الباب الثامن
لا دين حيث لا حرية
[ نشر هذا المقال بعد حركة 15 مايو التى قام بها فى مصر الرئيس السادات ]
أثلجت صدرى الكلمات التى قالها رئيس الدولة عشية نجت مصر من المؤامرة الأخيرة !
لقد أكد أن الحريات ستوطد، وأن الحقوق ستصان، وأن القانون سيسود، ولن تغل يد عن عمل شريف، ولن يكمم فم عن كلمة حق، ولن يؤذن لصغير أن يتطاول، ولا لمنحرف أن يجور !!
لقد استقبلنا هذه المعانى والأنفاس تكاد تختنق لما عراها من ضيق، فكانت نسائم منعشة تتسلل خلال جو رهيب مقنط، وكان بوارق رجاء توحى بالخير .
وأحس القابعون وراء جدران السجن الكبير أن العصابة التى تسومهم سوء العذاب بدأت تذوب وتتلاشى .
إن إذلال الشعوب جريمة هائلة، وهو فى تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدو ويضر الصديق .
بل هو عمل يتم لحساب إسرائيل نفسها .. فإن الأجيال التى تنشأ فى ظل الاستبداد الأعمى تشب عديمة الكرامة قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والرد .
ـ ومع اختفاء الإيمان المكين والخلق الوثيق والشرف الرفيع .
ـ ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة .
ـ ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجح الفارغين المتصدرين .
.. مع هذا كله لا تتكون جبهة صلبة، وصفوف أبية باسلة !
وذلك أمل إسرائيل حين تقاتل العرب، لأنها ستمتد فى فراغ وتشتبك مع قلوب منخورة وأفئدة هواء !
والواقع أن قيام إسرائيل ونماءها لا يعود إلى بطولة مزعومة لليهود قدر ما يعود إلى عمى بعض الحكام العرب، المرضى بجنون السلطة وإهانة الشعوب .
ولو أنصف اليهود لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيل ترمز إلى ما قدموا لإسرائيل من عون ضخم ونصر رخيص !
من أجل ذلك أحسست راحة عميقة لكلمات السيد محمد أنور السادات، وهو يهدر بضرورة احترام الشعب وكسر كل قيد يوضع على مشيئته .
إن هذه السياسة البصيرة هى الخطوة الأولى لقتال حقيقى مع المعتدين يقمع غرورهم ويقلم أظفارهم !
إن جماهير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بذلت جهود هائلة لمنعها من الحق والجد وتعويدها عبادة اللذة إلى جانب عبادة الفرد، ولكن جوهر الأمة تأبى على هذه الجهود السفيهة، وإن كانت طوائف كثيرة قد جرفتها هذه المحن النفسية فهى تحيا فى فراغ ومجون مدمرين، لا تبقى معهما رسالة ولا ينخذل عدو ..
ومن ثم كان العبء على المصلحين ثقيلاً، ولكن ما بد منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا .
ولقد تبعت الصراع بين الحكام المستبدين والرجال الأحرار منذ نصف قرن، ودخلت فى تلك المعمعة لأذوق بعض مرها وضرها .
وكنت أردد بإعجاب صيحات الرجال الكبار وهم يهدمون الوثنية السياسية ويلطمون قادتها ولو كانوا فى أعلى المواضع .
من ذلك صيحة الأستاذ الكبير " عباس محمود العقاد " عندما قال معرضاً بالملك فؤاد : إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس يخون الدستور أو يعتدى عليه !!
وقد قدم الكاتب الإسلامى الكبير إلى المحاكمة ليعاقب تسعة شهور فى سجن مصر العمومى ثم خرج الرجل من السجن فكان أول ما صنع أن زار قبر سعد زغلول ليؤكد بقاءه على العهد وتأييده لقضايا الحرية وخصامه لأعداء الشعب !
ومن قصيدته التى ألقاها على قبره نذكر هذه الأبيات الشامخة :
خرجت له أسعى وفى كل خطوة
دعاء يؤدى أو ولاء يؤكد
لأول من فك الخطى من قيودها
أوائل خطوى يوم لا يتقيد
وأعظم بها حرية زيد قدرها
لدن فقدت أو قيل فى السجن تفقد
عرفت لها الحبين فى النفس والحمى
وكان لها حب وإن جل مفرد
وكنت جنين السجن تسعة أشهر
فها أنذا فى ساحة الخلد أولد
ففى كل يوم يولد المرء ذى الحجى
وفى كل يوم ذو الجهالة يلحد
وما أفقدت لى ظلمة السجن عزمة
فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنى
من الرأى يتلو فرقداً منه فرقد
عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما
سيعهدنى كل كما كان يعهد
والعقاد بهذا الموقف الشريف ينتظم مع سلسلة الأبطال الذين يذودون عن الإنسانية بطش الجبابرة وجنون العظمة عند نفر من الملتاثين المتحكمين .
ولا أزال أكرر ما ذكرت فى بعض كتبى من أن الحريات المقررة هى الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره !
وإن أنبياء الله لم يضاروا بها أو يهانوا إلا فى غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا فى مهاد الذل والاستبداد فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة وتتحكم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب والأهواء ..
.. نعم ما يستقر الإلحاد إلا حيث تتحول البلاد إلى سجون كبيرة، والحكام إلى سجانين دهاة .
من أجل ذلك ما هادنا ـ ولن نهادن إلى آخر الدهر ـ أوضاعاً تصطبغ بهذا العوج ويستشرى فيها ذلك الفساد .
ومرة أخرى أردد قول العقاد :
هو الحق ما دام قلبى معى
وما دام فى اليد هذا القلم !
إن البيئات التى تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية هى التى تنضج فيه الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهى السناد الإنسانى الممتد لكل رسالة جليلة وحضارة نافعة .
ولأمر ما اختار الله محمداً من العرب !
إن ذلك يرجع إلى طبيعته الذاتية، وطبيعة الجنس الذى ينميه على السواء !!
فإن العرب أيام البعثة كانوا أسعد الأمم بخطوط الحرية المتاحة لهم، بينما كان الروم والفرس جماهير من العبيد الذين تعودوا الانحناء للحكام والسجود للملوك وضياع الشخصية فى ظل سلطات عمياء وأوامر ليس عليها اعتراض.
أما العرب فكانوا على عكس ذلك، حتى لكأن كل فرد منهم ملك وإن لم يكن على رأسه تاج !
ونشأ عن ذلك الاعتداد الخطير بالنفس أن كفار القبيلة كانوا يموتون دفاعاً عن مؤمنيها، وكانت حرية الكلمة متداولة فى المجتمع تداول الخبز والماء ..
ووسط هذا الجو شقت رسالة الإسلام طريقها صعداً لم تثنها المعوقات الطبيعية التى لا بد منها ..
ومن الفطر القوية لأولئك العرب الأحرار كانت الانطلاقة التى عصفت بالحكومات المستبدة وبدلت الأرض غير الأرض والناس غير الناس .
ذلك أنه يستحيل أن يتكون فى ظل الاستبداد جيل محترم، أو معدن صلب، أو خلق مكافح .
وتأمل كلمة عنترة لأبيه شداد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة، قال : إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلب والصر ! فأجاب الوالد : كر وأنت حر !
وقاتل " عنترة " وتحت لواء الحرية أدى واجبه، ولو بقى عبداً ما اهتم بهلاك أمة من الناس فقد بينهم كرامته ومكانته ..
ومن مقابح الاستبداد أسلوبه الشائن فى إهانة الكفايات وترجيح الصغار وتكبيرهم تبعاً لمبدئه العتيد :
أهل الثقة أولى من أهل الكفاية .
ومن هم أهل الثقة ؟ أصحاب القدرة على الملق والكذب .. اللاهثون تحت أقدام السادة تلبية لإشارة أو التقاطاً لغنيمة .
هذا الصنف الخسيس من الناس هو الذى يؤثر بالمناصب ويظفر بالترقيات، وتضفى عليه النعوت، ويمكن له فى الأرض ..
أما أهل الرأى والخبرة والعزم والشرف فإن فضائلهم تحسب عليهم لا لهم، وتنسج لهم الأكفان بدل أن ترفع لهم الرايات ..
والويل لأمة يقودها التافهون، ويخزى فيها القادرون ..
وقد كنت أقرأ فى الصحف ـ دون دهشة ـ كيف أن المسئول عن " الثقافة والفكر فى الاتحاد الاشتراكى " رجل أمى يصيح كلما سأله المحقق : اعذرنى فإنى جاهل ..
إن هذه طبيعة الأوضاع التى تعيش على الظلام وتكره النور .
ما أكثر العلماء فى بلادنا لو أريد توسيد الأمر أهله، ولكن العلماء ليسوا موضع ثقة لصغار المتصدرين لأن العالم يستنكر المتناقضات ويكره الدنية، ويقول بغضب :
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
أما وقد أزال الله الغمة، وعلت كلمة الأمة فلنعد بالأمور إلى أوضاعها السليمة، ولنوفر الحريات التى طال إليها الشوق واشتد الحنين .
لقد كان الاستبداد قديماً أقل ضرراً من الاستبداد الذى نظمته الدولة الحديثة فى هذه الأعصار، فإن الدولة فى العصر الحديث تدخلت فى أدق شئون الفرد وبسطت نفوذها على كل شىء .
ومن هنا كان الدمار الأدبى والمعنوى الذى يصحب الاستبداد بعيد الآماد خبيث العواقب .
ومن أحسن ما قيل فى تشييع ظالم مستبد :
لتبك على " الفضل بن مروان " نفسه
فليس له باك من الناس يعرف
لقد صحب الدنيا منوعاً لخيرها
وفارقها وهو الظلوم المعنف
إلى النار فليذهب ومن كان مثله
على أى شىء فاتنا منه نأسف ؟
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان .
يا للرجال بلا دين
إننى أسأل نفسى بإلحاح فى هذه الأيام العجاف : هل يشعر العرب بأن محمداً مرسل للعالمين، وأن هذه " العالمية " فى دعوته تفرض عليهم بعد إذ عرفوه أن يعرفوا الناس به، وهم عندما يعرفون الناس به لن يصفوا لهم ملامحه الشخصية وإنما يشرحون لهم رسالته الإلهية !
لكن عرب اليوم لا يقدرون محمداً قدره، ولا يخلفونه بأمانة فى مبادئه وتعاليمه، ولا يحسون قبح الشبهات التى أثارها خصومه ضده، بل هم ـ علماً وعملاً ـ مصدر متاعب للإسلام ولنبيه الكريم، وشاهد زور يجعل الحكم عليه لا له !
قد تقول حسبك حسبك أن الناس بخير، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم فلا تطلق هذه الصيحات الساخطة، فما تحب الجماهير أحداً كما يحب أتباع محمد محمداً ..
وأقول لك : سوف أغمض العين عن ألوف من المتعلمين ضلل الاستعمار الثقافى سعيهم وشوه بصائرهم وأذواقهم، مع أن وزنهم ثقيل فى قيادة الأمة العربية، فما قيمة الحب الرخيص الذى تكنه جماهير الدهماء ؟
إنه حب غايته صلوات تفلت من الشفتين مصحوبة بعواطف حارة أو باردة، وقلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير، والترجمة عن حب محمد بهذا الأسلوب فى وقت ينهب فيه تراثه أمر مرفوض إن لم يكن ضرباً من النفاق !
أذكر أنى ذهبت يوماً لأحد التجار كى أصلح شيئاً لى، فاحتفى بى وقدم بعض الأشربة، وأفهمنى أنه أتم ما أريد بعد أن وفيته ما أراد . ثم شعرت أن عمله كان ناقصاً ولا أقول مغشوشاً !
فقلت : ليته ما حيا ولا رحب وأدى ما عليه بصدق ! ماذا أستفيد من تحيات لا جد معها ولا إخلاص .
والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوى بهم أو قد يصرخون بالصلاة على رسول الله ـ ـ فى أعقاب الأذان، أو قد يؤلفون صلوات من عند أنفسهم يحار المرء فى تراكيبها لإغراقها فى الخيال .
وقد يكون حبهم تمسكاً شديداً ببعض النوافل وهروباً تاماً من بعض الفرائض أو حناناً لا ندى معه ولا عطاء كهذا الذى قال له الشاعر :
لا ألفينك بعد الموت تندبنى
وفى حياتى ما قدمت لى زادا
أى حب هذا .. إن العرب لا يعرفون أى شرف كتب لجنسهم ولغتهم وأمسهم وغدهم عندما ابتعث الله محمداً منهم، وإن التقدير الحق لهذا الشرف لا يكون بالسلوك المستغرب الذى يواقعونه الآن ومنذ بدأوا يعبثون برسالة الله بينهم .
لما أراد رب العزة أن يعلن بركته النامية ورحمته الهامية اختار فى كتابه العزيز عبارتين مبينتين :
الأولى : تتحدث عن البركة فى مظهر القدرة التى تجمع أزمة الكون فى يده، فيستحيل أن يغلب يوماً على أمره أو يشركه أحد فى ملكه، وفى هذا المعنى يقول جل شأنه " تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير " .
والثانية : تتحدث عن البركة فى صورة الرجل الذى حمل هداه الأخير إلى عباده وتفجرت ينابيع الحكمة من بيانه وسيرته، فكان القرآن الذى يتلوه مشرق شعاع لا ينطفي، يهتدى على سناه أهل القارات الخمس ما بقى الليل والنهار . وفى هذا المعنى يقول جل شأنه " تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً " [ الفرقان ] .
إن الإنسان المبعوث رحمة للعالمين أشعل الأمة التى ظهر فى ربوعها فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة تحمل للناس الخير والعدل واستطاعت أن تؤدب جبابرة الأرض الذين عاثوا فى أرجائها فساداً وظنوا أن كبرياءهم لن يخدشها أحد !
حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد، فقوموا صعر المعتدين، وأعزوا جانب المستضعفين، وكم تحتاج الدنيا فى يوم الناس هذا إلى هذا الطراز من الرجال ليحموا الحق الذليل وينقذوا التوحيد المهان ويقروا الأخوة الإنسانية المنكورة وينزلوا البيض إلى منزلة السود أو يرفعوا السود إلى منزلة البيض ..
لكن السقطة الرهيبة للعرب المعاصرين أنهم ذاهلون عن المكانة التى منحهم محمد إياها هابطون عن المستوى الذى شدهم إليه، وفيهم من يفتح فمه ليقول : إن العرب يمكن أن يكونوا شيئاً من غير محمد !!
قبح الله وجهك من قائل أفاك ..
ومن أيام جاءنى نفر من العامة متنازعون على إدارة مسجد : بعضهم يريد أن يقول فى الأذان : " أشهد أن " سيدنا " محمداً رسول الله " .
والآخر يريد الاكتفاء بالوارد فلا يذكر لفظ " سيدنا " لأنه مبتدع .
ونظرت إلى أعراض المرض الذى يفتك بالأمة المعتلة، وقلت لهم : إن محترفى الإفك من المبشرين والمستشرقين ملأوا أقطار العالم بالافتراء على محمد وشخصه ودينه، ورسموا له صورة مشوهة فى أذهان الكثيرين وأنتم هنا لا تزالون فى هذا الغباء .
ما أشقى ديناً أنتم أتباعه، إن المسلمين بين ما ورثوا من جهل وما نضح عليهم من ضلال العصر لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون ..
.. إن حب محمد يوم يكون لقباً يضفيه عليه الكسالى الواهنون فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون أحفالاً رسمية وشعبية بيوم ميلاده فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون قراءة للكتاب المنزل عليه فى مواكب الموت ومجالس العزاء فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون ادعاء تستر به الشهوات الكامنة والطباع الغلاظ فهو حب لا وزن له ولا أثر ! .. لأن محمداً هو الرسول الذى رسم للبشر طريق التسامى الحقيقى، ورسم للجماعات طريق التلاقى على الحقائق والفضائل فدينه عقل يأبى الخرافة وقلب يعلو على الأهواء .
ـ ماذا كسب المسلمون عندما حولوا الدين من موضوع إلى شكل ؟
ـ وماذا كسب العرب عندما شقوا طريقهم إلى المستقبل وهم يطوون اسم محمد وتراثه عن نشاطه السياسى والعسكرى ؟
ولو نظرت إلى هذه الألوف المؤلفة من الكنائس والمعابد لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة تعمل من غير ملل لصرف الناس عن الإسلام ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف ..
وكأن الله تبارك اسمه شاء أن يعرف هذه الأمم مدى ما كانت فيه من غباوة وأن يذيقها شيئاً من مرارة الجريمة التى ارتكبتها، فهو فى ساحة العرض الشامل لأصناف الخلائق يحشر سكان القارات الخمس على مر القرون يحشرهم فى صعيد واحد، ثم يكشف الغطاء عن عيونهم وإذا هم يتبينون فداحة جهلهم بالله الكبير المتعال، ويتبينون شناعة خصامهم لإمام رسله ..
وهنا يموج بعضهم فى بعض [ كتبنا هذا الكلام فى كتابنا " من هنا نعلم " من ثلث قرن ]، ويضطربون فى حيرة مفزعة لا يرجى منها خلاص، وتتحرك جموعهم إلى كل نبى سمعوا باسمه فى العالم الذى انتهى يناشدونه أن يسأل الله لهم الرحمة، ولكن النبيين كلهم يرفضون التصدى لهذا المطلب، ويعود أهل القارات الخمس متراكضين إلى الرجل الذى طالما قيل لهم إنه كذاب، إنهم يحسون الآن عن يقين أنهم أخطأوا فى حقه، وأنهم يوم صدوا عنه كانوا يخسرون أنفسهم وأهليهم .. ! [ يشير شيخنا إلى حديث الشفاعة الطويل الذى رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، وابن حبان فى صحيحه راجع الترغيب ( 4 / 425 ) ] .
الشفاعة العظمى فى رأيى موقف يحاكم فيه التاريخ البشرى كله ليعترف أن انصرافه عن الإسلام كان مشاقة لله وعداء لأحب أوليائه وأصدق دعاته ..
وما أعجب أن تجد الإنسانية نفسها فى حرج يوشك أن يقضى عليها ثم تعلم فجأة أن التنفيس عن كرباتها ربما تم باللجوء إلى الرجل الذى عاشت دهوراً، وهى تروى عنه الأكاذيب وتنسب إليه الأساطير .
والتجاء أهل الأرض إلى محمد فى هذه الساعة العصيبة ولجوءه إلى الله يطلب مغفرته لعبيده الأغرار، ذلك فى ظنى هو المقام المحمود، المقام الذى نسأله لمحمد عقب كل أذان يتردد صداه فى مهاب الريح ليستجيب له قوم وينصرف عنه آخرون " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت " محمداً " الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذى وعدته " .
قلت : إن محمداً فى عالم العقائد والحقائق شمس وضاحة نفاحة، لكن العميان كثيرون، وقد مكث هذا الرسول النبيل يصدع بأمر الله وينقذ الناس من أهوائهم ومظالمهم، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى تاركاً فينا تراثه الجليل من كتاب وسنة، فليتعلم الدعاة من حياة سيد الدعاة أن أجر الحق المبذول لا يعجل فى الدنيا، وأن للمقام المحمود موعداً فى غير هذه الدار يتعلق به وحده الدعاة الأبرار .
مشهورون ومجهولون
أعجبنى فى اليمين التى حلف عليها أنس بن النضر أن الرجل كان يشهد الله وحده، وينشد أولاً وآخراً رضاه .
لقد أحزنه أن الله لم يره فى ميدان القتال ببدر، فأقسم أن يرى الله نفسه فى أول لقاء بالكافرين، وأن يضرب أعلى مثل فى التفانى والاستبسال .
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
لم يدر فى خلد أنس تطلع إلى جاه أو تشوق إلى شهرة .
كان الرجل أزكى نية وأشرف نفساً من أن يلم بهذه الدنايا .
والعمل لا يوصف بالصلاح ولا يرشح للقبول إلا إذا خلص لله وحده، وقصد به وجهه .
روى أحمد بن حنبل عن محمود بن لبيد أن رسول الله قال : إن أخوف ما أخاف على أمتى الشرك الأصغر، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء !
يقول الله عز وجل ـ للمرائين ـ إذا جزى الله الناس بأعمالهم : " اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فى الدنيا، فانظروا : هل تجدون عندهم جزاء ؟ " .
والواقع أنه لا جزاء عندهم لا فى الآخرة ولا فى الدنيا، فماذا يرجو عبد من عبد إلا أن يزداد ذلاً ؟ وماذا يطلب فقير من فقير إلا أن يزداد عيلة !
إن الإخلاص لله سياج العز وضمان الخير فى الحياتين .
وعندما تصدق النية فلا يخشى على العبد من مجاهرة بصلاة أو جهاد أو صدقة، إذ الأساس استهداف وجه الله، وليس على البال غيره .
ومن الحماقة أن يطلب إنسان ثناء الخلق وهو يعلم أن الله قد ستر عليه ذنوباً لو كشفوها لسودوا وجهه !!
الله أولى بالاتجاه والمودة وأحق بالحفاوة والالتفات ..
ومن عظمة الإيمان اكتفاء المرء بنظر الله إليه، وإيثاره أن يعمل فى صمت، أو يموت جندياً مجهولاً، وهذا الاكتفاء دلالة استغراق المرء فى الشهود الإلهى، ورسوخ قدمه فى مقام الإحسان، وتلك هى الولاية كما شرحها معاذ بن جبل رضوان الله عليه .
روى ابن ماجه أن عمر بن الخطاب خرج إلى المسجد فوجد معاذاً عند قبر الرسول
يبكى ! فقال : ما يبكيك ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله : " اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة " .
أجل إن الله يحب أولئك العاملين فى صمت، الزاهدين فى الشهرة والسلطة، المشغولين باللباب عن القشور، المتعلقة قلوبهم بالله، لا تحجبهم عنه فتنة ولا تغريهم متعة .
وما أفقر أمتنا إلى هذا الصنف المبارك، بهم ترزق وبهم تنصر .
إلا أن بعض العبادات الأصلية ما تتم إلا فى جو العلانية والظهور كالتعلم والدعوة والقضاء والجهاد، بل إن قيام الأركان الأساسية يتطلب ذلك، وهنا تؤكد خطورة النية المصاحبة فى تقويم أى عمل صحة وقبولاً .
وقد كان أبو بكر يقوم الليل فيقرأ سراً، وكان عمر يقوم فيقرأ جهراً، فلما سئل الصديق قال : أسمعت من أناجى ! ولما سئل الفاروق قال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان !!
إن إخلاص النية هنا وهناك يجعل السر والعلن سواء .
وذلك ما ينبغى أن يعيه الدعاة والقضاة والساسة والقادة، وكل من يحملون مؤنة الآخرين، أو يكونون فى موضع الأسوة .
والإخلاص لا يمنع المسلم من الاهتمام بنفسه وسمعته وكرامته .
إن الله كلفنا أن نجمل أبداننا وملابسنا، وكره لنا رثاثة الهيئة وكآبة المنظر فى الأهل والمال، فليس من الرياء أن نصون أحوالنا ونحصن مكاناتنا من الظنون والمكدرات !
من حق الكريم ألا يتهم بالبخل كما أن من حق النظيف ألا يرمى بالأدران .
لكن الدفاع عن الكيان المادى والمعنوى شىء وطلب وجوه الناس بالعمل الصالح شىء آخر .
وقد خلد القرآن الكريم ذكر فريقين من الهداة الأتقياء :
ـ أحدهما : سجل أسماءه وجهاده وأثنى على رجاله أطيب الثناء .
ـ والآخر : طوى أسماءه ونشر سيرته واكتفى بشرح عمله وتزكية أثره .
من الأولين أنبياء الله الكرام الذين غرسوا هدايات السماء فى الأرض، وذادوا عنها أوبئة الكفر والعدوان .
والقرآن عندما يثبت تاريخاً لا يعنى إلا بإبراز المناقب التى تؤخذ منها الأسوة والفضائل التى سبقت بذويها وأعلت أقدارهم !
تدبر قوله تعالى : " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدى والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار " [ ص : 47 ] . إن هذه الآيات تنبه إلى الاستطالة المادية والمعنوية لهؤلاء الدعاة الكبار، فليست الأيدى والأبصار هذه الأعضاء والحواس التى يشترك فيها العباقرة والدهماء، ولكنها القدرة والمعرفة !
وهل يتقدم من يتقدم، ويتأخر من يتأخر إلا بهذا التفاوت البعيد فى الهمم والثقافات ؟؟
وندع الحديث عن هذا الفريق الذى رفع الله ذكره إلى الفريق الآخر الذى أسدل على أسماء رجاله ستار كثيف فما يعرفهم إلا ربهم .
من يدرى ؟ لعل هذا تكريم وتثبيت للذين يعملون حتى الممات بعيداً عن الأضواء، إنهم أسمعوا من يناجون ! ولن يضيع من عملهم مثقال ذرة وإن جهل الناس من هم
لهم أسوة حسنة فيمن حكى القرآن أنباءهم وترك ـ غير نسيان ـ أسماءهم .
من هؤلاء مؤمن آل فرعون الذى أحس نية الغدر بموسى والتآمر على قتله، فاصطنع أسلوب المحايد فى عرض نصحه وتفكيره قائلاً :
ما خطورة أن يؤمن أحد بالله، أو يزعم أنه يحمل رسالة من لدنه :
ـ إن كان كاذباً فستفضحه الأيام، ولن يضر إلا نفسه .
ـ وإن كان صادقاً فإن العدوان عليه استهداف لعقاب الله الكبير، وليس من العقل التعرض لعقاب الله .
واستتلى يقول : قد نكون اليوم أقوياء غالبين، ولكننا بشر لا نفلت من أصابع القدرة العليا عندما تقبض علينا فلا ينبغى أن نجور على عباد الله ..
مخلداً دفاع هذا المحامى المؤمن :
" وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟! وإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذى يعدكم، إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا .. قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " [ غافر : 29 ] .
