسيتان حركة انتعاش عام 1807، بعد أن فرض نابليون علىروسيا مقاطعة إنجلترا تجارياً، وكانت روسيا في واقع الأمر مستعمرة لإنجلترا منالناحية التجارية. وأدَّى نهوض الحركة التجارية في روسيا إلى ضعف نشاط التجاراليهود.

    2
    ـ لم يكن في روسيا جماعات يهودية تُذكَر حتى أوائل القرن التاسععشر الميلادي، بل كان محظوراً على اليهود دخول روسيا. وإن تم التصريح لهم بالدخول،كان عليهم مغادرتها في الحال. ولما ضمَّت روسيا أجزاءً من بولندا، وضمَّت معهاأعداداً كبيرة من اليهود، وجدت روسيا نفسها تضم أكبر تجمُّع يهودي في العالم لهصفاته الحضارية المميزة ولغته الغريبة وعقيدته أو عقائده الفريدة التي يدين بها. ولم يكن لدى البيروقراطية الروسية أية معرفة باليهود أو لغتهم أو مشاكلهم.

    3
    ـ كانت روسيا دولة تحكمها ملكية مطلقة، ولذا فإن مؤسسات الحكم فيها لمتكن مؤسسات حديثة قادرة على مساعدة الأقليات على الانتقال من مرحلة تاريخية إلىأخرى. بل ربما كان الوضع في روسيا أكثر سوءاً من غيرها من الدول لضخامتها وفسادموظفيها الذين كانوا في العادة مرتشين لا يؤمنون بأهمية العمل الذي يقومون به ولايدركون أبعاده التاريخية والاجتماعية. وحتى حينما كانت تتوافر النية الصادقة، لمتكن هذه البيروقراطية تمتلك الأدوات اللازمة لترجمة الأفكار الإصلاحية إلى واقعاجتماعي جديد. ولذا، فإن اليهود، الذين كانوا راغبين بإخلاص في أن يخضعوا لعمليةالتحديث، وجدوا أنفسهم مواجَهين بمؤسسات هزيلة ليس لديها الإمكانات المطلوبة. ويمكنأن نضرب مثلاً بمحاولة بعض أعضاء الجماعة اليهودية الاستجابة إلى محاولات تحديثهمعن طريق العمل بالزراعة (ليخرجوا بذلك من مسام المجتمع الإقطاعي ويدخلوا في قطاعالمهن المنتجة)؛ غير أن هذه المحاولة ارتطمت ابتداءً بحقيقة أن الجماعة اليهوديةكانت من الجماعات القومية الروسية التي ليس لها أرض. وتم التغلب على هذه العقبة بأنخصصت الدولة القيصرية مساحات من الأرض لتوطينهم. ولكن، لم تكن هناك خطة واضحةللتوطين، فحين تقدمت عدة أسر يهودية عام 1806 إلى حاكم مقاطعة موخيليف لتوطينها فيإحدى المناطق المخصصة لهم، لم يتم ذلك إلا بعد مفاوضات طويلة، فاتفق وزير الداخليةمع حاكم الولاية على أن يخصص لهم ستون ألف إيكر (يعادل الإيكر نحو أربعة آلاف مترمربع) من أراضي الإستبس على ضفاف أحد الأنهار. وبعد معاينة الموقع، تقدَّمت نحو 779أسرة يهودية للاستيطان هناك. ولكن الحكومة لم تقدِّم لهم سوى مساعدات مالية ضئيلةللغاية أنفقها المستوطنون الجدد وهم بعد في الطريق. وعند وصولهم إلى المكان المحددلهم، وجدوا أن السلطات لم تكن على استعداد لاستقبالهم، وفتكت بهم الأمراض. ومع هذا،فقد استمر تدفُّق اليهود إلى أن أُلغي مشروع التوطين عام 1810.

    4
    ـ ارتطمتمحاولة تحويل اليهود إلى مزارعين بحركة إعتاق أخرى هي حركة تحرير الأقنان عام 1860،وهذه الحركة الأخيرة ضيَّقت الرقعة الزراعية التي يمكن توطين اليهود فيها. وكمابيَّنا من قبل، كان تحرير الأقنان واليهود وأعضاء الأقليات الأخرى جزءاً من حركةواحدة تهدف إلى بناء الدولة المركزية القومية الحديثة في روسيا.

    5
    ـ وكانتالكتلة البشرية اليهودية في تلك المنطقة (روسيا وبولندا) تُشكِّل معظم يهود العالم،وهي كتلة منعزلة إلى حدٍّ كبير عن محيطها السلافي على المستوى الحضاري والدينيوالوظيفي، يتحدث أعضاؤها اليديشية ويرتدون أزياء مغايرة لتلك السائدة في المجتمع،ويطلقون لحاهم وسوالفهم بطريقة غريبة. وقد كانت تهيمن عليهم قيادات أرثوذكسيةوحسيدية تقليدية غير مدركة للانقلابات الحضارية الاقتصادية التي كانت تحدث في أورباآنذاك. وكانت أغلبية يهود شرق أوربا من أتباع الحسيدية، كما أن اليهودية نفسها (كنسق ديني) كانت قد وصلت إلى مرحلة من التحجر والتخلف بعد جفاف الفكر التلموديوبعد هيمنة الحسيدية والقبَّالاه، بحيث أصبح من العسير عليها التأقلم مع الوضعالجديد. ولذا، قوبلت محاولات التحديث في أغلب الأحيان بمعارضة حادَّة من قبلالجماهير اليهودية التي كانت تشعر بأن عملية التحديث هذه ستفقدها مهاراتها وقناعتهاالتقليدية وستدخلها في عالم غريب عليها. كما أن هذه الجماهير كانت تشعر بأن دعاةالاندماج والتحديث ليسوا إلا نخبة مستفيدة لديها ـ وحدها ـ الكفاءات اللازمة للدخولفي هذا العالم الجديد الغريب. وإلى جانب كل هذا، لم يكن يهود شرق أوربا، رغم عزلتهموتميُّزهم، يشكِّلون وحدة على نحو ما كانوا حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي،فقد تهدّم نظام الشتتل تماماً، وانتشرت العلمانية في صفـوفهم، وانصـرف كثير منالشـباب عن العقيدة اليهودية، بل سلكوا درب الجماعات الثورية.

    6
    ـ وكانمن الممكن أن تخف حدة المشكلة عن طريق الهجرة من روسيا وبولندا ورومانيا إليالولايات المتحدة. وبالفعل، راحت جماهير اليهود غير القادرة على التأقلم تهاجربالمئات ثم بالآلاف ثم بمئات الآلاف، حتى بلغ عدد من هاجر من يهود اليديشية عدةملايين. ولكن، لم ينتج عن هذه الهجرة أي تخفيف من حدة الموقف، إذ أن نسبة تزايُداليهود كانت مرتفعة جداً، شأنها في هذا شأن نسبة تزايُد سكان أوربا بعد الثورةالصناعية. وعلى سبيل المثال، تضاعف يهود جاليشيا على مدى خمسين عاماً. أما فيروسيا، فرغم معدلات الهجرة العالية إلى الولايات المتحدة، ورغم اندماج أعداد لا بأسبها، فإن معدل تزايُد السكان اليهود كان يفوق معدل الهجرة والاندماج ويفوق معدلالزيادة بين الروس أنفسهم. فقد كان عدد اليهود عام 1850 نحو 2,350,000، ولكنه تضاعفخلال خمسين عاماً ليصبح 5000.000 عام 1895. ومن المعروف أن عدد سكان كيشينيف كان قدزاد من عشرة آلاف إلى ثمانية عشر ألفاً في عشرين عاماً، قبل قوع المذبحة التيكثيراً ما تُذكَر في الأدبيات الصهيونية. ويذكر أبراهام ليون أن عدد اليهود قدتضاعف خمس مرات بين عامي 1825 و1925، فتكون نسبة الزيادة أكثر مرة ونصف المرة مننسبة الزيادة بين شعوب أوربا.

    وقد أدَّى كل هذا إلى تعثُّر عملية التحديثعدة سنوات، ثم إلى توقفـها شـبه الكامل مع بداية القرن العشرين. وأدَّى هذا،بالتالي، إلى تصعيد حدة الصراع الطبقي وإلى الثورات الاجتماعية الحادة التي انتهتبالثورة البلشفية. وتمثَّل هذا التعثر في صدور قوانين مايو عام 1881 التي حرَّمتعلى أعضاء الجماعة اليهودية الانتقال خارج منطقة الاستيطان اليهودية في روسيا، وفيالمذابح المتكررة التي وقعت في ذلك الوقت. ويمكن التأريخ لظهور الحركة الصهيونيةبين اليهود بهذا التاريخ. ففي هذه الفترة طُرح بين أعضاء الجماعات اليهودية بشكلجدي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وهو الحل الذي يرى ضرورة إقامة الدولةالصهيونية في فلسطين ليهاجر إليها اليهود. وقد تحالفت العناصر الصهيونية، متمثلة فيالصهيونية التوطينية في الغرب، مع الصهيونية الاستيطانية في شرق أوربا، ومع بعضالقطاعات الدينية التي اكتشفت خطر سقوط الجيتو على اليهودية كما عرفوها وخبروها. والحل الصهيوني لمسألة يهود شرق أوربا هو، في جوهره، الحل الاستعماري الذي يتلخص فيتصدير المشاكل إلى الشرق، سواء أكانت هذه المشاكل متمثلة في الفائض السلعي أم كانتمتمثلة في الفائض البشري الذي كان اليهود يشكِّلون نسبة كبيرة منه. وفي هذهالحالة،تم ربط المسألة اليهودية بالمسألة الشرقية (أي تقسيم الدولة العثمانية)،فيتمحل المسألة اليهودية (فائض يهودي لا نَفْع فيه) بتصديره إلى الشرق وتوطينه فيفلسطين،ويقوم المستوطنون هناك بتأسيس قاعدة للاستعمار الغربي تحمي مصالحه.وهكذا،ينجح الغرب في التخلص من فائضه البشري ويوظفه في خدمته. أما الفائض اليهودي ذاته،فإنه ينجح بذلك في تحقيق الانتماء إلى الغرب خارج أوربا ولكن من خلال التشكيلالإمبريالي الغربي، وذلك بعد أن فشل في تحقيق هذا الانتماء داخلها من خلال التشكيلالحضاري والقومي الغربي. وقد طُرحت تصورات لحل المسألة اليهودية من بينها الاندماجوقومية الدياسبورا.

    وقد قُدِّر للمسألة اليهودية أن تُحَلّ، ولكن الصهيونيةلم تكن المسئولة عن ذلك في واقع الأمر. بل إن ظهور الصهيونية يعوق إتمام هذهالعملية التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى تحوُّل اليهودية إلى انتماء ديني وحسب، وإلىسقوط الأوهام الدينية القومية التي أفرزها وضع الجماعات اليهودية المتميِّزة كجماعةوظيفية وسيطة. وقد اندمج يهود غرب أوربا في مجتمعاتهم، وازداد هذا الاندماج بعدانحسار موجة هجرة يهود اليديشية. وفي ألمانيا، حُلَّت المسألة نتيجة لظروفها الخاصةبالطريقة النازية، أي بالإبادة، وذلك بعد فشل محاولات التهجير القسري لليهود. أمافي الولايات المتحدة، ورغم أن الجذور الجيتوية اليديشية (الشرق أوربية) لا يزال لهاأثر في التكوين الاقتصادي والنفسي للجماعة اليهودية، مثل تركُّزهم في أحياء خاصةبهم وزيادة عددهم في الصناعات الاستهلاكية والمهن الحرة، إلا أن أعضاء الجماعةاليهودية قد حققوا على وجه العمـوم الاندماج الاقتصـادي والحضاري شـبه الكامل. ومنثم، فإن الهجرة من صفوف يهود أمريكا إلى إسرائيل تكاد تنعدم. وقد حلَّت الثورةالبلشفية المسألة اليهودية في روسيا، ثم في بولندا، بتحقيق المساواة بين الأقلياتالدينية والعرْقية كافة.

    ومن الضروري، ونحن ندرس المسألة اليهودية، أننميِّز بينها وبين المسألة الإسرائيلية. فالمسألة اليهودية هي مشكلة يهود أوربا،وبخاصة يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. أما المسألةالإسرائيلية، فهي مشكلة التجمع الاستيطاني الصهيوني، خصوصاً جيل الصابرا الذي وُلدعلى أرض فلسطين، ونشأ فيها، ولا يعرف لنفسه وطناً آخر. وقد تشابكت المسألتان، ولكنيظل لكل مسألة حركياتها وآلياتها ومسرحها التاريخي والجغرافيالمختلف.







  4. #14
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    الباب الرابع: الإعتاق


    الإعتـــــــاق
    Emancipation
    كلمة «إمانسبيشن emancipation»الإنجليزية يمكن أن تُترجَم إما بكلمة «عتق» أو «إعتاق» ونستعمل فيهذه الموسوعة مصطلح «إعتاق» كما في عبارة « إعتاق الأقنان في روسيا القيصرية » علىأساس أن عملية تحرير اليهود قد تمت، لا بمبادرة من أعضاء الجماعات اليهودية، وإنمانتيجةًلحركيات اجتماعية وسياسية عامة داخل المجتمعات الغربية، كما أن التحرروالتحديث كانا يُفرَضان في كثير من الأحيان فرضاً على أعضاء الجماعات اليهودية،وبخاصة في شرق أوربا. ولفظة «الإعتاق» من الفعل المتعدي «أعتق» الذي يفيد وقوعالفعل على العبد (مثلاً(.

    وحركة الإعتاق هي ثمرة تطبيق قيم حركة الاستنارةالأوربية ومُثُلها على أعضاء الجماعات اليهودية كالتسامح، والمساواة بين البشر،والإيمان بأن الإنسان نتاج بيئته وليس مولوداً بكل صفاته، والإيمان بأن العقل هوالمصدر الأساسي وربما الوحيد للمعرفة.

    وحركة الإعتاق هي في جوهرها حركةتحديث للمجتمع ككل، بما في ذلك أقلياته. لكن إعتاق اليهود لم يكن شيئاً فريداًنادراً أو مقصوراً عليهم وإنما كان جزءاً من حركة عامة في أوربا في القرن التاسععشر الميلادي وتضـم أقليات وفئـات أخرى كثيرة: الزنوج، والنسـاء، والأقنان،والكاثوليك في البلاد البروتستانتية، والبروتستانت في البلاد الكاثوليكية. وقد حصلأعضاء هذه الأقليات على حقوقهم كاملة كمواطنين. ولكن الدولة القومية العلمانيةالحديثة التي حوَّلت نفسها إلى المطلق الأوحـد، وفصلت نفسـها عن الدين، وعن القـيمالمطلقة بشكل عام، منحتهم هذه الحقوق، ثم طلبت إليهم أن يقوموا بدورهم بفصل حياتهمداخل الدولة (كمواطنين) عن انتماءاتهم الدينية، أو عن أية انتماءات قد تتعارض معالانتماء القومي. أما اليهود، فقد كان عليهم أن يتخلوا عن خصوصيتهم الإثنية الدينيةوانعزاليتهم التقليدية وعن ولائهم الغامض إلى أرض الميعاد البعيدة مقابل أن يصبحوامواطنين لهم كل الحقوق.

    وحركة الإعتاق ذات شقين: شق سياسي يتمثل في إعطاءاليهود حقوقهم السياسية والمدنية، وشق اجتماعي هو إعطاء اليهود حقـوقهم الاقتصـاديةوإتاحة فرص العمل والحراك الاجتماعي أمامهم. وثمة شق ثقافي مرتبط بالشقين السابقين.

    وقد تمثَّل الإعتاق السياسي والمدني في هدم أسوار الجيتو وإسقاط كثير منمؤسسات الإدارة الذاتية، مثل القهال، وحصـول اليهود على المساواة السياسية.

    وفيما يلي نورد بعض التواريخ المهمة الخاصة بمنح اليهود حقوقهم، مع ملاحظةأن كل هذه القوانين والإعلانات الدستورية والتصرفات قد صدرت في أقل من مائة وخمسينعاماً، وهي فترة قصيرة للغاية حتى لو نُظر إليها من وجهة نظر الفرد اليهودي وليسفقط من وجهــة نظر التاريخ الإنسـاني أو تواريخ الجماعـات اليهـودية في العالم:

    1787
    يصدرالإمبراطور جوزيف الثاني (النمسا) براءة التسامح.

    1788
    يعلن دستور الولايات المتحدة أنه لن يطالب أي مواطن يبحث عن عمل... أن يدخلامتحاناً دينياً.

    1789
    ينـص إعـلان حقوق الإنسـان والمواطن في فرنسـا علىأن: "الناس يولدون ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق".

    1791
    يمنح المجلسالوطني الفرنسي اليهود الجنسية الفرنسية والحقوق المدنية الكاملة وجيوش نابليونتحمل لواء الإعتاق أينما ذهبت.

    1795
    يحصل اليهود في هولندا على حقوقمتساوية، ثم يتم انتخاب أول رئيس يهودي للبرلمان في عام 1798.

    1797
    إلغاءالجيتو في إيطاليا.

    1812
    يعلن فريدريك وليم الثاني، ملك بروسيا، أن اليهودمواطنون بروسيون.

    1839
    إعلان المساواة في الحقوق في كندا.

    1848
    يعلن المجلس الوطني الألماني في فرانكفورت أن « الولاء الديني للإنسان لن يُقرِّرأو يُحدِّد حقوقه الوطنية أو السياسية». وقد ظل هذا المبدأ هو النموذج الذي يُحتذَىفي كل الدساتير التي أصدرتها الدويلات الألمانية إلى أن صدر دستور ألمانياالموحَّد.

    1867
    إجراء تعديلات دستورية في الإمبراطورية النمساوية المجريةلإعطاء اليهود حقوقهم.

    1870
    سقوط روما في أيدي القوات الاتحادية التي قررتعلى الفور منح الحقوق السياسية لكل اليهود في إيطاليا.

    1871
    يلغي الدستورالإمبراطوري الألماني سائر القواعد والقوانين المبنية على أسس دينية.

    1874
    يمنح الدستور السويسري الحرية الدينية للكافة.

    1887
    تلغي معاهدة برلين كلالقوانين التي تحدّ من حرية اليهود في رومانيا وبلغاريا.

    1917
    سقوطالقيصرية في روسيا وإلغاء الامتيازات والقيود الدينية والقومية كافة.

    1936
    يعلن دستور الاتحاد السوفيتي أن « المناداة بالعزلة أو الكراهية العنصرية أوالقومية جريمة يعاقب عليها القانون ».

    وقد نتج عن حركة الإعتاق ظهور طبقةوسطى بين اليهود. ولكن، لم يَعُـد ليهـود الجيتو، بخبراتهم الخاصـة، مجـال فيالمجتمعات الجديدة، ولذلك ازداد معدل الهجرة. وقامت في المجالات الاقتصاديةوالاجتماعية والثقافية محاولات مماثلة لدمج اليهود، وتحديثهم، والقضاء على هامشيتهمالثقافية والإنتاجية، وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج في المجتمع الجديد، وهو ماكان يُطلَق عليه «إنتاجية اليهود». وقد أصدرت الحكومات أيضاً التشريعات التي تُلزمأعضاء الجماعات اليهودية بتغيير أسلوب حياتهم حتى يندمجوا في المجتمع. ومما يجدرذكره أن عملية الإعتاق كانت تتم أساساً في أوربا. أما في العالم الجديد، فلم تكنثمة حاجة إلى ذلك إذ لم تكن هناك قيود تُذكَر على أعضاء الجماعة اليهودية. وكانالإعتاق يتم بالنسبة إلى اليهود الإشكناز المتميِّزين اقتصادياً وثقافياً عنالمجتمعات التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها. أما السفارد، فكان عدد كبير منهم يتمتعبمعظم الحقوق السياسية.

