من ألوان الحرب التى تشن الآن ضد الإسلام اعتباره طارئا على البلاد.
وفد عليها مع فاتحين غرباء، ثم استقر فيها على كره من أصحابها الأصلاء!!.
وهذه مزاعم مضحكة، فإن كلتا الديانتين جاءت مصر من الخارج.
وليست مسيحية عيسى صناعة محلية يجب ـ لتشجيعها ـ أن توضع العوائق الجمة أمام ما قد يزاحمها من واردات أخرى ! كلا
ولو كان من حق أهل بلد ما أن يطردوا الأفكار الغريبة عن بيئتهم لأنها ليست أفكار مواطنين أصلاء، لوجب إخراج المسيحية والإسلام معا من مصر، ولوجبت إعادة البلد على عجل إلى حظيرة الوثنية المحضة التى تعبد فيها الأصنام وتقدس العجول.
فإن الوثنية هى الديانة التى عرفها تاريخنا آلاف السنين، إنها بضاعتنا العريقة.
أما الإسلام فقد جاء به عرب غرباء.
وأما المسيحية فقد جاء بها ـ كذلك ـ رومان غرباء .
والكاتب الصليبى الذى سود صحائفه بأحقاده على العرب الفاتحين لا يمكنه تجاهل هذه الحقيقة.
بل إنه يعترف بها على رغمه.
قال فى ص 11: " ظل الشعب القبطى بعد انتشار المسيحية على أيدى الرومان والبيزنطيين يعبد بحرارة آلهته الفرعونية، ويكرم آثار ماضيه التليد، وكان يرفض أن يقدم أى قربان لآلهة اليونان والرومان، كما أنه لم يقبل المسيحية إلا بتحفظ شديد لأنها جاءته من الخارج، وكان الشعب يريد بذلك إقناع نفسه أنه لم يخضع لاحتلال الغزاة ما دام يقاوم شعائرهم وعقائدهم ".
ويقول فى الصفحة نفسها : ".. ترك مسيحيو مصر ديانة أجدادهم مكرهين " كذا " لأن ديانة الفراعنة ومعابد الفراعنة وآلهة الفراعنة كانت تذكرهم بمجد مصر فى مختلف عهودها.
فلا غرابة إذا ظلت معتقداتهم الأولى راسخة فى نفوسهم، رابضة فى قلوبهم، بعد اعتناقهم المسيحية. ونضرب مثلا لهذا التشبث ـ يعنى تشبث المصريين بوثنيتهم القديمة ـ من قراءة " السيناكسار" أى تاريخ القديسين.
وماذا يقول: " السيناكسار" هذ ا؟.
يقول ـ كماترجم الكاتب من مرجع فرنسى ـ "فى معبد قيصرون الذى شيدته الملكة " كيلو بطرة ".
كان يوجد صنم كبير من النحاس اسمه "عطارد" وكان يحتفل سنويا بعيده وتقدم له الذبائح، وقد ظلت هذه التقاليد معمولا بها إلى أيام حكومة الأب " إسكندر ".
أى لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام.
فلما نصب " إسكندر " بطريركا قرر تحطيم هذا الصنم..
بيد أن شعب الإسكندرية ثار قائلا: لقد اعتدنا إحياء هدا الصنم.
ولقد تربع على هذا الكرسى اثنا عشر بطريركا ولم يجرؤ أحد منهم أن يصرفنا عن هذه العبادة ".
أرأيت أيها القارئ؟ ذلك هو تصرف الأمناء على ديانة نزلت من السماء بإزاء التقاليد الوثنية التى رفض العامة من المصريين أن يدعوها.
والغريب أن هذا الكاتب يقول قبل ذلك بسطور:"..
إننا لن نناقش النتائج التى خرج بها بعض المستشرقين أمثال " لوفيفر" و " شميدت" و" شولتز".
فقد اتفقوا على أن المسيحية ظلت غريبة على أهل مصر الأصليين، كما ادعوا أن نجاح العرب يرجع بصفة عامة إلى " أن الإسلام اجتذب أقباط مصر، الذين تعبوا من تزمت كنائسهم وتضييقها عليهم ".