وأحب أن أقف قليلاً عند رد فرعون : هل كان الرجل يعتقد فعلاً أنه راشد، أم أنه كان يحاد الله ورسوله وهو يدرى أنه مبطل عنيد ؟
الواقع أن كثيراً من الضالين يمضون فى طريق الغواية وهم يستحسنونها ويستريحون إليها ويعتقدون أن لهم وجهة نظر جديرة بالتسليم .
وفى هؤلاء يقول الله تعالى : " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " [ النمل : 4 ] ويقول : " أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم " [ محمد : 14 ] .
ويقول المفسرون فى قوله تعالى : " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " نزلت الآية فى أبى جهل عندما قاد المشركين فى معركة بدر، فقد قال لما التقى الجمعان : اللهم أينا كان أفجر قاطعاً للرحم ـ يعنى نفسه ومحمداً ـ فاحفه اليوم أى أهلكه ..
فكأن هذا الكفور الكنود كان إلى الرمق الأخير يعتقد أنه محق فيما ارتكب !!
إن الحجاب المسدل على بصيرته لم يسمح لشعاع من الخير أن يتسلل إلى نفسه، وهو المسئول عن ذلك الطمس، فلولا إدمان المعصية وتعود الجريمة، ما أصابه هذا العمى !
وقد يكون كلا الرجلين " فرعون " و " أبو جهل " كاذباً فى حديثه عن نفسه وحواره مع قومه، فمثلهما من الدهاء والقدرة بحيث يدرى أنه مسترسل مع هواه، وأنه يكابر الحقائق، ويشاق الله ورسله .
وقد كشف القرآن الكريم فى موضع آخر أن فرعون وقومه لما جاءتهم آيات الله الباهرة " جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً " [ النمل : 14 ] كما قال لرسوله محمد شارحاً موقف أبى جهل وأشباهه " إنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " [ الأنعام : 33 ] .
وقد كان مؤمن آل فرعون يحس أنه أمام جماعة من الأفاكين المغرورين، فأخذ رويداً رويداً يتخلى عن موقف الحياد الذى بدأ به نصائحه وارتفعت درجة الحماس فى خطابه لفرعون ومن معه خصوصاً عندما قال فرعون ساخراً لوزيره هامان : " ابن لى صرحاً لعلى أبلغ الأسباب، أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى، وإنى لأظنه كاذباً .. " [ غافر ] .
عندئذ احتدت لهجة الرجل المؤمن، واضطرم الإخلاص فى قلبه ولسانه فصاح " يا قوم مالى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار .. " .
وقال : لا جرم أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله " [ غافر ] .
ولكن هذه المناشدة الخالصة الحادبة لم تلق آذاناً واعية فمضى فرعون إلى مصرعه، وأورد قومه الحتوف، وبقى النصح الجميل الصادق الذى بذله الرجل المؤمن خالداً على الدهر يكشف عن أسرار القدرة العليا فيما أنزلت بالظالمين .
من هذا الرجل الذى يردد كلام الأنبياء وليس منهم ؟ لا نعرفه، ولا نعرف عن مولده ومماته شيئاً .
ليكن رمزاً للعمل بعيداً عن الأضواء، استعلاء على الشهرة فى الأرض، وإيثار العقبى فى السماء !!
وهذا رجل آخر من الطراز عينه، رجل وجد العراك محتدماً بين رسل الله وحماة الانحراف، هؤلاء يريدون أن يبلغوا عن الله ويغيروا الشر السائد، وأولئك يريدون تكميم أفواههم وإخراس ألسنتهم ..
ونما الخصام بين الفريقين، وبلغ الأمر بأعداء الوحى أن تشاءموا من وجود المرسلين بينهم، ومن دعوتهم فيهم، فتهددوهم بالعذاب الأليم .
وجاء الرجل المؤمن من بعيد يهيب بقومه أن يعقلوا !
وقال : " يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " [ يس : 26 ] .
لقد أمن قومه على أموالهم فلم يرزأهم أحد فيها، وهذه الدنيا التى يحرصون عليها ستبقى لهم مزدانة بالإيمان الحق، فما أجمل هذا !
ثم تساءل : ما يمنعنا من الإيمان ؟ وما يغرينا بالشرك ؟
" وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون ؟ أأتخذ من دونه آلهة، إن يردن الرحمن بضر لا تغنى عنى شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ؟ إنى إذاً لفى ضلال مبين . إنى آمنت بربكم فاسمعون " .
إنه يريد إسماعهم ليرعووا ويقتدوا ولا يستوحشوا من الطريق الذى يدعوهم إليه .
وبقى الرجل إلى آخر رمق ينصح أهل بلده ليرشدوا، بيد أنه مات تاركاً إياهم على غوايتهم .
فلما وجد طيب عيشه عند ربه وثمرة إيمانه تحف به وتقر عينه تذكر الرجل المخلص قومه فتمنى لهم الهدى " يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين " .
ولكن قومه أصروا على العمل فمستهم نفحة من عذاب الله أخمدت أنفاسهم وجعلتهم أثراً بعد عين .
من هذا الرجل الطيب القلب السمح النفس ؟
لا نعرفه، حسبه أن ربه يعرفه، إنه لم يعمل إلا له !
والفتية أهل الكهف الذين أحبوا ربهم حباً جماً، وغالوا بتوحيده مغالاة ظاهرة، من هم ؟ لا ندرى، لقد رفض القرآن أن يجلو النقاب عن أشخاصهم وعددهم " ربهم أعلم بهم " " ربى أعلم بعدتهم " .
لكنه كشف عن جلال يقينهم وسمو معرفتهم بالله وإجماعهم على إفراده بالعبادة، وازدرائهم لكل انحراف إلى الشرك " ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً " .
كما كشف عن تبرمهم الشديد بالمجتمع الوثنى وعزوفهم عن البقاء فيه، وخشيتهم من العودة إليه إذا ضبطوا متلبسين بإيمان !
وانظر مدى كراهيتهم للكفر، والوقوع تحت سطوة أهله، وقول بعضهم لبعض " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً ! " [ الكهف : 20 ]
إن العيش بمبدأ كريم ولمبدأ كريم شىء عظيم حقاً .
وإنما يتفجر الفداء والإخلاص من عمق هذه الحياة الرفيعة .
والأمة العربية فتكت بها أمراض الرياء، وعلل التعاظم الأجوف والرغبة فى الظهور بالحق أو بالزور، ولا يمكن أن تنهض أمة مع هذه الأدواء الخسيسة !
إننا بحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود المجهولين، يعملون فى ألف ميدان، ويسدون ألف ألف ثغرة .
فهل يوجد من يكتفون بنظر الله إليهم، ويستغنون عن أنظار الناس ؟
التنادى بالجهاد المقدس
فى صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامى يعرف بحبه للجهاد وارتضائه لأشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل .
كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه، فقد كبح جماحهم، وقلم أظفارهم ورد فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظل بينهم عبرة متوارثة وتأديباً مرهوباً ..
ويرجع ذلك إلى أمور عدة :
أولها : أن الحقائق الدينية عندنا لا تنفك أبداً عن أسباب صيانتها ودواعى حمايتها، فهى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها .
وذلك هو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو الانحراف بها عن أصلها .
ثم إن الإسلام جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجراً، أجل فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم ما بقى للإيمان منار، ولا سرى له شعاع " قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد فى سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول : لا تستطيعونه ! ثم قال : مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام .. حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله " [ البخارى ] .
وإذا كان فقدان الحياة أمراً مقلقاً لبعض الناس فإن ترك الدنيا بالنسبة لبعض المجاهدين بداية تكريم إلهى مرموق الجلال شهى المنال حتى أن النبى حلف يرجو هذا المصير .
" والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل " [ البخارى ] .
فأى إغراء بالاستماتة فى إعلاء كلمة الله ونصرة الدين أعظم من هذا الإغراء ؟
لقد كانت صيحة الجهاد المقدس قديماً تجتذب الشباب والشيب وتستهوى الجماهير من كل لون، فإذا سيل لا آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب فى الميدان المشتعل . فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوى أعداء الله وتلقنهم درساً لا ينسى .
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت أم أنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب ؟
إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهوداً هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعانى أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة !
وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم من الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن كل مجال جادة، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين .
وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحاً ملحوظاً فى سبيل غايته تلك ..
ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم واستباح مقدساتهم ..
وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه .
إن تجميع الأصفار لا ينتج عدداً له قيمة !!
وإن الجهد الأول المعقول يكمن فى رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه فى شئونهم، ما ظهر منها وما بطن ..
عندئذ يدعون فيستجيبون ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف فيبتسم لهم النصر القريب وتتفتح لهم جنات الرضوان .
إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شىء .
أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة :
" حكوا عن قوم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأساً ليقطع بها هذه الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه ! فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أقطع تلك الشجرة التى تعبدون من دون الله، فقال له : اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح ! ..
" فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً، وظل كذلك ثلاثة ايام، فخرج مغضباً ومعه الفأس ليقطع الشجرة ! قال : ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك ..
" لقد خرجت فى المرة الأولى غاضباً لله فما كان أحد يقدر على منعك ! أما هذه المرة فقد أتيت غاضباً للدنيا التى فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ إربك فارجع عاجزاً مخذولاً .. " .
إن الغزو الثقافى للعالم الإسلامى استمات فى محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة، استمات فى تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة، استمات فى إرخاص المثل الرفيع وترجيح المنافع العاجلة ..
ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشهوات فإن العدوان يشق طريقه كالسكين فى الزبد، لا يلقى عائقاً ولا عنتاً ..
وهذا هو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإن ذلك ليس استجابة للحق فقط، بل هو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى الآخرة ..
إن ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، واتباع نزوة خاصة قد تكون ارتكاب جريمة مخلة، لكن هذا أو ذاك يمثلان فى الأمة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة والتمهيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جهاد أو أمل فى استشهاد، ولعل ذلك سر قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون
غياً " [ مريم 59 ] .
إن كلمة الجهاد المقدس إذا قيلت ـ قديماً ـ كان لها صدى نفسى واجتماعى بعيد المدى، لأن التربية الدينية رفضت التثاقل إلى الأرض والتخاذل عن الواجب، وعدت ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا والآخرة .
وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبداً هى التى تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى فى شرق العالم وغربه .
وكل مؤتمر إسلامى لا يسبقه هذا التمهيد الحتم فلن يكون إلا طبلاً أجوف !
والتربية الدينية التى ننشدها ليست ازوراراً عن مباهج الحياة التى تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف والاستقامة، وجعل الإنسان مستعداً فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب .
كنت أقرأ مقالاً مترجماً فى أدب النفس فاستغربت للتلاقى الجميل بين معانيه وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة التى يجهلها للأسف كثير من الناس .
تأمل معى هذه العبارة :
" يقول جوته الشاعر الألمانى : من كان غنياً فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شىء من خارجها ! "
أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله : " ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس " ! [ البخارى ]
عن أبى ذر رضى الله عنه : قال رسول الله : ترى كثرة المال هو الغنى ؟ قلت : نعم يا رسول الله ! قال : فترى قلة المال هو الفقر ؟ فقلت : نعم يا رسول الله . قال : إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب " ..
واسمع هذه العبارة من المقال المذكور :
" النفس هى موطن العلل المضنية، وهى الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح ..
" هذا القوت شىء آخر غير الأخبار المثيرة والملاهى المغرية والأحاديث التافهة والملذات البراقة التافهة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتد، إن التافه الخسيس مفسدة للنفس ! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكاناً فى عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك اثرها، وتسلك بك أحد طريقين : إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة وإما أن تزيدك اقتداراً وأملاً ".
أليس هذا الكلام المترجم شرحاً دقيقاً لقول البوصيرى :
وإذا حلت الهداية نفساً
نشطت للعبادة الأعضاء !
وتمهيداً حسناً لقول ابن الرومى :
أمامك فانظر أى نهجيك تنهج
طريقان شتى مستقيم وأعوج
واقرأ هذه الكلمات أيضاً فى المقال المترجم : " رب رجل وقع من الحياة فى مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظل يجاهد للنجاة مستيئساً، وبينا هو كذلك انهارت قواه وشق عليه الجهاد وأسرعوا به إلى الطبيب .. الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة . كل ما يحتاج إليه الرجل ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجهاً لوجه لا تثنيه عقبة ولا رهبة ".
إن هذا الكلام يذكرنى بما روى عن جعفر الصادق : من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق ! قيل وما ذاك ؟ قال : الراحة فى الدنيا .
وأنشدوا :
يطلب الراحة فى دار الفنا
خاب من يطلب شيئاً لا يكون
إن التربية التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعاً من التفكير الإنسانى الراشد، إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان ومغاضبة للرحمن ..
والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من مائة سنة صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخرى، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها فأمست جسداً ونفساً لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها ..
بل إنها فى تقليدها للعالم الأقوى تقع فى تفاوت مثير :
عندما ننقل المباذل ومظاهر التفسخ فى الحضارة الغربية ننقلها بسرعة الصوت، أما عندما ننقل علماً نافعاً وخيراً يسيراً فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة .
وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة وأدوات الزينة والترف مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ونياته السود فى اغتيالها وإبادتها !
وظاهر أن هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذى أخذت به منذ الصغر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجوراً، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة والطرف الجديدة والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة ؟
ولا بأس بعد توفير ذا كله من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة !
ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير !
ثم يسمى هذا السلوك التافه تديناً !
لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم واطراح آدابه وترك جهاده فماذا جر عليهم ذلك ؟ حصد خضراءهم فى الأندلس فصفت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم، وما زال يرن فى أذنى قول الشاعر :
قلت يوماً لدار قوم تفانوا
أين سكانك العزاز علينا ؟
فأجابت هنا أقاموا قليلاً
ثم ساروا ولست أعلم أينا !
أسمعت هذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلوات واتباع الشهوات .. إن عرب الأندلس لم يتحولوا عن دارهم طائعين ولكنهم خرجوا مطرودين .
أفلا يرعوى الأحفاد مما أصاب الأجداد ؟
لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين، فكنت أدع الصحف جانباً ثم أهمس إلى نفسى : هناك خطوة تسبق كل هذا، خطوة لا غنى عنها أبداً :
هى أن يدخل المسلمون فى الإسلام ..
إننى ألمح فى كل ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعاً إلى الشهوات، وزهادة فى المخاطرة والنقب وإيثاراً للسطوح على الأعماق والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم . فكيف تعيد مجداً تهدم أو ترد عدواً توغل ..؟
ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم " إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها قبلنا المفرطون والجاحدون .
دين زاحف مهما كانت العوائق
كلما قرأت أبواب الفتن فى كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هذه الأحاديث قد أساءوا ـ من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون ـ إلى حاضر الإسلام ومستقبله !
لقد صوروا الدين وكأنه يقاتل فى معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد الزمن أكثر مما ربح !
ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة فظهرت وكأنها تغرى المسلمين بالاستسلام للشر، والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفة الخير لأن الظلام المقبل قدر لا مهرب منه .
وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذى رواه البخارى عن الزبير بن عدى قال : شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج فقال : اصبروا فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم " !!
وظاهر الحديث أن أمر المسلمين فى إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار !
... نذكرها، كما يخالف الأحداث التى وقعت فى العصر الأموى نفسه !
فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمد رقعة الإسلام شرقاً حتى احتوت أقطاراً من الصين وامتدت رقعة الإسلام غرباً حتى شملت أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا .
ثم تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز فنسخ المظالم السابقة، وأشاع الرخاء حتى عز على الأغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتهم !
ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقهاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة الإسلامية وخدموا الإسلام أروع وأجل خدمة، فكيف يقال : إن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيئ إلى أسوأ ؟؟ هذا هراء .
الواقع أن أنساً رضى الله عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التى شاعت فى عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهل الحق خسائر جسيمة، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر .
ـ وأنس بن مالك أشرف ديناً من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها فى مغامرات فردية تأتى عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخاً مكيناً !
ـ وتصبيره الناس حتى يلقوا ربهم ـ أى حتى ينتهوا هم ـ لا يعنى أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة الظالمة سنة ماضية إلى الأبد !
إن هذا الظاهر باطل يقيناً، والقضية المحدودة التى أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانونى يحكم الأجيال كلها ..
لقد سلخ الإسلام من تاريخه المديد أربعة عشر قرناً، وسيبقى الإسلام على ظهر الأرض ما صلحت الأرض للحياة والبقاء وما قضت حكمة الله أن يختبر سكانها بالخير والشر .
ويوم ينتهى الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هذه دنيا لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوى العالم أجمع !
فليخسأ الجبناء دعاة الهزيمة وليعلموا أن الله أبر بدينه وعباده مما يظنون .
لقد ذكر لى بعضهم حديث " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " [ رواه أحمد
والجماعة ] وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين ويستكين للأفول الذى لا محيص عنه !
وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم .
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبى ما فكر فى استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار فى " عين جالوت " !
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامى فى عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغانى إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً !
وقلت فى نفسى : أيكون الإسلام غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس ؟
يا للخذلان والعار !
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التى سوف يواجهها الحق فى مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته بل ربما وصل فى جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه !
وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذى يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التى يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً .
وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجىء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء فى بعض رواياته :
" طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى " [ راجع فى روايات الحديث كلها كتاب " غربة الإسلام " لابن رجب الحنبلى ] فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظاً أفضل .
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمى زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله فى مدافعتها حتى تلاشت !
والفتن التى لا شك فى وقوعها والتى طال تحذير الإسلام منها فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأى ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض .. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التى عاشت على العصبية العمياء ..
والعرب فى جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادى، فهم كما قال دريد بن الصمة :
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضى إلا ونحن على شطر
وما رواه أحمد عن تميم الدارمى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله يقول " لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها " [ رواه ابن حبان كما فى الزوائد للهيثمى رقم ( 1621 ) وجماعة . راجع الأحاديث الصحيحة للألبانى (1 / 7 ) ] .
وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود : صلى هذا الحى من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله يقول : " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن
عمالها ـ أمراءها ـ فى النار إلا من اتقى وأدى الأمانة " .
ويقول صاحب المنار فى نهاية تفسيره لقوله تعالى : " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم .. " : اعلم أن الاستدلال بما ورد من أخبار وآثار فى تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ما هى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم فى الأرض ـ سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد، وكحديث " لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق " رواه أحمد ..
" والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عن مسلم من أن ساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الذى يقال له اهاب، أى أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين .. " ولتعلمن نبأه بعد حين " .
وخطأ كثير الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان .
وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة .
وإنى لأذكر فيه قول المتنبى :
إنا لفى زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان واجمال
أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم الهام، والتلميذ الذى لا يسقط شىء والذى يحرز الجوائز شىء آخر !
والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لا ينهى واجبنا عن هذا الحد ..
سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل
ظلمة ..
ولا نمارى فى أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان الإسلامى قديماً وحديثاً .. بيد أن الضعاف وحدهم هم الذين انزووا بعيداً يبكون، ويتشاءمون، وينتظرون قيام الساعة !!
أما الراسخون فى العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق، وجمع الشتات، وإعادة البناء الشامخ حتى يدركهم الموت أو القتل وهم مشتغلون بمرضاة الله، حتى يبلغ الإسلام مواقع النور والظل من أرض الله أو كما قال الرسول العظيم " ما بلغ الليل والنهار " ..
قال الإنسان وقال الحيوان
نحن نعلم أن عدداً من حملة الأقلام قد صنعت رؤوسهم خارج هذه البلاد، وأن تصورهم لكثير من الحقائق وحكمهم فى كثير من القضايا لا صلة له بتراثنا ولا ارتباط له برسالتنا، وأن آخر ما يكترثون له أو يهتمون به هو الإسلام وحاضره ومستقبله، وإن كانت أسماؤهم إسلامية .
وكنت أحسب أن معركة المصير بيننا وبين بنى إسرائيل ستكرههم على مراجعة أنفسهم وتصحيح أخطائهم، ولكننى كنت واهماً .
لقد استيقظ بنو إسرائيل وهاجت فى دمائهم غطرسة الماضى، وانحرافات التدين ولوثات التعصب، وهجموا على بلادنا يبغون محو أمة وحضارة، وفى أيديهم كل ما استحدث العلم من أدوات الفتك !
وفى ملاقاة هذا العدوان تقرأ لكاتب روايات مصرى إنه مسرور من الجيل الحاضر لأنه يحسن الرقص والغناء !
قبحك الله من كاتب مكفوف البصيرة !
وفى هذا الاتجاه الضرير ينشر كاتب آخر مقالات مسهبة عن " الشخصية المصرية " يمهد فيها طريق الشهوة ويرسم لها الأهداف الوضيعة .
وتستغرب وأنت تقرأ فى صحيفة الأهرام مقالاته، فى أى عصر يعيش هذا الكاتب، ولأى جيل يكتب ؟
نعم لقد ذهب " توفيق الحكيم " إلى باريس لا ليسأل : كيف دخل الفرنسيون النادى الذرى ؟ ولا ليبحث كيف يحاول جواسيس الصهيونية سرقة أسرار طائرات " الميراج " ؟ ولا ليحقق كيف أقامت فرنسا قوة ثالثة تريد أن تضارع جبابرة الأرض ؟ لا .. إن شيئاً من ذلك لا يعنيه .
إنه ذهب ليزيد القراء العرب فهماً فى الأمور الجنسية، وليمد حريق الشهوات بوقود جديد يأتى على الأخضر واليابس ..
ذكر لنا الكاتب الجاد الناضج كيف أن زوجين لم يحسنا الوقاع ! وكيف أن طبيباً عالجهما حتى أحسناه ! وكيف شاهد مع الجمهور الفرنسى على " شاشة المسرح " : التطبيق العملى من الزوجين لما سمعاه وعرفاه من الطبيب، فظهرا عاريين يمارسان هذه العلاقة فى أتم وأكمل وجوهها " !
ويمضى كاتب الأهرام الوقور فى عرض ما راقه من صور فرنسية فيقول : " صادقت فى الحى " سينما " أخرى تعرض قصة عنوانها " الزواج الجماعى " .. جماعة من الأزواج الشباب اتفقوا بينهم على أن يعيشوا فى حياة مشتركة وأن يتقاسموا بينهم كل شىء وأن يناموا فى حجرة واحدة، ونساؤهم مشاع لمن شاء منهم، للزوج أن يعاشر من تروق له من زوجات زملائه، وللزوجة أن تختار ما تريد من أزواج زميلاتها، كل ذلك بالرضا التام من الجميع، وكأن الأمر رغيف خبز تتناوله الأيدى والأفواه .. ثم شاهدنا هذه العلاقات الجنسية تتم أمامنا بكل تفصيلاتها التى تخدش الحياء .. " الخ .
ونترك صورة هذا القطيع من الفتيات والفتيان المتصالح على الزنا الجماعى أو على الفسوق القذر .. لنترك هذا القطيع فى جوه المنتن لنقرأ كاتب الأهرام الفيلسوف "!" وهو يقرر رأيه فى هذا الموضوع .. قال " جعلت أفكر فى الأمر مستعرضاً ما سبق من حضارات كبرى فوجدت بعض التشابه . إن سمة الحضارة فى كل عصر هى البحث عن الحقيقة، ولا حياء فى البحث عن الحقيقة، خصوصاً ما يتعلق بالإنسان وأسباب وجوده المادى والروحى، فكانت حضارة مصر القديمة والهند ترسم وتنحت فى المعابد بعض الأعضاء التناسلية رمزاً للحياة .. بل إن كتب الأدب العربى القديم لأمثال الجاحظ وابن عبد ربه كانت تتحدث عن الجنس كما تتحدث عن الطعام، وأكثر هذه الكتب لا يخلو من باب للطعام وباب للباه، وما كان أحد وقتئذ يرى فى ذلك بأساً ولا حرجاً، ولكن يظهر أنه عندما تأخذ الحضارات فى الانحطاط تكثر المحظورات، وتسدل البراقع على كثير من الموضوعات، إلى أن تمتد إلى روح المعرفة وعادة البحث فتصيبها بالشلل وبهذا يقتل العلم وتخسر الحضارة " .
هذا هو فكر كاتب الأهرام الكبير ودرسه لتاريخ الحضارات السابقة واللاحقة ..
وظاهر من أسلوب الكاتب أنه لا يدرى شيئاً عن قضايا الحلال والحرام، ولا عن شرائع السماء فى السلوك الخاص والعام، ولا عن الطور العصيب الذى يمر به تاريخ العرب، بل سنرى أنه لا يدرى عن تاريخ الحضارات البشرية إلا هذه الأجزاء المبتورة عن التماثيل المقامة لأعضاء التناسل، واقتران الطعام بالباه فى كتب الأدب العربى القديم !!
ومع هذا التطور المزرى فهو كاتب كبير يملك حق التوجيه للأجيال الجديدة من أعلى المنابر .
إن علماء الدين ما نادوا فى بلادنا يوماً ما بكبت الغريزة الجنسية، ونحن نقدس فطرة الله التى فطر الناس عليها، ونحترم رغبة الذكر والأنثى فى لقاء مقنع مشبع، وسبيل ذلك الزواج فحسب ..
أما تيسير الزنا وتكثير أسبابه وتمهيد سبله وقبول نتائجه فهو ارتكاس إنسانى يصحب الأمم عندما تبدأ شمسها فى الغروب .
وتاريخ الأمة العربية والإسلامية معروف بأنه لم يعترف بالرهبانية كما لم يعترف بتبرج الجاهلية واستباحة الأعراض على نطاق ضيق أو واسع، فوصف الزنا العام بأنه زواج جماعى كلام قذر، وأى تمهيد لقبوله ـ كما ألمح الكاتب ـ مردود فى وجه صاحبه .