    وقد ترك الإعتاق أثراً عميقاً في اليهودية،فأُعيد بعث القاعدة التلمودية التي تقضي بأن « شريعة الدولة هي الشريعة ». وكانتهذه القاعدة تشير فيما قبل إلى القوانين المدنية فحسب، ولكن نطاقها أخذ يتسع بحيثأصبحت تنطبق على جميع القوانين التي من شأنها عَزْل اليهود، مثل قوانين الطعام. وقدتعثرت حركة إعتاق أعضاء الجماعات اليهودية، فحدثت انتكاسات وانتفاضات ضد اليهود،وبخاصة في ألمانيا ودول شرق أوربا. وكان وضع اليهود مرتبطاً بالحركة السياسيةوالاجتماعية في المجتمع ككل. فإذا كان المناخ السياسي السائد مناسباً لانتشار قيمالحرية وتطبيقها، سار الإعتاق إلى الأمام. أما إذا انتكست قضية حقوق الفرد، فإنحقوق اليهود كانت تنتكس معها. وبعد هزيمة نابليون، تراجعت عملية الإعتاق بالنسبةإلى شعوب أوربا، وبالنسبة إلى كل الأقليات بما فيها الجماعات اليهودية. أما أثناءثورة 1848، فقد حقق اليهود تقدماً ملحوظاً ومهماً. ولذا، فمع سيادة التفكير الرجعيوالعنصري والإمبريالي في أوربا، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ومع تعثُّرالتحديث في شرق أوربا، تراجعت عملية الإعتاق بين شعوب أوربا وحلت محلها فكرةالتفاوت بين الشعوب.

    ومما ساهم في تعثُّر حركة الإعتاق أنها لم تكن ثمرةجهود أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، كما أنها لم تنبع من تجربتهم الحضاريةوإنما جاءت نتيجةً للتطور الخارجي للمجتمع بمبادرة من العالم غير اليهودي. ولم يكنأعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) مهيئين نفسياً أو حضارياًلتقبُّل الوضع الجديد، وهو ما جعل عملية دمجهم عسيرة. لكل هذا، أدَّت عملية الإعتاقإلى ظهور بعض المشاكل والأزمات ليهود أوربا. فعلى سبيل المثال، أدَّت حركة الإعتاقإلى ظهور أزمة هوية بين اليهود، إذ كان عليهم إعادة تعريف أنفسهم كجماعة دينيةوحسب، وهو ما أثار وبحدة قضية الشعائر والمفاهيم اليهودية التي سُمِّيت «قومية» مثلالرغبة في العودة إلى صهيون أو الحديث عن الشعب اليهودي. وتُعَدُّ الفرق اليهوديةالحديثة المختلفة، مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة والأرثوذكسية، محاولةً للإجابةعن مشكلة الهوية هذه. كما أن عملية الإعتاق التي تمت بمبادرة العالم غير اليهوديكانت كثيراً ما تدفع بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى التشبه بأعضاء الأغلبيةوبأسلوب حياتهم وتبنِّي سائر الأشكال الدينية والحضارية السائدة في المجتمع بشكلمتطرف، الأمر الذي نجم عنه انصهار أعداد كبيرة من اليهود في المجتمع الأم وتفسُّخأعداد أخرى منهم أخلاقياً بسبب فقدان الهوية. وقد حدث العكس أيضاً إذ رفض بعض أعضاءالجماعات اليهودية حركة الإعتاق وآثروا الانسحاب إلى الماضي.

    وتحت تأثيرالفكر العنصري والإمبريالي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وفشل بعض قطاعاتاليهود في تحقيق الحراك الاجتماعي الذي كانت تطمح إليه، ووبخاصة بسبب تعثُّرالتحديث في روسيا وبولندا، ظهرت المُثُل الصهيونية بديلاً لفكرة الإعتاق والاندماج.

    وتحمل كلمة «إعتاق»، وكذلك كلمة «انعتاق»، إيحاءات سلبية في الأدبياتالصهيونية. وتزعم هذه الأدبيات أحياناً أن حركة الإعتاق قد فشلت تماماً، وأن أعضاءالجماعات لا يزالون يعانون من التمييز القانوني والسياسي. وموقف الصهاينة هذا ناجمعن أن توقعاتهم من حركة الإعتاق فاقت ما كان ممكناً بالفعل. فالتقدم التاريخيوالتحولات الاجتماعية لا تسير، كما نعلم، على وتيرة واحدة، وإنما تأخذ شكل خطمتعرج. وقد كان معدل إعتاق أعضاء الجماعات عالياً للغاية إذا ما قورن بمعدل إعتاقالأقليات الدينية والعرْقية الأخرى، فبدأت حركة الدفاع عن الحقوق المدنية للزنوج فيالولايات المتحدة، منذ عهد طويل ولكنها لم تؤت أُكُلها بعد. ومع هذا، لم يجرؤ أحدعلى إعلان فشل هذه الحركة. أما الصهاينة من أمثال بيريتس سمولنسكين، فكانوا، بعدمرور أقل من خمسين عاماً على ظهور هذه الحركة الفكرية والاجتماعية والسياسية،ينعونها للعالم. ولعل هذا يعود إلى انتشار الأفكار الخاصة بالشعب المختار وما يصاحبذلك من توقعات متطرفة أحياناً. كما يعود هذا ولاشك إلى قلة ذكاء القيادة الصهيونية،وإلى افتقارها إلى التكوين الثقافي والسياسي المناسب لتقييم ظاهرة مثل الإعتاق أوالانعتاق، وكذلك افتقارها إلى رؤيةكاملة للكون وإلى رؤية تاريخية مركبة.

    ومع أن الصهاينة نعوا حركة الإعتاق والانعتاق، فإنهم يقفون ضدها في واقعالأمر بشكل مبدئي، وذلك لأنهم يؤمنون بأن العلاقة بين اليهود والأغيار علاقة تضادجذري، كما أنهم ينطلقون من تصوُّر أن اليهود عنصر قومي له خصوصيته وتفرُّده ولايمكنه الاندماج في العناصر الأخرى. ولذا، تصبح القضية بالنسبة إليهم هي تهجيراليهود إلى وطنهم القومي الافتراضي وليس الدفاع عن حقوقهم المدنية والسياسية. وتتجلى مثل هذه المفاهيم في موقف الصهاينة من يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)،فالحركة الصهيونية لا تحاول أن تكسب لليهود السوفييت حقوقاً مدنية جديدة، ولا تحاولالدفاع عن حقوقهم التي اكتسبوها بمقتضى القانون السوفيتي، وإنما تبذل قصارى جهدهالتهجيرهم إلى إسرائيل باعتبارهم أعضاء من الشعب اليهودي لا يمكنهم العيش في المجتمعالسوفيتي.

    ولكن، ورغم الادعاءات الصهيونية، فإن الأغلبية الساحقة من يهودالعالم الموجودين في العالم الغربي يتمتعون بثمرة نجاح حركة الإعتاق، ومن ثم يطلقعليهم «يهود مرحلة ما بعد الانعتاق». فيهود الولايات المتحدة مندمجون تماماً فيمجتمعاتهم، وقد حصلوا على الحقوق المدنية والسـياسية كافة، ويسـاهمون في مجتمـعهمكمواطنين أمريكيين. ويهود الاتحاد السوفيتي لا يختلفون عن ذلك كثيراً. فرغم عدمسيادة المُثُل الديموقراطية والليبرالية في المجتمع السوفيتي حتى عهد قريب، فإناليهود السوفييت حصلوا على حقوق سياسية مماثلة لحقوق المواطنين في مجتمعهم،وبالتالي فقد تحققت مُثُل المساواة بالنسبة إليهم. وهم مندمجون حضارياً في بيئتهمولا يتسمون بأيِّ تمايز وظيفي أو مهني (إلا بدرجات قليلة للغاية)، فليس لهم مؤسساتقانونية مقصورة عليهم. ومعاناة اليهود السوفييت لم تكن مقصورة عليهم بوصفهم يهوداً،وإنما هي ناجمة عن انتمائهم إلى المجتمع السوفيتي الاشتراكي، وكذلك فإن دوافعالهجرة عند اليهود السوفييت هي دوافع مرتبـطة تماماً بحركيات المجتمع السوفيتيوليـس بأية حركيات يهودية مـستقلة. ولذا، فإن أغلبية المهاجرين من اليهود السوفييتكانت تتجه إلى الولايات المتحدة، وإن اتجهوا إلى الدولة الصهيونية فإن دوافعهم كانتفي العادة اقتصادية محضة. ومن هذا المنظور، فإن مُثُل الاستنارة والانعتاق قد تحققتتماماً بالنسبة لأغلبية يهود العالم. وأدَّى نجاح حركة إعتـاق اليهـود إلى ظهـورمشاكل خاصـة بمرحـلة ما بعـد الانعتاق. وفي مواجهة حقيقة نجاح حركة الإعتاق، يصبحمن العسير على الصهاينة الدفاع عن فكرة فشلها. ولذا، تلجأ الأدبيات الصهيونية إلىإثارة الشك بشأن مدى إيجابية حركة الإعتاق باعتبار أنها تؤدي إلى الاندماج والإبادةالصامتة. وقد طالب المفكر الصهيوني حاييم كابلان بالكف عن الإعتاق والرجوع عنمُثُله، والنظر إلى أعضاء الجماعات لا باعتبارهم أفراداً لكلٍّ حقوقه وواجباتهوإنما باعتبارهم جماعة عضوية.











  5. #15
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    الانعتـــــــاق
    Emancipation
    «الانعتاق» من الفعل «انعتق» الذي جاء على زنة الفعل المطاوع، وهـو فعـل لازمبطبيعة تشـكيله حيث نقول «أعتق السيدُ العبدَ فانعتق العبدُ». وهو مصطلح يُستخدَمللإشارة إلى تحرُّر بعض الأقليات في المجتمع الغربي إبان القرن التاسع عشر الميلاديأو ما قبله. أما مصطلح «الإعتاق»، فيشير إلى تحرُّر أعضاء الجماعات اليهودية. والعلاقة البنيوية بين كلمتي «الانعتاق» و«الإعتاق» هي نفسها العلاقة بين كلمتي «التحرر» و«التحرير»، أو ما يكون بين اللازم والمتعدي من الأفعال بصفة عامة. ولمتكن هناك حركة تحرُّر في صفوف الجماعات اليهودية، كما أن التحرر لم يكن تعبيراً عنتحولات اجتماعية داخل هذه الجماعات وإنما كان تعبيراً عن حركة داخل المجتمع الغربيأثرت فيهم وغيَّرت من الأنساق التقليدية لحياتهم بشكل جذري وحررتهم. وهم في الحقيقةلم يسعوا إلى إعتاق أنفسهم، ولم يثوروا من أجله وإنما تم إعتاقهم على يد الآخرين. ولذا، فإن مصطلح «إعتاق» يُعبِّر عن الظاهرة منظوراً إليها من ناحية التحولاتالاجتماعية التي أثرت في الجماعة اليهودية، أما مصطلح «انعتاق» فيُعبِّر عن الظاهرةنفسها منظوراً إليها من ناحية استجابتهم لما وقع عليهم من مؤثرات.

    مرحلـة ما بعــد الانعـتاق
    Post-Emancipation Era
    يُطلَق علىيهود العالم الغربي يهود مرحلة «ما بعد الانعتاق»، وهي عبارة تفترض أن عملية إعتاقاليهود قد اكتملت وأن أعضاء الجماعات اليهودية قد أُعتقوا وانعتقوا تماماً. ولكنالأدبيات الصهيونية تذهب إلى أن اكتمال هذه العملية لم تكن كل ثمراته إيجابية بلأدَّى إلى ظهور مشاكل جديدة مختلفة تماماً عن تلك التي كان يواجهها اليهود قبل تلكالمرحلة. فأعضاء الجماعات اليهودية، قبل إعتاقهم، كانوا يواجهون مشكلة عزلتهم عنبقية أعضاء المجتمع، كما كانوا يواجهون مشكلة عدم حصولهم على حقوقهم. وكان المجتمعبدوره يشكو من خصوصيتهم وتكاتفهم المتطرف. ولكن، بعد الإعتاق والانعتاق، نجد أنالوضع قد انقلب تماماً. إذ أصبح الخطر الأكبر الذي يتهدد اليهود، من وجهة نظرالصهاينة وبعض الدارسين، هو الاندماج وأحياناً الانصهار أو ضياع الهوية وأي شكل منأشكال الخصوصية. ويعود هذا إلى تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي وانتشارمُثُل حركة الاستنارة، وهي حركة تؤكد أهمية العام على الخاص، وتطرح فكرة الإنسانالطبيعي الأممي كمثل أعلى، ومن ثم فإنها تعادي الخصوصية والهوية. وقد أدَّت عمليةالإعتاق (المرتبطة بالعلمنة) إلى ضعف الدين اليهودي بمؤسساته المختلفة والذي كانيحتفظ لأعضاء الجماعات اليهودية بشيء من الهوية كما كان يمنعهم من الزواج المختلط. كما أن تزايد انتشار مُثُل الإعتاق قد أدَّى إلى تراجع الأفكـار العنـصريةالمختلفـة وإلى تراجع ظاهرة معـاداة اليهود، وهي الأخرى من أهم دعائم ما يُسمَّى «الهوية اليهودية».

    ومن القضايا الأساسية الأخرى ليهودية ما بعد الانعتاقالحوار اليهودي المسيحي الذي يفترض وجود تراث يهودي مسيحي مشترك، ومثل هذا الحوارلم يكن أمراً مطروحاً في الماضي. غير أن اليهودية، باعتبارها نسقاً دينياً، ليستمهيأة للدخول في هذا الحوار، نظراً لخاصيتها الجيولوجية التراكمية، ولعدم تحديدهاعقائدها الأساسية. كما أن اليهود جماعات إثنية منقسمة إلى فرق لا تعترف الواحدةبالأخرى. ويخشى كثير من اليهود المتدينين (الأرثوذكس) أن يؤدي هذا الحوار إلى توسيعرقعة الاتفاق بين اليهودية والمسيحية إلى درجة يصبح التنصر معها أمراً سهلاً وربمامنطقياً. وهذا ما حدث فعلاً في ألمانيا بعد ظهور اليهودية الإصلاحية التي أعادتصياغة اليهودية على أسس المسيحية البروتستانتية، الأمر الذي أدَّى في النهاية إلىتنصُّر أعداد كبيرة من يهود ألمانيا.

    ومن الصعب على الصهاينة أو غيرهمالاحتجاج على النتائج السلبية لإعتاق اليهود، إذ أن المُثُل العليا للمجتمعاتالغربية التي يعيش فيها معظم أعضاء الجماعات اليهودية هي مُثُل علمانية عقلانية مننتاج عصر الاستنارة، تشجع على الاندماج وتمازج الأفراد، وعلى امتزاج هويتهموخصوصيتهم في هوية قومية عامة عظمى. ولذا، فإن هذه المجتمعات هي مجتمعات تقبل مناليهود احتجاجهم على معاداة اليهود ولكنها تجد أن من الصعب عليها أن تقبل الاحتجاجعلى نتائج عملية الإعتاق.

    ولكن أهم المشاكل التي يواجهها اليهود واليهودية،في مرحلة ما بعد الانعتاق، هي ظهور الصهيونية باعتبارها حركة تدَّعي التحدث باسم كلاليهود، وكذلك تأسيس الدولة الصهيونية التي تطلق على نفسها اسم «الدولة اليهودية». ويهود مرحلة ما بعد الانعتاق يتمتعون، كما أسلفنا، بدرجة عالية من الاندماج فيمجتمعاتهم، ويشعرون بالانتماء الكامل لها والولاء العميق نحوها. ولكن الصهيونية تضعهذا موضع التساؤل إن لم يكن موضع الشك أيضاً. كما أن سلوك الدولة الصهيونية، وبخاصةبعد اندلاع الانتفاضة المجيدة، أصبح يسبب لهم كثيراً من الحرج. (انظر: «موقفالجماعات اليهودية من الصهيونية» (.

    جوزيف الثاني (1780-1790(
    Joscph II
    إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، ابن جوزيف الثانيوماريا تريزا. وهو من أشهر حكام أوربا ممن أُطلق عليهم «المستبدون المستنيرون». حاول قدر استطاعته أن يُصلح الإمبراطورية النمساوية المجرية وأن يحدِّثها، بعد أنتلقَّى تعليمه الحقيقي من كتابات فولتير والفلاسفة الموسوعيين الفرنسيين، بحيث أصبحمن أكبر المدافعين عن مُثُل حركة الاستنارة. وكان إيمانه عميقاً بمقدرة الدولةالمطلقة على أن تُصلح كل شيء إن هي عملت بهدي العقل. كما كان من المتحمسين للتجارةالحرة وضرورة تقليل نفوذ الكنيسة. ولذا، فبعد أن تقلَّد الحكم، قام بإصلاح النظامالتعليمي في الإمبراطورية وبفصل القضاء عن الجناح التنفيذي، وأصلح نظام الصحةالعامة، وألغى نظام الرق، وأصدر براءة التسامح (1782) التي حددت حقوق الجماعات غيرالكاثوليكية في الإمبراطورية. وقد اصطدم بالكنيسة الكاثوليكية إذ أنه أسس كلياتتابعة للدولة لتخريج القساوسة، وقلَّص سلطة الأساقفة، وحد من علاقة الكنيسةبالبابا. بل قام جوزيف الثاني بحل 700 دير لا تعمل في وظائف نافعة مثل التدريس أوالتمريض، وشطب حوالي 36 ألفاً من قوائم الرهبان وأعطاهم تعويضات كي يعودوا إلىمواطنهم الأصلية. وقد أدَّت سرعة تنفيذ القرارات الخاصة بحل الأديرة إلى تدمير عددكبير من الأعمال الفنية. وقد حاول البابا التدخل شخصياً للتخفيف من الأثر السلبي،لكن دون جدوى. ويبدو أن حماس جوزيف الثاني الزائد لتغيير كل شيء قد جلب عليه عداءالكثيرين من سكان المناطق المحافظة. وأثناء حكمه، تم تقسيم بولندا، وضمت النمساأجزاء منها، وضمنها جاليشيا.

    وقد وجَّه جوزيف الثاني اهتمامه للمسألةاليهودية، في محاولته تحديث إمبراطوريته. فحاول أن يجعل أعضاء الجماعات اليهوديةأكثر نفعاً للدولة، تماماً كما فعل مع الكنيسة الكاثوليكية والأديرة، فأصدر قوانينتحظر على أعضاء الجماعات اليهودية بيع الخمور أو جمع الضرائب أو إدارة الفنادق،وفرض علىهم أن يتسموا بأسماء ألمانية تُختار من قائمة أُعدت خصيصاً لهذا الغرض،وذلك حتى يتسنى دمجهم في المجتمع. كما منع استخدام العبرية أو اليديشية فيالمعاملات التجارية أو الوثائق الرسمية، وألغى المحاكم الحاخامية والزي اليهوديالخاص. ولإبقاء عدد اليهود قليلاً كما هو، لم يُلغ جوزيف الثاني القوانين التي كانتترمي إلى الحد من حجم العائلات اليهودية.

