وقد أدَّى هذا الوضع، في نهاية الأمر، إلى انتشار اليهود،كما جعل عندهم قابلية لأن يتحولوا إلى جماعات وظيفية (قتالية أو استيطانية أوتجارية). ومع العصور الوسطى، كانت معظم الجماعات اليهودية في الغرب جماعات وظيفيةوسيطة تضطلع بوظيفة التجارة والربا وجمع الضرائب وأعمال مالية وإدارية مماثلة أخرى. لكن التجارة التي كان يضطلع بها أعضاء الجماعة الوسيطة هي ما يُطلق عليه «التجارةالبدائية». فالتاجر اليهودي لم يكن يُوظِّف أمواله في الإنتاج، كما كان يفعل تجارمدن العصور الوسطى الكبيرة، ولا يشتري مواد أولية ولا ينفق على صناعة الأقمشة جزءاًمن رأسماله، بل كان مجرد وسيط يوزع منتجات لا يسيطر عليها ولا يخلق ظروف إنتاجها. وهكذا، لم تكن التجارة اليهودية تنطوي على أسلوب معيَّن لإنتاج فائض القيمة، وإنماكانت، على عكس التجارة المسيحية التي كانت تجارة تبادلية مرتبطة بالاقتصـادوالإنتاج ذاته، تعيـش على فائض القيمة الذي ينتجه الفلاحون، فهي تجارة توجد فيالشقوق بين المجتمعات. وحينما تحوَّل الرأسمالي اليهودي إلى الإقراض كان إقراضهأيضاً استهلاكياً، على عكس الإقراض المصرفي الذي كان يساهم مباشرة في إنتاج فائضالقيمة لأنه كان يُموِّل المشاريع التجارية والصناعية الكبيرة. ولقد لعب اليهود دورالتاجر والمرابي والخمَّار ووكيل السيد الإقطاعي والوسيط في جميع الأمور. والمجتمعالإقطاعي المستند إلى إنتاج القيم الاستعمالية لا يتناقض مع الرأسمالية بشكلهاالتجاري الربوي البدائي، بل يضمن بقاءها واستمرارها. ولذلك لم يكن هناك وجود لأيةمسألة يهودية في المجتمعات الإقطاعية، فالتاجر والمرابي اليهوديان كانا يقومان بدورحيوي مهم، إذ كان التاجر يُورِّد للمجتمع الإقطاعي السلع التي يحتاج إليها ويُصدِّرالفائض الإنتاجي، بينما كان المرابي يقرض الأمير الإقطاعي، وكذلك الفلاح، لشراءالسلع الكمالية. بل إن التاجر أو المرابي اليهودي كانا أداة في يد النخبة الحاكمةالإقطاعية. وبهذا، كان اليهود أقنان بلاط (مماليك تجارية) يُستخدَمون لامتصاصالثروة من المجتمع ولضرب الطبقات التجارية الصاعدة. وقد ظهر، بين اليهود، يهودالبلاط، وهم من كبار المموِّلين الذين كانوا يقومون بإدارة الشئون المالية لبعضالإمارات الألمانية والدول الغربية في عصر الملكية المطلقة، ويساعدون حكامها علىتأسيس صناعات جديدة وارتياد آفاق اقتصادية لم يرتدها أحد من قبل. ولكن الوضع لميختلف كثيراً، إذ كان يهود البلاط مرتبطين ارتباطاً كاملاً بالنخبة الحاكمة، وظلنشاطهم الاقتصادي محصوراً بحدود الملكيات والإمارات المطلقة. كل هذا كان يعني أنأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية (أقنان بلاط أو يهود بلاط) كانوا خارجالتشكيلات البورجوازية والرأسمالية الغربية الصاعدة التي يشير إليها ماكس فيبرباعتبارها «الرأسمالية الرشيدة». كما أن تبعيتهم هذه كانت تعني أن نشوء رأسماليةيهودية مستقلة مستحيل، إذ كان الحاكم يصادر أموالهم حينما يصلون إلى درجة عالية منالثراء كما حدث لكثير من يهود البلاط.
وهذا الوضع في حد ذاته لا يخلق مسألةيهودية، بل إن مثل هذه المسألة تبدأ في الظهور حينما تتناقص حاجة المجتمع إلىاليهودي كتاجر أو مراب أو مدير مالي أو متعهد عسكري، وذلك بعد أن تنشأ طبقات تجاريةومالية محلية أو بعد أن تضطلع الدولة نفسها بمثل هذه الوظائف. وهذه عملية تتطوربالتدريج إلى أن يستغني المجتمع عن الجماعات الوظيفية الوسيطة تماماً.
وقدبدأ تقلقل وضع اليهود كجماعة وظيفية وسيطة في غرب أوربا (في إنجلترا وفرنسا) فيالقرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين وطُردوا منهمـا، كما طُردوا من إسـبانيافي القرن الخامس عشر الميلادي. وكان يتم طردهم من الولايات الألمانية حتى القرنالسابع عشر الميلادي، ولكنهم كانوا ينتقلون من واحدة إلى الأخرى، ولذا لم يتم طردهممنها نهائياً.
وقد كان اليهود يحلون مشكلتهم بالتقهقر إلى الماضي، إذ هاجرتأعداد كبيرة منهم إلى شرق أوربا، وبخاصة بولندا، حيث لعبوا دورالتاجر والمرابيومحصِّل الضرائب مرة أخرى، واستمر وضعهم مزدهراً حتى أواخر القرن الثامن عشرالميلادي. ولكن، بنشوء طبقات رأسمالية محلية في مجتمعات شرق أوربا، وتزايد دورالدولة فيها، بدأ اليهود يواجهون مشكلة التأقلم مع الوضع الجديد. فمراكز التجارةالإقطاعية كانت قد بدأت تنحل لتحل محلها مدن صناعية وتجارية جديدة، وهو ما ضيَّقالخناق على جماهير التجار اليهود وأدَّى إلى تدفُّق المهاجرين إلى مناطق أكثر قدرةعلى استيعابهم داخل روسيا ذاتها في بداية الأمر، ثم إلى غرب أوربا، وأخيراً إلىالولايات المتحدة.
وعند هذه النقطة، تُطرَح قضية مدى نَفْع اليهود ومدىإنتاجيتهم، وتُثار الأسئلة الخاصة بازدواج الولاء، بكون اليهود يشكلون دولة داخلدولة. وبالتالي، فإن المسألة اليهودية (أي بداية الاستغناء عن الجماعات الوظيفيةاليهودية) بدأت مع الثورة التجارية وظهور الدولة القومية المركزية (المطلقة ثمالليبرالية ثم الشمولية) التي قامت بتوحيد جميع مناحي الحياة ودمج المواطنين كافة،وطالبتهم بالولاء الكامل والانتماء غير المشروط لها، وحاولت أن تصهرهم جميعاً (بمافي ذلك أعضاء الأقليات) في بوتقة واحدة ينتظمها إطار واحد. وعلى هذا، أُعطىَ اليهودحقوقهم السياسية (أي تم إعتاقهم)، وفُتحت أمامهم مجالات الحراك الاجتماعي، وسُمحلهم بالعمل في جميع الوظائف وفي الخدمة العسكرية، وأُسقطت حوائط الجيتو. ولكنهمطُولبوا في المقابل بأن يصلحوا أنفسهم وأن يتخلوا لا عن انعزاليتهم وحسب، وإنما عنخصوصيتهم أيضاً، فالمُثُل السائدة في الغرب آنذاك كانت هي مُثُل عصر الاستنارة "الأممية" التي تدور حول فكرة الإنسان الطبيعي. ومن ثم تعيَّن على أعضاء الجماعاتاليهودية ألا يستخدموا سوى لغة الوطن الأم وأن ينبذوا اليديشية أو أية لغات أولهجات أو رطانات سرية أو علنية خاصة بهم. وبخاصة في المعاملات التجارية حتى لايغشوا أحداً (مثلما حُرِّم على الصينيين استخدام الصينية في المعاملات التجارية فيالفلبين)، كما طولبوا بتغيير أزيائهم وأسمائهم، بل إدخال إصلاحات على عقيدتهمالدينية بحذف الجوانب القومية من عقيدتهم لتصفية أي اشتباه في ازدواج الولاء. كماأصبح مفروضاً على اليهود عدم تدريس التلمود إلا بعد سن معينة. وكانت الدولة تقومبتدريب حاخامات في مدارس دينية يهودية تشرف عليها، كما كانت تتدخل في تعليم اليهودكلَّ شيء بما في ذلك تعليمهم الدين، بل كانت تتدخل أحياناً في تحديد سن الزواج وعددالأطفال المصرَّح بإنجابهم.
التحديث وظهور الرأسمالية الرشـيدةوالمسـألة اليهوديـة
Modernization, Emergence of Rational Capitalism and the Jewish Question
أدَّت عمليات التحديث وظهور الرأسمالية الرشيدة إلى تدهوروَضْع أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الغرب بسبب فقدانهم دورهم، وهو مايُسمَّى «المسألة اليهودية». ولكن التحديث نفسه وكذا الرأسمالية الرشيدة هما اللذانأدَّيا إلى حل المسألة. ويمكن تقسيم أوربا إلى ثلاث مناطق أساسية، وأساس التصنيف هونمط التحديث السائد ومدى قوة أو ضعف الرأسمالية الرشيدة:
1 ـ غرب أوربا (إنجلترا وفرنسا وهولندا وغيرها)، ثم الولايات المتحدة فيما بعد، وهي دول التحديثالحر: وهي مجتمعات حققت معدلات عالية من التقدم الاقتصادي في فترة مبكرة، وكان لهامشروع استعماري قوي ساهم في حل معظم مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وحقق قدراً منالوفرة ساعد على خفض حدة الصراعات الطبقية والتوترات الاقتصادية الداخلية.
وقد قامت الطبقة البورجوازية بعملية التحويل الاجتماعي في هذا البلدوتبنَّت مُثُلاً ليبرالية منفتحة. وكانت الرؤية القومية التي سادت هذه المجتمعات هيالأخرى منفتحة، فكانت مسألة الانتماء للوطن مسألة غير عضوية أو عرْقية، وإنما مسألةانتماء قومي متاح لكل من وُلد داخل المجتمع ونشأ على أرضه وكان على استعدادللاضطلاع بوظيفته وأداء واجبه. ولذا، لم تستبعد المُثُل القومية في هذه المجتمعاتأعضاء الجماعات اليهودية، وإنما فتحت الأبواب والفرص أمامهم فحققوا الحراكالاجتماعي الذي يحتاجون إليه.
وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشرالميلادي، لم تكن معظم هذه البلاد تضم جماعات يهودية كبيرة، إما لعدم وجود يهودفيها أصلاً أو لأنهم طُردوا منها في مرحلة سابقة. وحينما استوطن اليهود مرةً أخرىفي هذه البلاد، ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي أي مع بدايات التحديث، فإنهماستقروا في بلاد تحددت فيها الملامح الأساسية للاقتصاد التجاري الرأسمالي، وكانتتضم طبقة تجارية محلية قوية لا تخشى منافسة رأس المال اليهودي بل ترحب به لحاجتهاإلى الاستثمارات في المشاريع الرأسمالية والاستعمارية المختلفة. وقد تم توطين أعضاءالجماعات اليهودية في هولندا وإنجلترا في القرن السابع عشر، ثم في العالم الجديدداخل هذا الإطار.
وقد كان اليهود الذين استقروا في هذه البلاد من أصلسفاردي ولديهم كثير من الكفاءات المطلوبة والاتصالات الدولية المهمة، كما كانوامتقدمين من الناحية الحضارية. ثم انضمت إليهم عناصر من الإشكناز شكلوا الأغلبيةفيما بعد واستوعبوا كثيراً من عناصر الحضارة الغربية حولهم.
ورغم أن العنصرالإشكنازي كان متمايزاً حضارياً ووظيفياً، إلا أن هذا التمايز تقوَّض بمرور الوقتمن خلال المعدلات السريعة للتحديث وفتح باب الحراك الاجتماعي، وكذلك من خلالالتقاليد السياسية الليبرالية السمحة. واستمرت عملية دمجهم في المجتمع حتى زالالتمايز الوظيفي والاقتصادي تماماً، ثم تبعه التمايز السياسي والحضاري.
لمتكن عملية التحديث سهلة أو متيسرة في أول الأمر، بل كانت بعض الحكومات مثل فرنساتضطر إلى استصدار قوانين خاصة لفرض التحديث على اليهود الإشكناز في الألزاسواللورين. كما حدثت بعض المشاكل والتراجعات والترديات مثل حادثة دريفوس (في فرنسا). ولعل ظهور الفكر العرْقي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وانتشاره فيها، هوشكل من أشكال التردي. وقد ظهرت بعض التوترات ذات الطابع العرْقي في إنجلترا فيأواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، وذلك بعد هجرة يهود شرق أوربا بأعدادمتزايدة، كما ظهرت التوترات نفسها فى الولايات المتحدة مع أزمتها الاقتصادية فيالثلاثينيات. لكن مثل هذه المشاكل والتوترات لا تختلف كثيراً عن تلك التي تنشأ فيأي مجتمع في فترات الأزمات الاقتصادية، بين أعضاء الأقليات فيها من جهة وبعضالعناصر المتطرفة من أعضاء الأغلبية الذين يُضخِّمون خطر أعضاء الأقلية من جهةأخرى، وهي عادةً ما يتم التغلب عليها، كما حدث بالفعل في نهاية الأمر.
2 ـوسط أوربا (النمسا وألمانيا)، وهي دول التحديث المختلط والشمولي والتحديث تحت رعايةالدولة: وقد بدأ التحديث في هذه الدول وغيرها من دول وسط أوربا في وقت متأخرقليلاً، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وتم تحت إشراف بعض العناصر التقليديةفي المجتمع (الملك وبعض النبلاء) أو بإشراف الحكومة، أي أن عملية التطور الصناعي لمتتم حسب النمط الرأسمالي الحر وإنما بتدخل الحكومة.
ولم يكن لهذه الدولمشروع استعماري قوي يساهم في تخفيف حدة التوترات الاجتماعية والاقتصادية (أو أنمشروعها الاستعماري تم إجهاضه على يد دول غرب أوربا ولصالحها)، كما لم تَسُدالمُثُل البورجوازية الليبرالية فيها، لأن الطبقة البورجوازية لم تكن قوية بما فيهالكفاية ولم تتول قيادة كل الطبقات، وقنعت في غالب الأمر بدور التابع. وعلى مسـتوىالرؤية القومية، ظـهرت فكرة القومـية العضـوية (الجامعة الألمانية)، وفكرة الشعبالعضوي (الفولك)، وهي التي حددت مسألة الانتماء القومي على أساس عضوي ثقافي ضيق، ثمحوَّلته في مرحلة لاحقة إلى مسألة انتماء عرْقي أو انتماء قومي ديني (القوميةالمسيحية). وهذا الأمر ينطبق على ألمانيا أكثر من انطباقه على الإمبراطوريةالنمساوية المجرية، التي كانت تشجع التعددية كما هو الحال مع الإمبراطورياتالمتعددة القوميات. وإن كان هذا لم يمنع من انتشار الرؤية الألمانية العضوية فيالنمسا التي كانت دائماً في محيط ألمانيا الثقافي.
ولم يكن هناك جماعةيهودية كبيرة في وسط أوربا. فيهود ألمانيا، على سبيل المثال، لم يزد عددهم على 1% من عدد السكان، ولذا، فإنهم لم يكونوا جماهيراً بمعنى الكلمة. وقد حققوا معدلاتعالية من الاندماج في محيطهم الثقافي، فكانوا يتحدثون اللغة الألمانية ويتبعونأسلوب الحياة السائد في المجتمع، وازداد الزواج المُختلَط بينهم. وقد برز كثير منأعضاء الجماعات اليهودية من الرأسماليين (من ورثة يهود البلاط) ولعبوا دوراً مهماًفي تطوُّر الرأسمالية والصناعة الألمانية. إلا أن ثمة عناصر أخرى فصلتهم عن محيطهمالثقافي وخلقت لهم وضعاً خاصاً وأعاقت عملية التحديث، منها:
أ) يُلاحَظ أنالهجرة من شرق أوربا في منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1880، والتي كانت هجرةداخلية أي من بلد أوربي إلى آخر، كانت تقذف بأعداد كبيرة من يهود اليديشيةالمتخلفين، المتمايزين حضارياً وطبقياً، إلى ألمانيا والنمسا. وحينما ضم هذانالبلدان أجزاء من بولندا، ضما معها أعداداً كبيرة من يهود اليديشية، الذين هاجرتأعداد منهم إلى المدن الألمانية والنمساوية وبدأوا يصبغون الجماعات اليهودية فيهابصبغة يهودية فاقعة. وكان هؤلاء المهاجرون يُشكِّلون التربة الخصبة للأفكارالصهيونية، كما كانوا يفرضون على يهود هذه البلاد تبنِّي الصهيونية التوطينية حلاًّلمشاكل اللاجئين. ولا يمكن فهم دعوة هرتزل للصهيونية، وهو اليهودي المندمج بلالمنصهر، إلا بإدراك أنه كان مهدداً بفقدان موقعه الطبقي ومكانته الاجتماعيةوانتمائه الحضاري بسبب وفود الآلاف من يهود اليديشية. وقد كان عدد أعضاء الجماعةاليهودية في فيينا لا يزيد عن بضع مئات في أواخر القرن الثامن عشر، ثم قفز عددهمإلى نحو 176 ألفاً مع بداية القرن العـشرين.
ب) ورغم أن يهود ألمانياوالنمسا كانوا مندمجين في محيطهم الثقافي، فإنهم كانوا يتميَّزون طبقياً ووظيفياً. فعدد كبير منهم، وبخاصة في ألمانيا، كان من العاملين بالتجارة وشئون المال وبنسبةتفوق نسبتهم إلى عدد السكان. وبعد تَصاعُد عملية التحديث في ألمانيا، وبخاصة بعدحرب عام 1870 وضم الألزاس واللورين. ومع بدايات المشروع الاستعماري الألماني، ازدادالمموِّلون من أعضاء الجماعة اليهودية نشاطاً، وازداد وجودهم وضوحاً حتى ارتبطاليهود في الوجدان الشعبي بالمشروع الحر والاستغلال الرأسمالي والمضاربات، هذا علىالرغم من وجود أعداد كبيرة من اليهود المتسولين والفقراء.
جـ) ارتبطت عناصريهودية أخرى بالحركات الثورية، بحيث ارتبط اليهود في الوجدان البورجوازي في هذهالدول بالشيوعية والحركات الفوضوية والثورية، وزادت هذه العناصر تميُّز اليهودوعزلتهم عن كثير من الطبقات والقطاعات داخل المجتمع. وظل الجو في وسط أوربا مشحوناًبالكراهية العنصرية ضد أعضاء الجماعات اليهودية حتى الحرب العالمية الأولى، حينتحوَّلت النمسا إلى بلد صغير لا أهمية له، وتم تحطيم ألمانيا وإذلالها والقضاء علىمشروعها الاستعماري، ثم تحويلها هي ذاتها إلى شبه مستعمرة. وعندما عاودت ألمانياالتحديث، تم ذلك تحت مظلة الدولة وتحت لواء فلسفة شمولية ترفض كلاًّ من البلشفيةوالليبرالية، وتطرح رؤية عرْقية عضوية صارمة تُهمِّش مختلف أعضاء الجماعات الذين لاينتمون انتماءً عضوياً كاملاً إلى الأغلبية، وبخاصة اليهود الذين تركَّزوا فياليمين واليسار. وقد سقط رأس المال الذي يملكه الرأسماليون من أعضاء الجمـاعاتاليهودية ضحية هذه العملية وهاجرت أعداد كبيرة منهـم إلى الولايات المتحـدةالأمريكية وفلسطين، بما تبقى من ثرواتهم.
3 ـ شرق أوربا (أي روسيا وبولنداورومانيا)، وهي الدول ذات الاقتصاد الرأسمالي المتخلف التي تعثَّر فيها التحديثوتوقف، ثم استؤنف على النمط الاشتراكي: وقد بُذلَت محاولات شتى في هذه البلادلتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، وخُصِّصت الجوائز للحرفيين وأصحاب العملالذين يُشغِّلون الصناع اليهود، وأُرسل ألوف اليهود لاستصلاح الأراضي في بعضالمناطق الروسية. وحاولت الحكومة إدخال التعليم العلماني بين اليهود ليكتسبوا خبراتتؤهلهم للتعامل مع البنيان الاقتصادي الجديد، واستمرت هذه المحاولات التي ساهم فيهاأثرياء اليهود في الغرب حتى عام 1880 تقريباً، ولذلك يُلاحَظ أن الهجرة اليهودية،حتى ذلك الوقت، كانت هجرة داخلية إلى المراكز الصناعية.
ومما ساعد علىتخفيف حدة الانتقال إلى النمط الرأسمالي في الإنتاج، في مرحلة ما قبل عام 1880، أنالنمط الرأسمالي (في مراحله الأولى) كان يتم بأشكال بدائية، وهو ما أتاح لعدد مناليهود أن يجدوا مجالاً رحباً للعمل في التجارة (في المدن الصناعية الجديدة) وفيالحرف. وقد ظهرت حركة التنوير اليهودية تعبيراً عن تقبُّل اليهود واليهودية لعمليةالتحديث.
ولكن محاولات تحديث اليهود تعثَّرت في شرق أوربا، وتفاقمت المسألةاليهودية لأسباب مركبة يرجع بعضها إلى طبيعة تركيب الدولة الروسية وطبيعة النظامالاجتماعي السائد فيها وفي دول شرق أوربا، والبعض الآخر يرجع إلى بعض السمات الخاصةبالجماعة اليهودية في روسيا وبولندا، ومن هذه الأسباب:
1 ـ بدأت عمليةالتحـديث، في روسـيا وبولندا، في مرحلة متأخرة جداً، إذ كان اقتصادهما، حتى بعدمنتصف القرن التاسع عشر الميلادي، اقتصاداً يشبه من الناحية الأساسية اقتصاد البلادالتي يُقال لها متخلفة. ولم يكن لبولندا أو رومانيا مشروعات استعمارية مستقلة، بلكانتا مستعمرتين من قبل روسيا والدولة العثمانية. أما روسيا، فقد كان لها مشروعهاالاستعماري الجديد في آسيا على حدودها مع تركيا في منطقة البحر الأسود، وعلى حدودهامع بولندا وأوكرانيا وغيرهما، وعلى حدودها مع الصين واليابان. ولكن هذا المشروع بدأمتأخراً أيضاً ولم يكن قد آتى أُكله بعد نظراً لحداثته ولعدم كفاءة البيروقراطيةالروسية وعدم وجود رأس المال الروسي الكافي للاستثمار فيه. بل يُقال إن المشروعالاستعماري لروسيا القيصرية كان يُشكّل عبئاً على الخزانة الروسية، ولذا كان بعضالمفكرين الروس يطالبون الدولة القيصرية بالانسحاب من مستعمراتها. ولهذا، لم يساهمالمشروع الاستعماري الروسي في حل المشاكل الداخلية للدولة، بل لعله زادها تفاقماً.
2 ـ لم تسُد المُثُل الليبرالية لا في المجال الاقتصادي ولا في المجالالسياسي. ويعود هذا إلى عدة أسباب من بينها حجم الدولة الروسية الضخم، وهذه هي إحدىسمات التشكيل الحضاري المتعدِّد القوميات المترامي الأطراف والذي تلعب الدولة فيهدائماً دوراً مركزياً في عمليات النهضة كما تُشكِّل عنصر التوحيد الأساسي. ومنناحية أخرى، فإن البورجوازية الروسية كانت ضعيفة وهزيلة إلى أقصى حد، ولذا فإنعملية التحديث تمت بقيادة الحكومة الأرستقراطية الروسية الملتصقة بالكنيسة. كما أنالقومية البولندية كانت دائماً ملتصقة بالكنيسة الكاثوليكية. وقد سادت مُثُل قوميةعضوية منغلقة تجعل الانتماء مسألة ثقافية عضوية أو مسألة عرْقية أو دينية.
3 ـ لم تكن عملية الدمج في دول شرق أوربا تتم داخل إطار حضاري منفتح يفترضالمساواة بين الأفراد ويُظهر الاحترام للتراث الحضاري لكل الأقليات، وإنما كان ثمةافتراض بأن حضارة الأغلبية المسيحية أكثر أهمية، وأنَّ من واجب اليهود اللحاق بركبهذه الحضارة.
4 ـ لم تكن عملية الدمج والتحديث والإعتاق تتم عن طريقالإقناع أو عن طريق إظهار النتائج الإيجابية والمكاسب التي قد تحرزها الجماهيراليهودية، وإنما كانت هذه العملية تتم عن طريق الإرهاب والقسر، الأمر الذي كان يثيرمخاوف الجماهير اليهودية فتندفع عائدة إلى الجيتو (الفعلي والنفسي) حيث الأمنوالطمأنينة.
5 ـ ونظراً لتميُّز الوضع الطبقي لأعضاء الجماعات اليهوديةوارتباطهم بالطبقات الحاكمة وبالنظام الإقطاعي داخل نظام الإقطاع الاستيطانيوالأرندا، كانت الحركات القومية والثورية الصاعدة تناصبهم العداء ولا تحاول تجنيدهمفي صفوفها (إلا في حالات نادرة)، إذ كان اليهود يُعَدُّون من الغرباء والأعداء. وبعد الحرب العالمية الأولى، استُؤنف التحديث في روسيا. أما بولندا وغيرها من دولشرق أوربا، فقد خرجت من الحرب بعد أن عانت من دمار رؤوس الأموال والممتلكاتوالحياة. وقد ضعفت السوق المحلية تماماً، وحلَّت محلها وحدات اقتصادية صغيرةمتنافسة. وقد تدخلت حكومات هذه الدول، وكانت دولاً مركزية حديثة، فقامت بالدفاع عنمصالحها ومصالح طبقاتها الوسطى على حساب الأقليات التي تعيش داخل حدودها. ومما زادالتناقض تفاقماً أن انخفاض مستوى المعيشة كان يعني، أحياناً، ارتفاع مستوى معيشةأعضاء الجماعة اليهودية نظراً لاشتغالهم بالتجارة ولوجود كفاءات لديهم لم تكنمتوافرة لبقية أعضاء المجتمع. كما أن تحويلات المهاجرين اليهود، من الخارج (الولايات المتحدة وغيرها من الدول) إلى ذويهم، ساهمت في هذا الإنعاش أيضاً. كل هذهالعناصر ساهمت في عزل أعضاء الجماعات اليهودية عن بقية المجتمع وعمَّقت وضعهمكغرباء، وهذا ما جعل الدول لا تكترث بدمجهم وتحديثهم، بل تبذل قصارى جهدها أحياناًلطردهم. ومن هنا، فقد تبنَّت الحكومات الرجعية في هذه الدول سياسة صهيونية تجاهالمسألة اليهودية.
6 ـ ومما ساعد أيضاً على تعثُّر عملية تحديث اليهود أنمجتمعات شرق أوربا كانت تخوض تحولات اقتصادية وسياسية عميقة بسبب سرعة معدل النموالاقتصادي والحضاري في هذه المجتمعات، فهي مجتمعات لم تكن تمارس عملية النمو علىالنمط الأوربي الغربي البطيء الذي استغرق مئات السنين، وإنما كانت مجتمعات تنمو علىنمط العالم الثالث، حيث تحاول الدولة القومية الجديدة أن تقوم بالثورة التجاريةوالقومية والاجتماعية والصناعية في وقت واحد، رغم ما قد يكون بين هذه الثورات منتناقض في الأهداف والوسائل في بعض الأحيان. كما أن معدلات النمو السريع لا تسمحبتاتاً بالعمل البطيء أو الخطأ المحتمل ومحاولة علاجه، بل تتطلب تحديد الأهدافوالاندفاع نحوها. كما أن عملية التحول البطيئة تسمح لأعضاء الأقليات بأن يكتسبواالخبرات المطلوبة للعمل في الاقتصاد الجديد، وأن يكتسبوا الهوية الجديدة الملائمةللمجتمع الجديد. ففي روسيا مثلاً،كانت المراحل الأولى للانتقال إلى الرأسماليةبطيئة نوعاً،كما أسلفنا،ولم تكن حركة شاملة بعد.غير أن النمو الرأسمالي لم يتوقفعند هذه المرحلة،بل اتسعت رقعة الصناعة لتشمل الصناعة الخفيفة أيضاً،فكان ذلكبمثابة ضربات قاضية دمرت الاقتصاد الإقطاعي ودمرت معه الفروع الرأسماليةالحرفية،حيث كان اليهود يتركَّزون بنسبة مرتفعة.وهكذا،تشابكت عملية تحويل التاجراليهودي لما قبل الرأسمالية إلى عامل حرفي أو تاجر رأسمالي مع عملية أخرى وهيالقضاء على العمل الحرفي لليهودي.ولكن الحرفي اليهودي لم يتمكن من التحول إلى عاملبسبب منافسة الفلاحين الروس المقتلَعين من مزارعهم ذات المستوى المعيشيالمنخفض.
7 ـ ومما زاد الأمور تشابكاً وتعقُّداً أن الحرفي اليهودي كان يعملفي كثير من الأحيان فيما يمكن تسمَّيته «الحرف اليهودية» التي وُلدت في الظروفالخاصة بالشتتل والجيتو اليهودي. فلم يكن الحرفي اليهودي يعمل من أجل الفلاحينالمنتجين، بل كان يعمل من أجل التجار والصيارفة والوسطاء، ولذلك نجد أن إنتاج السلعالاستهلاكية هو الشاغل الرئيسي للحرفي اليهودي، ذلك لأن زبائنه يتألَّفون من رجالمتخصصين في تجارة الأموال والبضائع وغير منتجين أساساً. أما الحرفي غير اليهودي،فإن ارتباطه بالاقتصاد الزراعي جعله لا يُنتج سلعاً استهلاكية، لأن الفلاح يكفينفسه بنفسه. وهكذا، كان الحرفي غير اليهودي (الحدّاد) يوجد إلى جانب الفلاح، وإلىجانب رجل المال اليهودي كان يوجد الحرفي اليهودي (الخياط). وقد ساعد على تطوُّرالحرفي المسيحي ارتباطه بالتاجر المسيحي الذي كان يُوظِّف أمواله في حرف متخصصة غيرمرتبطة بالنظام الإقطاعي (مثل نسج الأصواف)، وهي حرف كان الغرض منها الإنتاجللتصدير وليس للاستهلاك المباشر، أي أنهـا تقـع خارج نطاق النظام الإقطاعي وتُمثِّلنواة الاقتصـاد الجديد، وبالتالي فهي لم تسقط مع الاقتصاد القديم. وانعكس هذا الوضععلى الطبقة العاملة اليهودية، فكانت الحرف الأقل قابلية للتطور إلى صناعة محصورةًفي أيدي الحرفيين اليهود، على حين انحصرت المهن الأكثر قابلية لهذا التطور في أيديالحرفيين غير اليهود. فمثلاً نجد أن 99% من صانعي الأقفال كانوا من غير اليهود، فيحين كان 94% من الخياطين من اليهود. ويُلاحَظ أن أول الكوادر العمالية التي وُجدَتفي صناعات التعدين والنسج قد تشكَّلت بصورة مطلقة من غير اليهود.
8 ـ وثمةعناصر أخرى زادت من حدة المسألة اليهودية في أوربا الشرقية، من أهمها أن الأغلبيةالعظمى من يهود أوربا ويهود العالم كانت موجودة في بولندا وأوكرانيا التي كانتتتبعها. وقد تم تقسيم بولندا عدة مرات، وتم تقسـيم أعضـاء الجماعة اليهودية فيهابين عدة دول، لكل منها لغتها وسياستها وتوجُّهها الحضاري. فضمت روسيا الجزء الأكبرمن الجماعة اليهودية وحاولت ترويس اليهود، أي صبغهم بالصبغة الروسية. وضمت ألمانياجزءاً آخر، واعتبرت اليهود مواطنين ألمانيين نتيجةً لأنهم كانوا يتحدثون اليديشية (وهي رطانة ألمانية)، وذلك حتى تضرب بهم السكان السلاف. وُضمَّت جاليشيا إلىالإمبراطورية النمساوية المجرية التي حاولت أن تفرض عليها الولاء والانتماء إليها. أما بولندا، فكانت تطالب من تبقَّى من اليهود فيها بأن يصبغوا أنفسهم بصبغةبولندية. وقد تضاعف عدد يهود رومانيا بعد أن ضمت مقاطعات كانت توجد فيها نسبة عاليةمن اليهود. وكانت هذه التقسيمات تتم بسرعة وتتضمن تحولات حضارية جوهرية وعميقة دونأن تكون هناك الفسحة الزمنية اللازمة لإنجاز التحول المطلوب.
ويُلاحَظ أنهأثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، وقبل قيام الثورة البلشفية، كانت الحدودالجغرافية في المنطقة الحدودية التي يقطنها اليهود في حالة سيولة كبيرة، إذ أصبحتجاليشيا وبكوفينا وبولندا الروسية وليتوانيا مسرحاً للعمليات العسكرية تتحرك فيهاالجيوش الألمانية والروسية. وقامت القوات الألمانية في بولندا بمحاولة تجنيد اليهودباعتبارهم عنصراً ألمانياً، وأصدرت القيادة العسكرية الألمانية منشورات بالعبريةواليديشية إلى « إخواننا اليهود». وقام الروس البلاشفة أيضاً بطرح أنفسهم باعتبارهممحرِّري اليهود وكل الأقليات. ومن ثم فقـد طالبـوا أعضـاء الجمـاعة اليهوديةبمساندتهم والتحالف معهم. وقد انتهزت العناصر الأوكرانية هذه الفرصة وهاجمت العناصراليهودية المحلية. وتسبَّب ذلك في إخفاق أعضاء الجماعة في تحديد ولائهم وفي تحديثأنفسهم كما هو مطلوب منهم، وكما حدث فعلاً بين بني ملَّتهم في غرب أوربا.
وبعد هذا الحديث العام والشامل عن مسألة يهود شرق أوربا من ناحية العناصرالمشتركة، يمكننا أن نقلِّل من مستوى التعميم قليلاً ونركِّز على روسيا. ونحن فيواقع الأمر، حين نتحدث عن يهود شرق أوربا أو يهود اليديشية، نتحدث عن روسيا التيضمت بولندا مع بداية القرن التاسـع عـشر الميـلادي فظـلت تابعة لها حتى الحربالعالمية الأولى. وبالتالي، فإن روسيا كانت تضم داخل حدودها الأغلبية الساحقة منيهود اليديشية، أي معظم يهود العالم. ومن أهم الأسباب التي ساهمت في عرْقلة عمليةتحديث أعضاء الجماعة اليهودية في الإمبراطورية القيصرية ما يلي:
1 ـ كانيهود بولندا يلعبون دوراً تجارياً محدداً ونشطاً في بولندا بسبب إحجام الأرستقراطيةالبولندية عن العمل في التجارة. وكان النبيل الإقطاعي يفقد منزلته الطبقية إن عملفي التجارة، وهو ما ترك المجال مفتوحاً أمام اليهود. وحينما ضُـمَّت أعداد كبيرةمنهم إلى روسيا، وجدوا أنفسهم داخل تشكيل حضاري جديد توجد داخله طبقات تجارية كبيرةونشيطة، خصوصاً أن النبلاء الروس لم يكن مُحرَّماً عليهم الاشتغال في التجارة. وقدشهدت الصناعة والتجارة الروسيتان حركة انتعاش عام 1807، بعد أن فرض نابليون علىروسيا مقاطعة إنجلترا تجارياً، وكانت روسيا في واقع الأمر مستعمرة لإنجلترا منالناحية التجارية. وأدَّى نهوض الحركة التجارية في روسيا إلى ضعف نشاط التجاراليهود.
2 ـ لم يكن في روسيا جماعات يهودية تُذكَر حتى أوائل القرن التاسععشر الميلادي، بل كان محظوراً على اليهود دخول روسيا. وإن تم التصريح لهم بالدخول،كان عليهم مغادرتها في الحال. ولما ضمَّت روسيا أجزاءً من بولندا، وضمَّت معهاأعداداً كبيرة من اليهود، وجدت روسيا نفسها تضم أكبر تجمُّع يهودي في العالم لهصفاته الحضارية المميزة ولغته الغريبة وعقيدته أو عقائده الفريدة التي يدين بها. ولم يكن لدى البيروقراطية الروسية أية معرفة باليهود أو لغتهم أو مشاكلهم.
3 ـ كانت روسيا دولة تحكمها ملكية مطلقة، ولذا فإن مؤسسات الحكم فيها لمتكن مؤسسات حديثة قادرة على مساعدة الأقليات على الانتقال من مرحلة تاريخية إلىأخرى. بل ربما كان الوضع في روسيا أكثر سوءاً من غيرها من الدول لضخامتها وفسادموظفيها الذين كانوا في العادة مرتشين لا يؤمنون بأهمية العمل الذي يقومون به ولايدركون أبعاده التاريخية والاجتماعية. وحتى حينما كانت تتوافر النية الصادقة، لمتكن هذه البيروقراطية تمتلك الأدوات اللازمة لترجمة الأفكار الإصلاحية إلى واقعاجتماعي جديد. ولذا، فإن اليهود، الذين كانوا راغبين بإخلاص في أن يخضعوا لعمليةالتحديث، وجدوا أنفسهم مواجَهين بمؤسسات هزيلة ليس لديها الإمكانات المطلوبة. ويمكنأن نضرب مثلاً بمحاولة بعض أعضاء الجماعة اليهودية الاستجابة إلى محاولات تحديثهمعن طريق العمل بالزراعة (ليخرجوا بذلك من مسام المجتمع الإقطاعي ويدخلوا في قطاعالمهن المنتجة)؛ غير أن هذه المحاولة ارتطمت ابتداءً بحقيقة أن الجماعة اليهوديةكانت من الجماعات القومية الروسية التي ليس لها أرض. وتم التغلب على هذه العقبة بأنخصصت الدولة القيصرية مساحات من الأرض لتوطينهم. ولكن، لم تكن هناك خطة واضحةللتوطين، فحين تقدمت عدة أسر يهودية عام 1806 إلى حاكم مقاطعة موخيليف لتوطينها فيإحدى المناطق المخصصة لهم، لم يتم ذلك إلا بعد مفاوضات طويلة، فاتفق وزير الداخليةمع حاكم الولاية على أن يخصص لهم ستون ألف إيكر (يعادل الإيكر نحو أربعة آلاف مترمربع) من أراضي الإستبس على ضفاف أحد الأنهار. وبعد معاينة الموقع، تقدَّمت نحو 779أسرة يهودية للاستيطان هناك. ولكن الحكومة لم تقدِّم لهم سوى مساعدات مالية ضئيلةللغاية أنفقها المستوطنون الجدد وهم بعد في الطريق. وعند وصولهم إلى المكان المحددلهم، وجدوا أن السلطات لم تكن على استعداد لاستقبالهم، وفتكت بهم الأمراض. ومع هذا،فقد استمر تدفُّق اليهود إلى أن أُلغي مشروع التوطين عام 1810.
4 ـ ارتطمتمحاولة تحويل اليهود إلى مزارعين بحركة إعتاق أخرى هي حركة تحرير الأقنان عام 1860،وهذه الحركة الأخيرة ضيَّقت الرقعة الزراعية التي يمكن توطين اليهود فيها. وكمابيَّنا من قبل، كان تحرير الأقنان واليهود وأعضاء الأقليات الأخرى جزءاً من حركةواحدة تهدف إلى بناء الدولة المركزية القومية الحديثة في روسيا.
5 ـ وكانتالكتلة البشرية اليهودية في تلك المنطقة (روسيا وبولندا) تُشكِّل معظم يهود العالم،وهي كتلة منعزلة إلى حدٍّ كبير عن محيطها السلافي على المستوى الحضاري والدينيوالوظيفي، يتحدث أعضاؤها اليديشية ويرتدون أزياء مغايرة لتلك السائدة في المجتمع،ويطلقون لحاهم وسوالفهم بطريقة غريبة. وقد كانت تهيمن عليهم قيادات أرثوذكسيةوحسيدية تقليدية غير مدركة للانقلابات الحضارية الاقتصادية التي كانت تحدث في أورباآنذاك. وكانت أغلبية يهود شرق أوربا من أتباع الحسيدية، كما أن اليهودية نفسها (كنسق ديني) كانت قد وصلت إلى مرحلة من التحجر والتخلف بعد جفاف الفكر التلموديوبعد هيمنة الحسيدية والقبَّالاه، بحيث أصبح من العسير عليها التأقلم مع الوضعالجديد. ولذا، قوبلت محاولات التحديث في أغلب الأحيان بمعارضة حادَّة من قبلالجماهير اليهودية التي كانت تشعر بأن عملية التحديث هذه ستفقدها مهاراتها وقناعتهاالتقليدية وستدخلها في عالم غريب عليها. كما أن هذه الجماهير كانت تشعر بأن دعاةالاندماج والتحديث ليسوا إلا نخبة مستفيدة لديها ـ وحدها ـ الكفاءات اللازمة للدخولفي هذا العالم الجديد الغريب. وإلى جانب كل هذا، لم يكن يهود شرق أوربا، رغم عزلتهموتميُّزهم، يشكِّلون وحدة على نحو ما كانوا حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي،فقد تهدّم نظام الشتتل تماماً، وانتشرت العلمانية في صفـوفهم، وانصـرف كثير منالشـباب عن العقيدة اليهودية، بل سلكوا درب الجماعات الثورية.
6 ـ وكانمن الممكن أن تخف حدة المشكلة عن طريق الهجرة من روسيا وبولندا ورومانيا إليالولايات المتحدة. وبالفعل، راحت جماهير اليهود غير القادرة على التأقلم تهاجربالمئات ثم بالآلاف ثم بمئات الآلاف، حتى بلغ عدد من هاجر من يهود اليديشية عدةملايين. ولكن، لم ينتج عن هذه الهجرة أي تخفيف من حدة الموقف، إذ أن نسبة تزايُداليهود كانت مرتفعة جداً، شأنها في هذا شأن نسبة تزايُد سكان أوربا بعد الثورةالصناعية. وعلى سبيل المثال، تضاعف يهود جاليشيا على مدى خمسين عاماً. أما فيروسيا، فرغم معدلات الهجرة العالية إلى الولايات المتحدة، ورغم اندماج أعداد لا بأسبها، فإن معدل تزايُد السكان اليهود كان يفوق معدل الهجرة والاندماج ويفوق معدلالزيادة بين الروس أنفسهم. فقد كان عدد اليهود عام 1850 نحو 2,350,000، ولكنه تضاعفخلال خمسين عاماً ليصبح 5000.000 عام 1895. ومن المعروف أن عدد سكان كيشينيف كان قدزاد من عشرة آلاف إلى ثمانية عشر ألفاً في عشرين عاماً، قبل قوع المذبحة التيكثيراً ما تُذكَر في الأدبيات الصهيونية. ويذكر أبراهام ليون أن عدد اليهود قدتضاعف خمس مرات بين عامي 1825 و1925، فتكون نسبة الزيادة أكثر مرة ونصف المرة مننسبة الزيادة بين شعوب أوربا.
وقد أدَّى كل هذا إلى تعثُّر عملية التحديثعدة سنوات، ثم إلى توقفـها شـبه الكامل مع بداية القرن العشرين. وأدَّى هذا،بالتالي، إلى تصعيد حدة الصراع الطبقي وإلى الثورات الاجتماعية الحادة التي انتهتبالثورة البلشفية. وتمثَّل هذا التعثر في صدور قوانين مايو عام 1881 التي حرَّمتعلى أعضاء الجماعة اليهودية الانتقال خارج منطقة الاستيطان اليهودية في روسيا، وفيالمذابح المتكررة التي وقعت في ذلك الوقت. ويمكن التأريخ لظهور الحركة الصهيونيةبين اليهود بهذا التاريخ. ففي هذه الفترة طُرح بين أعضاء الجماعات اليهودية بشكلجدي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وهو الحل الذي يرى ضرورة إقامة الدولةالصهيونية في فلسطين ليهاجر إليها اليهود. وقد تحالفت العناصر الصهيونية، متمثلة فيالصهيونية التوطينية في الغرب، مع الصهيونية الاستيطانية في شرق أوربا، ومع بعضالقطاعات الدينية التي اكتشفت خطر سقوط الجيتو على اليهودية كما عرفوها وخبروها. والحل الصهيوني لمسألة يهود شرق أوربا هو، في جوهره، الحل الاستعماري الذي يتلخص فيتصدير المشاكل إلى الشرق، سواء أكانت هذه المشاكل متمثلة في الفائض السلعي أم كانتمتمثلة في الفائض البشري الذي كان اليهود يشكِّلون نسبة كبيرة منه. وفي هذهالحالة،تم ربط المسألة اليهودية بالمسألة الشرقية (أي تقسيم الدولة العثمانية)،فيتمحل المسألة اليهودية (فائض يهودي لا نَفْع فيه) بتصديره إلى الشرق وتوطينه فيفلسطين،ويقوم المستوطنون هناك بتأسيس قاعدة للاستعمار الغربي تحمي مصالحه.وهكذا،ينجح الغرب في التخلص من فائضه البشري ويوظفه في خدمته. أما الفائض اليهودي ذاته،فإنه ينجح بذلك في تحقيق الانتماء إلى الغرب خارج أوربا ولكن من خلال التشكيلالإمبريالي الغربي، وذلك بعد أن فشل في تحقيق هذا الانتماء داخلها من خلال التشكيلالحضاري والقومي الغربي. وقد طُرحت تصورات لحل المسألة اليهودية من بينها الاندماجوقومية الدياسبورا.
وقد قُدِّر للمسألة اليهودية أن تُحَلّ، ولكن الصهيونيةلم تكن المسئولة عن ذلك في واقع الأمر. بل إن ظهور الصهيونية يعوق إتمام هذهالعملية التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى تحوُّل اليهودية إلى انتماء ديني وحسب، وإلىسقوط الأوهام الدينية القومية التي أفرزها وضع الجماعات اليهودية المتميِّزة كجماعةوظيفية وسيطة. وقد اندمج يهود غرب أوربا في مجتمعاتهم، وازداد هذا الاندماج بعدانحسار موجة هجرة يهود اليديشية. وفي ألمانيا، حُلَّت المسألة نتيجة لظروفها الخاصةبالطريقة النازية، أي بالإبادة، وذلك بعد فشل محاولات التهجير القسري لليهود. أمافي الولايات المتحدة، ورغم أن الجذور الجيتوية اليديشية (الشرق أوربية) لا يزال لهاأثر في التكوين الاقتصادي والنفسي للجماعة اليهودية، مثل تركُّزهم في أحياء خاصةبهم وزيادة عددهم في الصناعات الاستهلاكية والمهن الحرة، إلا أن أعضاء الجماعةاليهودية قد حققوا على وجه العمـوم الاندماج الاقتصـادي والحضاري شـبه الكامل. ومنثم، فإن الهجرة من صفوف يهود أمريكا إلى إسرائيل تكاد تنعدم. وقد حلَّت الثورةالبلشفية المسألة اليهودية في روسيا، ثم في بولندا، بتحقيق المساواة بين الأقلياتالدينية والعرْقية كافة.
ومن الضروري، ونحن ندرس المسألة اليهودية، أننميِّز بينها وبين المسألة الإسرائيلية. فالمسألة اليهودية هي مشكلة يهود أوربا،وبخاصة يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. أما المسألةالإسرائيلية، فهي مشكلة التجمع الاستيطاني الصهيوني، خصوصاً جيل الصابرا الذي وُلدعلى أرض فلسطين، ونشأ فيها، ولا يعرف لنفسه وطناً آخر. وقد تشابكت المسألتان، ولكنيظل لكل مسألة حركياتها وآلياتها ومسرحها التاريخي والجغرافيالمختلف.
المفضلات