ثم إن العرب خلال هذا القرن قد حاقت بهم رزايا متلاحقة ثم استطاع عدوهم أن يضع أصابعه على مقاتلهم، وها هو يشد قبضته على خناقهم ليوردهم الحتوف .
وصيحة العلم والإيمان التى ارتفعت بيننا الآن هى أمل الحياة، فلحساب من تغرى أفواج الشباب بالانحلال والتردى، ويحددها كاتب مسلوخ عن الإيمان والعقل لتنسى ربها وشرفها ويومها وغدها !
نحن نعلم أن أوربا ارتقت فى العصور الأخيرة ارتقاءً بعيد المدى، لكنه من أكذب الكذب أن يجىء بعض الكتاب المصريين ليزعموا أن سبب ارتقائها هو انسلاخها عن مناهج الفطرة ومقتضيات الأدب .
إن أسباب النهوض شىء ومظاهر الانحلال شىء آخر، ولكى نعرف تفاهة كتابنا وانحدارهم الذهنى والنفسى ننقل إليك ما كتبه المؤرخ الإنجليزى الكبير " أرنولد توينبى " لتدرك منه حقيقة ما يتعرض له الكيان الأوربى من أخطار .
إن الأمراض التى يتعرض لها هذا الكيان المهتز هى هى " الخصائص البراقة " التى يريد نقلها إلى بلادنا كتاب تائهون مثل توفيق الحكيم وغيره من ذوى الأسماء والمناصب !
قال توينبى [ نشر المقال بالإنجليزية مجلة الإسلام الباكستانية، وترجمته إلى العربية مجلة رسالة الإسلام العراقية التى تصدر عن كلية أصول الدين ببغداد، والمقال طويل نقلنا منه نبذاً ] تحت عنوان درس من التاريخ للإنسان المعاصر :
" لقد فشلت جميع جهودنا لحل مشكلاتنا بوسائل مادية بحتة، وأصبحت مشروعاتنا الجريئة موضع سخرية ! إننا ندعى أننا خطونا خطوات كبيرة فى استخدام الآلات، وتوفير الأيدى العاملة، ولكن إحدى النتائج الغريبة لهذا التقدم تحميل المرأة فوق طاقتها من العمل، وهذا ما لم نشهده من قبل، فالزوجات فى أمريكا لا يستطعن أن ينصرفن إلى أعمال البيت كما يجب ..
" إن امرأة اليوم لها عملان : العمل الأول من حيث هى أم وزوجة، والثانى من حيث هى عاملة فى الإدارات والمصانع، وقد كانت المرأة الإنجليزية تقوم بهذا العمل الثنائى فلم نؤمل الخير من وراء عملها المرهق، إذ أثبت التاريخ أن عصور الانحطاط هى تلك العصور التى تركت فيها المرأة بيتها ..
" فى القرن الخامس قبل الميلاد حين وصلت اليونان إلى أوج حضارتها كانت المرأة منصرفة إلى عملها فى البيت، وبعد مجىء الإسكندر الكبير وسقوط دولة اليونان كانت هناك حركة تسوية شبيهة بالحركة التى نشهدها اليوم ! ..
" لقد نسوا الله ( والكلام لتوينبى ) حين وضعوا حلولاً لمعالجة الأمراض الاجتماعية انتهت بالأمم إلى علل مستعصية ومآس كبيرة ..
" إن عصر الآلة أوجد لنا نقصاً لم يسبق له مثيل، نقصاً فى المساكن مثلاً، وخلق لنا فترات متناوبة من البطالة، ونقصاً فى الأيدى العاملة " .
ويقول توينبى : " لقد مشى الإنسان قديماً فى الطريق الذى مشى فيه اليوم، ووضع القواعد نفسها لتنظيم السير والمرور، والفرق الوحيد أن الأوائل استخدموا عربات الخيل بدل السيارات، وأن مخالفة تعليمات المرور لم تكن مروعة ومميتة كما هى اليوم ..
" إن التقدم الفنى والصناعى ليس بحد ذاته دليل الحكمة أو ضمان البقاء، وإن الحضارات التى انبهرت وقنعت بمهارتها الآلية إنما كانت تخطو خطوة نحو الانتحار ! ..
" إن أحد مصادر الخطر على عصرنا الحاضر هو أننا تربينا على عبادة الوطن وعبادة الراية وعبادة التاريخ الماضى ـ العنصرى ـ ويجب على الإنسان أن يعبد الله وحده وأن يتمسك بالقانون الإلهى فى تكامل الفرد والمجتمع، وإن فشلنا لمحتم عندما نحيد عنه " هكذا يقول توينبى .
ومن عباراته فى هذا المقال : " لقد أقنعتنى دراستى لإحدى وعشرين حضارة أن الثقافة الخلاقة هى فقط الثقافة الصحيحة، تلك التى تتمكن من حل المشكلات المستجدة فى الظروف المختلفة ..
" إن التقدم العلمى الحديث قد حل مشكلاتنا الصناعية بجدارة ..
" ولكن مشكلات العصر ليست من ذلك النوع الذى يحل فى المختبرات، إنها مشكلات معنوية، ولا علاقة للعلم بالقضايا المعنوية " .
يعنى : أن الأمر فى هذه الأحوال لمنطق الإيمان، ولذلك يقول :
" قد يبدو هذا غريباً ولكن المدنيات الكبيرة بلغت نضجها وضمنت تكاملها بالتغيير الروحى " !
نقول : إن المؤرخ الأوربى الغيور على حضارته يلمح أسباب اعتلالها ويصف الدواء بحذق، أما الصحافى المصرى فهو يذهب إلى مسرح عابث فيصفه بإعجاب، ويتذكر أن مصر والهند كانتا قديماً تقيم التماثيل لأعضاء التناسل !!
أى فكر هذا ؟ وكيف تتداعى المعانى المثيرة على هذا النحو فى ذهن أديب لتنشرها صحيفة كبرى ؟
ومتى ؟ فى أيام استعداد العرب لجولة أخرى مع بنى إسرائيل يحررون بها أرضهم ويدركون ثأرهم !
ما ننتظر غير هذا من أقلام شبت على العبث وشاخت فيه .. بيد أننا نلفت الشباب المسلم إلى حقائق قد تغيب عن ذهنه فى غمرة الأحداث .
إن أعيننا ترمق قوماً يكرهون الإسلام من أعماق قلوبهم ويتحينون الفرص للتنفيس عن ضغنهم بوسيلة أو أخرى .
وهؤلاء يغضبون عندما ننتسب ـ مجرد انتساب ـ إلى الإسلام ولا يتحركون أية حركة إذا تعصب المتعصبون لأية نحلة أخرى على ظهر الأرض .
على الشباب المسلم أن يرمق هؤلاء بحذر وأن يدرك ما فى خباياهم من سواد ..
فى يوم ما جاء إلى صحن الأزهر وفد يجمع بين جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار ولويس عوض وتوفيق الحكيم وآخرين لا أذكرهم ..
كان فيلسوف الوجودية وعشيقته مدعوين لزيارة القاهرة وإلقاء محاضرات بها ..
من الذى استقدم إلى عاصمة العروبة والإسلام هذا الفرنسى الكفور ليلقى فيها بذور انحلاله ؟!
لا يهم أن نعرف الأشخاص، وإنما المهم أن نحذر النيات المبيتة وأن نتقى التوجيهات المسمومة وأن نتبين الدائرة الواسعة التى يعمل فيها عدونا، لهدم عقائدنا ودك حصوننا فإن هؤلاء الأعداء كثيرون " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم " .
حول خرافة تحديد النسل
قرأت مقالاً عن " الانفجار السكانى وإمكانات التحكم " نشرته صحيفة الأهرام يوم الجمعة 2 / 1 / 1970 ولا أكون مغالياً إذا وصفت هذا المقال بأنه صائب الفكرة عميق النظرة مملوء بالحقائق الجديرة بالاحترام .
ولقد لفت عدداً من الدعاة المسلمين وعلماء الدين إلى هذا المقال لأنه يصور فى نظرى عودة أفكار سبق أن كتبتها ووقفت عندها، ورأى جمهور المسلمين أنها التعبير الحق عن أحكام دينهم ونهج حياتهم، وإن كان البعض قد مارى فيها مراء يعلم الله بواعثه !
والكاتب بعد مقدمات جيدة حول مشكلة النسل يقول :
إن تفسير الزيادة السكانية بغير التخلف الاقتصادى، أو رد هذه الزيادة إلى عوامل أخرى .
مثل غلبة الغريزة الجنسية،
أو وجود الأديان المحبذة للتناسل،
أو عدم المبالاة بالرقى ..
يدخل فى باب التضليل العلمى !
وقد استخلص هذه النتيجة الصادقة من جملة ملاحظات علمية واجتماعية جديرة بالتأييد الحار .
ويعجبنى أنه استهجن صيحات التشاؤم المفتعلة التى تخصص فى إرسالها بين الحين والحين نفر من مقلدى الأساليب الأمريكانية فى الإحصاء الجزئى والحكم العام، وهى أساليب تخدم سياسة معينة من البيانات والبلاغات التى يتبرع بها نفر من نجوم الرأى الأمريكيين يزعمون فيها أن العالم قد بلغ فى مسيرته نحو كارثة " اللاعودة " .
بسبب الزيادة المفرطة فى سكانه، تلك الزيادة التى نشأت من أن أقطار العالم الثالث ـ الذى يضم عشرات من الدول النامية أو بتعبير آخر عشرات من الدول المتخلفة ـ لم تكبح جماح شهواتها الجنسية، ولم تستجب لدعوة المندوب الأمريكى إلى " تخطيط " أو تحديد النسل الذى رأى سيادته أنه الطريق الوحيد لحسم المشكلة السكانية ..
بل لم يستح نفر من قادة الرأى فى الولايات المتحدة أن ينادوا جهراً بضرورة استخدام القسر فى الحد من هذا التفوق العددى للمراتب السفلى من البشر (!) بالقدر الذى يمنع دفع المراتب الأعلى إلى الخلف !
ولما كانت نسبة الأولاد تكاد تكون ثابتة من عشرات السنين فإن الزيادة المحذورة نشأت للأسف من قلة الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحى فى أرجاء العالم .
والحل ؟
إنه عند أرباب الثقافة الغربية الرفيعة عدم مقاومة العلل بين شعوب لا تجد الأكل، وترك الأمراض تفتك بهذه الأجيال الوافدة فإن إقحام طوفان من الأطفال الجياع على اقتصاد مضطرب يهدد بكارثة !
لكن كيف يوصف هذا التصرف ؟
إنه تصرف " إنسانى " عادى (!) لأنه يساعد الطبيعة على انتخاب الأصلح وإبقاء الأقوى !
بل إن هذا التصرف يتفق مع أرقى ثمرات الفكر الإنسانى، ألم يقل أفلاطون فى جمهوريته الفاضلة أنه يجب قتل كل طفل يزيد عن العدد الضرورى ؟ ونحن قد وصلنا بالفعل إلى ما يزيد عن العدد الضرورى .
ويستتبع الفكر الغربى أحكامه على الأمور، فيقول الدكتور " هوايت ستيفنز " أحد خبراء علم الاجتماع : إن يوم القيامة سيوافق 13 / 11 / 2026 لأن المجاعة العالمية فى هذا اليوم ستقضى على الجميع، هكذا يقول الدكتور الألمعى بعد حساب وفق قواعد علم الاجتماع لا قواعد علم التنجيم !
وبناء على هذا الهوس الإحصائى يدعو الأمريكيون إلى التعقيم الإجبارى وإلى فرض نظام صارم لتحديد النسل، وإلى دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء ما كى ينخفض عدد الأولاد بين العرب والزنوج والهنود وأشباههم وهم سواد العالم الثالث .
ويلاحظ الأستاذ كمال السيد ـ كاتب المقال ـ أموراً ذات بال منها أن الولايات المتحدة تنفق 70 ألف مليون دولار على معدات القتال وأن شركاتها المحتكرة تعامل شعوب العالم الثالث بنهم مستغرب لا مكان معه للرحمة بهؤلاء الجياع المساكين .
ويقول " وهناك صيغة شائعة فى أمريكا الجنوبية فحواها " :
أن خمسة من سكانها يموتون جوعاً كل دقيقة فى حين أن الشركات الأمريكية العاملة بها تكسب خمسة آلاف دولار كل دقيقة أى ألف دولار من كل ميت .. !
ومع شعورنا بأن الكاتب يسارى النزعة إلا أننا نعرف أن المساعدات الأمريكية مغشوشة النية سيئة الهدف فقد توزع على الأطفال مقادير من الألبان والجبن، ولكنها تفرض على بيئتهم قيود الفقر الأبدى إلى هذا النوع من المساعدات .
وبرامج النقطة الرابعة توزع المواد الاستهلاكية وحسب على الأمم المتخلفة وتمتنع امتناعاً غريباً عن تصنيع البيئة وإعانتها على أن تخدم نفسها بنفسها، وتستغل مواردها الوطنية بقدراتها الخاصة !
كأن شعوب هذا العالم الثالث ـ كما تسمى ـ ينبغى أن تظل مشلولة المواهب مكشوفة العجز، لا تستطيع الانتفاع بما لديها من خبرات .
