الله يتحدث عن الحاضر بصيغة الماضي
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ
هذا هو الحوار الذي سوف يدور بين الحق سبحانه وتعالى وبين عيسى ابن مريم عليه السلام يوم يجمع الحق سبحانه وتعالى الرسل :
يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ
وقد يقول قائل : ولماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي ؟
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ
وكلنا يعرف أن لكل حدث زمناً ومكاناً . وزمان الحدث هو يوم القيامة . ومكان هذا الحدث في ساحة المشهد والحشر ، وسبحانه هو خالق كل زمن وكل مكان ، وله أن يتحدث عن أمر بأي صيغة شاء ، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل ، فقد أوجد كل شيء من ماضي وحاضر ومستقبل ، وبيده أمر كل ما خلق ومَن خلق ، وهو أزلي قيوم ، أما نحن بنو الإنسان فأمر الزمن يختلف ، الزمن بالنسبة لأفعالنا هو واحد من ثلاثة :
ماضي ِ : أي أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم ، مثل (( قابلني زيد )) ، ومعنى ذلك أن الفعل قد تم وصار محققاً .
حاضر : أي أن يكون الحدث في حالة وقوعه ، أي يحصل الآن مثل قولي : (( يقابلني زيد )) ، وأنت تقصد الحال أي أنه يقابلني الآن .
مستقبل : أي أن يكون الحادث سوف يقع كقولي (( سيقابلني زيد )) .
وهنا لا يملك الإنسان نفسه أن يحدث منه الحدث ، ولا يملك ألا يقع على الإنسان الذي سوف يقابله أمر قد يمنعه من إتمام الحدث ، ولا يملك الإنسان أن يظل السبب للمقابلة قائماً .. إذن فمع المستقبل لا يصح للإنسان أن يحكم بشيء ، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث .
والذي يملك هذا هو الحق سبحانه وتعالى وحده ، ولذلك يعلمنا القرآن شرف الصدق في الكلمة بقوله تعالى :
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {18/23} إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ
وعلى الإنسان أن يحترم قدرته المحدودة ، وأن يتذكر دائماً قدرة الله سبحانه وتعالى عليه . وهذا لا يعني أن الحق سبحانه يمنعنا من التخطيط للمستقبل { لا } ، بل يطلب منا أن نخطط وأن ندرس كل الاحتمالات ، وعلينا أن نقول : (( إن شاء الله )) ، لأننا بذلك نقدم مشيئة مَن يملك كل أمر وهو الله سبحانه وتعالى
وقد حاول بعض المستشرقين من أعداء الإسلام أن ينفذوا بسمومهم إلى عقول المسلمين بالتساؤل عن عدم ترتيب الأفعال على نسق حدوثها في بعض آيات القرآن ، فقال قائل منهم : كيف يقول الحق – سبحانه - : -
أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
وهذا خبر عن يوم القيامة فكيف يأتي به الله على صيغة الماضي : ثم يقول بعد ذلك (( فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ))؟
واستعجال الشيء لا يكون إلا إذا لم يكن قد حدث ، فكأن في الكلام تناقضاً ، ذلك لأنه يقول : أتى ، ويقول بعد ذلك : فلا تستعجلوه ؟
ونقول :
إن الذي يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنساناً مثلك محكوماً بأزمانه . بل المتكلم هو صاحب كل أزمان وخلقها . وعندما يقول سبحانه : (( أتى أمر الله )) فمعنى ذلك أن أمر الله آت لا محالة ، لأنه لا قدرة تخرج مراده على إلا يكون . . وأي فعل من الحق سبحانه وتعالى إنما يتجرد عن ملابسات الزمان وعن ملابسات المكان ، فإن كنا نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى :
وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا
فليس معنى ذلك أن مغفرة الله ورحمته قد مضى زمانها وانقضى وقتها .
ولكن لنقل : كان الله غفوراً رحيماً ولا يزال غفوراً رحيماً ، فسبحانه وتعالى غفور رحيم قبل أن يوجد من يغفر له ويرحمه ، ومن باب أولى يكون غفوراً رحيماً بعد أن يوجد من يستحق المغفرة والرحمة .
وسبحانه منزه عن أن تعتريه الأحداث فيتغير ، لأن الزمن مخلوق من الله ، فلا تقل متى أو أين ، لأنهما به وجدا .
والحق يأتي بالماضي لأنه متحقق الوقوع ، ليثبت حدوث أمر لم يحدث بعد ، وذلك لأن الله إذا قال عن شيء إنه سيحدث فلا بد أن يحدث .
ويؤكد الحق سبحانه وتعالى في أي كلام عن عيسى ابن مريم على أنه (( ابن مريم ))
وهنا يسأل الحق سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام .. ((أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ))
ونعرف أن السؤال إنا يأتي دائماً على وجهين :
إما سؤال يعرف به السائل ما كان يجهله فيريد أن يعلمه من المسئول ، كقول القائل : أقابلك فلان أمس ؟
وإما أن يأتي السؤال لا ليعلم السائل من المسئول ، ولكن ليقرر السائل المسؤل .
ومثال ذلك : ولله المثل الأعلى – يسأل التلميذ أستاذه ليتعلم منه وليخبره الأستاذ بعلم جديد وخبر جديد . وأيضاً يسال التلميذ ليقرره الحقيقة ويوافقه عليها لتستقر لدى التلميذ .