    وقد أصدر في عام 1782 براءةالتسامح التي أكدت الحقوق القائمة لأعضاء الأقليات غير الكاثوليكية وأضافت لهاحقوقاً جديدة. وبالنسبة لأعضاء الجماعة اليهودية، أعطت البراءة اليهود الحق في حريةالتنقل والسكنى في أي مكان واختيار أية مهنة أو وظيفة. وظلت قوانين وتشريعات جوزيفالثاني أساس التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية في الإمبراطورية النمساوية المجريةحتى نشوب ثورة 1848.

    وقد قوبلت إصلاحات جوزيف الثاني بالترحاب من بعض زعماءالاستنارة مثل فيسيلي. أما مندلسون، فقد عبَّر عن شكوكه نحوها، كما أن المتدينينوصفوها بأنها كارثة. ومهما كانت استجابة أعضاء الجماعة اليهودية، فإن هذه القوانين،بما في ذلك براءة التسامح، قد أتاحت الفرصة أمام كل الأقليات غير الكاثوليكيةليُحقِّقوا حراكاً اجتماعياً كبيراً وليندمجوا في المجتمع.

    بـراءةالتسـامح
    Toleranz Patent
    «براءة التسامح» فرمان أصدره جوزيف الثاني في عام 1782 وطُبِّق في بادئ الأمر على فيينا والنمسا ثم طُبِّق على سائر مقاطعاتالإمبراطورية النمساوية المجرية. وهي واحدة من سلسلة البراءات التي مُنحت للأقلياتغير الكاثوليكية، ومن بينها اليهود، تتضمن حقوقهم القائمة وتضيف لها حقوقاً جديدةوتحدد واجباتهم. (انظر: «جوزيف الثاني» ـ «النمسا» ـ «جاليشيا»).

    التحديــــــث المتعــــــثر
    Setbacks in Modernization
    «التحديث المتعثر» مصطلح نستخدمه لنشير إلى تلك الفترة من تاريخ روسيا، السابقةعلى الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية، ومن تاريخ معظم بلاد شرق أوربا (بولندا ورومانيا والمجر، وغيرها) في الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانيةوانضمام هذه البلاد إلى المعسكر الاشتراكي،وهما فترتان لم تتمكن فيهما النظمالحاكمة من إنجاز عملية التحديث.ونحن نذهب إلى أن السبب الأساسي لتعثُّر التحديث فيهذه الدول هو عدم وجود مشروع استعماري لديها أساساً، أو أن مشروعها الاستعماري لميكن ناجحاً، أو كان باهظ التكاليف لأنه كان بعد في مراحله الأولى (ويُقال إن تكاليفضم وإدارة المستعمرات التابعة للإمبراطورية القيصرية الروسية كانت تفوق كثيراًعائدها، ولذا كان هناك كثير من المفكرين الروس ذوي الاتجاه السوفيتي والعنصريوالرجعي ممن يعادون التوسع الإمبريالي الروسي).

    وقد أثر تعثُّر التحديث فيهذه البلاد في عمليات إعتاق اليهود ومحاولة اندماج أعضاء الجماعات اليهودية إذ أنتعثُّر التحديث أدَّى إلى ظهور رؤى شمولية واستبدادية تستبعد الأقليات وتحاول منعهممن الاندماج ومن المشاركة في السلطة. كما أن تعثُّر التحديث، على المستوى البنيوي،أدَّى إلى بطء النمو الاقتصادي، وهذا ما كان يعني عدم وجود فرص للحراك الاجتماعيأمام أعضاء الأقلية والأغلبية. ولكن النظم الاشتراكية نجحت حينذاك في استئنافالتحديث وبالتالي في إعتـاق اليهـود ومنحـهم حقوقهم المدنية والسياسـية الكاملة. وعلى أية حال، فإن الصهاينة لا يتحدثون عن تعثُّر التحديث وإنما عن فشله، وبالتاليعن استحالة اندماج اليهود، مع أن التعثُّر أمر مؤقت يقف بين النجاح والفشل، بينماالفشل أمر نهائي مطلق يستطيع المرء أن يؤسس بناءً عليه أحكاماً نهائية ذات طابعاختزالي.

    كما نستخدم المصطلح للإشارة إلى ما حدث بعد الحرب العالمية الأولىحين جُرِّدت ألمانيا من مستعمراتها بعد إبرام اتفاقية فرساي عام 1919، فتعثرت عمليةنموها وتحديثها، ولم يُستأنَف التحديث إلا على الطريقة الشمولية النازية.





  6. #16
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي





    الباب الخامس: الاستنارة اليهودية


    الاستنارة اليهودية (الهسكلاه(
    Haskalah
    يُستخدَم في الكتابات العربيةمصطلح «الاستنارة اليهودية» للإشارة للحركة التي انتشرت بين أعضاء الجماعاتاليهودية في أوربا في منتصف القرن الثامن عشر (في ألمانيا وغيرها من الدول). ولكننانؤثر استخدام مصطلح «التنوير اليهودي» باعتبار أن هذه الحركة قد أتت بمثل وقيم منخارج الموروث الديني والفكري اليهودي، وباعتبار أن هذه المثل والقيم فُرضت علىأعضاء الجماعات اليهودية إما من خلال الدولة أو من خلال طليعة ثقافية يهودية تشربتأفكار حركة الاستنارة الغربية ثم حاولت تنوير اليهود. وكان أعضاء الجماعات اليهوديةيتلقون مُثُل الاستنارة بشكل متفاوت؛ فمنهم من تبناها بحماس وطبقها، ومنهم من خضعلها وسايرها، وأخيراً هناك من تصدى لها وقاومها.

    الهسـكلاه
    Haskalah
    «هسكلاه» كلمة عبرية مشتقة من الجذر العبري «سيخيل»، ومعناها «عقل» أو «ذكاء» ثم اشتُقت منها كلمة «سيكّيل» بمعنى «نوَّر» ثم استُخدمت الكلمةبمعنى «استنارة»، والاسم منها «مسكيل» وجمعه «مسكليم».

    وفي هذه الموسوعة،نستخدم مصطلح «الاستنارة» للإشارة إلى الحركة المعروفة بهذا الاسم في الحضارةالغربية. ونستخدم كلمة «تنوير» للإشارة إلى أثر هذه الحركة في بعض المفكرينالغربيين اليهود وفي أعضاء الجماعات اليهودية. كما تُستخدَم الكلمة للإشارةللمحاولات التي بذلها بعض المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية لتطبيق فكر ومُثُلعصر الاستنارة على أعضاء الجماعات اليهودية.


    التنوير اليهودي: تاريخ
    Haskalah: History
    كلمة «هسكلاه» العبرية تعني «التنوير»، ويُعبَّر عنهاأيضاً في الأدبيات العربية بكلمة «الاستنارة». وقد ظهر المصطلح عام 1832 للإشارةإلى حركة في الآداب المكتوبة بالعبرية حاول دعاتها أن يبتعدوا عن الأشكال الأدبيةالتقليدية المرتبطة إلى حدٍّ كبير بالدين وأن يستعيروا أشكال الأدب العلمانيالغربي. ولكن التنوير لم يكن مجرد حركة أدبية وإنما كان أيضاً رؤية متكاملة نسميها «العقلانية المادية». وتُستخدَم الكلمة بالمعنى العام للإشارة إلى الحركة الفكريةالاجتماعية التي ظهرت بين يهود غرب أوربا (في ألمانيا ووسطها) ثم انتشرت منها إلىشرقها. وقد بدأت حركة التنوير في صورة تيار أساسي بين اليهود منذ منتصف القرنالثامن عشر واستمرت حتى عام 1880. ورغم انحسارها كحركة فكرية واعية، إلا أنمقولاتها ظلت سائدة بين أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ظاهر أو كامن حتى تم اندماجأعضاء الجماعات اليهودية واستيعابهم في المجتمع الغربي العلماني.

    وتنطلقحركة التنوير اليهودي من الأفكار الأساسية في حركة الاستنارة الغربية مثل الإيمانبالعقل باعتباره مصدراً أساسياً وربما وحيداً للمعرفة إلى ثقة كاملة بالعلم وبحتميةالتعدد، وبنسبية المعرفة والقيم، وبإمكانية إصلاح الإنسان عن طريق تغيير بيئته وخلقالمواطن الذي يدين بالولاء للدولة. كما تدور حركة التنوير اليهودية في إطار الرؤيةالآلية للكون والإيمان بالإنسان الطبيعي أو الأممي، كما تقع في كل تناقضات حركةالاستنارة الغربية مثل التناقض بين النزعة العقلية المجردة التي تتجه نحو العاموالنزعة الحسية التجريبية التي تتجه نحو الخاص، وهو تناقض يضرب بجذوره في الرؤيةالعلمية للكون التي تبدأ برصد الأشياء المادية المحسوسة والملموسة وتنتهي في عالمالقانون العام الرياضي المجرد. ولذا نجد أن الفكر العقلاني المادي يبدأ بالتعامل معالملموسات والمحسوسات داخل حدودها، ولكنه ينتهي بأن ينظر لها باعتبارها ظواهر ماديةعامة مجردة خاضعة لقانون مادي عام مجرد، لا تتمتع بأية خصوصية أو قداسة. ولذافالواقع الذي ينتجه العقل المادي لا قسمات له ولا حدود. وكرد فعل لذلك، ظهر الفكرالمعادي للاستنارة (الإيمان بالطبيعة واللاعقل والقوة والأرض والحيوية) ليستعيدقدراً من القداسة للعالم ولكنها قداسة مصدرها المادة، فهي كامنة فيها لا تتجاوزها (ولذا فهي حركة «لا عقلانية مادية»). طالب دعاة التنوير (والعقلانية المادية) بأنيُمنَح اليهود حقوقهم السياسية والمدنية (أي إعتاقهم)، وأن تتاح لهم الفرصالاقتصادية، وأن يتخلص أعضاء الجماعات اليهودية من أية خصوصية تتسبب في عزلتهم عنأعضاء المجتمع، وأن يندمجوا في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، وأن يكونولاؤهم الأول والأخير للبلاد التي ينتمون إليها لا لقوميتهم الدينية التي لا تستندإلى سند عقلي أو موضوعي. وكان دعاة التنوير اليهودي يرون أن هذا ممكن إذا اكتسباليهود مقومات الحضارة الغربية العلمانية، وإذا ما قاموا بفصل الدين اليهودي عمايُسمَّى «القومية اليهودية» حتى يتلاءموا مع الدولة العلمانية القومية في أوربا، أيإذا قاموا بتحديث اليهود واليهودية، وتحولوا من كونهم جماعة وظيفية هامشية ليصبحواجزءاً من البناء الطبقي والثقافي للمجتمع.

    وقد ظهر من بين صفوف يهود البلاطمن المارانو والإشكناز شخصيات تولت قيادة الجماعة اليهودية، وأصبح لها مكانة تفوقكثيراً مكانة الحاخامات. ولم يكن يهود البلاط، على عكس التاجر والمرابي اليهوديالقديم، لا في مركز المجتمع على وجه الحصر، ولا في مسامه أو على هامشه، بل كانواعلى مقربة من أعضاء الطبقة الحاكمة يتعاملون معهم ويزودونهم بالأموال ويشترون لهمالتحف والسلع الترفيهية اللازمة لمظاهر أبهة الملكيات والإمارات المطلقة. وكان هذايتطلب معرفة وثيقة لا بالاحتياجات الاقتصادية للطبقة وحسب وإنما بأسلوب حياتهاأيضاً، ذلك الأسلوب الذي بدأ يهود البلاط يستوعبونه ويتأثرون به. ولكن يهود البلاطكانوا يقفون على قمة هرم مالي تجاري يهودي يضم طبقات اليهود المختلفة من كبارالتجار إلى التجار البائعين والمتسولين. وكان هذا الهرم عابراً للقارات متعددالجنسيات، يمتد بطول أوربا وعرضها وتصل أطرافه إلى الدولة العثمانية والعالمالجديد. وكان على يهودي البلاط، رغم عالميته، أن يظل يهودياً حتى يتمتع بشبكةالاتصـالات هـذه، وحتى يظل يلعب دوره كعضو في جماعة وظيفية وسيطة. ولهذا، كان يهودالبلاط يعيشون بين العالمين المسيحي واليهودي، يتحركون بسهولة داخل الحضارة الغربيةالتي كانوا يعرفون لغتها، كما كانوا مُلمين بالفلسفة والعلوم والاقتصاد، ومُلمين فيالوقت نفسه بالتكوين الثقافي والديني المتميز لأعضاء الجماعات اليهودية. ومن هنا،فإن القيادات الجديدة للجماعات اليهودية لم تكن يهودية ولا دينية خالصة.

    ومن أهم العناصر التي ساهمت في فك قبضة الأفكار الدينية التقليدية يهودالمارانو الذين كان يُشار إلى قطاعات منهم بأنهم «السفارد» أو «اليهود البرتغاليون» أو «المسيحيون الجدد». وقد أسس المارانو مراكز اقتصادية متميِّزة في أوربا، مثل: بوردو وبايون وأمستردام وهامبورج ولندن. وحسب بعض النظريات، كان المارانو مسيحيينفي الظاهر يهوداً في الباطن. ولكنهم، حسب بعض النظريات الأخرى، كانوا مسيحيينظاهراً وباطناً، أي جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي. ولكنهم، مع هذا،ولأسباب مختلفة، تهودوا واندمجـوا في الجمـاعة اليهـودية بعد خروجهم من شبه جزيرةأيبريا. ولذا، فقد كانوا حَمَلة الحضارة الغربية داخل الجماعة اليهودية، عن وعي أوعن غير وعي، ينشرون قيمها بينهم. كما أن بعضهم ممن كان يبطن اليهودية، يحمل فيوجدانه صورة مثالية لليهودية ارتطمت بالواقع كما حدث لأروييل داكوستا وإسبينوزا،وهو ما جعلهم عناصر ثورية داخل الجماعة اليهـودية تبشر بالعقل (المادي) وبالقـيمالمجـردة. وإلى جانب كل هذا، كانوا، نتيجة التعددية التي مارسوها، من حملة لواءالشك الديني. وقد تزامن خروج المارانو مع تعمُّق أزمة اليهودية الحاخامية إذ كانواعنصر هدم أساسياً لها، فهم الذين ساندوا شبتاي تسفي، ومن بين صفوفهم خرج إسبينوزا.

    وقد بدأ المارنو في إشاعة مُثُل الحضارة الغربية بين الجماعات اليهودية،كما ساهم يهود البلاط (القيادة الحقيقية للجماعات ورمز النجاح الكبير والقدوة التيتُحتذَى) في ترويج أسلوب الحياة الغربي من خلال أنفسهم ومن خلال أتباعهم والمحيطينبهم الذين تشبهوا بهم. وقد كان المارانو ويهود البلاط، كما أسلفنا، ذوي خبرةبالعالم المسيحي الذي بدأ يتعلمن، وبالعالم اليهودي الذي كان متحجراً. وفرضت عليهمخبرتهم هذه عملية المقارنة بين العالمين، وبالتالي طَرْح التساؤلات بشأن الموروثالثقافي الديني اليهودي. ولعل الاندماج النسبي لهذا العدد الكبير من اليهود،ودخولهم عالم الحضارة الغربية الجديدة والاقتداء به، جعل كثيراً من المصطلحاتالدينية اليهودية (مثل النفي والشعب المختار) تفقد كثيراً من مدلولاتها بالنسبةلهم. ومعنى هذا أن يهود المارانو لعبوا دوراً مماثلاً للدور الذي يلعبه بعض مثقفيالعالم الثالث الذين يذهبون إلى الغرب لتلقِّي العلم أو البحث عن الرزق، لكن بعضهميعود إلى بلاده جسدياً وحسب إذ يكتشفون أن من العسير عليهم العودة الروحية الكاملةإلى أوطانهم بعد رحلة الذهاب. ولذا، فإنهم حينما يعودون يحملون رايات التغريبويكونون بمنزلة معاول هدم في موروثهم الحضاري.

    وكان مهد حركة التنوير هوالبلاد التي كانت تضم جماعات يهودية صغيرة ذات صبغة غربية مثل يهود هولنداوإيطاليا. وقد حقق أعضاء هذه الجماعات معدلات عالية من الاندماج نظراً لصغر حجمهاونظراً لوجود قيادة من المارانو. كما أن كثيراً من أعضاء هذه الجماعات قد تلقواتعليماً علمانياً وحققوا نجاحاً ملحوظاً في مهن مثل الطب. ويبدو أن فشل حركة شبتايتسفي قد خلق ميلاً عاماً بين الجماعات اليهودية نحو رفض النزعة المشيحانية ككل،ورغبةً في الاندماج في المجتمعات التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية بين ظهرانيها. كما أن ظهور حركة مشيحانية، مثل الحركة الفرانكية، كان يعني أن اليهودية قد دخلتمرحلة أزمتها الأخيرة، فهذه الحركة كانت حركة عدمية تماماً تُعبِّر عن رغبة اليهودفي التخلص من الشريعة.

    ولكن العنصر الأساسي والحاسم، الذي أدَّى إلى انتشارقيم ومُثُل التنوير بين اليهود، هو التحولات التي كان المجتمع الغربي يخوضها: تزايُد معدلات العلمنة، وسيادة القيم النفعية التي أتاحت الفرص أمام أعضاء الجماعاتللتحرك من الهامش الثقافي والاقتصادي والوظيفي للمجتمع نحو مركزه. وهي تحولاتغيَّرت أسلوب حياتهم، كما غيَّرت البناء الوظيفي والمهني لأعداد كبيرة منهم.

    وقد بدأت حركة التنوير، بالمعنى المحدَّد، في برلين. فالمجتمع المركنتاليفي ألمانيا تحت حكم فريدريك الثاني الأعظم (1740 ـ 1786) خلق مناخاً مواتياً شجعاليهود على الاستيطان في بروسيا والاشتغال بالتجارة، ومنح بعض قطاعاتهم حقوقهمكاملة، فنشأت طبقة رأسمالية تجارية وجدت أن من مصلحتها الاندماج في المجتمع وأصبحتبمثابة القدوة أو النموذج لبقية اليهود. وحملت هذه الطبقة مُثُل التنوير التي طرحهاالمجتمع الغربي. ويُعَدُّ موسى مندلسون، الذي كان يعمل محاسباً وتاجراً كما كانمتزوجاً من حفيدة أحد يهود البلاط، أهم مفكري حركة التنوير. أصدر عام 1750 مجلةأسبوعية تُسمَّى كوهيليت موسار (أي الواعظ الأخلاقي) صدرت منها ثلاثة أعداد وحسب،وهي المجلة التي تُعَدُّ أول منبر للتعبير عن أفكار حركة التنوير. ومع هذا، يرى بعضالمؤرخين أن تاريخ نشأة حركة التنوير هو عام 1783، فقد أصدر جوزيف الثاني براءةالتسامح عام 1782، وفي العام التالي نشر مندلسون ترجمته الألمانية لأسفار موسىالخمسة بحروف عبرية مع تعليق ذي طابع عقلاني. وقد ساهم معه في هذه الترجمة والتعليقرابطة أصدقاء العبرية التي أصدرت في الفترة 1783 ـ 1811 فصلية عبرية تُسمَّىهاميسائيف (أي الحاصد أو الجامع) كان محتواهـا تافهاً ومملاً، واعتمـدت أسـاسـاًعلى الترجمات من الألمانية، إلا أن أثرها كان عميقاً للغاية، وبخاصة خارج ألمانيا. وقد رفض كُتَّاب هذه المجلة عبرية الحاخامات، وحاولوا العودة إلى الكتاب المقدَّسبأسلوبه الكلاسيكي، وزخرفوا أسلوبهم بكلمات أنيقة مصطنعة كانوا يعدونها دليلاً علىالذوق الأدبي الرفيع. نشرت المجلة قصائد في مدح الحكومة والطبيعة، وقصصاً وعظية،وشروحاً للكتاب المقدَّس، ودراسات في اللغويات العبرية، ومقالات في تواريخ الجماعاتاليهودية. وكان معظم المؤلفين محافظين في آرائهم السياسية. وقد حققت مُثٌل التنويرنجاحاً ساحقاً في ألمانيا حتى أنها أسقطت الشكل العبراني للحركة كما أنهم رفضوااليديشية باعتبارها ألمانية فاسدة، واختار يهود ألمانيا الاندماج الثقافي الكامل فيحضارة بلادهم. ولم تستمر حركة التنوير ذات الشكل العبراني إلا في برسلاو حتى عام 1830. ومن أهم دعاة الاستنارة في ألمانيا، نفتالي هيرتز فيسيلي وجبريل رايسروبنديفيد لازاروس.

