خـطـبـة الاستخـلاف
يتبقى في تأريخ هذه الفترة أن نتعرض سريعًا لخطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والتي ألقاها بعد أن انتخبه الصحابة للخلافة، وسبحان الله، فإن الخطبة على قصرها، وإيجازها كانت بليغة جدًا، ومحددة لسياسة الصديق رضي الله عنه في الحكم، وشارحة للمسلمين وحكامهم الأصول الصحيحة للحكم في الإسلام، والخطبة فعلًا عجيبة، فقد حوت معان كثيرة جدًا في كلمات قليلة جدًا، ولذلك فقد أتت الخطبة في صورة بيان، بيان يلقيه زعيم الأمة في استلامه الحكم، تلا فيه قواعد حكمه، القاعدة تلو الأخرى، في صورة تلغرافات سريعة رائعة، قال الصديق رضي الله عنه في خطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله:
أما بعد أيها الناس فأني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم
هذه هي القاعدة الأولى في بيان الصديق رضي الله عنه، المساواة بين جميع أفراد الأمة، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، لا فرق بين الحاكم المحكوم، لا فرق بين الوزير والغفير، فالكِبر المهلك، الكِبر في الحاكم، أو الكبر في الهيئة الحاكمة يسقط الأمة ويهلكها، الكِبر بطر الحق، وغمط الناس [ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46)فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ] {المؤمنون:45: 47}.
وهذا هو بطر الحق، أنكروا الحق لأنه أتى من قبل غيرهم. فماذا كانت النتيجة؟
[فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ] {المؤمنون:48} .
الكِبر، مهلك، والصديق رضي الله عنه وأرضاه يضع قاعدة هامة لكل من تولى أمرًا للمسلمين (لا تتكبر) ها هو أعظم رجال الأمة على الإطلاق
بعد رسولها بشهادة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ها هو يقول:قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم.
إذن كانت هذه هي القاعدة الأولى الهامة.
القاعدة الثانية في بيان الصديق رضي الله عنه
فإن أحسنت، فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني
قاعدة هامة أصيلة نتجت عن القاعدة السابقة، الحاكم والمحكوم كلاهما طرفان في منظومة واحدة تريد الوصول إلى الحق وإلى الصواب وإلى الخير لهذه الأمة، الحاكم بشر معرض لكل ما يحدث للبشر، من اجتهاد مصيب وخاطئ، ومن رأي سديد وغير سديد، والعلاقة بين الحاكم وشعبه ليست علاقة تنافسية، وليست علاقة تقوم على الحذر والرعب، والإرهاب والخوف، أبدًا، العلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم علاقة لطيفة جميلة رقيقة، كل من الطرفين يحب الآخر، وكل من الطرفين يخاف على الآخر، الحاكم إذا اجتهد فأصاب أعانه الشعب بكل طاقته، وإذا اجتهد فأخطأ وهذا ولا شك وارد الحدوث، بل هو مؤكد الحدوث، فعلى الشعب التوجيه، والتقويم، والإرشاد، وعلى الحاكم أن يقبل النصح في غير ضجر ولا غضب، فالجميع كما يقولون في مركب واحدة، والجميع يريد لهذه المركب السلامة.
كانت هذه هي القاعدة الثانية من قواعد الحكم في بيان الصديق رضي الله عنه، كما أنه بهذا الكلام قد أرسى قاعدة أخرى هامة، هي قاعدة الشورى، فالحاكم مهما بلغت درجة ذكائه، وفطنته، وورعه، وتقواه يحتاج إلى الآخرين، ليس فقط للنصح، ولكن لأخذ القرار وتنفيذه، ودائمًا يجعل الله البركة في الجماعة والشورى، والاجتماع على الأمر الأقل فضلًا خير من التفرق على أمر فاضل.