وعليها ـ بعد ـ أن تسمع الحكم بأن التعقيم الإجبارى واجب، وأن تحديد النسل فريضة وإلا قامت القيامة بعد كذا من السنين !
ويتلقى هذا الكلام بعض قصار العقل فيطيرون به هنا وهناك ينذروننا بالويل والثبور وعظائم الأمور فإذا حاولنا التفاهم معهم قالوا : إنكم رجعيون تائهون عن مقررات علم الاجتماع، وأخطار يوم القيامة الذى سيجىء حتماً من زيادة السكان !
ولنتناول الآن صميم المشكلة . هل حقاً أن بلاد العالم الثالث لا تكفى حاجات أهلها وبالتالى لا تتسع لمزيد من الأفواه التى تطلب القوت والأجساد التى تطلب الكسوة ؟
تلك هى الأكذوبة الكبرى التى يضخم الاستعمار صداها ويزعج الدنيا طنينها !
إن أقطار العالم الثالث مشحونة بخيرات تكفى أضعاف سكانه، بيد أن هذه الخيرات تتطلب العقول البصيرة والأيدى القديرة .
ولو رزقت هذه الأقطار المنكودة إنسانية نزيهة تستهدف إيقاظ الملكات الغافية والحواس المخدرة، وتطارد الخمول والوهن وتجند القدرات والخيرات، وتمنع التظالم والترف، وتضرب سياجاً منيعاً حول مصالح الشعوب يرد عنها غوائل الاستعمار بجميع أنواعه لكانت هذه الشعوب تحيا فى رغد من العيش تحسدها أقطار الغرب عليه ..
ليست المشكلة اقتصادية كما يزعم الخبثاء من المستعمرين، ومقلدوهم من الصياحين الذين يهرفون بما لا يعرفون .
الفقر فقر أخلاق ومواهب لا فقر أرزاق وإمكانيات !
ـ لماذا يكون المولود القادم أكالاً لا شغالاً، مستهلكاً لا منتجاً، عبئاً على الحياة لا عوناً على الحياة ؟
ـ لماذا تهون الإنسانية فى شأن هذه الأجيال الوافدة فيكون وجوده مبعث قلق لا مثال استبشار .
إن الجهود المادية والمعنوية التى يبذلها المتشائمون لقتل هذه الأنفس أو للحيلولة دون وجودها لو بذلت فى تصحيح الأخطاء الاجتماعية وتقويم الانحرافات العقلية لكانت أقرب إلى الرشد وأدنى إلى الغاية !
ولكن الاستعمار الأنانى الشره يريد التهام كل شىء لنفسه وحده، بل الأنكى من ذلك أنه يعترض طريق كل نهضة تصحح الأوضاع كى تبقى الأمور كما هى ويبقى منطقه السقيم فى علاج الأمور .
على أن تخلف العالم الثالث ليس علة أزلية ولا أبدية فقد كان الأوربيون والأمريكيون أسوأ حالاً منذ قرون تعد على الأصابع، وكانت الخرافة تفتك بعقولهم فتك الأدران والعلل بأجسامهم، فإذا صعدوا فى سلم الترقى وهبط غيرهم بعد رفعة أو بدأ لأول مرة يخطو على درب المدنية فلا معنى للاحتيال عليه والتشفى منه .
" كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم "
والأمر لا يستدعى أكثر من تغيير الظروف المؤثرة فى أحوال المجتمعات فهناك مكان ينبت العز ـ كما يقول المتنبى ـ ومكان ينبت الذل . وهناك آخر يوقظ العقل أو ينيمه .
والمعتوهون الذين يصرخون جزعين : قفوا نسل الأرانب حتى لا تقول الساعة، أو حتى ترقى الأمة .. لا يعلمون أن العالم الثالث لن يرقى ولو فقد تسعة أعشار عدده ما بقيت ظروف النفسية والفكرية جامدة على أوضاعها الحالية .
ونعود مع كاتب الأهرام لنبصر الواقع حيث يقول :
" إن موارد العالم خصوصاً موارد البلاد المتخلفة ما زالت تفوق كثيراً زيادة أعداد السكان، فالفائض الاقتصادى المحتمل يمكن تحويله إلى ضروب من النشاط المنتج بدلاً من أن يذهب إلى جيوب المرابين والوسطاء وملاك الأرض أو يتبدد فى وجوه السرف المختلفة ..
" وهذا الفائض هو ما يعرفه الاقتصاديون بأنه الفرق بين الإنتاج فى ظروفه الطبيعية وبين ما يعد استهلاكاً ضرورياً للجماعة المنتجة، ويقدر هذا الفرق بنحو 20 % من الإنتاج القومى، وهو يكفل عند استثماره زيادة سنوية فى الدخل تبلغ 8 %، وهذه الزيادة تكفى بل تفيض عن متطلبات الزيادة السكانية " .
الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة، أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور " بول باران " : " إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس ـ لم يسمع بضخامتها من قبل ـ أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان " !
ثم أنهى الكاتب كلمته قائلاً : " إنه لا حل لمشكلات التخلف ومن بينها ضغط السكان على الموارد إلا بتنمية بلدان العالم الثالث لثرواتها، ومضاعفة اعتمادها على نفسها .. ثم على القدر الميسور من المعونات الأجنبية المنزهة ".
لقد قررت هذه الأحكام تقريباً فى كتابى " من هنا نعلم " المطبوع من ربع قرن، ولذلك فقد انشرح صدرى عندما قرأت هذه الأيام ما يزيد الحق وضوحاً ..
وما يبدد ضباباً كثيراً نشره فى أفق الحياة العامة أقوام قصار الباع طوال الألسنة، وإنى ـ إذ أؤكد المعانى
الآنفة ـ أوجه كلمة إلى نفر من المتحدثين باسم الإسلام أساءوا إلى حقائقه مراراً وهزموه فى مواطن كثيرة ..
إن الإسلام ليس هو بالدين المحلى لأهل الوجهين البحرى والقبلى، إنه دين القارات الخمس ! وداره الرحبة الخصبة تمزج بين أجناس كل هذه القارات فى أخوة جامعة لا تعرف الحدود الضيقة المفتعلة التى صنعها الاستعمار فكيف يعالجون مشكلة السكان وهم لا يدركون هذا الأساس المبين ؟
ثم إن هذا الدين يتعرض لحرب إبادة فى هذه الأيام من تحالف الصهيونية والاستعمار، فكيف تصدر الأوامر من رؤساء الأديان بتكثير الأتباع، ومباركة النسل، ويفتون هم بالتعقيم والتقليل ؟
إننى لا أدرى علة هذا الزيع ؟ أهى قلة العلم أم ليونة الضمير ؟
وتحذير آخر إلى هؤلاء : إن أحدهم يقع على الكلمة منسوبة إلى عمرو بن العاص أو غيره من الرجال فيطير بها غير آبه بقيمة سندها ولا مكترث بأنها ملتقطة من كتب تجمع الجد والهزل والخطأ والصواب ..
ولو فرضنا جدلاً نسبتها إلى عمرو، فما كلام عمرو بالنسبة إلى كلام الله ورسوله ؟
أرجو بعد كلمة الأهرام التى لخصتها فى مقالى أن تنتهى هذه المأساة ..
محنة الضمير الدينى هناك !
هذه سياحة سريعة داخل أقطار الفكر الدينى الغربى . ستفجؤنا أحكام ينقصها السداد، ومؤامرات يحبكها القدر، وضغائن لا تزال عميقة على طول العهد وامتداد الزمان !
ومن حقنا نحن المسلمين ـ وقد لفحتنا حرب بقاء أو فناء ـ أن ندرس الجبهة التى مسنا عدوانها وأن نزن ببصر حديد طبيعة العواطف الدينية التى تكمن أو تبرز خلف أحداث لا تبدو لها نهاية قريبة !
ولنبدأ بمقال نشرته مجلة كاثوليكية تطوعت بإسداء نصائحها الغالية لإسرائيل، وليست هذه النصائح الغالية أن يعترف اليهود بحق العرب وأن يعودوا من حيث جاءوا تاركين البلاد لأصحابها .. لا !
إن الضمير الدينى عند الصحيفة المتدينة جعلها تسدى نصحاً من لون آخر، لقد قالت لليهود :
" إننا احتللنا فلسطين قبلكم، وبقينا فيها سنين عدداً، ثم استطاع المسلمون إخراجنا وتهديم المملكة التى أقمناها ببيت المقدس، وذلك لأغلاط ارتكبناها، وها نحن أولاء نشرح لكم تلك الأغلاط القديمة حتى لا تقعوا فيها
مثلنا ! ..
" استفيدوا من التجربة الفاشلة كى تبقى لكم فلسطين أبداً ويشرد سكانها الأصلاء فلا يخامرهم أمل العودة !"
وشرعت الصحيفة التقية تشرح : لماذا انهزم الصليبيون الأقدمون وتوصى حكام " إسرائيل " بأمور ذات بال، وتحرضهم فى نذالة نادرة أن يوسعوا الرقعة التى احتلوها، وأن يستقدموا أفواجاً أكثر من يهود العالم، وأن يحكموا خطتهم فى ضرب العرب ومحو قراهم وإبادة خضرائهم، وبذلك يستقر ملك إسرائيل ويندحر الإسلام والمسلمون .
وهاك أيها القارئ عبارات المقال الذى نشرته مجلة " تايلت " الإنجليزية الكاثوليكية للكاتب ( ف . س اندرسون ) فى العدد الصادر فى 26 / 10 / 1957 .
يقول الكاتب المذكور " إن نظرة واحدة إلى خارطة حدود إسرائيل الحالية تعيد إلى الذاكرة للفور أوجه الشبه القوية بين تلك الحدود وحدود مملكة الصليبيين التى قامت عقب احتلال القدس 1099 م ..
" ونظراً إلى الأعمال العدائية بين إسرائيل وجيرانها نرى من المفيد أن نقارن بين الحالة العسكرية الراهنة وبين مثيلاتها فى أيام الصليبيين، ولعلنا نرى ما إذا كان سيتاح لإسرائيل خط أفضل مما كان للصليبيين القدامى أم سيلقون مصيرهم ؟ ..
" إن مملكة الصليبيين لم يكتب لها البقاء إلا أمداً قصيراً وقد مكثت ثمانية وثمانين عاماً فقط ثم استرد المسلمون القدس ! ..
" ومع أن المسيحيين نجحوا فى الاحتفاظ بقطاع صغير شرقى البحر المتوسط مدة مائة عام أخرى إلا أنهم فشلوا فى الدفاع عن عكا أخيراً وأخذوا يغادرون هذه البلاد تحت جنح الظلام عائدين إلى أوروبا ..
" إن سقوط تلك المملكة كان يعود إلى بضع نقائص ظاهرة فإذا أريد لإسرائيل أن تعيش مدة أطول فما عليها إلا أن تحتاط ضد هذه النقائص ..
" لقد دخل الصليبيون فلسطين فى ظروف ملائمة جداً لهم، تميزت بوقوع الفرقة بين المسلمين، وعجزهم عن إقامة جبهة مقاومة موحدة ! ..
" وهكذا استطاع المهاجمون أن يهزموا المسلمين بسهولة، دويلة بعد دويلة، وأن يمكنوا لأنفسهم فى الأقطار التى فتحوها غير أنه لم يمض وقت طويل حتى ظهر زعيم عسكرى مسلم استطاع أن يوحد المسلمين أمام خصومهم بسرعة، ثم حشد قواهم فى معركة حطين وأصاب الصليبيين بهزيمة ساحقة تقرر على اثرها مصير القدس، بل انحسر بعدها المد الصليبى جملة، ودخل صلاح الدين الأيوبى مدينة القدس التى عجز أعداؤه عن استبقائها أو استعادتها فتركوها يائسين " .
يقول الكاتب الكاثوليكى : " كان الصليبيون يستطيعون البقاء مدة أطول فى تلك البلاد لو لم يعانوا نقصاً شديداً متواصلاً فى الرجال، ولو أنهم وسعوا حدود مملكتهم وفق ما تمليه الضرورات العسكرية الماسة، لماذا لم تحتلوا دمشق ؟ لقد كان احتلال دمشق مفتاح مشكلتهم وضمان بقائهم ! وسيظل عدم تقديرهم لهذه الحقيقة
لغزاً لنا ؟ ..
" نعم إنهم بذلوا جهوداً واهية لاحتلال تلك المدينة بيد أن محاولاتهم كانت من الضعف بحيث كتب عليها بالفشل " .
وبدلاً من أن يتابعوا جهودهم لاحتلال دمشق اتجهوا جنوباً واحتلوا العقبة وشرعوا يوجهون حملاتهم إلى مصر، مع أن الإشراف على النيل هدف عسير التحقيق !!
وعندما أصبحت للمسلمين اليد العليا فى ذلك العهد استطاعوا إجلاء الصليبيين عن العقبة وعن سائر حصونهم فى الجنوب، إلا أن الكارثة الكبرى جاءت من الشرق، فإن معركة حطين وقعت بالقرب من طبرية عند الزاوية الشمالية الشرقية لمملكة الصليبيين ..