    انتشرت مُثُل التنوير، ابتداءً من عام 1820، فيالإمبراطورية النمساوية (بوهيميا وشمال إيطاليا وجاليشيا). وارتبطت الحركة هناكبالألمانية منذ البداية، إذ كان مرسوم التسامح الذي أصدره جوزيف الثاني يمنح اليهودالحقوق السياسية بمقدار ما يحققونه من اندماج ثقافي واقتصادي. وكان نفتالي فيسيليمن قيادة حركة التنوير هناك، وبين 1821 ـ 1832 أصدر دعاة التنوير في فيينا مجلةسنوية تُسمَّى بيكوري هاعيتيم (أي بواكير ثمار هذه الأزمنة) نشرت دراسات لغويةوتاريخية وسيراً انطلاقاً من مبادئ علم اليهودية، كما نشرت كتابات تسخر من الحياةالتقليدية لأعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً الحسيديين منهم)، وكذلك دراساتتاريخية.

    ومن الجوانب المهمة لحركة التنوير التي تستحق الإشارة دور المرأةاليهودية في هذه العملية. ويُعَدُّ هذا تحولاً عميقاً وربما ثورياً في مجرى تواريخالجماعات اليهودية، فالشريعة اليهودية لا تطالب المرأة بالذهاب إلى المعبد اليهوديأو الصلاة. ولم يكن النساء يتعلمن اللغة العبرية، وإن كن يتعلمن الأبجدية العبريةلتلاوة بعض الأدعية التي لم يكنَّ يفهمنها. ونظراً لجهل النساء بالعبرية، كنَّيقرأن أدباً مكتوباً باليديشية ذا طابع ديني ترفيهي وأحياناً ذا طابع دنيوي محض، أيأن معدلات العلمنة كانت أعلى بين النساء منها بين الرجال. ولكن، بعد التحول عناليديشية وتأكيد أهمية الألمانية، بدأت النساء اليهوديات يقرأن الآداب الألمانيةبدرجة أعلى من الرجال. وإذا أضفنا إلى هذا رغبة بنات الطبقات الثرية بين اليهود فيالاندماج بالمجتمع الألماني وفي ممارسة حياتهن كاملة، لأمكننا فهم طبيعة نشاطهنالثقافي الذي أخذ شكل الصالون الأدبي. ومن أهم المثقفات الألمانيات اليهودياتاللائي لعبن دوراً أساسياً في ظاهرة الصالون الأدبي راحيل فارنهاجن.

    وانتقلت حركة التنوير، في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، من ألمانياوجاليشيا إلى روسيا وأصبح مركزها هناك في منتصف الأربعينيات، وبخاصة في ليتوانيا،حيث وُضعت أسس الأدب الحديث المكتوب بالعبرية ونُشرت أول رواية عبرية عام 1854 كماظهرت عدة مجلات أسبوعية. ويُعَدُّ إسحق دوف لفنسون أهم دعاة الاستنارة في روسيا (ويُطلَق عليه «مندلسون روسيا»).

    ومن أشهر الجمعيات المنادية بالتنويرجمعية نشر الثقافة بين يهود روسيا التي أسَّست عام 1863 عدة مدارس لتعليم الحرفوغيرها من الفنون الدنيوية. وبدأ لفيف من الكاتبين بالعبرية في التحول عن الأسلوبالمتأنق الذي تبناه دعاة التنوير الأوائل واتجهوا نحو النقد الاجتماعي.

    ومنالملحوظ أن حركة التنوير اليهودية في روسيا لم تستبعد اليديشية كأداة للتعبير، علىعكس حركات التنوير في ألمانيا والنمسا. ولكن إلى جانب الدعوة لليديشية، كان هناكفريق يدعو إلى الاستجابة لحركة الحكـومة الروسـية لترويـس رعاياهـا، أي صبغهمبالصبغة الروسية.

    وتميل الكتابات التي تتناول ظاهرة التنوير إلى تقسيمهاتقسيماً جغرافياً كما فعلنا. ويقسمها البعض الآخر تقسيماً لغوياً: الحركة الألمانيةأو الروسية أو اليديشية أو البولندية، وهكذا. وثمة تقسيم ثالث على أساس الأجيال،فيقال: الجيل الأول من دعاة التنوير (مندلسون وأتباعه)، والجيل الثاني (ويضم تلاميذمندلسون ومفكريه مثل جايجر وزونز وجرايتز). ولكننا نلاحظ أن هذا التقسيم الأخيريتداخل مع التقسيم الجغرافي.

    وقد أصبحت حركة التنوير قوة فكرية وسياسيةواجتماعية ذات بال في ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وبشكل أقل في روسياحيث هـبت على حيـاة اليهود الثقافية رياح معـظم الحركات الفكرية العلمانيـةالغربية، مثل: الرومانسية والمثالية الفلسفية والوضعية والاشتراكية والداروينيةوالعنصرية. وقد أصبحت كلها، فيما بعد، ضمنمكوناتالفكرةالصهيونية، وأصبح دعاة التنوير شخصيات أساسية في الجماعة اليهودية يتحدثون باسمهاإلى العالم غير اليهودي.

    ولقد تزايد التأثير العميق لحركة التنوير على يهودالعالم الغربي كافة إلى أن سادت مُثُلها وتمت علمنتهم وتحديثهم، فأصبحوا إما ملحدينأو لاأدريين أو مؤمنين بصياغات مخففة من اليهودية كاليهودية الإصلاحية. ولكنيُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا( فرنسا وإنجلترا وهولندا) لميلعبوا دوراً كبيراً في حركة التنوير، ذلك لأن المسألة لم تكن تعنيهم كثيراً بسببتحقيقهم معدلات عالية من الاندماج وحصولهم على حقوقهم منذ بداية استقرارهم في هذهالبلاد. وعلى النقيض من هذا، يقف يهود شرق أوربا الذين لم تضرب حركة التنوير بجذورقوية بينهم. وبين الفريقين كان يقف يهود وسط أوربا (ألمانيا والنمسا وغيرهما) الذينكانوا يمثلون العصب الحقيقي لحركة التنوير، فكان منهم موسى مندلسون، وظهرت بينهماليهودية الإصلاحية وكذلك علم اليهودية. كما يُلاحَظ أن الفكرة الصهيونية (فيمابعد) ظهرت أول الأمر بينهم، فمنهم تيودور هرتزل وماكس نوردو. وكانت لغة المؤتمراتالصهيونية الأولى هي الألمانية. لكن البعد الألماني الواضح لحركة التنوير لا ينفيأنه كانت توجد مؤثرات فكرية فرنسية على المفكرين، ذلك لأن الفلسفة العقلانية وصلتإلى قمة ازدهارها في فرنسا.

    ويمكننا أن نميِّز، من منظور مدى انتشارهاونجاحها وإخفاقها، بين نمطين أساسيين في حركة التنوير. فهناك نمط غربي في ألمانياوالنمسا وجاليشيا حيث حققت مُثُل التنوير نجاحاً ملحوظاً، ونمط شرقي في روسيا (بولندا أساساً) حيث لم تنجح هذه المُثُل كما كان مقدراً لها. وكلمة «غربي» هنا هيالكلمة التي أطلقها يهود شرق أوربا (الأوست يودين) أو يهود اليديشية على يهودألمانيا والنمسا ووسط أوربا. وقد أدَّى نجاح مُثُل التنوير بين يهود الغرب وإخفاقهاالنسبي في الشرق إلى انقسام العالم الغربي، فكان يهود الغرب المندمجون يشعرونبالخوف من يهود اليديشية وأحياناً يشعرون تجاههم بالاحتقار، في حين كان يهود الشرقيشعرون بأن يهود الغرب فقدوا هويتهم وأنهم يتشبهون بالأغيار بشكل يبعث على الضيقوأحياناً الاشمئزاز. وهو انقسام انعكس داخل الحركة الصهيونية فيما بعد وتبدَّى فيانقسامها إلى صهيونية استيطانية (في شرق أوربا) وصهيونية توطينية (في وسطهاوغربها). ويعود الاختلاف بين النمطين إلى اختلافات في المحيطين اللذين وُجد فيهماأعضاء كل جماعة. ويُلاحَظ أن عملية التحديث حققت قدراً من النجاح في بلاد الغرب،وخلقت فرصاً للحراك الاجتماعي أمام أعضاء الجماعات اليهودية. أما في شرق أوربا، فقدتأخر التحديث ثم تعثَّر بل توقَّف بعض الوقت، وهو ما أغلق أبواب الحراك الاجتماعيأمامهم.

    ولذا، فعلى حين كانت توجد شرائح اجتماعية كبيرة في الغرب تطمح إلىالاندماج في المجتمع غير اليهودي لم توجد مثل هذه الشرائح في الشرق وظل دعاةالتنوير قلة قليلة. ومن هنا نجد أن دعاة التنوير في الغرب كانت لديهم طموحاتالانتماء إلى النخبة غير اليهودية وهي طموحات لم تصل في الشرق إلى الدرجة نفسها منالقوة. وكان اليهود في ألمانيا يمتلكون الخبرات والأموال التي تؤهلهم للانخراط فيالمجتمع الجديد الذي كان مستعداً لأن يستفيد منهم. أما في روسيا، فقد ارتبط أعضاءالجماعة هناك بحرف، مثل التجارة البدائية والربا والخمور، أو بوظائف هامشية لمتَعُد مطلوبة. ولذا، فقدت حركة التنوير في الغرب قشرتها اليهودية، في حين تحولت هذهالقشرة إلى محارة في الشرق. وأدَّى هذا الوضع إلى استقطاب داخل الجماعة اليهودية فيالشرق، فكان دعاة التنوير عادةً من الأثرياء أو البورجوازيين أو المرتبطين بهم حيثكان بوسعهم أن يستفيدوا اقتصادياً من عملية الدمج والتغريب، وهذا مقابل الجماهيراليهودية البورجوازية الصغيرة التي كان الاندماج يعني بالنسبة إليهم الهبوط فيالسلم الاقتصادي إلى مرتبة العمال. وتتميَّز الجماعات اليهودية في الغرب بصغرعددها، وهو ما سهَّل عملية دمج أعضائها. أما في شرق أوربا، فكانت الكتلة البشريةاليهودية ضخمة. ومما زاد الطين بلة الانفجار السكاني الذي حدث في صفوفها في القرنالتاسع عشر، و يمكن القول بأنه كانت هناك جماهير يهودية في الشرق ولم تكن توجدجماهير في الغرب. وساعد ذلك أيضاً على ألمنة يهود ألمانيا، إذ أن الكتابة العبريةكانت تعني كتابة بلا جماهير، بينما نجد أنه برغم صغر حجم قراء العبرية في الشرق كانهناك أعداد لا بأس بها من طلبة المدارس التلمودية العليا (اليشيفا) الذين يعرفونالعبرية. ومما ساهم في عدم انتشار مُثُل التنوير في روسيا وبولندا على عكس ألمانياأن المحيط الثقافي الذي أحاط بيهود ألمانيا (بلد بيتهوفن وهايني) كان متقدماًمصقولاً وأغرى كثيراً من اليهود بالانضمام إليه. أما المستوى الحضاري المحيط بيهودالشرق، بجوه الإقطاعي الخانق وحكوماته الأوتوقراطية وأقنانه المتخلفين، فلم يكن فيهما يغري بالانتماء أو الاندماج. ولذا، لم تفقد حركة التنوير في شرق أوربا شكلهاالعبري واليديشي.

    وإذا كان الوسط الفلاحي المحيط بيهود الشرق متخلفاً، فإنيهود الشرق أنفسهم كانوا متدنين حضارياً وملتصقين تماماً بطرقهم التقليدية من لغةيديشية إلى زي خاص. وجعل ذلك من التكيف مع الوضع الحضاري الجديد ومع مُثُل التنويرأمراً عسيراً.

    وثمة أسباب أخرى أدَّت إلى إضعاف انتشار مُثُل التنوير فيالشرق، بل وفي الغرب أيضاً، وإن كان أثرها في الشرق أكثر عمقاً منه في الغرب. وحركةالاستنارة كانت سطحية وساذجة في رؤيتها للإنسان، فقد رفضت كل أنواع الخصوصية بكلمستوياتها وأصرت على أن يتحول الإنسان الفرد المتجذر في تراثه إلى مواطن عام لاجذور له. وكان التصور السائد أن عملية التخلص من الخصوصية مسألة يسيرة سهلة خاضعةلإرادة الفرد دون أي إدراك لمدى ارتباط الهوية بالمستويات العميقة للذات الإنسانية. وغني عن القول أن مثل هذه الرؤية منافية للحقائق النفسية ومنافية لواقع يهوداليديشية الذين كانوا يتمتعون بدرجة عالية من الخصوصية باعتبارهم أقلية قومية داخلروسيا القيصرية. وكان اليهودي يشعر أنه بتخليه الكامل وغير المشروط عن خصوصيته يمسخنفسه، الأمر الذي كان يُنفِّر كثيراً من أعضاء الجماعة من محاولة الاندماج هذه. أماأولئك الذين كانوا يقبلون فكر حركة الاستنارة ويحاولون التخلي عن الخصوصية، فإنبعضهم كان يبالغ في التشبه بأعضاء الأغلبية واصطناع الأشكال الحضارية السائدةوالابتعاد عن التراث اليهودي المحلي. وقد كانت هذه العملية تثير الشك والاشمئزاز فينفوس أعضاء الأغلبية وأعضاء الجماعة اليهودية الذين لم يندمجوا.

    وظهرتسذاجة فكرة عصر الاستنارة في محاولة الحكومات المطلقة فرض الإصلاحات من أعلى،وكأنهاشيء خارجي،عن طريق التشريعات القانونية،دون تغيير البنية الاقتصادية والسياسيةللمجتمع.وكان الإعتاق يُعَدُّ منحة من القيصر،الأب الرحيم، لأبنائه اليهود الذينكان من واجبهم إثبات جدارتهم بهذه المنحة بأن يصبحوا مواطنين صالحين!وقد فُرضتالإصلاحات من خلال أجهزة حكومية متخلفة وبدائية.ويُلاحَظ أن الجهاز الحكومي فيألمانيا والنمسا كان أكثر حداثة وكفاءة منه في روسيا،كما أن النظام الحاكم فيألمانيا كان مدركاً لنفع أعضاء الجماعة والدور الذي يمكن أن يلعبوه في عمليةالتحديث.هذا على عكس الطبقة الحاكمة في روسيا وبولندا،وبدرجة أقل في النمسا،التي لمتجد دوراً خاصاً لليهود.

    وساعد على انتكاس حركة التنوير، في نهاية الأمر،ظهور القوميات الأوتوقراطية المتخلفة ذات المُثُل العضوية في روسيا وبولندا، ومنقبلهما في ألمانيا. وهي قوميات لم تتبن مُثُل الإخاء والتسامح شأنها في هذا شأنالقومية الفرنسية، وإنما تبنت رؤية ثنائية حادة تقسم الناس إلى الأنا والآخر. ومماساعد على تعميق هذا الاتجاه، ظهور الفكر الرومانسي المحافظ لما يُسمَّى الحركةالمعادية للاستنارة، والأفكار العنصرية المختلفة التي شاعت في أوربا في أواخر القرنالتاسع عشر بوصفها جزءاً من الهجمة الإمبريالية على العالم. ثم أدَّى تعثُّرالتحديث في شرق أوربا، وتوقُّفه تقريباً عام 1881، إلى سحب الأرض من تحت أقدام دعاةالتنوير. وتحوَّل كثير من دعاة حركة التنوير إلى دعاة للعقيدة الصهيونية بسببالظروف المواتية.

    وقد أشرنا إلى أن فكر حركة التنوير كان يحوي داخله منذالبداية تناقضاً أساسياً بين النزعة العقلانية التي تؤكد العام والمجرد وترفضالخصوصية ومن ثم تؤدي إلى الاندماج من جهة، ومن جهة أخرى النزعة (غير العقلانية) الإمبريقية الحسية (الرومانسية) التي تؤكد الخاص ومن ثم تؤدي إلى العزلة. وانعكسهذا التناقض في فكر مندلسون ثم في علم اليهودية. ويجب تَذكُّر أن اليهودية المحافظةلم تخرج من التراث الديني التقليدي وإنما هي وليدة حركة التنوير، وعلم اليهودية،والرؤية النقدية والعلمية للتاريخ.

    ومع هذا، ورغم انحسار حركة التنويربوصفها حركة فكرية واعية، ظلت مقولاتها سائدة بين أعضاء الجماعات بشكل ظاهر وكامن،كما أن بنية المجتمع الغربي ذاتها تغيَّرت بشكل أصبح معه التراجع عن مُثُلالاستنارة أمراً عسيراً وصعباً. فلم تَعُد هناك حاجة إلى جماعات وظيفية وسيطة،وأصبحت المساواةبين جميع الأفراد حقيقة تكاد تكون من المسلمات التي تستند إليهاالنظم السياسية. وزادت معدلات العلمنة وعدم الاكتراث بالدين في المجتمع ككل بحيث لميَعُد التمييز بين الأفراد يتم على أساس ديني. وحينما كان التمييز يتم على أساسعرْقي، كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن اليهود كانوا يُعتبَرون من الجنسالأبيض. ولذا، يمكن القول بأنه، برغم تراجع حركة التنوير بين اليهود وضَعْف حركةالاستنارة في العالم الغربي وتعثُّرها، فإن مُثُلهما سادت في نهاية الأمر المجتمعالغربي وبين أعضاء الجماعات اليهودية.






  7. #17
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    التنويري اليهودي: فكر
    Haskalah Thought
    انطلق دعاة حركة التنوير اليهودية من المنطلقات نفسهاالتي انطلقت منها حركة الاستنارة الغربية بكل محاسنها ومساوئها وبكل تعميماتهاوتناقضاتها (وأهم هذه التناقضات التناقض الحاد بين الاتجاه نحو العام والمجرد منجهة والاتجاه نحو الخاص والمحسوس من جهة أخرى ثم تصفية الثاني لحساب الأول). ولكن،حركة التنوير اليهودية كان لها طابعها الخاص وموضوعاتها المتميِّزة، نظراً للخصوصيةالنسبية للجماعات اليهودية في المجتمع الغربي.