القاعدة الثالثة في البيان الصديقي الرائع
الصدق أمانة، والكذب خيانة
كلمة ثقيلة جدًا في الميزان الإسلامي، وتستمد ثقلًا أكبر من كونها تأتي من الصديق رضي الله عنه، والذي كانت حياته كلها تجسيدًا لمعاني الصدق والوفاء، فيلتقي القول مع العمل، فيحدث للقلب يقينًا كاملًا بما يسمع، الصدق أمانة والكذب خيانة.
وآه من الحاكم الكذاب، كم من التداعيات الخطيرة تحدث في بلده وفي شعبه نتيجة الكذب، وإن قام الحكم على الكذب والأباطيل والتصريحات الخادعة فلا أمل في القيام، لا طموح في الصدارة، المصارحة بين الحاكم وشعبه أساس رئيس من أسس الحكم في الإسلام، وركن لا بديل عنه لضمان علو الأمة ورقيها، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهَمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابُ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ.
القاعدة الرابعة الأصيلة في البيان
واعلموا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله
والصديق هنا يرسي قاعدة في غاية الأهمية في بناء الأمم، وفي قيادة الشعوب، وهي قاعدة العدل، ولا تقوم أمة بغير عدل، ولابن تميمة رحمه الله كلمة جميلة في هذا المعنى يقول:
إن الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، ولو كانت مسلمة.
لقد ذكر ربنا عز وجل في كتابه الكريم في أكثر من موضع مصير الأمم الظالمة، قال الله عز وجل:
[وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ] {الأنبياء:11} . وقال:
[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102} .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا َ،سَرَقَ فِيهُمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفَََ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.
لا واسطة في الأمة العادلة، لا اعتبار لقرابة أو لمنصب أو لسطوة أو لمال أو لملك، الاعتبار الوحيد هو العدل، حتى مع من تكره
ولا يجرمنكم شنئان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} . وهكذا فالصديق يعطي درسًا لا ينسى في بناء الأمم، ويضع يده على مقومات الأمة الناجحة، هكذا في بساطة وسهولة، في هذا البيان العجيب.
القاعدة الخامسة الرائعة: في بيان الصديق
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل
كلمات تكتب والله بماء الذهب، قالها بلسانه، وصدّقها بعمله رضي الله عنه وأرضاه، ومن أول يوم تولى فيه الخلافة، وهو يجعل الجهاد سبيله، ومن أول يوم تولى فيه الخلافة وهو عزيز، وأمته عزيزة، لأنه لم يعدل عن الجهاد أبدًا، كانت هذه هي أول كلماته عند استلام الحكم، ثم كانت آخر كلماته هي تحفيز عمر بن الخطاب على استنفار الناس للجهاد في أرض فارس مع المثنى بن الحارث، تعلّم دروسًا لا تقدر بثمن من معلمه، ومعلم البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو داود وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا) وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ (أي في زمن الجهاد) وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.
لا بد للأمة الناجحة من أعداء، ولا بد للحق من باطل يحاربه، ولا بد للحق من قوة تحميه، هكذا فقه الصديق وهكذا نجحت الأمة في زمانه.
القاعدة السادسة الهامة في خطاب الصديق
ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء
قاعدة أخرى أصيلة في بناء الأمم، الذنوب مهلكة، وما أكثر ما ربط الله عز وجل في كتابه الكريم بين هلكة الأمم وبين ارتكاب الذنوب
[أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ] {الأنعام:6} .
وهكذا لا تقوم الأمة التي تنتشر فيها الذنوب، والميوعة، والخلاعة، والفاحشة، هذا عام على كل أهل الأرض، وخاص بصورة أكبر في أمة الإسلام، قد تظهر الأمة في أعين الناس قوية صلبة منيعة، ومع ذلك فالذنوب تنخر في عظامها، حتى إذا أراد الله عز وجل لها هلكة حدث السقوط المروع، والانهيار الكامل، وأصابهم الله بأنواع من البلاء ما خطرت على أذهانهم، ولا مرت ببالهم، روى ابن ماجه وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.
سبحان الله تظهر الأمراض التي لم نكن نسمع عنها، وما الإيدز في أمريكا مثلًا منا ببعيد، وهكذا يرسي الصديق تلك القاعدة الخالدة في بناء الأمم.
القاعدة السابعة والأخيرة في بيان الصديق هي أهم قاعدة في كل البيان، وعلى أساسها يفرق بين العدل والظلم، وبين الكبر والتواضع، وبين الصدق والكذب، وبين الجهاد والقعود، وبين الأفعال الحميدة والأثام القبيحة، هذه القاعدة السابعة تحدد المرجعية التي بها نعرف كل هذه الأمور، العدل في رأيك قد يكون مختلفًا عن العدل في رأيي، العدل في مقياس أمة، قد يكون ظلمًا في مقياس أمة أخرى، ما تراه أمة ذنبًا قد تراه أمة أخرى فضيلة،
إلى أي شيء نرجع؟ وإلى أي شيء نحتكم؟
يقول الصديق رضي الله عنه في إيجاز:
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم
فالصديق هنا يحدد ببساطة المرجعية للحاكم وللأمة، المرجعية لا تكون إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أو قل للكتاب والسنة، وهكذا يحدد الصديق مصادر التشريع في أمته، ولا فلاح للأمة في الدنيا، أو في الآخرة إلا باتباع الكتاب والسنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،
أصول ثوابت، تربى عليها الصديق، وخرجت من فمه ببساطة ويسر، ولو تدبرتها لعلمت أن معانيها تحتاج إلى مجلدات ومجلدات.
وهكذا انتهت الخطبة الموجزة الرائعة، انتهى البيان الجليل، لم يستغرق سوى دقيقتين أو ثلاث، واستمعوا إليه مرة أخرى، كاملًا كما قاله الصديق يوم الاستخلاف، وتخيلوا الصديق يقف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة من حوله يستمعون بإنصات:
أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، واعلموا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
الله أكبر، بناء الأمة الإسلامية القوية، ليس لغزًا من الألغاز، وليس من ضروب المستحيل، ولكن الصرح القوي العظيم يحتاج إلى أساس متين
وها هو الصديق يشرح لنا في إيجاز كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم.
بعد هذه الخطبة الجليلة، وهذه المبايعة المباركة ستبدأ فترة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، ستبدأ فترة عظيمة بكل ما تحمله كلمة عظيمة من معان
ستبدأ حياة قصيرة جدًا في أيامها، طويلة جدًا في أعمالها، ستبدأ فترة خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
المدة الزمنية لهذه الفترة هي سنتان وثلاثة شهور، أما الأعمال فلا تكفي القرون لأدائها، طبعًا في هذه الكتاب من المستحيل أن نشرح هذه الأحداث، وكان الغرض منه هو شرح ما حدث في سقيفة بني ساعدة، وما دار حولها من أحداث وما ورد على ألسنة المستشرقين والشيعة من شبهات، وكيف يكون الرد عليها، ولم نتعرض في هذه المجموعة لمعظم الأحداث التي تمت في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولكننا سنفرد لها كتبًا أخرى إن شاء الله .
ومع ذلك فإنه من المستحيل أن نوفي هذا الرجل حقه في التكريم والتبجيل، فكل ما ذكرناه هو ملخص لطرف من حياته، ولست مبالغًا في قول أن دراسة كل يوم من أيام الصديق رضي الله عنه تعتبر أمرًا حتميًا لفهم كيف يفلح المؤمنون في الدنيا والآخرة، ولفقه كيف تتقدم الأمم، وكيف تصنع الحضارات.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وُزِنَ بِأُمَّتِي فَوَزَنَ بِهِمْ.
فرضي الله عن الصِّدِّيق ورضي الله عن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أجمعين.
بقلم / د. راغب السرجاني
المفضلات