ونحن نعرف أن أهل مصر الأول كانوا وثنيين متعصبين لعقائدهم.
وقد قرأنا ـ كذلك ـ فى تاريخ القديسين كيف احترم البطارقة هذه الوثنية وسايروها.
فلم غضب المصريون آخر الأمر من كنائسهم؟.
إن هذا الغضب لا يتصل بأمور خدشت تقاليد المصريين العتيقة، وإنما يعود إلى الاضطرابات العنيفة التى تخلفت عن انقسام الكنائس فى فهم حقيقة المسيح، وقد تكون له أسباب أخرى نفسية واقتصادية.
أما المصريون أنفسهم فقد نجحوا- كوثنيين- فى فرض أفكارهم وعاداتهم على ! المسيحية نفسها.
يقول " هـ. ج. ويلز " فى كتابه ملخص التاريخ: " إن السيد المسيح أغمى عليه حين حمل على صليبه لأنه كان ضعيف البنية، وإنه توفى قبل أن يتوفى المصلوبان إلى جانبه وأن السيد المسيح لم يبشر بالديانة المسيحية المعروفة اليوم ".
يقول ويلز: "لأن هذه التعاليم إنما أحدثها الرسول "بولص " المتعلم بالإسكندرية،1 وأن "بولص " أخذ تعاليمه من وثنية الإسكندرية... ".
ثم يقول ويلز: " إن خيوط الثالوث المقدس حيكت فى الإسكندرية، وإن آلهة قدماء المصريين الثلاثة " إيزيس " و " هورس " و " سيزابيس " قد استحالت عند "بولص " إلى الأب والابن والروح القدس ".
وكلام " ويلز " يتضمن حقائق كثيرة.
وقد أيده الكاتب الصليبى من حيث لا يدرى، إذ قال فى ص 12: " لم يستطع المصريون تلافى المسيحية فحاولوا ـ حسب تعبير " جان ما سبيرو " الموفق ـ مصادرتها لمصلحتهم، وقرروا أن كل ما كان جميلا وعظيما فى المسيحية إنما هو مصرى.
ومن ذلك الحين مال الإكليروس والشعب إلى القبض على زمام الحكم، ثم إلى الانفصال عن حكم " بيزانطيا".
وقد تجلى هذا الميل بوضوح بعد مجمع "نيقية " حيث بزغ نجم كنيسة الإسكندرية ولمع ".
ومجمع " نيقية " هذا، هو الذى قرر مطاردة الموحدين وإحراق كتبهم بعد أن اعتبر عيسى إلها مع الله ! فلا غرو أن يبرع فيه نجم كنيسة الإسكندرية ويلمع! أليس هذا نصرا ضخما تحرزه الوثنية المصرية يجدد ديانة الفراعنة الأقدمين ويعيد الحياة إلى رفاتهم البالى ؟.
لو أن عيسى عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقيم لدينه دولة تحمى قواعده الحقة ما استطاعت الوثنية القديمة أن تفتك به هذا الفتك الذريع.
ولكن عيسى ذهب والنصرانية تدور بها دوامة عاصفة من أحقاد الوثنية التى تملك الدولة والصولة.
ولم يكن الرومان وحدهم عباد أصنام، بل كان اليونان والفرس والمصريون والهنود وسائر البشر، ما عدا فلول من اليهود لا يقام لهم وزن.
وددنا لو قرأنا تعاليم عيسى نفسه بلغته العبرانية، أو لو قرأنا رسائل حوارييه الكرام بهذه اللغة نفسها، فهى اللغة التى دونوا بها عقائدهم وبشروا بها أممهم.
غير أنه- من المؤسف- ألا نجد إلا تراجم يونانية و لاتينية لهذه الكتب المفقودة، وهؤلاء الذين كتبت تعاليم المسيح بلغتهم هم سدنة الوثنية القديمة وأشياعها.
والمدهش أن المترجمين أنفسهم أشخاص مجهولون!.
فباى وجه من المنطق يؤخذ دين عيسى من ألسنة أعدائه بعد ضياع الصحائف الأولى التى أنزلت عليه، وبعد ضياع الأسفار التى كتبها عنه تلامذته، وحلت محلها تراجم لا تعرف قيمتها العلمية ولا أمانة ذويها؟.