    ومن الموضوعات الأساسية التيطرحها الفكر التنويري اليهودي مسألة الشخصية اليهودية وخصوصيتها المفرطة وطفيليتها. فقد رأى دعاة التنوير أنها شخصية جيتوية متمسكة بتراثها وهويتها بشكل يفرض عليهاالعزلة. وقد تبنَّى دعاة التنوير الصورة النمطية الاختزالية التي ترسمها أدبياتمعاداة اليهود لليهودي (وهي الصورة التي تبناها الصهاينة فيما بعد).

    كمابيَّن دعاة التنوير ما تصوروه طفيلية اليهود وهامشيتهم، وهي سمات مرتبطة بالوظائفالتقليدية لليهود ومسألة التجارة والربا (أي دور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية)،فطالب دعاة التنوير بضرورة تغيير ذلك حتى يمكن تحويل اليهود من عناصر هامشية منعزلةإلى عناصر منتجة مندمجة، أي تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج بحيث يمكنهم التكيفمع الوضع الاقتصادي الجديد. كما طالبوا بضرورة تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعةوالحرف اليدوية. ولم يكن للدعوة إلى تحديث وظائف اليهود وحرفهم ومهنهم مضموناقتصادي وحسب وإنما كان لها مضمون ثقافي ونفسي عميق، إذ كانت دعوة إلى أن يتحركأعضاء الجماعة من مسام المجتمع كجماعة وظيفية وسيطة منعزلة لها ثقافتها الخاصة إلىنخاعه أو صلبه. فيصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع، يتحدثون بلغته ويرتدون أزياءهوينتمون إليه ويدينون له وحده بالولاء. ولذا، كان من القضايا الأساسية التي طرحتهاحركة التنوير إشكالية اللغة إذ كانت الجماعات اليهودية في شرق أوربا تتحدثاليديشية. ولذا، شجع دعاة التنوير الاندماج اللغوي، فنادوا بما سموه «النقاءاللغوي». ذلك أن تنقية اللغة التي كان يتحدث بها اليهود كفيلة، حسب تصوُّرهم، برفعمستواهم الحضاري. ولذلك، طالبوا بألا يستعمل اليهود اليديشية، وأن يتعلموا بدلاً منذلك اللغة الأم سواء كانت الروسية أو الألمانية أو البولندية. كما دعوا إلى إحياءاللغة العبرية باعتبارها لغة التراث اليهودي الأصلي. ومع هذا، كان هناك من دعاةالتنوير في روسيا وبولندا من كتب أدبياته باليديشية وطالب بأن تصبح اليديشية اللغةالقومية ليهود شرق أوربا.

    وكانت قضية التربية القضية الأساسية بالنسبة إلىدعاة التنوير بسبب ما تصوروه من استغراق الجماعات اليهودية في التخلف والخصوصية. فقد كان ما تصوروه من الاعتقاد السائد بين أعضاء الجماعات اليهودية أن التلمود هوالكتاب الوحيد الجدير بالدراسة، وأن الدراسة العلمية غير الدينية لابد أن تبقىثانوية وتوظَّف في خدمة الدراسة الدينية. ونادى دعاة التنوير اليهودي بأن تكونالمدارس التلمودية العليا (يشيفا) مدارس لإعداد الحاخامات وحدهم، وطالبوا اليهودبأن تتم العملية التعليمية خارج الإطار الديني وأن تشمل الجماهير كلها وليسالأرستقراطية الفكرية وحدها من الحاخامات وغيرهم. كما طالبوا إخوانهم في الدين بأنيرسلوا أولادهم إلى المدارس غير اليهودية حتى يتقنوا كل الفنون العلمانية، مثلالهندسة والزراعة، وشجعوا ممارسة الأعمال اليدوية، كما دافعوا عن تعليم المرأة. وبالفعل، بدأت المدارس اليهودية العلمانية تظهر، لأول مرة في تاريخ الجماعاتاليهودية الأوربية، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وافتُتحت أول مدرسة يهوديةلتعليم المرأة في روسيا عام 1836. وكان دعاة التنوير يرون أن التعليم العلماني هوالسـبيل إلى تحـديث اليهود ودمجهم وعلمنتهم.

    ومن القضايا الأساسية التيطرحها دعاة حركة التنوير كذلك، قضية ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، فظهر مؤرخونيهود عديدون مثل هاينريش جرايتز ونحمان كروكمال، كما ظهر علم اليهودية الذي يُعَدُّموريتز ستاينشنايدر وسولومون ستاينهايم من أهم أعلامه.

    وقد حاول دعاةالتنوير إعادة تنظيم الجماعة اليهودية من الداخل، فطالبوا بإلغاء القهال وأشكالالإدارة الذاتية التقليدية، وكانوا في هذا يسـتجيبون لدعوة الدولة المركزية إلى أنيدين المواطـنون لها وحدها بالولاء. ولكن، مع تغيير حياة اليهود الاجتماعيةوالاقتصادية، أي بعد تحديثهم، كان ضرورياً أن يتم تحديث الديانة نفسها حتى لا ينصرفعنها الشباب اليهودي الذي كان قد بدأ يتساءل عن مدى جدوى وجدية مصطلحات مثل «المنفى» أو «صهيون» أو «العودة». وقد وجه دعاة التنوير سهام نقدهم إلى التراثالقومي الديني اليهودي، فهاجموا فكرة الماشيَّح وأسطورة العودة، وحولوا فكرة جبلصهيون إلى مفهوم روحي أو إلى اسم المدينة الفاضلة التي لا وجود لها إلا بوصفها فكرةمثالية في قلب الإنسان. وأصبح الخلاص هو انتشار العقل والعدالة بين الشعوب غيراليهودية، ولم يَعُد مرهوناً بالعودة إلى أرض الميعاد. وهاجم دعاة التنوير التراثاليهودي الشفوي أو الشريعة الشفوية وكُتبها الدينية مثل التلمود والشولحان عاروخ،وأبقوا على التراث اليهودي المكتوب وحده. وذهبوا إلى أن من حقهم العودة إلى التراثالأصلي نفسه بدون التقيد باليهودية الحاخامية، كما هاجموا الحركات والكتب الصوفيةالعديدة التي أفرزها التراث اليهودي، مثل الحسيدية وكتب القبَّالاه. وحاولوا أنيُدخلوا نزعة عقلانية على اليهودية، فأحيوا كتابات المفكر العربي (الإسلامي) المؤمنباليهودية موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بإدخال التعليم غيرالديني على الدراسات الدينية اليهودية. ويُعَدُّ المفكر الألماني موسى مندلسون،الذي تأثر بأعمال موسى بن ميمون، أباً للتنوير اليهودي. ولكن من الأهمية بمكانتبيان أن حركة الإصلاح الديني التي حققت نجاحاً فائقاً في ألمانيا وانتقلت منها إلىالولايات المتحدة، حيث يشكل اليهود الإصلاحيون والمحافظون الأغلبية الساحقة، فشلتتماماً في شرق أوربا. ولذا، وبدلاً من حركة الإصلاح الديني، نجد أن ما انتشر بينشباب اليهود هو النزعتان الإلحادية والثورية.

    وقد زعزع هذا كيان السلطةالدينية التي كانت تتحكم في اليهـود، الأمر الذي جـعل هـذه السـلطة تقاوم التياراتالتنويرية وتحاول إفشالها. وهو ما كان يضطر دعاة التنوير إلى اللجوء أحياناً إلىالسلطات الحكومية لتساعدهم في فرض القيم العصرية على اليهود. وقد نجح الحسيديون، ثمالصهاينة في نهاية الأمر، في السيطرة على الجماهير اليهودية.

    ورغم فشل حركةالتنوير اليهودي في إنجاز كل أهدافها، فإنها تركت أثاراً عميقة في اليهودية. ولعلأهم هذه الآثار هو ظهور اليهودية الإصلاحية ودعاة الاندماج من الليبراليينوالثوريين اليهود الذين طالبوا بحل مشاكل اليهود، أي المسألة اليهودية، عن طريقالثورة الديموقراطية البورجوازية أو الثورة الاجتماعية الاشتراكية. غير أن حركةالتنوير مسئولة أيضاً بشكل ما عن ظهور الصهيونية. وقد هاجم دعاة التنوير فكرةانتظار الماشيَّح الذي سيأتي بالخلاص، ونادوا بأن على اليهود الحصول على الخلاصبأنفسهم. وقد أزالت هذه الدعوة الحاجز الوجداني الذي كان يقف بين اليهود (المتدينينوغير المتدينين) والصهيونية، إذ أصبحت العودة إلى فلسطين ممكنة دون انتظار مقدمالماشيَّح. كما هاجم دعاة التنوير مفاهيم أخرى، مثل العودة والشعب المقدَّس، بحيثأسقطوا البعد الديني المجازي، وكان هذا تمهيداً لتحويلها إلى مفاهيم ذات طابع دنيويوضعي حرفي فتحوَّلت صهيون إلى موقع للاستيطان وتحوَّل الشعب المقدَّس إلى شعببالمعنى العرْقي أو الإثني. كما أن فكر حركة التنوير كان يهدف إلى تطبيع اليهود، أيأن تكون الشخصية اليهودية شخصية طبيعية، ويصبح اليهود أمة مثل كل الأمم، وتطوَّرهذا المفهوم ليصبح الدعوة إلى تأسيس الدولة الصهيونية حتى يكون للشعب اليهودي دولتهالمستقلة شأنه في هذا شأن كل الشعوب.

    وخلقت حركة التنوير في شرق أوربا طبقةوسطى يهودية متشربة ببعض الأشكال الثقافية اليهودية الخاصة ولها ولاء كامل لتراثهاالديني الغربي، ولكنها كانت في الوقت نفسه مُشبَّعة بالأفكار السياسية والاجتماعيةالغربية من قومية إلى إشتراكية. وهذا الازدواج الفكري، أو التعايش بين نقيضين، هوالذي أفرز القيادات والزعامات الصهيونية القادرة على التحرك في إطار معتقداتهاالتقليدية المتكلسة، والتي تجيد في الوقت نفسه استخدام المصطلحات والوسائلالعلمانية. وقد عمَّق التناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربية (الاتجاه نحو العام والمجرد والآلي مقـابل الاتجـاه نحـو الخاـص والحــسي والعضوي) هذا التناقض. فعلى حين أن النزعة الأولى نحو العام تطالب بدمج اليهود وبتخليهم عنخصوصيتهم، تتجه النزعة الحسية (والرومانسية) نحو تأكيدها والمطالبة بتقوية الوعيالقومي. وهذا التناقض يظهر حتى عند مندلسون نفسه، أهم دعاة التنوير. فاليهودية هيدين العقل (العام)، ولكن شعائرها مُرسَلة ومُوحىبها (الخاص). ولذا، فإن العقائدالأساسية عامة ومُرسَلة لكل البشر، أما الشعائر فهي مقصورة على اليهودية وهي مصدرهويتهم وعلى اليهود الحفاظ عليها. وقد اتبع صموئيل لوتساتو الإستراتيجية نفسها فيفلسفته. وأخذت رقعة العام في الانكماش في كتابات المفكرين اليهود (كما حدث فيالحضارة الغربية نفسها) حتى نصل إلى علم اليهودية، وهو علم كان من ناحية يتكون مندراسات علمية نقدية عقلانية تهدف إلى الكشف العلمي عن الحقيقة التاريخية أوالاجتماعية أو الأنثروبولوجية الكامنة وراء القصص الديني، ولكنه كان، من ناحيةأخرى، علماً يهدف إلى اكتشاف ماضي اليهود وإنجازاتهم الحضارية المتميِّزة والمنفردةحتى يكتشفوا خصوصيتهم ويقووا وعيهم القومي بها.

    ويظهر هذا التناقض فيالتأرجح بشأن قضية اللغة، فقد بدأت حركة التنوير بمهاجمة اليديشية باعتبارها لغةغير طبيعية شاذة، وألمانية منحطة وغير عقلانية، وطالبوا بالعودة إلى العبريةباعتبارها لغة طبيعية وربما عقلانية. ولكن العبرية هي عودة للماضي، وهي بعث رومانسيللغة لم يَعُد يتحدث بها أحد، فأُسقطت العبرية، وتم تبنِّي الألمانية أو اللغةالقومية سواء الروسية أو البولندية. ثم ظهرت الدعوة إلى اليديشية نفسها باعتبارهااللغة العضوية والمحلية والجماهيرية. وتظهر الازدواجية في الآداب المكتوبة بالعبريةفهو دعوة إلى الانفتاح على الآداب الغربية وتبنِّي أشكالها الحديثة، ولكن لغة هذهالآداب العبرية لغة ميتة تم بعثها. كما يظهر التناقض في حركة الإصلاح الدينياليهودي، إذ كان من ثمراته اليهودية الإصلاحية التي تدعو للاندماج وإسقاط العزلة،والتمسك بالعقلانية. ولكن من ثمراته أيضاً اليهودية المحافظة التي رفضت الشريعةاليهودية التقليدية وكثيراً من الأشكال التقليدية، ولكنها حوَّلت هذه الأشكال نفسهاإلى تراث شعبي عضوي يشبه المطلق. ومن ثم، فهي تهاجم اليهودية الحاخامية التقليدية،والعقيدة اليهودية بكل مطلقاتها، ولكنها تتمسك بالتراث العضوي اليهودي بوصفه مطلقاًلا يمكن التساؤل عنه. ومن هنا، كان الهجوم العقلاني على أنبياء اليهود وعلى التراثالديني اليهودي باعتباره تراثاً غيبياً معادياً للإنسان. ثم يتبع ذلك البعثالرومانسي للبطولات العبرية لفترة ما قبل اليهودية، مثل شمشون وشاؤول، وهي بطولاتتجسِّد عناصر لا عقلانية خارقة. ويظهر التناقض كذلك في الدعوة إلى العودة إلىالطبيعة والاندماج بها، فهي تعني أن يترك اليهودي الجيتو المظلم ويترك مغارتهاليهودية ليختلط بعالم الأغيار ويقوم بالعمل اليدوي والأعمال الزراعية والإنتاجيةالمختلفة التي حُرم منها. ولكن هذه الدعوة تصبح، كذلك، دعوة إلى العودة إلى الطابعالمحلي وإلى التراث القومي العضوي الطبيعي.

    ويتضح التناقض نفسه، في موقفالحركة الصهيونية من الغيبيات الدينية. فقد نظرت الحركة الصهيونية للمفاهيم الدينيةباعتبارها مفاهيم لا عقلانية متجاوزة للمادة، ولذا دعت اليهود لأن يكونوا طبيعيينلا يختلفون عن البشر ولا يتحدثون إلا عن القانون الطبيعي (المادي) العام ولا يدورونإلا في إطاره. وانطلاقاً من هذا تم رفض الدين والماشيَّح وكل الغيبيات. ولكن تمتبنِّي بعض هذه الأفكار والغيبيات المرفوضة (مثل الشعب اليهودي والأرض) بعد أنأُفرغت من مضمونها الديني وتم إضفاء المطلقية عليها، أي أنه تمت استعادة القداسة منداخل المادة ومن ثم تم تشجيع الخصوصية والتفرُّد. فالشعب اليهودي شعب مثل كلالشعوب، ولكنه شعب ذو رسالة خاصة وحقوق مطلقة. وهو يؤسس دولة ديموقراطية مثل كلالدول الأخرى، ولكن هذه الدولة تتمتع بقداسة لا نظير لها حتى أنها تحل محل الرب فيوجدان اليهود. والمستوطن الصهيوني سيعود إلى الطبيعة يلتصق بها، ويعمل بيديه فيالأرض، ويتحرر من الاستغلال والملكية الخاصة ومن كل ما يميِّز الإنسان عن أخيهالإنسان. ولكننا نكتشف أن الأرض ليست الأرض بشكل عام بل الأرض المقدَّسة الخاصةالمقصورة عليه. ومن ثم نجد أن هذا الداعي إلى الإخاء الإنساني والعالمي يقتل العربويرفض السماح لهم بأن يزرعوا الأرض معه. ولعل هذا الجانب في الصهيونية هو سرجاذبيتها للعالم الغربي، فهي محاولة ماهرة لحسم التناقض الكامن في الفكر العلماني. وهذا التناقض هو الذي جعل بوسع الصهيونية التوصل للخطاب الصهيوني المراوغ، بمقدرتهالتعبوية الهائلة والذي جعل من الممكن استيعاب يهود الغرب من دعاة الاندماج ويهودالشرق من دعاة الانعزال والهجرة الاستيطانية.







  8. #18
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    دعاة التنوير اليهودي)المسكليم)
    Maskilim
    «مَسْكليم» كلمة عبرية مفردها «مَسْكيل» وهي لفظةتكريم عبرية وتعني «العالم» أو «الرجل المستنير»، وهي مشتقة من كلمة «سيكيل»ومعناها «ذكاء» والتي استخدمت بعد ذلك بمعنى «استنارة». وقد استُخدمت هذه الكلمةلأول مرة في إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم صارت تعني في البلادالسلافية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، العالم اليهودي الذي يتصف بحب المعرفةويكافح من أجل البعث الحضاري لليهود ويبشر بحركة التنوير اليهودية ومُثُل حركةالاستنارة الغربية.

    وقد أحـدَث دعـاة التنوير ثورة في عـالم اليهود وفيمسار تواريخهم، إذ قدموا أنفسهم باعتبارهم أعلم بمصلحة اليهود من القيادةالتقليدية، وعلى أنهم بما لديهم من علم ومعرفة بالعالم الحديث أكثر قدرة علىالتعبير عن هذه المصالح. وكانوا يرون أنفسهم، أساساً، بشراً لا يهود اً، وطليعةحضارة إنسانية عالمية يبشرون بها بين اليهود الذين يتمسكون بحضارتهم المتخلفة.

    وحاول دعاة التنوير إعادة صياغة الهوية اليهودية وتحديثها، فكانوا يتقدمونبالبرامج والمشاريع للحكومات الغربية المختلفة حتى يتم تحديث اليهود. وعلى سبيلالمثال، تعاون هرتز هومبرج مع الحكومة النمساوية لفرض الصبغة الألمانية على يهودجاليشيا وأسس فيها ما يزيد على مائة مدرسة يهودية ألمانية في الفترة بين 1787و1800.

    ويمكن أن نفرِّق بين دعاة التنوير في شرق أوربا من جهة ودعاةالتنوير في وسطها (والذي كان يُطلَق عليه في الأدبيات اليهودية اسم «الغرب») من جهةأخرى. ففي الغرب، تمكَّن دعاة التنوير من أن يمسكوا بزمام الموقف ويقوموا بتغييرمعالم حياة الجماعة اليهودية، الأمر الذي يتضح في اليهودية الإصلاحية وغيرها منالحركات. أما في شرق أوربا، فكان الوضع جد مختلف، إذ ظل دعاة التنوير أقلية صغيرةمُحاصَرة، ولم يستطع سوى الأثرياء منهم المجاهرة بآرائهم. أما الفقراء، فكانوايهربون إلى مراكز التنوير في الغرب. ونظراً لصغر عددهم وهامشيتهم، لم تظهر حركةدينية إصلاحية في الشرق على غرار ما حدث في الغرب. وآمن دعـاة التنوير بقـوة الدولةباعتبـارها قـوة مطلقة، واستغلوا المقولة الدينية اليهودية « شريعة الدولة هيالشريعة » لإعطاء شرعية دينية لهيمنة الدولة على اليهود وغير اليهود. واستعان دعاةالتنوير بالسلطات الحكومية لضرب القوى التقليدية داخل الجماعة اليهودية، وقاموابنضال لا هوادة فيه ضد الحسيديين، وساعدوا السـلطات في اضطهاد التسـاديك (زعماءالحسـيدية) وفي مصادرة كتبهم. وظل هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن حينما بدأ دعاةالتنوير يتبنون مُثُلاً اجتماعية ثورية فانقلب الحال، واستعانت القيادة التقليديةبالسلطات ضد دعاة التنوير الثوريين، مؤكدة لها أن اليهود المتمسكين بالتقاليدالدينية هم وحدهم الخاضعون للحكومة المتعاونون معها.