ولما كانت دمشق والأرض الممتدة بين الأردن والصحراء السورية ملكاً للمسلمين فقد استطاعوا أن يتحركوا بحرية على ثلاث جبهات حول المملكة الصليبية التى أضحت شبه محصورة .. وذلك ما أعجزها عن المقاومة !
يقول الكاتب الحزين لما أصاب أسلافه : " ولو أن الصليبيين اندفعوا قدماً وقطعوا الممر الذى يؤدى إلى الشرق من دمشق لاستطاعوا منع مرور الجيوش والقوات بين سورية ومصر، ولكانت حدودهم الشرقية المستندة إلى الصحراء أكثر أماناً، ولأمكنهم الانتفاع من أساطيلهم البحرية " .
ثم يستأنف الكاتب الحاقد كلامه فيقول : " لقد أقيمت إسرائيل فى وقت كان العرب فى الدول المجاورة عاجزين عن القيام بعمل موحد، ثم بقدر كبير من الجهد والشجاعة استطاع اليهود أن يبلغوا حدودهم الحالية، لكن هذه الحدود تطابق حدود المملكة القديمة للصليبيين، وقد عرفنا مآلها فما العمل ؟ " .
يقول الكاتب محرضاً اليهود على مزيد من العدوان : " مرة أخرى ما لم تتحرك إسرائيل فى الاندفاع نحو دمشق فستبقى للعرب تلك الحرية الخطرة فى تنقيل قواهم حول ثلاث جهات من إسرائيل، وفى ذلك ما فيه " .
ويستطرد : " قد يكون من العسير سياسياً أن تتحرك إسرائيل لغزو سوريا واحتلال دمشق لكن الاتجاهات السياسية السورية قد تساعد على تسويغ ذلك، وإن مثل هذه النزهة الحربية ( ! ) ستنطوى على فائدة دائمة لإسرائيل أعظم من الفائدة التى تجنيها من التغلغل فى صحراء سيناء " .
ويختم الكاتب " نصيحته " لأصدقائه اليهود فيقول : " إن إسرائيل لن تنقصها القوى البشرية فلديها جيش كبير بالإضافة إلى هجرة منظمة من جميع أنحاء العالم تمدها بكل ما تفتقر إليه من طاقات ويجب أن تظل قادرة على وضع جيش قوى فى الميدان يكون دائماً على أهبة الاستعداد " .
لو أن كاتب هذا الكلام يهودى قح ما استغرب المرء حرفاً منه !
إن وجه العجب فى هذا التوجيه المشوب بالود لإسرائيل والبغض للعرب والمسلمين أن الكاتب مسيحى ينشر أفكاره فى مجلة كاثوليكية .
وهو يفكر ويقارن ويقترح كأن القضاء على العروبة والإسلام جزء من عقله الباطن والظاهر، ثم هو لا يشعر بذرة من حياء فى إعلان سخائه . إن مشاعر البغضاء المضطرمة فى جوفه تغريه بالاسترسال والمجازفة دون أن تهيب، ويحزننا أن الكلام ليس إبداء لوجهة نظر خاصة، فإن الكاثوليك فى أرجاء الأرض انتهزوا فرصة الضعف التى يمر بها الإسلام كيما يحولوها إلى هزيمة طاحنة وفناء أخير .
والروح الذى أملى بكتابة هذا المقال هو نفسه الروح الذى كمن فى مقررات المجمع المسكونى الذى عقده بابا روما وصالح فيه اليهود، وأمر الكنائس بعده ألا تلعنهم فى صلواتها .
وهو الروح الذى جعل " البابا بولس " يزور القدس ويدخل الأرض المحتلة ويتعامل مع سلطات إسرائيل، وهو تصرف لم يفعله أى بابا من مئات السنين !
وللقارئ المسلم أن يسأل : أذلك موقف الكاثوليك وحدهم ! أم أن أصابع الاستعمار الغربى قد أفسدت التفكير الدينى لدى كثير من المفكرين الغربيين .
قرأت كتاباً وجيزاً للمؤلف المصرى المنصف الدكتور وليم سليمان وردت به هذه الحقائق نذكرها مع تعليق سريع لا بد من إيراده . قال : " فى ديسمبر سنة 1961 عقد مجلس الكنائس العالمى مؤتمره الثالث فى نيودلهى، وأصدر قراراً حدد فيه موقفه من اليهود جاء فيه : لا بد من تهيئة التعليم الدينى المسيحى وتقريبه للأذهان على وجه يبرئ اليهود من تبعات الأحداث التاريخية التى أدت لصلب المسيح إذ إن هذه التبعات تقع على
عاتق الإنسانية كلها ( ! ) ..
" وقد صرح الراعى البروتستانتى الأمريكى ل . ج . نبيت الأستاذ بمعهد اللاهوت بنيويورك قائلاً : إن الكنائس مسئولة بوجه خاص عن العداء للسامية فقد ظلت تعاليم المسيحية موجهة عدة قرون ضد اليهود وهو عداء يعد من مخلفات الأحقاد الدينية القديمة " .
نقول نحن : وما ذنب المسلمين فى هذا ؟ وهل عرب فلسطين يدفعون ثمن هذا الخطأ الكنسى من وطنهم وكرامتهم وحاضرهم ومستقبلهم ؟
ذلك ما يريده مجلس الكنائس العالمى الموقر ! فإن هذا المجلس عقد مؤتمراً فى بيروت وزار أعضاؤه مخيمات اللاجئين ثم قرر أنه ليس هناك حل دائم لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى أن يبت فى القضية الخاصة بالخلاف بين العرب وإسرائيل .
" وقال المؤتمر " الطيب القلب " : إن ذلك سيشمل خطة عامة لتعويض اللاجئين سواء عادوا إلى وطنهم أم لم يعودوا وإن هناك صدقات سوف يأخذها أصحاب الأرض والمطرودين ! ..
" وفى سنة 1964 عقد مجلس الكنائس العالمى فصله الدراسى الثالث عشر " بجنيف " وافتتح الجلسة عميد الكلية اللاهوتية بجامعتها فقال لا فض فوه : حين تثور مشكلة اليهود فإن الكنيسة لا تستطيع أن تتجاهل ثقل مسئوليتها العظيمة عن آلامهم وضياعهم طول تاريخهم ولذلك فإن أول ما يصدر عنها نحوهم هو طلب المغفرة ..
" يجب على الكنيسة أن تطلب المغفرة من اليهود !! بهذه العبارة الضارعة الذليلة يفتتح مجلس الكنائس العالمى الجلسة التى يحدد فيها موقف من دولة إسرائيل .. " .
ونتساءل نحن مرة أخرى : أإذا أجرم غيرنا وجب علينا نحن القصاص ؟ " ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً " [ هود : 19 ] .
لقد فكرت فى هذا الأمر ملياً ! إن حقنا ليس غامضاً حتى يلتمس عذر لمستبيحه !
هل المال اليهودى من وراء هذه الذمم الخربة مهما كانت مناصبها الدينية ؟ ربما .
أم أن الضغائن العمياء على الإسلام وأمته سيرت الخطب والمقالات فى هذا المجال الفوضوى المكابر الوقح ؟ ربما .
لكن الدكتور وليم سليمان فى كتابه " الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية " يذكر لنا كلاماً آخر يستحق الدرس والتأمل .
إنه ينقل عن مؤرخ الإرساليات " ستيفن نيل " هذه العبارات من تقرير له : " لقد تيقن الرجل الغربى أن سجله الاستعمارى حافل بالعار وأصبح أقل ثقة مما كان فى وحدانية الإنجيل المسيحى ونهائيته، وفى حقه ـ أى حق الرجل الغربى ـ أن يفرض على ورثة الأديان العظيمة الأخرى شيئاً قد يثبت فى النهاية أنه ليس أكثر من خرافة غريبة a western myth ..
" وبدأ فى أوساط رجال اللاهوت هجوم صريح على الألوهية بكل مظاهرها فى المسيحية ! وانتشر تيار فكرى يجعل نقطة بدايته " موت الإله " (!) وينادى بمسيحية لا دين فيها (!) وينادى بهذه الأفكار " بنهوفر ويلتمان " والأسقف الإنجليزى " جون روبنسون " ..
[ انظر على سبيل المثال كتاب روبنسون Honest To God الذى طبع منه فى مارس سنة 1962 أربع طبعات وفى أبريل سنة 1962 طبعتان وفى كل من مايو ويوليو وسبتمبر من نفس العام طبعة وكانت الطبعة العاشرة فى سبتمبر سنة 1964، وقارب عدد النسخ المطبوعة مليون نسخة، وعلقت عليه مجلة " تايم " فى 25 ديسمبر سنة 1964 ونيوزويك فى أبريل سنة 1966 ومجلات أمريكية أخرى كثيرة !! ]
" ويخيل للمراقب من بعيد أن القوم يثورون على الإله لأنه تخلى عنهم وساعد أعداءهم " .
ويستطرد الدكتور وليم سليمان فيقول عن الغربيين : " الدين فى نظرهم لم تعد له قيمة فى ذاته، إنه شىء يمكن الاستفادة منه لتحقيق الأهداف الدنيوية التى ينشدها الغرب فى شتى أنحاء العالم " .
وخلاصة هذا الكلام أن المسيحية انتحرت فى أوربا، فأى تدين هذا الذى ينخلع ابتداء من الإيمان بالحى القيوم، ويعتبر التعامل معه منتهياً لأنه تلاشى ومات .. !!
إن ذلك هو التفسير الحقيقى لانضواء رجال الكهنوت تحت راية الاستعمار، وركضهم الخسيس فى خدمة قضاياه ..
وعندما تتسابق شتى الكنائس لإرضاء إسرائيل وتعلق اليهود فهل يدل ذلك إلا على شىء واحد وهو أن رجال الدين باعوا ضمائرهم للشيطان .. ؟
إن العرب يتعرضون لإبادة عامة، والتفجيرات تنسف منازلهم وقد محيت قرى بأكملها من الوجود، والدفاع عن النفس يوصف بأنه إجرام وتمرد .
ووسط هذا الحريق المستعر يبارك ساسة إسرائيل، ويقول رجال الدين والدنيا : خلقت إسرائيل لتبقى ! فأين منطق الإيمان بالله واليوم الآخر فى تلك المداهنة وهذا الاستخذاء . ظاهر أن القوم قد تحولوا إلى سماسرة وعملاء للاستعمار العالمى .
واعتقادى أن هذه المحنة الرهيبة ستوقظ الإسلام النائم وإن كان غيرى يرى أن المادية المتربصة هى الكاسبة من خيانة الغرب لدينه ومثله .
ولا شك أن المستقبل محفوف بأخطار شداد، بيد أننا لن نفقد توازننا ولا ثقتنا فى أصالتنا الدينية ولا آمالنا فى جنب الله .
واعتقادى كذلك أن الاستعمار سيفشل فى محاولاته الدائبة لجر الكنائس الشرقية إلى جانبه وإشراكها فى مآسيه، وإذا كان قد ضلل البعض فإن الجمهرة الغالبة ستبقى على وفائها لتعاليمها ومواطنيها وتاريخها الصبور .
هذه المقررات لا نريد أن تنسى
أرسلت بصرى وراء طلاب بعض المدارس وهم منصرفون إلى بيوتهم . كان الصخب شديداً، والتدافع ظاهراً، والتصايح بالكلمات النابية مسموعاً ! لم تكن بالشارع أثارة من علم أو دلالة على جد ورشد !
ولست أستكثر على الصبية فرح الانطلاق والأوبة إلى الأصل، ولست أجهل طبيعة المرح فى مقتبل العمل وخفة التكاليف !
ولكنى لم أسترح للطيش البادى والمزح السخيف والألفاظ الماجنة إذا كنا نريد إعداد جيل صاعد فالأمر يتطلب سيرة وسريرة غير ما أرى .
لقد عرفت كثيراً من البرامج العلمية التى تدرس، ولا أزعم أنها قليلة، بل أشعر أن استيعابها أساس صالح لخلق شعب مثقف .
واطلعت على أغلب المقررات الدينية، وقد تكون أقل مما يجب درسه . ومع ذلك فهى لو تم فقهها وتحصيلها أساس حسن لتكوين جيل مؤمن مهذب ..
إذن من أين تجىء الشكوى ؟ وما مصدر ما ذكرت من معايب ؟
إن المادة العلمية شىء وأسلوب تقديمها وتلقيها شىء آخر .
إن هذا الأسلوب يرتبط برسالة الأمة، وضرورة تربية النشء على اعتناقها واحترامها .
ومن هنا فالتعليم المنفصل عن التربية جهد ضائع أو جهد تافه النتائج ..
وأذكر أن الدكتور " حلمى مراد " وزير التربية الأسبق كان قد ألف لجنة لعلاج هذا الوضع .
وأشهد أن الرجل كان حاد البصيرة عميق الإخلاص، راغباً فى إنشاء جيل أفضل وأقدر على مواجهة غده الثقيل .
ولقد انقسمت اللجنة المؤلفة إلى لجان شتى بذل أعضاؤها جهودهم فى أداء الواجبات المنوطة بهم .
[ ألف الدكتور " حلمى مراد " وزير التربية والتعليم الأسبق لجنة لدعم النواحى الدينية فى التعليم العام، وإصلاح مقرراته بما يعين على إنشاء جيل مسلم، وقد أخرج الدكتور من الوزارة ( !! ) بعد أن أدت اللجنة واجبها، فاستنقذنا هذه المقررات لإحدى الشعب التى اختصت بالجو المدرسى ]
واخترت لنفسى أن أكون فى اللجنة المعنية " بالجو الذى يسود المدرسة " لأن التربية المدرسية فى نظرى هى الدعامة الأولى للإفادة من العلم المبذول كما أنها الدعامة الأولى لإمداد أمتنا برجال ذوى معادن صلبة ومواهب راجحة وفضائل بارزة .
وقد انتهت اللجنة الموقرة إلى توصيات كثيرة، أستبيح لنفسى ذكرها آملاً أن ينفع الله بها، وأن تأخذ طريقها إلى الهواء والضياء !!
قالت اللجنة : " لا نستطيع أن نربى الطالب تربية دينية كاملة إلا إذا هيأنا له جواً روحياً فى مدرسته وفى بيته ليكون هذا المناخ الدينى من وسائل التعلق بهذه القيم والانتفاع بها، وبهذا تتلاقى المعارف الدينية التى تلقاها من مدرسه ومن كتابه بالجو المصبوغ بالصبغة الدينية النقية فتتحول المعرفة النظرية إلى سلوك دينى كما تتحول البذور فى الجو الملائم إلى زهور وثمر " .
وبذلك يمكن تثبيت العقائد وإلف العبادات وتزكية الأخلاق وتكوين جيل نزاع إلى الحق والخير متعاون على البر والتقوى .
ويتهيأ هذا الجو الدينى المدرسى المنشود بما يأتى :
( 1 ) يبدأ اليوم الدراسى بتلاوة من آيات الذكر الحكيم مجودة أو مرتلة لتشيع فى الجو المدرسى أنسام الطهر الروحى .
( 2 ) تدور كلمة الصباح بالإذاعة بين ثلاث دقائق وخمس دقائق، حول ما سمعه التلاميذ من الآيات المقروءة، وما تفرضه المناسبات الدينية، وما ترشد إليه من فضائل سامية، فى كلمات موجزة موحية .
( 3 ) أن تكون دروس التربية الدينية فى الحصص الثلاث الأولى ؛ ليشعر الطلاب بما للدين من قيمة عليا بين المواد الدراسية، وليكون التلميذ فى ذروة النشاط الفكرى، فيعى ما يسمع، ويقر فى نفسه .
( 4 ) أن تذاع الأناشيد الدينية أو قصة دينية قصيرة فى الفسحة الأولى من اليوم الدراسى .
( 5 ) أن ينظم الجدول المدرسى فيتلاقى ابتداء فسحة الظهيرة مع حلول وقت الظهر وينادى للصلاة ثم يدعى إليها بكلمات تحمس الطلاب لأداء الفريضة .
( 6 ) أن يخرج مدرسو اللغة العربية والتربية الدينية ومعهم إدارة المدرسة ومن شاء من المدرسين الآخرين أمام التلامي، ثم يتجهوا إلى المصلى ليكون هذا العمل الجماعى إشعاراً ملموساً بإقامة الشعيرة فى وقتها .
( 7 ) أن يكون لكل مدرسة مجموعة من الرواد الدينيين يتناسب مع عدد الفصول والطلاب، وهم الراعون لتلاميذهم يوجهونهم إلى مرشدهم ويؤمونهم فى صلاتهم وينظمون إقامة الشعيرة بجدول مخطط له حتى يؤدى الصلاة أكبر عدد من الطلاب، وعليهم أيضاً أن يعدوا تقريراً شهرياً عن سلوك كل تلميذ من تلاميذهم ويرسل التقرير إلى ولى أمره ليحس البيت برعاية المدرسة للدين فيعينها عليها .
( 8 ) أن يخصص يومان فى الأسبوع من فسحة الظهر تدور فيها مناقشات دينية مطبوعة متصلة بحياة التلاميذ ولا تستغرق من وقت الفسحة زمناً طويلاً حتى لا يضيق التلاميذ بها . وفى الأيام الأخرى تذاع مسرحيات دينية قصيرة تتصل بمنهجهم الدراسى ما أمكن ذلك .
( 9 ) أن تتجدد جماعات النشاط الدينى فتكون هناك جماعة للمسرح الإسلامى وغيرها للصحافة الإسلامية وأخرى للتاريخ الإسلامى .. بجانب الجماعات التقليدية كجماعة البر والإمامة وغيرهما .
( 10 ) أن يكون العاملون فى الميدان المدرسى قدوة حسنة تتسم بالإيمان والسلوك الحميد الذى ينعكس على تلاميذهم إيماناً وإخلاصاً وسلوكاً قويماً .
( 11 ) أن نجعل من بعض أيام الجمعة فرصة لالتقاء التلاميذ بأساتذتهم وأولياء أمورهم فى مصلى المدرسة، حيث تلقى عليهم دروس دينية حية تناقش أفكارهم على سعة، لنتيح اشتراك أولياء الأمور فى هذه المناقشة، مما يساعد على نقاء الجو المنزلى، ويوثق الروابط بين البيت والمدرسة .
( 12 ) أن تدور أسئلة التطبيق الدينى الأسبوعى والاختبارات الشهرية والفترية حول الموضوعات التى تثار فى الندوات واللقاءات الدينية لنشد انتباه التلاميذ إليها .
( 13 ) محاسبة المدرسين الذين يستهينون بدروس التربية الدينية فيستبدلون بها حصص المواد الأخرى .
( 14 ) تقسيم طلاب المدرسة إلى أسر إسلامية، وتسمى كل أسرة باسم شخصية إسلامية كبرى، على أن يكون تلاميذ كل أسرة على علم وثيق بمن انتمت إليه أسرتهم، على أن تتبادل هذه الأسر المناشط الدينية وتثار بينهم المنافسات الكريمة فى الجهاد الدينى، على أن يدعى أولياء الأمور لاجتماعات شهرية لهذه الأسر ؛ ليسهموا بجهودهم فى هذا المجال .
( 15 ) استخدام القيادات المؤمنة من الطلاب فى جذب زملائهم إلى الإطار الذى ترسمه المدرسة ليتحرك بنوها فى حدوده، فإن تأثير الطالب على زملائه أعمق من تأثير الأساتذة عليه .
( 16 ) وضع صندوق فى فناء المدرسة تجمع فيه التساؤلات الحرة للطلاب للرد عليها من جماعة الفتوى بالمدرسة .
( 17 ) أن يعنى بالاحتفال بالمناسبات الدينية احتفالاً مخططاً له، لتكون صورة متكاملة تطبع فى نفوس الطلاب الإجلال لهذه المناسبة، ويجعل الهدف من إحيائها ربط الطلاب بشعائر الإسلام ومبادئه، فينبنى الاحتفال على أن تعرض مكتبة المدرسة فى ركن خاص كل ما لديها من تواليف دينية أعدت لهذه المناسبة الإسلامية، كما تقوم بندوات وأناشيد دينية ومسرحيات وأشرطة إسلامية .
( 18 ) أن تزين جدران المصلى والمدرسة بلافتات تجذب الأنظار بجمال إخراجها وحسن اختيار ما يسطر عليها من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والحكم البالغة والعظات الدينية الموجهة .
( 19 ) الاهتمام باختيار شعار للمدرسة من الآيات والأحاديث، ويدرس الطلاب والطوالب بشتى الوسائل على الالتزام بما فى هذه الشعارات من قيم ومفاهيم، ويمكن أن يختار لمدارس البنات الشعار الذى يدعو إلى البعد عن التبرج والتمسك بأهداف الفضيلة والاحتشام فى الملبس والمظهر .
( 20 ) أن تكون للتربية الدينية ركن فى المكتبة العامة وفى مكتبات الفصول، ويزود هذا الركن بخير ما تخرجه المطابع من الكتب الدينية الحديثة التى تربط بين الدين والحياة وبين الدين والعلم، وتناسب كل مرحلة من المراحل الدراسية .
( 21 ) أن يكون للمصحف الشريف مكان الصدارة فى المكتبة العامة ومكتبات الفصول ومكتبة المصلى .
( 22 ) العناية بالوسائل المعينة التى تساعد التلاميذ على فهم أبواب المنهج الدينى، وتشوقهم إليه، وتؤكد مفاهيمه فى نفوسهم، على أن يشترك الطلاب فى إعدادها .
( 23 ) أن يكون بيد الطلاب فيما يقرر لهم من الكتب كتاب ذو موضوع واحد، يصور بعض البطولات الإسلامية والمعارك الإسلامية وأمجاد الإسلام العسكرية والعلمية، لتكون مثلاً عليا أمام الطلاب .
( 24 ) ينتفع بمجلس الآباء فى دراسة وإنقاذ كل ما يجد من مشكلات فى سلوك الطلاب وعلاقتهم بالمدرسة وتصرفاتهم الخارجية .
( 25 ) أن يحرص الزائرون الرسميون للمدرسة على الصلاة أمام التلاميذ ومعهم، ليترجموا عن العناية والاهتمام بأمر الدين، فتنصرف هذه العناية إلى التلاميذ .
( 26 ) أن نستعين ببعض أولياء الأمور وغيرهم من المثقفين ثقافة دينية واعية، فى إلقاء بعض المحاضرات أو الدروس الدينية ليكونوا من أدوات التأثير وعوامل الاستجابة من الطلاب، مع الاهتمام بما يدور بين الطلبة من تيارات ونزعات قد تنحرف بالعقيدة والوجدان الدينى .
( 27 ) التزام الحشمة والوقار فى الزى بمدارس البنات بين المدرسات والطالبات .
( 28 ) أن تعد المدرسة معرضاً دينياً ينظم كل ما أنتجه الطلاب من وسائل تعليمية دينية، كصور المصلحين الإسلاميين ومناسك الحج والمعارك والغزوات، مع بعض البحوث الدينية التى أعدها الطلاب بإشراف رائدهم، وفى هذا تجسيد للقيم الروحية التى ننشدها لإعداد الجيل الجديد .
( 29 ) إذا أمكن وصل النشاط الطلابى بالجماعات الإسلامية القائمة فى البلاد كان ذلك حسناً على أن يتم تحت إشراف المدرسة .
( 30 ) يوضع اليوم الدراسى فى إطار يحدد أوله ونهايته تحديداً متصلاً بالدين فلا يدخل التلاميذ فصولهم فرادى، ولا ينصرفون منها فرادى، ولكن يجمعون فى صفوف قبل الدراسة والانصراف ليرددوا أناشيد دينية وقومية ذات معنى روحى وخلقى .
( 31 ) أن تقوم المدرسة ببعض الرحلات الدينية التى يزور فيها الطلاب المساجد الكبرى والمتاحف الإسلامية والآثار والمعالم الدينية والتاريخية والمناطق السياحية الدينية، مما يوحى إليهم بأصالة ماضيهم الإسلامى وحضاراتهم المجيدة التى كانت مصدر إشعاع للعالم .
( 32 ) تفتح أبواب بعض المدارس فى كل حى من الأحياء فى جميع المدن بجمهورية مصر العربية تحت إشراف مسئولين، وذلك لتحفيظ القرآن الكريم فى مدة العطلة الصيفية، وأن تخصص مكافآت مغرية لمن يحفظ جزءاً من القرآن، وكلما زاد عدد الأجزاء من القرآن زادت المكافآت .
الحوافز :
( 34 ) خلق الحوافز بين الطلاب المتميزين دينياً من مثل إعفائهم من بعض الرسوم المدرسية أو رسوم الرحلات أو غير ذلك .
( 35 ) أن ترصد نسبة مجزية من حصيلة مجلس الآباء لتأثيث المصلى، وإثابة المجيدين والمسابقات الدينية وإعانة المحتاجين من الطلاب .
( 36 ) أن ترصد المناطق التعليمية مكافآت مالية سخية للطالب المثالى فى السلوك الدينى القيوم ليحفز ذلك غيرهم إلى أن ينهجوا نهجهم ويسلكوا سلوكهم .
( 37 ) إعداد لوحات شرف للممتازين فى تحصيلهم الدينى وسلوكهم المستقيم ولمن يقوم بأعمال فى البر تستلزم التنويه بها والإشادة بمن قاموا عليها .
( 38 ) إعداد شهادات تقديرية للطالبة أو الطالب الذى ينماز بالتحصيل الدينى ويسهم فى أنشطته ويتمسك بحبل الفضائل على أن ترسل هذه الشهادات إلى ذويهم لتبعث فيهم الحماسة للتربية الدينية فى المنزل، وليحرص البيت على النماء الروحى لهؤلاء الأبناء .
وبعد ..
( 39 ) كل ما قدمناه إنما يدعم بالأجهزة الإعلامية الطاهرة النقية، أما إذا بقى الحال على ما هو عليه فى الصحافة والإذاعة والتليفزيون وغيرها من وسائل الإعلام فالجهد ضائع، لأن ما يبنى هنا تهدمه هذه الوسائل هناك .
والله ولى التوفيق .
المفضلات