ونحن نجزم بأن تغييرات هامة جدا طرأت على أصل النصرانية مالت بها إلى تعدد الآلهة! ونحت بها نحو الوثنية السائدة فى فكرة الفداء والقرابين.
وقد عاداها المصريون أولا بالنظر إلى أصلها السماوى، وحتى إذا حوروها كما يشتهون دخلوا فيها.
أو بالأحرى لم يستطيعوا الانتقال إليها فنقلوها إليهم..
ولما كان المفروض أن الإنجيل ملحق بالتوراة، وأنه يعتمد أحكامها، وأن النصرانى مكلف بالعهدين القديم والجديد معا، فإن عبث الوثنية لم يلحق الإنجيل فحسب، بل تعداه إلى التوراة نفسها.
وقد لاحظ الباحثون دلائل ذلك فيما يلى:
ا- برز حقد الوثنيين على رسل الله فنسبوا إليهم أعمالا شائنة، فجاء فى هذه الكتب المقدسة (!) أن نبيا شرب الخمر فزنى بابنتيه.
وأن آخر سكر حتى تعرى وانكشفت سوأته لأحد ولديه، فغضب على الآخر لغير جريرة.
وأن أحدهم رفض دعوة النبوة من ربه.
وأن آخر ارتد وعصى الله وعبد الأصنام.
وأن آخر صنع عجلا لقومه.
وآخر شبه الناس جميعا بالكلاب ما عدا بنى إسرائيل.
وأن نبيا طمع فى امرأة فأرسل بزوجها إلى الميدان وأوصى بقتله حتى يخلو الجو له معها وأن..
وأن.. إلخ.
والذى يقرأ نشيد الإنشاد فى العهد القديم ( نبذة عن نشيد الأناشيد ) ويقرأ صور الغزل المفضوح فيه، يوقن بأن ما حوى من مباذل، وليد طبيعة مهتاجة بالشهوة البهيمية، مما لا يمكن صدوره أبدا عن رب العالمين.
قال " جان ملز كاتلك " فى كتابه المطبوع سنة 1843 : " اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة الأصلية، وكذا نسخ العهد العتيق ضاعت من أيدى عسكر " بختنصر ".
ولما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة "عزرا " ضاعت تلك النقول أيضا فى حادثة "أنيكوسى ".
فلما ضاعت صحائف الوحى المنزل من السماء حلت مكانها هذه الأباطيل. !.
2 ـ لا يعرف أثر بتة لإنجيل عيسى الذى نزل عليه من ربه.
والمسيحيون اليوم يزعمون أنه ليس لعيسى إنجيل، مع أن ذكر هذا الإنجيل جاء فى رسالة "بولس " إلى أهل "غلاطية" 1: 6-7.
وقد أيد فقدان هذا الإنجيل "طامس انكلسى" فى كتابه مرآة الصدق.ـ إن جملة الرسائل التى تؤلف ما يسمى الآن بالعهد الجديد لا تنهض على أسانيد تعطيها قوة تاريخية معتبرة، فهى غريبة عن لغة المسيح بعيدة عن عصره، وبمكن القول بأن هذا العهد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجال مجهولو الاسم ثم نسب إلى الحواريين ورفقائهم.
وكتب " استادلن " يقول: " إن كافة إنجيل "يوحنا! تصنيف طالب من جامعة "الإسكندرية " ووافقه " برطشنيد " وزاد على ذلك أيضا رسائل "يوحنا ".
ومع ذلك فإن العهدين القائمين ذكرت بهما أسماء نحو خمسة وعشرين سفرا لا وجود لها ".
ونحن ـ المسلمين ـ لا نزعم أن ما ورد فى أسفار العهدين القديم والجديد باطل محض، ففيهما مزيج غامض مبهم من الخطأ والصواب.
وقد وردت فيهما كلمات تخلع وصف الألوهية على أناس أطبق أهل الأديان أجمعون على عدهم بشرا فحسب.
جاء فى الإصحاح السابع من سفر الخروج " فقال الرب لموسى: انظر، أنا جعلتك إلها لفرعون، وهارون يكون نبيك!.
وجاء فى الإصحاح الرابع من السفر المذكور:" هو يكلم الشعب عنك، ويكون لك فما، وأنت تكون له إلها".
وهذا التهور فى إطلاق الألوهية على الأناسى.
إما أن يكون عجزا شائنا فى الترجمة عن الأصل فأبدلت كلمة السيد مثلا بالإله.
وإما أن يكون مسلكا مغرضا قصد به تضليل العامة عن سوء نية..
وكلا الأمرين استغل ـ كما رأيت ـ فى تأليه " عيسى " لما كثرت هذه الإطلاقات عليه.
ولكن لماذا لم يؤله موسى كذلك؟؟ وقد ذكرت كلمة "ابن الله " كذلك على غير" عيسى "، فأطلقت على آدم " ابني آدم ابن الله " لوقا " 3 : 38 ".
وقال فى غيره عن يعقوب" هكذا يقول الرب: إسرائيل ابنى البكر ".
وأطلقت على داود كما فى المزمور 89، " هو يدعونى أبى، أنا أيضا أجعله ابنى".
وعلى سليمان بن داود، كما ورد فى أخبار الأيام الأولى " يكون لى ابنا وأنا له أبا " وعلى جميع بني إسرائيل كما فى الإصحاح "14 " من سفر التثنية " أنتم أولاد الرب إلهكم ".
وأطلقت على جميع الناس، كما فى الإصحاح السادس من سفر التكوين "الناس أبناء الله ".
وعلى المؤمنين فقط، كما فى الإصحاح الخامس من إنجيل متى: " لتكونوا أبناء أبيكم الذى فى السموات ".
وكما فى (23) متى " لا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد، الذى فى السموات ".
وعلى المصلين، كما فى الإصحاح السادس من متى: "فصلوا أنتم هكذا، أبانا الذى فى السموات، ليتقدس اسمك ".
وعلى صانعي السلام، كما فى الإصحاح الخامس من متى " طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله ".
نعتذر لهذا الاستطراد، لقد تمشينا مع الحديث رغبة منا فى كشف كثير من الأحداث التى اكتنفت تاريخ النصرانية الأولى، ومدى تأثير الديانة المستضعفة بها، والدور الذى لعبته مصر مع غيرها من دول العالم الوثنى فى توليد مسيحية جديدة يزدوج فيها مبدءا التوحيد والتعدد.
ونستخلص من هذا السرد المجمل.
أن مصر كانت وثنية فى أغلب عصور الفراعنة.
وأن النصرانية التى أرسل بها عيسى كالإسلام الذى جاء به محمد، ديانة وافدة من الخارج.
وهذه أو تلك لا يقدح فيهما ولا يزكيهما وصف بالغربة أو الألفة، فإن الدين كالعلم لا وطن له.
وأن المسيحية التى انتشرت بعد فى مصر لقيت حمايتها ورواجها على أيدى الرومانيين المحتلين للبلاد.
وكان جمهور المصريين ينظر إليها على أنها بعض مظاهر السيادة الأجنبية.
وأن عبادة الأصنام ظلت متغلغلة فى مصر قرابة ثلاثة قرون لم ير فيها بطاركة الكنيسة ما يزعج مسيحيتهم.
وأن المصريين لما استبان لهم أن الثالوث المسيحى تجديد للثالوث المصرى القديم أقبلوا على المسيحية باعتبارها فلسفة مصرية بحتة، وليست ديانة يفرضها الرومان الغاصبون لبلادهم.
وهذه الخلاصات يمكننا أن نستدل عليها جميعا من النقول والتعليقات التى ذكرها المؤلف الصليبى فى الباب الأول من كتابه.
وثم أمر آخر عنى الكاتب بإبرازه.
وهو أن الكنيسة المصرية شقت عصا الطاعة على كنيسة " روما " لأسباب سياسية مجردة.
فالانشقاق القبطى هو دينى من حيث الحجة فقط ! كما يقول المؤلف فى ص 13.
وعلته الدفينة حب البطريرك المصرى للانفراد بسيادة بلاده إذ كان يصرح: " إن البلاد لى أكثر مما هى للأباطرة وإني أطالب بالسيادة على مصر" وفى سبيل هذه السيادة صنعت الكنيسة المصرية أمرا بالغ الغرابة.
فقد وافقت بطريرك " القسطنطينية " على حرمان الراهب الذى ابتدع المذهب الأرثوذكسى.
ولكن بطريرك مصر حقد على زميله هذا السلطان الواسع فأعلن اعتناقه لهذا المذهب الجديد مخالفا آراء زملائه من رجال الإكليروس.
فقد وضعهم ـ كما يقول المؤلف الصليبى ـ فى مركز حرج.
ذلك لأن الأساقفة المصريين أدانوا " أوتيشيش " ـ الراهب المحروم ـ دون أن يبدى البطريرك ـ وهو صاحب الرأى الأخير ـ أية معارضة.
فكيف يستطيعون بعد ذلك أن ينقضوا حكمهم فى دون أن يعرضوا أنفسهم للسخرية؟.
وبينما كان الأساقفة حائرين مترددين أمام هذا الموقف الشاذ، إذا " ديسفور " ـ البطريرك المصرى ـ يأمرهم بأن يتضافروا معه ويؤيدوه فى موقفه.
ولم يكن فى استطاعة الأساقفة إلا الإذعان لأمر رئيسهم!! ص 14.
ويقول الكاتب أيضا فى الصفحة نفسها: …" أما الشعب المصرى فلم يتردد لحظة واحدة فى مناصرة بطريركه لاعتقاده أن جرأة رئيسه الدينى قد حققت أمانيه الغالية المنشودة ".
فلم يكن الأمر إذن بحثا عن الحقيقة، ولم يكن الخلاف على فهم طبيعة المسيح سعيا منزها لمعرفة الصواب.
إن معنى ذلك ـ كما يصور الكاتب الصليبى ـ أن المذهب الأرثوذكسى وليد عناد دفع إليه الطموح، وأن المسائل الدينية الكبرى تحركها من وراء ستار نزعات دنيوية محضة.
وإذا كان هذا الكاتب صادقا فى تصويره للوقائع التى تمخضت عن المذهب الجديد فإن ذلك تسجيل حاسم للريب التى تحيط بجملة العقائد المسيحية: لا الواردة فى العهدين فحسب، بل الناشئة عن قرارات المجامع المختلفة..!
وأيا كان الأمر فقد اضطربت الصلات بين مصر وروما، واتسعت الفجوة بين الكاثوليك والأرثوذكس.
حتى ان المصريين فضلوا أن يحكمهم مجوس فارس عن أن يظلوا خاضعين للمسيحيين الرومان !! إنهم كانوا يريدون البقاء على مذهبهم الدينى آمنين، وهذا ما كان الرومان يضنون به على ذلك أثقال الضرائب التى فرضها الحكام المتعسفون.
إن مصر المسيحية فى ظل الإمبراطورية الرومانية المسيحية ظلت تنوء بما تحمل حتى خارت قواها، وتحولت على مر الليالى السود إلى مستعمرة تزدحم بالرعاة والعبيد.
الإسلام يدخل مصر:
تختلف نشأة الإسلام اختلافا كبيرا عن نشأة النصرانية.
فإن الإسلام يمتاز بأنه تحول على عجل إلى دولة تهيمن على جزيرة العرب.
كان النبى رئيسها الأعلى، وكان القرآن ـ وهو دستورها الأصيل ـ محفوظا بعناية رائعة، ووعته صدور القراء الذين استظهروه كلمة كلمة.
والذين بلغ من كثرتهم أن تكونت منهم فرق مقاتلة كان لها أثر عميق فى حرب الردة.
ووعته كذلك صحائف الكتبة الذين سطروا آى الوحى فى أوراقهم.
فلم يمت النبى إلا والكتاب السماوى يكتب ويقرأ فى نطاق بعيد المدى.
ولا شك أن حظ القرآن من ذلك لا يذكر إلا جانبه أبدا حظ الإنجيل.
وقد حاولت الوثنية العربية أن تحتل الدين الجديد، وأن تتسرب إليه عن طريق مهادنته.
فعرض عبدة الأوثان على النبى أن يعبدوا إلهه فترة وأن يعبد آلهتهم أخرى، فنزل الوحى: (قل يا أيها الكافرون *لا أعبد ما تعبدون *ولا أنتم عابدون ما أعبد *ولا أنا عابد ما عبدتم *ولا أنتم عابدون ما أعبد *لكم دينكم ولي دين).
وحاولت إحدى القبائل أن تدخل فى الإسلام على شريطة أن تستمتع بعبادة صنمها سنة ثم يهدم بعدها! فأبى النبى إلا هدمه فى الحال.
وذلك مسلك يناقض مسلك النصرانية التى سمحت للمصريين أن يكونوا مسيحيين وعباد أصنام فى وقت واحد، كما ذكر ذلك الكاتب الصليبي نفسه فى ص 12 من كتابه.
وقد يتوهم أحد المغفلين أن مسلك الإسلام ينطوى على صلابة وتزمت.
وأن مسلك النصرانية فى مهادنة الوثنية، أو مداهنتها، أو الامتزاج بها، كان ينطوى على اعتدال ومرونة..
إن هذا غلط فاحش.
فإنصاف الحقيقة وحماية جوهرها شئ، وحمل الناس عليها بالإكراه شئ آخر.
دخل الإسلام فارس فبقى التوحيد توحيدا وبقيت المجوسية مجوسية.
فمن شاء البقاء على مجوسيته بقى آمنا، ومن شاء دخل فى الإسلام فأحل حلاله وحرم حرامه ونزل على أحكامه كلها.
أما اختلاق مركب جديد من الديانة المحلية والديانة الجديدة فعبث يجب أن يقاوم بالسيف..
لأن التمشى معه إيذان بضياع الحق إلى الأبد، وذلك ما فعلته الوثنيات القديمة بدين عيسى.
فلا جرم أن يرفض الإسلام أية مساومة على منحه حق البقاء، وأن يمضى فى طريقه مستندا إلى مبادئه وحدها وتضحيات المؤمنين بها.
فما إن استقر له الأمر حتى بدأ يجلى جيوش الروم والفرس عن الأقطار الفسيحة التى احتلت رقعتها واستهلكت أهلها..
على ما قصصنا عليك.
وكانت مصر قبيل الفتح الإسلامى يتنازع احتلالها الفريقان معا، حتى انهزم الفرس آخر الأمر أمام خصومهم فتوطد ملك الروم بها.
وأضحت ـ بموقعها ومواردها ـ معواناً قويًا للروم فى القتال الذى دار بينهم وبين المسلمين.
جيش عمرو: قرر أمير ا!لمؤمنين " عمر بن الخطاب " فتح مصر، وسار إليها الجيش الزاحف بقيادة " عمرو بن العاص " فأخذ طريقه إلى القاهرة حيث التقى بهم جيش الروم وفيه الجاثليق " أبو مريم " ومعه الأسقف الذى أرسله المقوقس.
وقبل أن تشتبك القوى المتأهبة للنزال قال " عمرو " لقادة الروم: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم! وليبرز إلى الجاثليق، والأسقف، فخرجا إليه، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبى صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، لأن " هاجر" أم إسماعيل جد النبى عليه الصلاة والسلام من مصر.
روى مسلم فى صحيحة أن النبى قال: " إنكم ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط.
فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما " أو " ذمة وصهرا " فقالا: " قرابة بعيدة، لا يصل مثلها إلا الأنبياء ".
ثم قالا لعمرو " أمنا حتى نرجع إليك " فقال لهما: " مثلى لا يخدع ولكنى أؤجلكما ثلاثا لتنظرا ".
فقالا: لازدنا... " فزادهما يوما.
فرجعا إلى المقوقس بطريرك الأقباط، وإلى " أرطبون " الوالى الرومانى فأخبراهما خبر المسلمين.
ويبدو أن البطريرك القبطى كان زاهدا فى قتال العرب.
وما الذى يستثير حماسته ضدهم؟ وصلة مصر بالروم على ما علمنا من ضعف بل من مقت!!.
أما الحاكم الررماني فقد قرر المقاومة ورفض ما عرض عليه، واستعد للقتال بل بادر المسلمين بالهجوم فعلا إلا أنه انهزم وارتد إلى الإسكندرية.
فتعقبه العرب فى مهربه، ووزع " عمرو " فرقه علي جبهات عدة استطاع أن يحرز فيها جميعا النصر بعد أن حاصر الروم فى مواقعهم أياما طويلة.
وقد أرسل أهل البلاد إلى " عمرو " يعلنون رضاهم بالصلح وقبولهم دفع الجزية على أن ترد لهم السبايا.
فأرسل " ابن العاص" إلى أمير المؤمنين بذلك فأجاب مطالبهم.
وأمضى " عمرو بن العاص " معاهدة الصلح مع المصريين.
وهذا نصها على ما رواه الطبرى : "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى "عمرو بن العاص " أهل مصر، من الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينتقص..
ولا يساكنهم النوب.
وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية ـ إن اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم ـ خمسين ألف ألف درهم وعليهم ما جنى لصوتهم.
فإن أبى أحد منهم أن يجيب، رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة.
لان نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك..
ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم..
ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا..
عليهم ما عليهم أثلاثا.
فى كل ثلث جباية ثلث ما عليهم..
على ما فى هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين.
وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا.
على أن لا يُغَزوْا، ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة..
شهد الزبير، وعبد الله، ومحمد ابناه،.
كتب وردان وحضر …." ا . هـ.
إن المبادىء الهامة التى تضمنتها هذه المعاهدة تعد صفحة جديدة فى تاريخ العصور الوسطى.
وهى على نسق المعاهدات التى أبرمها المسلمون مع كثير من الشعوب التى طردوا الفرس والرومان منها.
ويجب أن نقرر هنا بعض الأسباب التى جعلت المصريين يستريحون لهذا العهد المعروض عليهم ويمضونه راضين.
ا ـ فقد استردت البلاد حريتها الدينية كاملة، ونالت ضمانا واضحا أن تبقى للمعابد قداستها فلا يقتحمها أحد، ولا تخدش شعائرها...
وكان الأقباط محرومين من هذا الأمان فى أثناء حكم الرومان، لاختلاف المذهب الدينى، وإن انتمى الفريقان للنصرانية!.
2 ـ خف حمل الضرائب التى يدفعها المصريون للحكومة الإسلامية.
فإن تعداد مصر على عهد الفتح الإسلامى بلغ عشرة ملايين ساكن.
وكان الحد الأعلى لضريبة الجزية خمسين مليونا من الدراهم، أى متوسط ما يؤديه الفرد للحكومة خمسة دراهم فى العام " نحو عشرة قروش " مع أن الرومان كانوا يستكرهون المصريين على دفع جملة أنواع من الضرائب الباهظة..
3 ـ يلاحظ أن هذه الضريبة كانت تنقص تبعا لهبوط الفيضان ولكنها لا تزيد عن النسبة المقررة، كما أنها تؤدى أقساطا ثلاثة على مدى السنة.
4 ـ هذه المعاهدة معقودة مع المصريين الذين هم أصحاب البلاد.
فإذا رغب رومانى أو نوبى الدخول فيها، فله حق المعاملة بالمثل، وإلا فعلى العرب أن يصونوا دمه وحقوقه كلها حتى يبلغ المكان الذى يأمن فيه على نفسه أو ينقطع عنده سلطانهم.
5 ـ لا يجوز للمسلمين أن يمنعوا تجارة صادرة ولا واردة.
6 ـ ويجب عليهم- لقاء الضريبة التى يحصلونها- أن يمنعوا أى غزو لمصر.
وقد أخلص الطرفان فى تنفيذ المعاهدة.
ولما طارد العرب فلول الرومان المنهزمين واستولوا على ما بأيديهم من أموال جاء كثير من الأقباط يشكون أن هذه الأموال لهم أخذها منهم الرومان قهرا، فرد العرب عليهم ما أقاموا البينة على أنه ملكهم.
وبقى " المقوقس " على رياسته للبلاد يتردد بين منف والإسكندرية، وبلغ من توثق الصلات بين المسلمين والبطريرك أنهم كانوا يستشيرونه فيما ينزل بهم من مهمات حتى توفى.
المفضلات