    وقدم دعاة التنويرنقداً متكاملاً للشخصية اليهودية التقليدية، في طفيليتها وهامشيتها وعدم انتمائها. وهو النقد الذي ورثه كل من الصهاينة والمعادون لليهود. ومن الملاحَظ أن كلمة «مسكليم» لها إيحاءات قدحية في الكتابات الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية.

    المسـكليم
    Maskilim
    «مسكليم» كلمة عبرية تشير إلى دعاة حركةالتنوير بين اليهود. انظر: «دعاة التنوير اليهودي (المسكليم)».

    نفتالــي فيســيلي (1725-1805)
    Naphtali Wessely
    واحد من أهمدعاة التنوير الألمان، وشاعر يكتب بالعبرية. وهو أحد أصدقاء مندلسون وأحد أخلصأتباعه. وُلد لأسرة ثرية، فكان أبوه وجده من قبله يمتلكان مصنعاً للأسلحة ويعملانمتعهدي تموين للأسرة المالكة الدنماركية، أي أنهما كانا من يهود البلاط. تلقَّىفيسيلي تعليماً دينياً وغير ديني، وأتقن بعض اللغات الأوربية واللغة العبرية. وقضىبضعة أعوام في أمستردام وكوبنهاجن حيث تعرَّف إلى مندلسون.

    نشر فيسيلي بعضالدراسات الدينية من بينها تعليق على أحد كتب التلمود. ولكنه ذاع صيته حينما نشرعام 1782 كتيباً بالعبرية بعنوان دبري شالوم فائيميت (كلمات السلام والحق) كانبمنزلة مانفستو لحركة التنوير بعد صدور براءة التسامح عام 1782، وقد تُرجم هذاالكتيب إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية. كما ساهم فيسيلي في التعليق على كتابأسفار موسى الخمسة الذي أعده مندلسون. وفي عام 1788، نشر سيفر هاميدوت (كتابالأخلاق) وهو تحليل نظري للقضايا الأخلاقية.

    ولكن أهم أعماله هو قصيدتهالبطولية شيري تيفئيريت (قصائد المجد) وهي ملحمة عن الخروج مقسمة إلى ستة أقساموثمانية عشر كتاباً. وقد استغرق تأليفها نحو عشرين عاماً وأصبحت نموذجاً لمعظمالجهود الشعرية لحركة التنوير، وهي متأثرة بقصيدة الشاعر البولندي كلوبستوك«المسيح».وليست للقصيدة قيمة أدبية تذكر، وهي أيضاً ليست قصيدة تاريخية تحاولالحفاظ على الإيهام التاريخي،وإنما هي تعبير عن أفكار حركة التنوير وُمُثلها: فموسى، قائد العبرانيين، يشبه دعاة حركة التنوير الألمان، بل ويشبه موسى مندلسونعلى وجه التحديد.
    ويُعَدُّ إسهام فيسيلي الأساسي في الأدب المكتوب بالعبريةأسلوبه الذي كان يتسم بالبلاغة برغم زخرفته وتأنقه الزائد، وقد كان أسلوبه نموذجاًللأدباء الذين يكتبون بالعبرية من بعده وقد أدخل فيسيلي تعديلات على عروض الشعرالمكتوب بالعبرية إذ تبنَّى الوزن المقطعي والسطر المكون من اثنى عشر مقطعاًوالمسمى «الإسكندري»

    وساهم فيسيلي في نشر أفكار مندلسون التربوية، وفيتوجيه النقد للأفكار التربوية السائدة في عصره بين أعضاء الجماعات اليهودية فيالغرب. وكان مهتماً بالتعليم الديني اليهودي، ولكنه ذهب إلى أن الدراسات التلموديةدراسات غير علمية وأن من الواجب توجيه اليهود نحو دراسة الحرف وأن يتلقوا تعليماًدنيوياً يهيِّئهم للاشتراك في الحياة حولهم. واقترح أن يتضمن هذا التعليم مبادئالعلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافيا واللغة الألمانية. وحاول أن يبرر دعوتهالعقلانية على أسس دينية، فقال: إن معرفة التاريخ تقوي معرفة اليهودي بتراثه، فيحين تساعده معرفة الجغرافيا على فهم الشعائر المقدَّسة. وقد لاقت آراؤه معارضة حادةمن الحاخامات. ولكن أفكاره، مع هذا، ساهمت في صياغة أفكار التربويين اليهود ممنجاءوا بعده، سواء كانوا من دعاة حركة التنوير أو كانوا من معارضيها.

    وبعدظهور براءة التسامح، سنحت أمامه الفرصة لوضع أفكاره موضع التنفيذ حينما أسس ديفيدفرايدلاندر عام 1778 المدرسة اليهودية الحرة، إذ تبنت هذه المدرسة منهجاً جديداًيمزج الدراسات الدينية بالدراسات الدنيوية. فكانت النصوص الدينية تُدرَّس بالعبرية،ولكن إلى جانب ذلك كانت هناك دروس دينية أيضاً تُدرَّس بالألمانية التي حلت محلاليديشية كلغة للتدريس. وكانت هذه المدرسة نموذجاً للمدارس الأخرى التي أُسِّست بعدذلك.

    موسى مندلسون (1729-1786)
    Moses Mendelson
    رائد حركةالتنوير اليهودية. وُلد في دساو (ألمانيا الوسطى) لأب فقير يعمل في كتابة مخطوطاتالتوراة أي لفائف الشريعة. وأُصيب بمرض في طفولته تسبَّب في تقوُّس عموده الفقريوأثر في جهازه العصبي. وتلقَّى مندلسون تعليماً تقليدياً على يد حاخام ثم سافر إلىبرلين حيث درس الطب والفلسفة واللغات اليونانية واللاتينية والإنجليزية والفرنسية،وكان هذا أمراً غير عادي بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في أوربا آنذاك. اشتغلمندلسون مدرساً خصوصياً لأولاد صاحب مصنع حرير ألماني يهودي ثم عمل محاسباً عنده،واستوعبت الوظيفة كثيراً من وقته، ولكنها أتاحت له فرصة الإقامة في برلين كيهودييتمتع بالحماية بسبب نفعه. وظل يعمل طيلة حياته تاجراً وتزوج من حفيدة يهودي البلاطصموئيل أوبنهايمر.

    صادق مندلسون عديداً من المثقفين الألمان في عصره منبينهم كانط ولسينج الذي كتب مسرحية نيثان الحكيم (1779) واستخدم مندلسون فيهاكنموذج لبطل المسرحية اليهودي الذي يتحدث عن الأخوَّة وحب الجنس البشري.

    قرأ مندلسون أعمال موسى بن ميمون وتأثر بنزعته العقلانية، كما تأثر بأعماللايبنتز وإسبينوزا. وذاع صيته في بداية الأمر بسبب كتاباته في فلسفة الجمال التيتُعَدُّ إسهاماً لابأس به في هذا الحقل الفلسفي، ثم نشر كتاب فايدون (1767) تناولفيه موضوع الخلود الشخصي في شكل حوار أفلاطوني يؤكد فيه فكرة خلود الروح وأن الموتلا يعني الفناء الكامل، وبيَّن أن الرب الخيِّر ما كان ليغرس هذه الفكرة في روحالإنسان إن لم يكن هناك خلود حقيقي للروح. ويتضح في الكتاب مدى تأثر مندلسون بمفكريعصر العقل والاستنارة والفلاسفة الربوبيين، الذين كانوا يؤمنون بالخالق دون إيمانبأي دين ولا حتى بالآخرة. وقد ذاع صيت مندلسون بعد هذا الكتاب وكان يشار إليه بأنه «أفلاطون الألمان وسقراط اليهود». ورُشح مندلسون لأكاديمية العلوم في برلين ولكنالملك شطب اسمه من قائمة المرشحين. ودخل مندلسون في نقاش حاد مع المفكر الدينيالمسيحي السويسري يوحنان لافاتر الذي طلب إلى مندلسون أن يثبت زيف الدلائل على صدقالعقيدة المسيحية أو أن يفعل ما كان سيفعله سقراط لو كان في الموقف نفسه، أي أنيتنصَّر.

    لكل هذا، دخل مندلسون مرحلة فكرية ثانية ظهر فيها اهتمامه باليهودواليهودية، فبذل قصارى جهده كي يقضي على العزلة الفعلية والنفسية لليهود. وحاول أنيحطم ما أسماه بالجيتو العقلي الداخلي الذي أنشأه اليهود حول أنفسهم لموازنة الجيتوالفعلي الخارجي الذي كانوا يعيشون فيه حتى عهد قريب، فأنشأ مدرسة للأطفال في برلينلتعليم الألمانية والحرف اليدوية إلى جانب العلوم التقليدية، وهاجم استخداماليديشية، وأصدر عام 1750 مجلة لنشر ثمار الثقافة العالمية بعنوان كوهيليت موسار (الواعظ الأخلاقي) مقلداً أسلوب مجلتي إسبكتاتور و تاتلر، ولكنها منيت بالفشل ولميظهر منها سوى ثلاثة أعداد. ثم نشر عام 1783 مجلة هاميئاسيف (الحاصد أو الجامع) التي كانت تُعَدُّ أهم مجلات حركة التنوير، واستمر نشرها حتى عام 1811.

    ونشر مندلسون عام 1770 طبعة مشروحة من سفر الجامعة، كما نشر تعليقاًبالعبرية على كتاب موسى بن ميمون عن المنطق. وانتهى مندلسون من ترجمة أسفار موسىالخمسة إلى الألمانية والتي كُتبت بحروف عبرية، وكتب تعليقاً بالعبرية (بيور) عام 1783. وقد نُشرت الترجمة مع تعليقات وشروح كتبها معه مؤلفون يهود آخرون من بينهمنفتالي فيسلي وهيرتز هومبرج وياروسلاف. ويُعَدُّ هذا العمل من أهم أعمال عصرالإعتاق والتنوير، فهو الخطوة الأولى التي خطاها أعضاء الجماعة اليهودية نحوالحضارة الغربية العلمانية الحديثة، وقد حرَّم الحاخامات تداولها. كما ترجم مندلسونبعد ذلك المزامير ونشيد الأنشاد إلى الألمانية، وكتب كريستيان دوم عمله الشهير عننفع اليهود وتحسين أحوالهـم بخصوص إصلاح مكانة اليهود المدنية، الذي يتناول فيه هذهالقضية بعد أن حثه مندلسون على ذلك. ويُقال إنه اشترك معه في كتابته وإن كان اختلفمعه بعد ظهور الكتاب، لأن دوم طالب بمنح اليهود بعض الحقوق المدنية وأوصى بعزلهمداخل الجيتو والاحتفاظ بمؤسسات الإدارة الذاتية وألا يشغلوا وظائف عامة.

    وفي عام 1782، قام أحد أصدقاء مندلسون بترجمة كتاب منَسَّى بن إسرائيل الذييدافع فيه عن اليهود ونفعهم، وكتب له مندلسون المقدمة. وأثار الكتاب نقاشاً حاداًلأنه نادى بضرورة إلغاء حق الحاخامات في طرد اليهود من حظيرة الدين (حيريم). وردعليه أحد النقاد مبيناً أن مثل هذا المطلب غير منطقي لأن القسر الديني هو أحد أعمدةاليهودية، وزعم أن مندلسون اقترب (في موقعه هذا) من المسيحية التي لا تستند إلىالشرائع والقواعد وإنزال العقوبات بمن لاينفذها وإنما إلى العقائد الأخلاقية غيرالمرتبطة بنظام عقوبات.

    واضطُر مندلسون إلى كتابة أورشليم: أو عن السلطةالدينيـة والعقيـدة اليهـودية (1783) للرد على الانتقادات الموجهة إليه. والكتاب فيجزئه الأول يشبه كتاب إسبينوزا في دفاعه عن الحرية الدينية وحرية الضمير إذ أنللدولة وحدها، من وجهة نظره، حق استخدام القوة من أجل مصلحة المواطنين. ولكن لاالدولة ذاتها ولا الكنيسة لها الحق في فرض أية قيود على عقيدة الإنسان، أو علىمبادئه، ولا يمكن تحديد مكانة الإنسان في المجتمع أو حقوقه بناء على عقيدته. ومن ثمطالب مندلسون بمنح كل فرد حرية العقيدة، ليقرر كلٌّ ما يشاء حسبما يمليه عليه ضميرهوتصوُّره الأخلاقي. وإذا ما أرادت الكنيسة أو أية مؤسسة دينية أن تبشر بعقيدتها،فلابد أن تلجأ إلى الإقناع لا القسر وطالب بفصل الدين عن الدولة.

    ولكنيُلاحَظ أن ما يقرره الضمير الفردي لا يتجاوز البتة رقعة حياة الفرد، إذ يظل للدولةالحق الكامل فيما يختص بالمصلحة العامة والحياة العامة. وهذا يعني أن مندلسون كانيحاول أن يطرح على اليهود التحدي الذي طرحه عليهم عصر الإعتاق والانعتاق بأن يصبحاليهودي مواطناً لا عضواً في جماعة إثنية دينية، وأن يكون ولاؤه فيما يختص بالحياةالعامة للدولة وحدها. ويمكنه أن يحتفظ بولائه فيما يختص بالدين لأعضاء جماعتهالدينية حسبما يمليه عليه ضميره، أي أن يصبح اليهودي مواطناً في الشارع يهودياً فيمنزله.

    ويتوجه مندلسون في الجزء الثاني من الكتاب لمشكلة اليهود واليهودية،فيوجه سهام نقده إلى سيطرة الحاخامات، ويحاول أن يطرح تصوراً لليهودية عقلانياً فيأساسه، ولكن للوحي فيه مكاناً، فيذهب إلى أن هناك أسساً ثلاثة لليهودية هي: وجودالإله، والإيمان بالعناية الإلهية، وخلود الروح. وهذه الأسس حقائق بدهية مثلالحقائق الرياضية، كما تشكل الأساس الفلسفي لكل الأديان قاطبة. ومن ثم، لا يوجدتعارض بين العقل واليهودية في الجانب العقيدي، ولا يوجد بالتالي داع للقسر الديني. ولكن اليهودية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه فهي ليست ديناً مرسلاً وإنمامجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية السلوكية والشعائر المرسلة، فهي ديانة لاتهدف إلى تقنين طريقة تفكير اليهودي وإنما لوضع أسس لسلوكه.

    واليهودية لاتطلب الإيمان بأية عقائد يهودية محددة أو حقائق خاصة بالخلاص، ولا تنقل معرفةربانية خاصة، ولا توجد وصية واحدة من الوصايا العشر تتحدث عن الإيمان وإنما تتحدثكلها عن السلوك. وعندما تحدَّث الرب مع موسى في سيناء لم يذكر له أية عقائد بل ذكرله طريقة للسلوك يطبقها اليهود في حياتهم، أي أن العقل يصل إلى العقائد (العامةوالجوهرية)، والوحي يقرر الشعائر (الخاصة والمحلية)، وكأن العقل يمثل المضمونوالوحي يمثل الشكل. ويتبع مندلسون في هذا تمييز عصر العقل والاستنارة بين الحقائقالعقلية والحقائق التاريخية أو الدنيوية. فالأولى لا تتطلب سوى عملية عقليةلإثباتها وتقبُّلها فهي عامة ومجردة، أما الثانية فتتطلب قرائن حسية لإثباتها فهيمحددة بالزمان والمكان.

    ويقول مندلسون إن المملكة العبرانية المتحدة كانتثيوقراطية، أي أن العقيدة والدولة كانتا متوحدتين، ولذا فمن كان يرفض الانصياعللأوامر والنواهي الدينية يخرققانون الدولة ويتمرد عليها. وقد سقطت الدولة، ولكنلم تسقط القوانين أو الشريعة مع هذا لأنها مُرسَلة من الرب، ولذا فهي ملزمة لليهودوحدهم ولكل من يُولد يهودياً ولكنها لا تنطبق على غير اليهود ممن أُرسلت إليهمشريعة نوح. ويشير مندلسون إلى أن اليهود الذين كانوا يتنصَّرون، في القرون الأولىمن العصر المسيحي، كانوا يستمرون في ممارسة الشعائر اليهودية، على عكس غير اليهودالذين تنصَّروا، فهؤلاء لم يكونوا مُلزَمين باتباع هذه الشعائر وتنفيذها، أي أنهربط هنا بين الدين والعرْق أو الإثنية. وبذا، يكون مندلسون قد أعاد تعريف اليهوديةتعريفاً إثنياً، وهذه هي الصياغة الصهيونية. ويرى مندلسون أن القوانين الشعائريةوالأوامر والنواهي تحتفظ لليهود بروابطهم، وتمنحهم خصوصيتهم وتفرُّدهم، وهذهالصياغة تقترب هي الأخرى من الصياغات الصهيونية للقضية نفسها.

    وعلى هذا،فإن مندلسون يقبل (في الأمور الجوهرية) اللاهوت الطبيعي والفكر الديني لفلسفةالربوبية، ولكنه في الوقت نفسه يقبل التوراة في الشعائر. وقد قال ليو بايك، عن حق،إن اليهودية أصبحت بالنسبة إلى مندلسون خليطاً من الشريعة والديانة الطبيعية (الربوبية). ولكن هذا تجلٍّ للتناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربيبين النزوع العقلي نحو العام والمجرد والنزوع الحسي والتجريبي والرومانسي نحو الخاصوالمتعيّن.

    وتجب ملاحظة الفرق بين فلسفة مندلسون وفلسفة الربوبية، فبينمايرى مندلسون أن العقل والوحي مختلفان وأن الأول يسبق الثاني، يرى فلاسفة الفكرالربوبي أن العقل حينما يصفو يقترب من الوحي الأمر الذي يفترض وحدة العقل والوحي. كما ينبغي أيضاً إيضاح الفرق بين فلسفة مندلسون وفلسفة موسى بن ميمون والرؤيةالدينية العقلانية. فموسى بن ميمون يرى أن معرفة الإنسان بالحقيقة تستند إلى العقلوالوحي، ورغم أن الديانات في جوهرها عقلانية ولا يمكن أن يُوجَد تناقض بين مضمونالدين والعقل، فإن الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى الحقيقة دون وحي. أما مندلسون،فيرفض مسألة الطريق المزدوج لمعرفة الحقيقة والمصدرالمزدوج للحقيقة نفسها، فالوحيلا يمكنه أن يقنع أي إنسان بحقيقة شيء لم يدركه عقله. فكأن العقل هو النقطةالمرجعية النهائية والمطلقة في كل الحقائق الأساسية. ومع هذا، وكما أسلفنا، فإنالوحي له دوره، فهو مصدر الشعائر الخاصة بكل دين. ولأن مندلسون ترك مكاناً في نسقهالفكري للوحي، فإنه يختتم كتاب أورشليم بالدفاع عن استقلالية الأديان وخصوصية كلمنها، ويرى أن محاولة مزج كل الأديان في دين واحد مسألة غير ممكنة، ذلك أن تعدُّدالأديان أمر مهم للغاية.