وسؤال الله لعيسى من النوع الأخير ، ليكون ذلك حجة على من قال بألوهية عيسى أو بنوته لله .
وحاول بعض المستشرقين أن يشككوا في القرآن فقالوا : إن هناك تناقضاً في القرآن – واليعاذ بالله – واستندوا على ذلك بقول الحق :
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ
أي أن الحق سبحانه وتعالى يقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويعتقد ، ولكنه سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم :
فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ
فهل معنى ذلك أنهم لن يًسألوا ؟
لا ، بل سوف يُسألون ليقرروا ما فعلوا لا ليعلم الله منهم ما فعلوا ، فهو سبحانه عليم بكل شيء .
وهؤلاء المستشرقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين :
1) وجه ليعلم السائل
2) وجه ليقرر السائل
وسؤال الحق للناس يوم القيامة ليقرروا ما فعلوا وما كان منهم ، لأن الإقرار سيد الأدلة ، وليس سؤال الحق سبحانه وتعالى هو سؤال من يرغب في أن يعلم فسبحانه عليم بكل شئ ، وعلى الإنسان أن يحتفظ بالمقام الذي وضعه فيه ربه ، وكذلك كان عيسى ابن مريم .
وكذلك يكون سؤال الله لعيسى ، إنه لتقريع وتأنيب وتوبيخ من قالوا عن عيسى ما لم يبلغهم إياه .
إن عيسى عليه السلام لم يبلغهم ولم يطلب منهم أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله ، لأن عيسى ابن مريم إنما يبلغ ما أوحي إليه من ربه فقط ، ولهذا تأتي إجابة عيسى رداً على أي تزَيـَُد من الأتباع :
((قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ))
وساعة نسمع ((سبحانك)) فلنعرف أنها إجمال التنزيه لله ، وهو تنزيه أن يشابهه خلق من خلق الله ، فلله وجود ، ولإنسان وجود
ولكن إياك أيها الإنسان أن تقول : إن وجودي كوجود الله ، لأن وجود الله ذاتي ، ووجودك غير ذاتي وكل ما فيك موهوب لك من الله ، لذلك فلا غناك مثل غنى الله ، بل غناه ذاتي وغناك موهوب منه سبحانه ، ولا أي صفة من صفاتك كصفات الله ، فله سبحانه مطلق القدرة والقوة ، وعليك أن تأخذ كل شيء يتعلق بالله فى نطاق ((سبحانه)) ((وليس كمثله شيء)).
وكذلك يكون تنزيه عيسى لربه وخالقه : (( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ))
فعيسى ابن مريم يعلم أنه رسول مصطفى من الله .
ويرد عيسى على ذلك بقضية متفق عليها : ((إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ))
لأن الكل متفق على أن الله يعلم كل ما يبدر من العباد من سلوك وأقوال وأفعال (( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )) .
والكل يعلم ارتفاع الحق وتنزهه عن أن يوجد له معلوم جديد لم يعلمه من قبل . والكل يعلم – كذلك – أن الله يعلم خفايا الصدور
لذلك يقول عيسى : ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ))
ويقرر أن الله الحق العليم بكل شيء يعلم أن ذلك لم يخطر له على البال ، وهذه هي العلة في إيراد ثلاث صور في هذه الآية .
الصورة الأولى هي قوله سبحانه وتعالى : ((سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ))
الصورة الثانية هي قول عيسى : ((إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ))
الصورة الثالثة : ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )) إذن فلا شيء من عند عيسى
وقد يسأل سائل : وماذا يكون في النفس ؟
فالذي يكون في النفس هو ما أسِـرُّ به ولم يظهر ، لأن النفس تُطلق مرة ويراد بها الذات التي تضم الروح والجسد معاً ، وعندما تُطلق على ذات الله فنحن ننزهها عن أن تكون إبغاضا ، ولكنها ذاته المأخوذة في نطاق التنزيه . والمثال هو قول الحق : (( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة ))
وهكذا يكون فهمنا لمجيء كلمة (( نفس )) منسوبة إلى الله ، إنه تنزه أن يكون مثلنا.
فلله وجه ولنا وجه ، ولكن وجه الله نفهمه في نطاق (( ليس كمثله شيء ))
وكذلك يد الله وكذلك كل صفات الله .
ونعلم أن لله أسماء أعلمنا ببعضها ، وعَلَّم بعضاً من خلقه بعضها ، واستأثر ببعضها لذاته .
وهناك بعض من الصفات تأتي لمجرد المشاكلة ، كقول الحق :
(( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ))
ولا نقول أبداً : إن الله مخادع ، ولكن الصفة هنا جاءت للمشاكلة لذكرها في مقابلة .. يخادعون الله .. ولذلك لا نأخذ منها اسماً لله ، بل إنه جاء للرد على ما يبدر من أعداء الله .
ويختم عيسى ابن مريم قوله : (( إنك أنت علام الغيوب )) و (( علاّم )) هي مبالغة في ذات الحدث ، ومبالغة في تكرير الحدث ، فهو سبحانه يعلم غيب كل واحد من خلقه وغيب كل ما في الكون ، وهكذا جاء القرآن برد عيسى عليه السلام وهو رد يستوعب كل مجالات الإنكار على الذين قالوا مثل هذا القول .
اللهم تقبل منا صالح الأعمال
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من خواطر / الشيخ محمد متولي الشعراوي
المفضلات