    وتعريف مندلسون لليهود يقترب إلى حدٍّ كبير منتعريف إسبينوزا الذي يرى أن شريعة اليهود أُرسلت لليهود دون سواهم. وبينما كانإسبينوزا يرى أن هذه الشريعة فقدت حيويتها ووظيفتها مع نهاية الدولة العبرانية، كانمندلسون يؤمن بأنها مازالت ذات فاعلية. كما يرفض مندلسون حلولية إسبينوزا المتطرفة،فالرب حالٌّ ومفارق في آن واحد وهو رب يرسل الأوامر والنواهي ولكنه رحيم. والإلهليس مجرد نظام منطقي (النظام الضروري والكلي للأشياء) أو قانون طبيعي غير شخصي (كماكان إسبينوزا يتصوّر). وهذا يعني أن مندلسون احتفظ بشيء من الثنائية الأساسية التيتسم أي تفكير ديني وإن أصبحت باهتة للغاية. ولذا، فحينما علم أن صديقه ليسنج اعترفقبل موته بأنه من المؤمنين بفكر إسبينوزا وحلوليته وإلحاده، أصيبب مندلسون بالذعروألَّف كتاباً يهاجم فيه إسبينوزا، وكان آخر كتبه. ويبدو أن الجهد العصبي الذي بذلهفي كتابته كان فوق طاقته إذ تُوفي بعد عدة أيام من تسليم مخطوط الكتاب للناشر.

    ولكن، برغم وقوف مندلسون ضد النزعة العقلانية المتطرفة، فإن رؤيته فيجوهرها رؤية عقلية عقلانية لاتاريخية تنحو نحو العام والمجرد تختلف عن النزعةالحسية والتجريبية والنزعة الرومانسية التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر والتيتؤكد الخاص والمحلي والمتعيِّن واللاعقلاني. ويُلاحَظ كذلك أن تأكيد مندلسون أهميةالشعائر الدينية اليهودية، وكذلك إسقاطه أهمية العقائد، يقف في مواجهة تطوُّراليهودية اللاحقة إذ أن الاتجاه التنويري في اليهودية ركز على العقائد باعتبارهاالجزء العقلاني من اليهودية والجزء المشترك مع بقية البشر، وأهمل الشعائر باعتبارأنها مصدر العزلة والخصوصية. ثم تطوَّر هذا الاتجاه في اليهودية المحافظة بحيث أصبحما يميِّز اليهودية عقائدها الخاصة والفريدة، ولعل هذا يُفـسِّر سـبب تجاوز فلسـفتهالدينية بعد موته.
    وتأثر كل من كانط، وهيجل، في رؤيتهما لليهودية، بآراءمندلسون، إذ نظرا إليها باعتبارها ديناً شعائرياً عقلانياً عقلياً بارداً لا يتطلبالإيمان وإنما الممارسة الدينية وحسب مقابل المسيحية التي تؤكد عالم الباطن والروح. وخلص هيجل في مقدماته إلى أن اليهودية قد أصبحت مجرد حفرية مقابل المسيحية التي لاتزال ديناً حياً.

    وذاع صيت مندلسون لدرجة أن اليهود أطلقوا عليه لقب «موسىالثالث»، (باعتبار أن النبي موسى هو الأول، أما الثاني فهو موسى بن ميمون). ورغم أنمندلسون هو الأب الحقيقي لحركة التنوير، فإنه كان من بعض النواحي شخصية انتقالية إذكانت تسيطر عليه أحياناً تحفظات كثيرة بشأن ترجمة كل العلوم الدينية. كما كان يعارضالتعليم المشترك بين اليهود والأغيار خشية أن يؤدي مثل هذا التعليم إلى تحوُّلاليهود عن دينهم. وقد هاجمه المفكر الصهيوني بيريتس سمولنسكين لأنه طالب بفصل الدينعن القومية، ولأنه أعلن أن اليهودية لا يمكنها الاستمرار إلا بوصفها ديناً وحسب،وهو الأمر الذي يتنافى مع جوهر اليهودية كما يراها سمولنسكين، فهي دين وقومية في آنواحد.

    وقد تنصَّر أبناء مندلسون كلهم إلا واحداً، وهذه حقيقة يسوقها بعضاليهود الأرثوذكس والصهاينة دليلاً على أن حركة التنوير كانت حتماً ستؤدي إلىاختفاء اليهودية وإلى انصهار اليهود. ولكنهم لو نظروا إلى مصير عائلة هرتزلوأبنائه، حيث تنصَّر أحدهم وجُنَّ الآخر وانتحر، أما ابنته فكان سلوكها الجنسيشائناً إذ يُقال إنها احترفت البغاء، نقول لو نظروا إلى مصير عائلة هرتزل لاكتشفواأن ما يحدث لأبناء زعيم حركة سياسية أو فكرية ما، خصوصاً بعد وفاته، لا يصلح لأنيكون معياراً وحيداً للحكم على هذه الحركة.







  9. #19
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    دانيال إيتزيج (1733-1799(
    Daniel Itzig
    مصرفي ألماني يهودي وابن تاجر خيول، غيَّر اسمه عدة مرات، كانيُدعَى إتيزيج بن ديفيد جافي. تزوج في أسرة ثرية، وبدأ حياته المهنية مسئولاً عنالفضة في دار السك الملكية، وأصبح رئيس الجماعة اليهود ليصبح ضمن اليهود المحميين (بالألمانية: شوتسيودين Schutzjuden)، أي اليهود الذين يتمتعون بوضع خاص بسببتميُّزهم (مُنح إيتزيج حقوق التجار المسيحيين عام 1761). وصلت حياته المهنية إلىقمتها مع حرب السنين السبع 1756 ـ 1763 (كما هو الحال مع كثير من التجار اليهودويهود البلاط) وذلك حينما طلب فريدريك الثاني منه ومن يهودي بلاط آخر الاشتراك فيتمويل الحرب من خلال إصدار مجموعة من النقود المعدنية التي تقل عن قيمتها الحقيقية. وبعد الحرب، استثمر أمواله في صناعة الجلد والسلع الحديدية وأصبح أغنى رجل فيبروسيا (بل ويُقال في أوربا كلها)، وبنى قصراً لنفسه وأسس مصرفاً. وأصبح ممثلاً لكليهود بروسيا. وكان رئيساً للجنة التي شُكِّلت لدراسة حال الجماعة اليهوديــةولتقـديم الاقتراحـات التي تهــدف إلى تحسين أحوالها. ثم عُيِّن مستشاراً مالياًلوليام الثاني الذي منحه حقوق المواطنة الكاملة، له ولكـل أعضـاء أسـرته باعتبارهميهوداً نافعين (غير قابلين للترحيل)، وكانوا بذلك أول من حصل على هذا الحق. وفيعـام 1797، عُيِّن في منصــب مصـرفي البلاط ومفتش إنشاء الطرق.

    وكان إيتزيجيرى ضرورة تحويل اليهود إلى عنصر منتج، ولذا قرَّر أن يفتح مدرسة لأبناء الأسراليهودية الفقيرة كي يتعلموا فيها العلوم العلمانية إلى جانب العلوم الدينية وكانهذا يمثل ثورة حقيقية. وقد أدار هذه المدرسة (بعد موته) زوج ابنته ديفيد فرايدلاندر (المصلح الديني) ثم لازاروس بنديفيد. وكان ملحقاً بالمدرسة دار لنشر الكتب العبرية. قام إيتزيج (بإيعاز من زوج ابنته وموسى مندلسون) بمنع الحاخام هيرشل لفين (حاخامبرلين الأكبر) من إصدار أمر بطرد فيسيلس من حظيرة الدين (حيريم) بعد أن أصدر كتابهكلمات السلام والحقيقة (1782 ـ 1785). وكان إيتزيج مع هذا يرى ضرورة احتفاظ اليهودبعقيدتهم، فقرر في وصيته أن يُحْرَم من الميراث من يتنصَّر من ذريته. ولكنه، نظراًلتردده في موقفه، عاد وألغى هذا الشرط. وكانت مخاوفه في محلها، إذ لم يبق أحد مننسله يهودياً.

    ولنا أن نلاحظ ما يلي:

    1
    ـ يُعَدُّ إيتزيج نموذجاًجيداً لشخصية يهودي البلاط الانتقالية الذي يقف بين العالمين اليهودي والمسيحي.

    2
    ـ بسبب هذا نجده يلعب دوراً نشيطاً أساسياً في حركة التنوير والإصلاحالديني، وبخاصة في المجال التعليمي.

    3
    ـ كانت شخصيات مثل إيتزج هي النموذجالجديد الذي يُحتذَى لدى الشباب من أعضاء الجماعات اليهودية. ومنطق مثل هذهالشخصيات وسر نجاحها هو التخفف من اليهودية إلى درجة تقترب من التخلي عنها (أي أنيصبح يهودياً غير يهودي) وعادةً ما يكون نسل مثل هؤلاء غير يهود اسماً وفعلاً، كماحدث لنسل إيتزيج.

    4
    ـ ساهم إيتزيج بذلك في تقويض دعائم الإيمان الدينياليهودي ووضع أسس دنيوية للنجاح على أساس شروط الأغيار وساهم بذلك هو (وغيره) فيخَلْق التربة الخصبة والجو المواتي لظهور الحركة الصهيونية، وهي حركة ترفض اليهوديةوتقرر النجاح في عالم الأغيار من خلال آلياتهم وبشروطهم، والمشاركة في السلطة حتىيصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب.

    هـرتز هـومبرج (1749-1841(
    Herz Homberg
    تربوي ألماني يهودي من رواد حركة التنوير ودعاتها. تلقَّى تعليماًدينياً تقليدياً في بداية حياته، ثم تعلَّم الألمانية في السر، وبعدها تعلَّمالرياضيات وعدة لغات أجنبية في برلين وهامبورج. وتأثر هومبرج بأفكار روسو فيالتربية، وبقي من عام 1775 حتى 1782 مدرساً لابن مندلسون. ولكنه، وقد جذبته إصلاحاتجوزيف الثاني (إمبراطور النمسا)، انخرط في سلك التدريس في تريستا، وكان أول يهوديفي براغ ينجح في امتحان اختيار مدرسين للعمل في مدارس حكومية.

    وبعد أن قررالإمبراطور عدم السماح لليهود بالعمل إلا بعد تعلُّم الألمانية، وكانت قد تأسستمدارس يهودية لتحقيق هذا الهدف، عُيِّن هومبرج مشـرفاً عـاماً على هذه المدارسورقيباً على الكـتب في جاليشيا. ووضع كتيباً وجَّهه إلى الحاخامات يقترح عليهم فيهضرورة أن يكون التعليم اليهودي متكيفاً مع الحضارة الأوربية، كما دافع عن تعليمالعبرية والألمانية والحرف اليدوية وعن تعليم الفقراء. وأسس هومبرج مائة وسبعاً منالمدارس والفصول لتعليم اليهودية، كما أنشأ مدرسة لتخريج المدرسين، ولكن اليهود لميرسلوا أولادهم إلى هذه المدارس. وألقى هومبرج باللوم على الحاخامات باعتبارهمالمسئولين عن فشل اليهود في أداء واجبهم نحو الدولة، واتهمهم بأنهم يحتفظون بولائهملإرتس يسرائيل ويتحاشون الخدمة العسكرية. وقد اقترح هومبرج على السلطات إلغاءالمعاهد التقليدية، كما طالبهم بمنع استخدام العبرية وبأن يُفْرَض على كل الهيئاتاليهودية أن تستخدم مدرسين تم تدريبهم تدريباً حديثاً. وطالب بأن يُوجَّه اليهودإلى الحرف المنتجة وأن تُمنَح الحقوق المدنية لليهود الذين يطبقون قانون الدولة،كما طالب بأن تقوم الدولة بإلغـاء كل ما يميِّز اليـهود عن الأغـيار بما في ذلكاللحـية والأزياء الخاصة. ورغم أن الدولة كانت تقف وراء التجربة، إلا أنها فشلتفشلاً ذريعاً بسبب معارضة اليهود.

    ويبدو أن هومبرج كان عقلانياً لا يدرك أناللحظة التاريخية تساهم في صياغة الإنسان. ودفعه رفضه اليهودية الحاخامية إلى أنيطرح اقتراحات ثورية صبيانية مستحيلة مثل إلغاء منصب الحاخام وتدمير كل الكتاباتالحاخامية وإلغاء الشريعة الشفوية.

    استقر هومبرج بعد ذلك في فيينا وكانرقيباً على الكتب. ووضع عدة كتب دينية مدرسية اقترح في أحدها عقد اختبار إجباري لكلمن ينوي الزواج من اليهود. وعمل بين 1816 و1841 في براغ مشرفاً على المدارساليهودية. وتم تعميد أولاده الأربعة في حياته.

    لازاروس بنديفـــيد (1762-1832)
    Lazarus Bendavid
    أحد دعاة حركة التنوير بين يهود ألمانيا، ولهكتابات في الفلسفة أحرزت ذيوعاً في وقتها، كما أن سله كتابات تناولت موضوعات يهوديةنادى فيها بإصلاح اليهودية. وكان يرى أن الطريقة الوحيدة لوقف تنصُّر اليهود هياليهودية الإصلاحية. وقد تقبَّل بنديفيد فكرة نقد العهد القديم، وكان يذهب إلى أنالشعائر هي سبب ضعف اليهودية في عصره، ونادى بإلغائها. كما طالب بالابتعاد عنالشريعة الشفوية، وبيَّن أن الإيمان بالماشيَّح ليس إحدى العقائد الأساسية فياليهودية، وأن حصول اليهود على حقوقهم ومساواتهم بالأغيار هو في واقع الأمر عودةالماشيَّح.

    أيزيــك لفنســون (1788-1860(
    Isaac Levinsohn
    مؤسسحركة التنوير في روسيا، ويُسميه البعض «مندلسون روسيا». وُلد لأسرة يهودية ثرية،ونشأ في بلدة على حدود جاليشيا النمساوية. علَّم نفسه البولندية والألمانيةوالفرنسية، ويُعَدُّ من أوائل اليهود الذين أتقنوا اللغة الروسية. وعمل كمترجمللقوات الروسية أثناء الغزو الفرنسي عام 1812. تنقَّل بين عامي 1813 و1820 بين عددمن مدن شرق جاليشيا مثل برودي وتارنبول، وقام بالتدريس في المدارس اليهوديةالحديثة، وهناك تعرَّف إلى عدد من دعاة التنوير اليهود. وفي عام 1823، استقر فيمدينة كرمنتز ليكرِّس جهده ونشاطه في نشر فكره المتصل بإصلاح أوضاع اليهود.

    بدأ نشاطه الأدبي حينما كان في جاليشيا، فنشر قصيدة بالعبرية، كما نشرترجمة يديشية للتعريفة الجمركية الروسية الرسمية، وأعد كتاباً بالعبرية لتعليمقواعد اللغة الروسية، إلا أنه لم يُنشَر. وشهد عام 1828 ظهور أهم كتب لفنسون شهادةفي إسرائيل الذي يوجه فيه نقداً لاذعاً للمدارس الأولية الخاصة (حيدر) التي يتمركزمنهجها حول التلمود وهي مدارس تتبع طرقاً غير منهجية في التدريس ويُستخدَم فيهاالعقاب البدني، ولذا سماها لفنسون «غرف الموت». وقد عارض لفنسون استخدام اليديشيةكلغة للتدريس، وطالب باستخدام اللغة الألمانية أو الروسية. وحث اليهود على تعلُّماللغات الأجنبية والمواد العلمانية. كما طالب لفنسون اليهود بإعادة بناء حياتهمالاقتصادية والاجتماعية على أساس الابتعاد عن التجارة والاشتغال بالحرف الإنتاجيةالمختلفة. ولتدعيم وجهة نظره، كان لفنسون يشير دائماً إلى ممارسات مشاهير اليهود فيالماضي. وقد أغضبت أفكاره الدوائر الأرثوذكسية، ولكن كثيراً من الشباب اعتبر كتابهشهادة في إسرائيل إنجيلاً جديداً. وحصل لفنسون على جائزة مقدارها ألف روبل عن هذاالكتاب، وذلك لاتفاق أفكاره مع اتجاهات الحكومة الروسية لإصلاح أوضاع الجماعاتاليهودية في روسيا.

    وانتهى لفنسون من تأليف كتابه الثاني بيت يهودا (عام 1829)، ولكنه لم ينشره إلا بعد عشرة أعوام؛ نظراً للمعارضة الشديدة من قبلالحاخامات لطبعه، فهو عبارة عن تفسير لليهودية في ضوء فلسفة التاريخ. وفي محاولتهالإجابة عن إمكانية إصلاح اليهود واليهودية، يتبع لفنسون تفسير مندلسون الذي يرى فياليهودية قانوناً شاملاً فيما عدا القانون الإلهي، كما تشتمل على قانون مدني يختصبممارسات المجتمع والعلوم المطلوبة للحفاظ عليه وتطويره. وهذا القانون، كما يرىلفنسون، يمكن تعديله وإصلاحه طبقاً لروح العصر ومتطلبات الشعب. وفي الجزء الثاني منالكتاب، يقدِّم لفنسون عرضاً تاريخياً لتعاليم حكماء اليهود ومن بينهم مندلسون. ويُنهي لفنسون كتابه ببرنامج لإصلاح حياة اليهود في روسيا يشتمل على العناصرالتالية:

    أ) تأسيس مدارس أولية للبنين والبنات من الطبقات الفقيرة وضرورةتعليمهم حرفاً مختلفة. كما طالب بتأسيس كليات مركزية في وارسو وفلنا وأوديسا ليدرسفيها الموهوبون من الطلبة التلمود والقوانين والعلوم واللغات المختلفة.

    ب) تعيين حاخام أكبر ذى صلاحيات كبيرة بحيث يمكنه تعيين حاخامات ووعاظ في مدن روسيايخضعون لإشرافه على أن تساعده محكمة عليا دينية. كما طالب بتعيين لجنة من قياداتالجماعة للدفاع عن الفقراء والناس العاديين ضد قياداتهم وضد الأغنياء الذينيستغلونهم أسوأ استغلال.

    جـ) تعيين وعاظ ليقوموا بحثِّ الناس على السلوكالقويم وتشجيعهم على امتهان الحرف المختلفة، وليوضحوا لهم واجباتهم تجاه الإلهوتجاه أنفسهم وتجاه الآخرين وتجاه الدولة وتجاه البشرية عامة.

    د) توجيهيهود روسيا إلى العمل بالزراعة.

    وقد اشترت الحكومة الروسية ألفي نسخة منهذا الكتاب لتوزيعها في المعابد والمدارس العبرية. ورغم توجيه لفنسون النقد لطريقةحياة اليهود، وتأكيده ضرورة أن تُطبَّق إصلاحاته المقترحة دون أخذ موافقتهم، إلاأنه دافع عن اليهودية كديانة. ففي عام 1838، كتب دفاعاً حاراً ضد هجمات المرتدينوضد تهمة الدم في كتابه الذي يُسمَّى لا يوجد دم، وتُرجم هذا الكتاب إلى اللغةالإنجليزية فيما بعد. ومن أهم كتبه الأخرى زروبابل الذي صدر بعد وفاته في أوديساعام 1863 في شكل غير كامل، ثم صدر بعد ذلك في عدة طبعات مختلفة. وفي هذا الكتاب،دافع لفنسون عن التلمود واليهودية ضد هجمات ماكول (المبشر الإنجليزي)، كما نشرهجوماً باليديشية على الحسيدية.







  10. #20
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    جــبريل رايســر (1806-1863)
    Gabriel Riesser
    محامي ألماني يهودي، وأحد أهم دعاة حركة التنوير. وُلد فيهامبورج ودرس القانون في كيلي وهايدلبرج. لم يوفَّق في محاولته الاشتغال بالمحاماةوالقضاء، ولكنه على عكس كثير من معاصريه لم يتنصَّر ليحقق غرضه، وبـدلاً من ذلكأصرّ على أن يدافـع عن حـق اليهود، كمواطنين، في أن يحصلوا على حقوقهم كاملة. ودخلفي محاجة مع المفكر الديني العقلاني هـ. أ. ج. باولوس الذي ذهب إلى أن تمسُّكاليهود بدينهم جعل منهم أمة، ولذا ليس لهم الحق في أن يكونوا مواطنين، بل هم رعاياموضوعون تحت الحماية وحسب. كما أن باولوس ذهب إلى أن محاولة اليهود الاندماج فيالشعب الألماني، هي محاولة زائفة، ستؤدي إما إلى طردهم أو إلى إبادتهم. وقد ردرايسر على ذلك بأن إيمان اليهود بدينهم هو مسألة عقيدة شخصية، ومن ثم فهم متساوونمع المواطنين الألمان كافة حيث عاش الألمان واليهود في ألمانيا منذ عدة أجيال. ولميكن رايسر محافظاً على شعائر دينه في حياته الخاصة، ولكنه أصر على حق اليهود فيممارسة هذه الشعائر. وكان رايسر من أهم أعضاء معبد هامبورج الإصلاحي واليهوديةالإصلاحية.

    ونجح رايسر في كثير من جهوده إذ شغل عدة وظائف إلى أن أصبحعضواً في البرلمان في فرانكفورت (1848 ـ 1849)، كما أصبح نائباً لرئيسه وعضواً فياللجنة الدستورية، ثم شغل منصب عضو في محكمة هامبورج العليا، وكان أول ألماني يهودييُعيَّن في مثل هذا المنصب كما سُمِّي شارع باسمه في هامبورج.

    جمعيةتنميـة الثقافة بين يهود روســيا
    Society for the Promotion of Culture among the Jews of Russia
    جمعية ثقافية روسية أسسها عام 1863 في سانت بطرسبرج عدد منأثرياء الجماعة اليهودية في روسيا بغرض نشر الثقافة الروسية بين الجماهير اليهوديةوالإسراع بعملية التحديث والترويس بينهم.

    وكانت عملية التحديث والنموالاقتصادي التي بدأتها الحكومة القيصرية، والتي اتخذت شكلاً أكثر ليبرالية في عهدألكسندر الثاني (1855 ـ 1881)، قد أتاحت فرصة الحراك الاجتماعي والاقتصادي لأعضاءالجماعة اليهودية. ومن ثم، نشأت طبقة من التجار والأثرياء اليهود المتعاونين معالحكومة في عملية التحديث والداعين للدمج والترويس بين الجماهير اليهودية. وأعربليون روزنتال، أحد مؤسسي الجمعية، عن أن الدافع وراء تأسيس الجمعية هو الاتهاماتالتي كانت توجَّه للجماعة اليهودية والقائلة بأن الانعزال الديني والثقافيوالاجتماعي لليهود وطفيليتهم الاقتصادية هما السبب الرئيسي وراء عدم إعتاقهم وعدممنحهم حقوقهم المدنية. وكان القطاع الأكبر من الجماهير اليهودية رافضاً لعمليةالتحديث نظراً لما تسببت فيه من ضياع وظائفهم التقليدية وتدهور أوضاعهم الاقتصاديةوالاجتماعية، كما كان هذا القطاع من الجماهير رافضاً مسألة الدمج والترويس. ولكنهذا التحول كان ضرورياً في نظر أثرياء اليهود المتروِّسين حرصاً على مكانتهمالاجتماعية ومصالحهم الطبقية، خصوصاً أن عملية التحديث والتحوُّل الاقتصادي صاحبتهاظروف اقتصادية واجتماعية قاسية بالنسبة للجماهير الروسية بشكل عام، وهو ما كان يهددبوضع أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم من الأقليات الدينية أو الإثنية أو العرْقية فيموضع هجوم واتهام في حالة تأزُّم الأوضاع الاجتماعية وأثناء زيادة حدَّة الإفقار،وهو ما حدث بالفعل بعد تعثُّر عملية التحديث عام 1882.

    وقد واجه تأسيسالجمعية، في البداية، عدة اعتراضات من أكثر من جهة، فاليهود الأرثوذكس رفضواالمشروع خوفاً من آثاره السلبية على العقيدة اليهودية. أما دعاة التنوير، فطالبواباتخاذ إجراءات أسرع وأكثر راديكالية. وأما الحكومة الروسية، فكانت تخشى من تحوُّلهذه الجمعية إلى مؤسسة ذات قاعدة شعبية عريضة، ولذلك رفضت فتح أية فروع لها فيأنحاء البلاد، وبخاصة داخل منطقة الاستيطان، الأمر الذي أدَّى إلى تقليص تأثيرها فيالجماهير فيما بعد.

    وبعد مفاوضات طويلة، تقرَّر تحديد هدف الجمعية وتم النصعلى أنه تنمية الثقافة بين يهود روسيا ودعم المؤلفين والعلماء والطلبة اليهود،أماالسبيل إلى ذلك فيتحدَّد في تعليم اللغة الروسية للجماهير اليهودية وإصدار الكتبوالترجمات والدوريات باللغتين الروسية والعبرية.كما تقرَّر أن تعمل الجمعية تحتإشراف وزارة التعليم،وأن تقبل أعضاء من جميع الأديان والأجناس والطبقات والمراكز.

    وكان أول من ساهم في تأسيس وتمويل صندوق الجمعية أثرياء اليهود من رجالالمال، خصوصاً ليو روزنتال وعائلة جونزبورج التي انتُخب أحد أعضائها رئيساً لمجلسإدارة لجنة الجمعية. وكانت الجمعية تعتمد على تمويل عدد من أثرياء اليهود وهو ماترك أثره في طبيعة الجمعية ومشاريعها وتوجهاتها. وقد انضم للجمعية عدد من المثقفينوالمفكرين اليهود، مثل: أبراهام لفنسون، وأبراهام مابو، ويهودا جوردون، ومندل موخيرسفاريم، وغيرهم، كما جرت محاولات لجذب مفكرين وكُتَّاب وشخصيات عامة ليبرالية غيريهودية.

    وبرزت داخل الجمعية، منذ بدايتها، بعض الخلافات حول كيفية مخاطبةالجماهير ونشر الثقافة بينهم واللغة التي يجب نشرها. فكان هناك اتجاه يمثله ليوروزنتال يرى ضرورة بناء الجديد دون هَدْم القديم ودون المساس بالقيم والتقاليد التيتحترمها الجماهير اليهودية، وبالتالي فإن على الجمعية توفير تعليم محايد لا يثيرشكوك الجماهير أو مخاوفها أو يصدم معتقداتها بل يوفر لها قدراً من المعرفة بالعلوموالجغرافيا والتاريخ. كما فضَّل هذا الاتجاه استخدام اللغة العبرية في نشر الثقافةبين الشباب اليهودي والاهتمام بإصدار الكتب والدوريات العبرية. كما رفض هذا الاتجاهاستخدام اليديشية، مع العلم بأن الغالبية السـاحقة من الجمـاهير اليهـودية فيروسـيا لم تكن تعرف العبرية، فقد كانت لغة ميتة تقتصر معرفتها على الأرستقراطيةالدينية من كبار الحاخامات وخريجي المدارس التلمودية العليا (يشيفا). ولم يكنالاتجاه نحو بعث العبرية اتجاهاً شعبياً أو تقليدياً وإنما كان اتجاهاً صهيونياًيرفض وضع أعضاء الجماعات اليهودية في أنحاء العالم ويرمي إلى بعث قومي ومن ثم إلىالاهتمام بالعبرية. ومن ناحية أخرى، كان هناك اتجاه آخر داخل الجمعية يمثله د. شولسون وأ. هاركابي يدعو إلى ضرورة نشر اللغة الروسية بين أعضاء الجماعات اليهوديةوالمساهمة في تطوير وبلورة أدب روسي يهودي والعمل على هدم الحواجز التي تفصل بيناليهود وسائر أفراد الشعب الروسي والتصدي لجميع الاتهامات الكاذبة الموجهة لليهودأو اليهودية. كما كان هناك اتجاه أكثر تطرفاً بالنسبة لمسألة الترويس داخل الجمعية،وبخاصة في فرعها في أوديسا (تأسس عام 1867)، ويمثله رابينوفيتش وليو بنسكر، وكانهذا الاتجاه يطالب بترويس يهود روسيا بشكل كامل وسريع. وبالإضافة إلى كل هذا، كانتهناك مجموعة صغيرة يمثلها الحاخام شواباخر، وهو حاخام أوديسا، تطالب بتخصيص قسمداخل الجمعية لتعليم اللغة الألمانية للشباب حتى يكون في استطاعتهم الاطلاع علىالأعمال اليهودية المهمة التي كُتبت بهذه اللغة إلى جانب أن اللغة الألمانية كانتتعني فتح مجال التعرف على الثقافة الأوربية بشكل عام. واستقر رأي الجمعية في نهايةالأمر (عام 1864) على أن يكون نشر اللغة الروسية هو الهدف الأساسي وراء جميعأنشطتها حيث إن ذلك هو السبيل الوحيد لمشاركة الجماهير اليهودية في الحياة الروسية.

    وعندما أصبح يهودا ليب جوردون سكرتيراً للجمعية عام 1872، أدخل بعضالتعديلات على الجانب التنفيذي وقام بنشر هذه التعديلات في الصحافة العبرية حيثتضمنت الدعوة إلى ضرورة العمل على تطوير التعليم المهني والفني والمؤسسات الخاصةبها. وأعلنت الجمعية عن استعدادها لمساعدة الحرفيين اليهود على الاستيطان في جميعأنحاء الإمبراطورية الروسية، وطالبت الجمعية بإدخال تعديلات وتغييرات في الأطرالإدارية للجماعات اليهودية، والتأكيد على مبدأ دعاة التنوير الخاص بأن انعتاقاليهود سيتحقق فقط بعد أن يحقق اليهود تقدماً وتحسناً في المجال الروحي والأخلاقي.

    وتركزت أنشطة الجمعية في مجالات النشر والتعليم. ففي مجال النشر، اهتمتالجمعية بتوفير المراجع التي تساعد على تعليم اللغة الروسية، كما قامت بترجمة مايُسمَّى «التاريخ اليهودي» إلى الروسية حتى يتعرف إليه القارئ الروسي، وخصصت منحاًللكُتَّاب اليهود لتشجيعهم على الكتابة بالروسية. وتم التخطيط لإصدار نشرة فكريةوأدبية سنوية تضم أعمالهم، غير أنها لم تُصدر سوى نشرة واحدة نتيجة عدد من الصعوباتمن بينها عدم وجود عدد كاف من الكتابات والمواهب الأدبية، بالإضافة إلى القيودالرقابية والمخاوف الداخلية من توجيه أية انتقادات للعقيدة اليهودية. كما قامتالجمعية بدعم عدد من الجرائد الأسبوعية وبتمويل إصدار ملحق باللغة الروسية لجريدةهاكارميل الأسبوعية. وكان من أهم إنجازات الجمعية القيام بتجميع آراء الحاخاماتالواردة في التلمود وإصدارها باللغة العبرية عام 1871 ثم بالروسية عامي 1874 و1876. وكان الغرض من هذا العمل توفير مرجع للحاخامات لتحضير خطبهم بلغة البلاد، بالإضافةإلى تعريف الجمهور غير اليهودي بالقواعد والمبادئ الأساسية في التلمود. كما قامتالجمعية بترجمة العهد القديم إلى الروسية، وذلك أملاً في تحقيق النتائج الإيجابيةالتي حققتها هذه الخطوة في ألمانيا لحركة الاستنارة اليهودية.

    وفي عام 1873، قامت الجمعية بإصدار ترجمة جديدة للتوراة، كما خصَّصت أموالاً كثيرة لترجمةكتب الصلوات اليهودية (سدور) وكتب صلوات الأعياد (محزور)، وكذلك لتأليف عدد منالكتب المدرسية بالروسية ولدعم المفكرين اليهود لإجراء بحوث حول ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، كما خصَّصت الجمعية منحاً لمؤلفي الكتب باللغة العبرية فيالرياضيات والفيزياء والطبيعة والكيمياء والجيولوجيا. وقامت الجمعية أيضاً بدعمالدوريات العبرية، وهي دوريات كانت مهتمة بشكل خاص بالعلوم الطبيعية وبالتاريخوالسير الذاتية اليهودية. وإلى جانب ذلك، ساهمت الجمعية في إصدار كتابين فيالجغرافيا والتاريخ الروسي.

    وكانت الجمعية،سواء بجناحها المؤيد للغةالروسية أو جناحها المؤيـد للغة العبرية،معـارضة للغة اليديشية باعتبار أنها تمثلمرحلة بائدة. ورغم ذلك، أظهرت الجمعية استعدادها لدعم مجلة أسبوعية يديشية باعتبارأن ذلك سيساعد على توصيل المعرفة والمعلومات إلى قطاع أوسع من الجماهير اليهودية. كما خصصت بعض الموارد المالية لإصدار كتب باليديشية حول التاريخ اليهودي والروسي،ولكنها تراجعت عن ذلك عقب الانتقادات التي وُجِّهت لهذه الخطوة في كلٍّ من الصحافةالروسية والصحافة الروسية ـ اليهودية.

    أما بالنسبة للأنشطة التعليمية، فقدخصصت الجمعية جزءاً كبيراً من ميزانيتها لدعم ومساعدة الطلبة اليهود في مؤسساتالتعليم العالي الروسية، وبخاصة في سانت بطرسبرج، حيث اعتبرهم دعاة التنوير أفضلالمرشحين لقيادة الجماعة اليهودية. كما ساعدت الجمعية الطلبة على الدراسة فيالجامعات والمعاهد الأجنبية، ولكن الحكومة الروسية منعت ذلك عام 1879 باعتبار أنهمخالف للوائح الجمعية. وفي أعقاب الإصلاحات التي طُبِّقت على شبكة المدارس اليهوديةالحكومية والتي أدَّت إلى إغلاق كثير من هذه المدارس، قرَّرت الجمعية إقامة صندوقخاص لسد احتياجات المدارس الثانوية والابتدائية. كما اقترحت إدخال تعليم اللغةالروسية كمادة إجبارية في هذه المدارس، وإقامة قسم خاص للمواد العبرية، ودعم فصولالحرف الملحقة بالمدارس، والمساعدة في تأسيس معاهد للمعلمين داخل منطقة الاستيطان،والسماح بإلحاق عدد من الطلبة بهذه المدارس على نفقة الجمعية. كما شاركت الجمعية فيتأسيس المكتبات العامة.

    وزاد حجم العضوية في الجمعية من 175 عام 1864 إلى 287 عام 1873 ثم إلى 740 عام 1888. وكان المصدر الأساسي لتمويل الجمعية، وبخاصة فيالسنوات العشر الأولى، عائلتا جونزبورج وليو روزنتال. وخلال سنوات وجودها الـ 25أنفقت 286 ألف روبل على الطلبة اليهود في المدارس العامة والتعليم العالي.

    وشهدت التسعينيات من القرن التاسع عشر بعض التجديدات في الجمعية حيث انضمإليها عدد من الشباب المتعلم والمثقف الذي جاء بأفكار ومشاريع جديدة. فقامت الجمعيةعام 1891 بتأسيس لجنة تاريخية للبحث في تاريخ الجماعة اليهودية في روسيا. وتحوَّلتهذه اللجنة عام 1908 إلى الجمعية التاريخية والإثنوغرافية اليهودية. وفي عام 1894،تأسست لجنة للتعليم الشعبي اهتمت بالمدارس اليهودية، خصوصاً تلك التي تضم مناهجعبرية. كما اهتمت بتدريب معلمي العبرية، فانعقد مؤتمر للمعلمين عام 1903 في روسياالبيضاء. وتم افتتاح فروع جديدة للجمعية في موسكو (1894) وريجا (1898) وكييف (1908). وفي عام 1900، وصل حجم العضوية إلى 3010 عضو. وفي عام 1906، تم تعديلقوانين الجمعية بحيث أصبح من حقها افتتاح المدارس والمكتبات وتنظيم المحاضراتوالحلقات الدراسية لتدريب المعلمين، كما تقرَّر فتح فروع لها في المناطق التي تزيدالعضوية فيها على 25 عضواً. وفي عام 1912، وصل عدد الفروع 30 فرعاً في كل أنحاءروسيا تضم 7000 عضو. كما كان للجمعية عام 1910 عشرة مدارس، إلى جانب 98 مدرسة تشرفعليها بشكل جزئي. وفي العام نفسه، بدأت الجمعية في إصدار جريدتها الخاصة التيتتناول قضايا التعليم والثقافة والمكتبات. وفي عام 1912، تأسست لجنة لدراسة كيفيةإصلاح وتطوير المدارس اليهودية التقليدية مثل المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر).

    ونظراً لأن الجمعية كانت المؤسسة اليهودية الوحيدة المسموح لها بمزاولةالأنشطة التعليمية والثقافية، فقد انضم إليها في أوائل القرن العشرين عدد منالزعماء الصهاينة والمنادين بالقومية اليهودية مثل آحاد هعام وبياليك. وبعد فشلثورة 1905، انضمت إلى هذه الجمعية عناصر من الأحزاب الاشتراكية اليهودية، ونتج عنذلك وجود ثلاثة تيارات متصارعة داخل الجمعية: التيار المطالب بالاندماج والارتباطالوثيق بالثقافة الروسية، والتيار الصهيوني العبري، ثم التيار اليديشي الممثَّل فيعناصر حزب البوند. وافتتحت الجمعية خلال الحرب العالمية الأولى 215 مدرسة تضم 130ألفاً من الأطفال اليهود واللاجئين، وبعد ثورة فبراير الروسية اتَّجه الصهاينةلتأسيس اتحادهم التعليمي والثقافي الخاص تحت اسم «تاربوت»، كما أقام مؤيدو اليديشيةجمعية خاصة بهم. وبعد الثورة البلشفية، تمت تصفية جميع أفرع الجمعية في الأقاليموإغلاق مدارسها وإنهاء أنشطتها التعليمية. وظل المركز الرئيسي في بتروجراد يعمل، ثمتم حل الجمعية بشكل نهائي عام 1930 وألحقت مكتبتها التي ضمت 50 ألف كتاب و1000مخطوطة إلى معهد الثقافة اليهودية البروليتارية في كييف.







 

صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 123456 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-27, 05:42 AM
  2. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الخامس
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-26, 05:58 AM
  3. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الرابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:39 AM
  4. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الثالث
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 69
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:31 AM
  5. اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الثاني
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 96
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:04 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML