صفحة 2 من 11 الأولىالأولى 123456 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 106
 
  1. #11
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    اجتياح فارس


    كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في "سمرقند" تزيد على ستمائة وخمسين كيلومترًا.. هذا في الطرق السوية والمستقيمة، فإذا أخذت في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة، وإذا أخذت في الاعتبار أيضاً الأنهار التي تفصل بين "سمرقند" ومنطقة بحر قزوين والتي كانت تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، بالإضافة إلى أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية، كل ذلك إلى جانب العداء الشديد الذي يكنه أهل هذه المناطق المنكوبة للتتار.. إذا أخذت كل ما سبق في الاعتبار فإنك تعلم أن جيش التتار أصبح مقطوعاً عن مدده في "سمرقند" بصورة كبيرة.. وأصبح في موقف حرج لا يحسد عليه بالمرة.. وهو ليس بالكبير العدد.. إنما هو عشرون ألفاً فقط.. فإذا أضفت إلى كل الاعتبارات السابقة الكثافة السكانية الإسلامية الهائلة في تلك المناطق أدركت أن فرقة التتار ستهلك لا محالة؛ فلو خرج عليها أهل البلاد - وقد تجاوزوا الملايين بلا مبالغة - فإن التتار لا يقدرون عليهم بأي حال من الأحوال..
    كان هذا هو تحليل الورقة والقلم..
    فماذا حدث على أرض الواقع؟!
    لقد شاهدنا أمراً عجيباً مخزياً مشيناً!!..
    لقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين.. وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً لا يُفهم.. ورضوا أن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرقة التترية الصغيرة..

    روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم, وليقذفن الله في قلوبكم الوهن", فقال قائل: يارسول الله, وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

    لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل.. إذا توجه السيل شرقاً شرَّقوا معه، وإذا توجه السيل غرباً غرَّبوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار؛ فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تترياً واحداً!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    ماذا فعلت الفرقة التترية الخاصة؟
    لقد عادوا من شاطئ بحر (قزوين) إلى بلاد "مازندران" (في إيران) فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، وكانت من أشد بلاد المسلمين قوة.. حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستطيعوا أن يدخلوا مازندران، ولم تُدخل إلا في زمان سليمان بن عبد الملك -رحمه الله - الخليفة الأموي المعروف.. ولكن التتار دخلوها بسرعة عجيبة، لا لقوتهم ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت، ولما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذبوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد..

    ثم اتجهوا من مازندران إلى الري (مدينة إيرانية كبيرة)، وسبحان الله!! وكأن الله عز وجل قد أراد أن يتم الذلة لمحمد بن خوارزم شاه حتى بعد وفاته؛ فإن التتار وهم في طريقهم من مازندران إلى الري وجدوا في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبياً وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في "سمرقند" آنذاك..

    ثم وصل التتار إلى الري فملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واسترَقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يُسمع بمثلها، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة حتى دخلوا مدينة قزوين (من المدن الإيرانية أيضًا) واقتتلوا مع أهلها في داخل البلد، وقتلوا من أهل قزوين المسلمين ما يزيد عن أربعين ألفًا!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..





  2. #12
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    تقييم الموقف في سنة 620 هجرية


    بينما كان جنكيزخان يبسط سطوته على الدولة الخوارزمية استمرت الحملات التترية على منطقة روسيا..
    ولي تعليق على أربع حوادث وقعت في هذه السنة، وهي توضح الحال التي كان عليها المسلمون في هذه الفترة، وتفسر كذلك لماذا امتلك التتار
    هذه البلاد الشاسعة بهذه السرعة الرهيبة, وتضع أيدينا على بعض الأمراض التي تسببت في تلك الكوارث الشنيعة:

    الحادثة الأولى:
    أن التتار توغلوا في بلاد روسيا وحققوا انتصارات عدة، ولكنهم في نهاية المطاف التقوا بطائفة من الروس تدعي طائفة البلغار (وهي في روسيا وليست في بلغاريا), وحدثت بينهم موقعة عظيمة هُزم فيها التتار للمرة الأولى في هذه المناطق، وقتل منهم خلق كثير، وتوقف الزحف التتري في أرض روسيا، بل وقلت أعدادهم للدرجة التي فقدوا فيها السيطرة على كل المناطق الواقعة في غرب بحر قزوين (روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران).. وكانت هذه فرصة للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب صفوفهم، وتجهيز عدتهم ليقابلوا التتار وهم في حال الاضطراب بعد الهزيمة من البلغار..
    كان هذا متوقعاً، ولكنه لم يحدث!!..
    أما الذي حدث فهو أن أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة - وتحديداً في منطقة أرمينيا - قد جمع عدته وهجم على قبائل الكرج في جورجيا.. وهذا الأمير كان تحت قيادة الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة (وهو من الأكراد وكان يحكم شمال العراق)..
    والحدث عجيب؛ لأنه وإن كان بين الكرج والمسلمين حروب مستمرة إلا أنهم في شبه هدنة غير رسمية الآن، وليس من الحكمة فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود العدو الأكبر لهم وهو التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً كانوا يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون.. فكان المتوقع من المسلمين في ذلك الوقت إما أن يتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيّدوا صفهم في هذا الوقت لكي لا يستنزفوا قوة المسلمين في حروب جانبية، خاصة وأن الكرج يعرفون خبايا هذه المناطق، ولو استمالهم التتار في حربهم ضد المسلمين لكان هذا وبالاً على المسلمين..

    لقد ابْتُلي المسلمون في هذه الآونة بما يمكن أن نسميه: (الحَوَل السياسي!!)
    وافتقدوا الرؤية الصحيحة، والحكمة العسكرية، والهدف الواحد، والاتحاد بين الصفوف، فكانت مثل هذه الأعمال غير المتوازنة وغير المنضبطة وغير المدروسة!!
    دارت الحرب بين المسلمين والكرج، وفقد كل منهما عددا كبيراً من القتلى، كما فقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار..
    وهكذا لم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أسباب ضعفهم.. ثم سكنت الحرب
    وأقيم الصلح من جديد، ولكن بعد فقد طاقة كبيرة جداً من الطرفين..

    الحادثة الثانية:
    نتيجة انهزام التتار في هذه المنطقة ظهر أحد أولاد "محمد بن خوارزم" في منطقة شمال إيران
    وهو "غياث الدين بن محمد بن خوارزم شاه" وهو أخو "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه" الهارب في الهند..

    جمع غياث الدين الرجال، واستغل الفراغ النسبي الذي تركه التتار في هذه المنطقة فتملكها، وسيطر
    على مدن الري وأصبهان، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان (في جنوب إيران)، وهي منطقة لم يكن التتار قد وصلوا إليها..

    إذن أصبحت سيطرة غياث الدين بن خوارزم شاه على مناطق شمال وغرب وجنوب إيران، أما المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من إيران (وهي إقليم خراسان بكامله) فكانت تحت السيطرة التترية.. وبذلك يصبح "غياث الدين" بمثابة حائط صدٍّ بين التتار والخلافة العباسية..
    وكان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت أن يساعد غياث الدين في تثبيت سيطرته على هذه المناطق، وكان المتوقع منه أن يتناسى الخلافات القديمة بينه وبين مملكة خوارزم.. وذلك لأنهم الآن يواجهون عدواً مشتركاً ضخماً وهو التتار..
    كان ذلك المتوقع منه.. إن لم يكن بسبب دوافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فليكن بسبب الأبعاد الاستراتيجية الهامة وراء تثبيت قدم غياث الدين في هذه المنطقة.. ذلك لأن غياث الدين هو الذي يقف مباشرة في مواجهة التتار.. ويُعتبر البوابة الشرقية للخلافة العباسية في بغداد.. وإن استطاع التتار أن يقهروا غياث الدين فستكون المحطة الثانية هي الخلافة العباسية..

    لكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يكن يدرك كل هذه الأبعاد.. لقد كان يعاني هو الآخر من الحول السياسي.. لقد كان - كما وصفه المؤرخون - رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه؛ في كل أزمة اقتصادية يفرض ضريبة جديدة, ويعتمد في الخروج من الأزمة على قوت الشعب وكدِّه وكدحه..
    كما اهتم بالحفلات والملذات والصيد واللعب.. وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلت المواد والمؤن.. وكان رجلاً يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن أبداً على مستوى الأحداث الضخمة التي حدثت في زمانه..

    ماذا فعل الخليفة الناصر لدين الله؟.. إنه لم ينس خلافاته القديمة مع المملكة الخوارزمية.. فأراد أن يقوض أركان السلطان هناك؛ ناسيًا أنهم بينه وبين التتار.. وراسل خال غياث الدين وكان اسمه "إيغان طائسي"، وكان رجلاً كبيراً وصاحب رأي في الحرب يعمل أميراً في جيش غياث الدين، وكان غياث الدين لا يقطع أمراً دون مشورته.. فراسله الخليفة الناصر لدين الله، ورغّبه في الانقلاب على غياث الدين، وعظم له الاستيلاء على الملك، وبذلك يضمن الخليفة ولاء إيغان طائسي له، ويبعد غياث الدين عن المنطقة.. ولم يهمه تلك الفتنة التي ستدور في الأرض المجاورة له، والتي تعتبر العمق الاستراتيجي الهام له..

    وأعجبت الفكرة إيغان طائسي، وكانت تدور في رأسه من قبل ولكن لم تكن له طاقة، فلما راسله الخليفة ووعده بالمساعدة قويت نفسه على ذلك، فذهب إلى بعض العسكر والقواد فاستمالهم له، ولما قويت شوكته وكثُر أتباعه، أعلن العصيان والانقلاب على غياث الدين، وأخذ من معه، ومضى في البلاد يفسد ويقطع الطريق، وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها.. والناس لا تدري من أين تأتي الهلكة؟! أتأتي من جنود التتار أم تأتي من جنود المسلمين؟!.. وانضم إلى إيغان طائسي جمع كبير من أهل الفساد والعنف!..
    كل هذا والتتار على بُعد خطوات، والخليفة الناصر لدين الله - في غباء شديد- سعيد بالفتنة الدائرة على مقربة منه!.. ثم قرر إيغان طائسي أن يقاتل ابن أخته غياث الدين في معركة فاصلة!!..

    والتقى الفريقان المسلمان، ودارت مجزرة بين المسلمين، وسقطت الأعداد الغفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين.. وانهزم إيغان طائسي خال غياث الدين, وقُتل من فريقه عدد ضخم، وأسر الباقون، وفر هو ومن بقى معه مقبوحين إلى أذربيجان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
    روى مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس (فَقَد الأمل) أن يعبده المصلون (وزاد في رواية مسلم: في جزيرة العرب) ولكن في التحريش بينهم"..
    وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة، فإننا نشاهد الآن نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، وذلك مع الأزمات الطاحنة التي تمر بها الأمة، ومع ذلك فالقليل من المسلمين الذي يهتم بهذه الصراعات أو حتى يلحظها.. وإلا فكم من المسلمين يتابع الخلافات بين مصر والسودان على حلايب؟ أو بين ليبيا وتشاد على شريط أوزو؟ أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية؟ أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال؟ أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير؟.. أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى؟ أو بين سوريا وتركيا حول لواء الإسكندرونة؟... أو غير هذه الاختلافات هنا وهناك.. وبالطبع كلنا يعلم مدى خسارة الأمة في حرب العراق وإيران، ثم في حرب العراق والكويت.. كل هذه الخلافات والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً.. ويكفي أن تتصفح الجرائد اليومية عشوائياً في أي يوم لتسمع عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجيريا والصومال وغيرها وغيرها.. وكما يقرأ الكثير منا هذه الأخبار بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم، فكذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية والخارجية بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم!!.. وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد.. وهذه - والله - كارثة مروعة.. كارثة أن يعيش المسلم لنفسه فقط! كارثة ألا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط! كارثة ألا يتألم لحال مسلم سُفك دمه، أو هُدمت داره، أو جُرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته.. كارثة بكل المقاييس.. بمقاييس الإسلام، وبمقاييس الأخوة، وحتى بمقاييس الإنسانية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
    الحادثة الثالثة:
    هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير في الكامل في التاريخ وقدم لها بعبارة: "حادثة غريبة لم يوجد مثلها!!"..
    والحادثة فعلاً غريبة، ومأسوية إلى أبعد درجة..
    والحادثة تذكر أن مملكة الكُرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة.. فطلب منها الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة أن تتزوج رجلاً يدير عنها شئون البلاد، ويكون في الصورة أمام الأعداء وفي المفاوضات وغير ذلك.. فأرادت أن تتزوج من بيت مُلك وشرف.. ولكنها لم تر في مملكة الكرج من يصلح لهذا الزواج، وسمع بهذا أحد ملوك المسلمين وهو "مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان" وهو من ملوك السلاجقة، وكان يحكم منطقة الأناضول (تركيا الآن)، وكان له ولد كبير، فأرسل إلى الملكة يطلبها للزواج من ابنه، فرفضت الملكة وقالت: لا يمكن أن يملك أمرنا مسلم..
    فماذا فعل الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان؟
    لقد قال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها!!..
    فوافقوا على ذلك، وبالفعل تنصر الولد، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
    لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، فكيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً، فضلاً عن تطبيقها، ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد التنصر؟!! ثم أيأتي ذلك من ملك عظيم يملك الأناضول؟! لو أتى ذلك من ضعيف مستعبد لقلنا: لعله استُكره على ذلك، أما أن يأتي العرض من الملوك، وهم الذين يُطلبون، فهذا ما لا يتخيله عقل!!..
    ولا أدري من الذي أطلق على الملك لقب "مغيث الدين"؟ ولا أدري أي إغاثة قدمها للدين؟ ولا أدري أيضاً أي دين يغيثه؟ أهو يغيث الدين الإسلامي أم يغيث النصرانية؟!
    [فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور]
    ولاستكمال الصورة يجدر بنا أن نذكر مصيره.. لنرى كيف يكون حال من باع دينه بدنياه..
    لقد تنصر الأمير المسلم وتزوج الملكة الكرجية، ومرت الأيام، ثم علم الأمير الزوج أن زوجته الملكة تهوى مملوكاً لها، وكان يسمع عنها القبائح الشنيعة ولا يتكلم، فهو وحيد في مملكة واسعة، ثم إنه دخل عليها يوماً فرآها مع مملوكها في فراشه، فأنكر ذلك، وأراد أن يمنعها من استمرار العلاقة، فقالت له الملكة بكل جبروت: "إما أن ترضى بهذا وإلا فلا تبقى"..، فقال: أنا لا أرضى بهذا، فنقلته إلى بلد آخر، ووكلت به من يمنعه من الحركة، وحجرت عليه، ثم تزوجت غيره!!..
    نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه..
    روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"..
    الحادثة الرابعة:
    حدث في هذا العام (620 هجرية) أمر قد يعتقد البعض أنه مصادفة، وأن توقيته غريب؛ فالمصائب كانت كثيرة على الأمة في هذه السنين، والحالة الاقتصادية متردية، وكذلك الحالة السياسية والعسكرية والأخلاقية.. وفوق كل المصائب التي ذكرناها فقد هجم الجراد بكميات هائلة على أكثر أقاليم المسلمين، وأهلك الكثير من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر والشام وفارس وغيرها..
    أكان هذا على سبيل المصادفة؟!
    أبداً والله.. إنه لفي كتاب الله عز وجل!!..
    "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون"..
    هذه حقائق ثابتة في كتاب الله عز وجل..
    إذا ترسخت التقوى في الأمة فتحت عليها البركات من السماء والأرض..
    وإذا رفعت التقوى ـ كما رأينا من حال المسلمين في تلك الحقبة من الزمان ـ رأينا الأزمات والشدائد والمصائب..
    بل إن الله عز وجل ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه وشرعه.. قال الله عز وجل عن قوم فرعون:
    [فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين]
    وسبحان الله.. كلنا رأى الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي منذ عام أو يزيد.. وأنا أرى أن هذا ليس مصادفة، ولكنه لفت نظر للمسلمين.. وتذكير لهم بالتاريخ.. ودعوة لهم للعودة إلى الله عز وجل.. وإلا فرحلة الجراد القادم لن تكون رحلة عابرة.. بل ستكون إقامة واستيطانًا! ونعوذ بالله من غضبه.. ونسأله أن يبصرنا بسننه، وأن يرزقنا التقوى والإخلاص والعمل..

    يتبع





  3. #13
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    اجتياح أذربيجان


    اتجه التتار إلى غرب بحر قزوين حيث إقليم أذربيجان المسلم..
    مر التتار في طريقهم على مدينة تبريز (كانت مدينة أذربيجانية في ذلك الوقت بينما هي الآن من مدن شمال إيران)، فقرر زعيم أذربيجان "أوزبك بن البهلوان" - وكان يستقر في مدينة تبريز - أن يصالح التتار على الأموال والثياب والدواب، ولم يفكر مطلقاً في حربهم؛ لأنه كان لا يفيق من شرب الخمر ليلاً أو نهاراً!! ورضي التتار منه بذلك، ولم يدخلوا تبريز لأن الشتاء القارس كان قد حل، وتبريز في منطقة باردة جداً، فاتجه التتار إلى الساحل الغربي لبحر قزوين، وبدءوا في اجتياح الناحية الشرقية لأذربيجان متجهين ناحية الشمال..
    اجتياح أرمينيا وجورجيا..


    هذان الإقليمان يقعان في غرب وشمال أذربيجان، وقد اتجهوا إليهما قبل الانتهاء من مدن أذربيجان؛ لأنهم سمعوا بتجمع قبائل "الكرج" لهم، وقبائل الكرج هي قبائل وثنية ونصرانية تقطن في منطقة جورجيا الروسية، وكان بينهم وبين المسلمين قتال دائم، وقد علموا أن الخطر يقترب منهم فتجمعوا في مدينة تفليس (في جورجيا الآن) وحدث هناك قتال طويل بينهم وبين التتار انتهى بانتصار التتار وامتلاك أرمينيا وجورجيا، وقُتل من الكرج ما لا يحصى في هذه الموقعة..

    ماذا فعل جنكيزخان في سنة 617 هجرية بعد مطاردة "محمد بن خوارزم شاه"؟
    بعد أن اطمأن جنكيزخان إلى هروب "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هرباً من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيزخان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب "سمرقند" وشمالها..
    وجد جنكيزخان أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق: إقليم خوارزم وإقليم خراسان..
    أما إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل بلخ ومرو ونيسابور وهراة وغزنة وغيرها (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان)..

    وأما إقليم خوارزم فهو الإقليم الذي كان نواة للدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من "سمرقند"، ويمر به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمنستان).. ولكن جنكيزخان أراد القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خوارزم وخراسان، فأخرج جنكيزخان من جيشه ثلاث فرق:
    فرقة لتدمير إقليم "فرغانة" (في أوزبكستان الآن) وهو على بعد حوالي خمسمائة كيلومتر إلى الشرق من "سمرقند"..

    فرقة لتدمير مدينة "ترمذ" (في تركمنستان الآن) وهي مدينة الإمام "الترمذي" صاحب السنن رحمه الله، على بعد حوالي مائة كيلومتر جنوب "سمرقند"..
    فرقة لتدمير قلعة "كلابة" وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون..
    وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيزخان، فاستولت على كل هذه المناطق، وأعملت فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا في الأماكن الأخرى، ووصلت الرسالة التترية إلى كل الشعوب المحيطة: إن التتار لا يرتوون إلا بالدماء، ولا يسعدون إلا بالخراب والتدمير، وأنهم لا يُهزمون، فعمت الرهبة منهم أرجاء المعمورة، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
    ولما عادت هذه الجيوش من مهمتها القبيحة بدأ جنكيزخان يعد للمهمة الأقبح.. بدأ يعد لاجتياح إقليمي خراسان وخوارزم..
    اجتياح خراسان


    1ـ مدينة بلخ وما حولها (شمال أفغانستان الآن):
    هذه المدينة تقع جنوب مدينة ترمذ التي دمرها التتار منذ أيام قلائل، ولا شك أن أخبار مدينة ترمذ قد وصلت إليهم.. وكان في قلوب أهل هذه البلدة رعب شديد من التتار، فلما وصلت جيوش التتار إليهم طلبوا منهم الأمان، وعلى غير عادة التتار فقد قبلوا أن يعطوهم الأمان، ولم يتعرضوا لهم بالسلب أو النهب، وقد تعجبتُ من فعل التتار مع أهل بلخ! وتعجبتُ لماذا لم يقتلوهم كما هي عادتهم؟! ولكن زال العجب عندما مرت الأيام ووجدت أن جنكيزخان قد عاد إلى بلخ وأمر أهلها أن يأتوا معه ليعاونوه في فتح مدينة مسلمة أخرى هي "مرو" كما سيأتي، والغريب أن أهلها جاءوا معه بالفعل لمحاربة أهل مرو!!.. والجميع من المسلمين.. ولكن الهزيمة النفسية الرهيبة التي كان يعاني منها أهل بلخ نتيجة الأعمال البشعة التي تمت في مدينة ترمذ المجاورة لهم جعلتهم ينصاعون لأوامر جنكيزخان، حتى وإن كانوا سيقتلون إخوانهم!!.. وبذلك يكون جنكيزخان قد وفّر قواته لمعارك أخرى، وضرب المسلمين بعضهم ببعض..
    وإن كنا نذكر ذلك على سبيل العجب الآن، فقد رأيناه في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، وما زلنا نراه، فقد استخدم الأمريكان أهل الشمال في أفغانستان (نفس منطقة بلخ) لحرب المسلمين في كابل سنة2002 ميلادية، واستخدم الأمريكان أيضاً أكراد الشمال العراقي في حرب بقية العراق ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    2ـ اجتياح الطالقان:
    اتجهت فرقة من التتار من "سمرقند" إلى منطقة الطالقان (شمال شرق أفغانستان بالقرب من طاجكستان) وقد صعب عليهم فتحها لمناعة حصونها، فأرسلوا إلى جنكيزخان فجاء إليها وحاصرها شهوراً حتى تم فتحها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا أموالها ومتاعها كما كانت عادتهم..

    3ـ مأساة مرو:
    ومرو مدينة كبيرة جداً في ذلك الوقت، وتقع الآن في دولة تركمنستان المسلمة، على بعد أربعمائة وخمسين كيلومترًا تقريباً غرب مدينة بلخ الأفغانية، وقد ذهب إليها جيش كبير من التتار على رأسه بعض أولاد جنكيزخان، واستعانوا في هذه الموقعة بأهل بلخ المسلمين كما ذكرنا من قليل.. وتحرك الجيش التتري الرهيب الذي لم تذكر الروايات عدده، ولكنه كان جيشاً هائلاً يقدر بمئات الألوف.. هذا غير المسلمين من شمال أفغانستان، وعلى أبواب مرو وجد التتار أن المسلمين في مرو قد جمعوا لهم خارج المدينة جيشاً يزيد على مائتي ألف رجل، وهو جيش كبير جداً بقياسات ذلك الزمان، وكانت موقعة رهيبة بين الطرفين على أبواب مرو.. وحدثت المأساة العظيمة، ودارت الدائرة على المسلمين، وانطلق التتار يذبحون في الجيش المسلم حتى قتلوا معظمهم، وأسروا الباقي، ولم يسلم إلا قليل القليل، ونهبت الأموال والأسلحة والدواب من الجيش.. ويعلق ابن الأثير في أسى وإحباط على هذه الموقعة فيقول: "فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون، وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة"..
    وتخيل جنداً يقاتلون عدوهم وهم يعتقدون أن هذا العدو لا يُهزم.. كيف تكون نفسياتهم؟ وكيف تكون معنوياتهم؟
    وقعت الهزيمة المرة بالجيش المسلم، وفتح الطريق لمدينة مرو ذات الأسوار العظيمة.. وكان بها من السكان ما يزيد عن سبعمائة ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال..

    وحاصر التتار المدينة الكبيرة، وقد دب الرعب في قلوب أهلها بعد أن فني جيشهم أمام عيونهم، ولم يفتحوا الأبواب للتتار مدة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أرسل قائد جيش التتار (ابن جنكيزخان) رسالة إلى قائد مدينة مرو يقول فيها: "لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا نجعلك أمير هذه البلدة، ونرحل عنك"..
    فصدق أمير البلاد ما قاله زعيم التتر، أو أوهم نفسه بالتصديق، وخرج إلى قائد التتار، فاستقبله قائد التتار استقبالاً حافلاً، واحترمه وقرّبه، ثم قال له في خبث: "أخرج لي أصحابك ومقربيك ورؤساء القوم حتى ننظر من يصلح لخدمتنا، فنعطيه العطايا، ونقطع له الإقطاعات، ويكون معنا"، فأرسل الأمير المخدوع إلى معاونيه وكبار وزرائه وجنده لحضور الاجتماع الهام مع ابن جنكيزخان شخصياً.. وخرج الوفد الكبير إلى التتار، ولما تمكن منهم التتار قبضوا عليهم جميعاً وقيدوهم بالحبال!..

    ثم طلبوا منهم أن يكتبوا قائمتين طويلتين:
    ـ أما القائمة الأولى: فتضم أسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في مدينة مرو..
    ـ وأما القائمة الثانية: فتضم أسماء أصحاب الحرف والصناع المهرة.. ثم أمر ابن جنكيزخان أن يأتي التتار بأهل البلد أجمعين، فخرجوا جميعاً من البلد حتى لم يبق فيها واحد، ثم جاءوا بكرسي من ذهب قعد عليه ابن جنكيزخان ثم أصدر الأوامر الآتية:
    الأمر الأول: أن يأتوا بأمير البلاد وبكبار القادة والرؤساء فيقتلوا جميعاً أمام عامة أهل البلد!! وبالفعل جاءوا بالوفد الكبير وبدءوا في قتله واحداً واحداً بالسيف، والناس ينظرون ويبكون..
    الأمر الثاني: إخراج أصحاب الحرف والصناع المهرة، وإرسالهم إلى منغوليا للاستفادة من خبراتهم الصناعية هناك..
    الأمر الثالث: إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم حتى يخبروا عن كل مالهم، ففعلوا ذلك ومنهم من كان يموت من شدة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه..
    الأمر الرابع: دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثاً عن المال والمتاع النفيس، حتى إنهم نبشوا قبر السلطان "سنجر" أملاً في وجود أموال أو ذهب معه في قبره..
    واستمر هذا البحث ثلاثة أيام..
    ثم الأمر الخامس الرهيب:
    أمر ابن جنكيزخان - لعنه الله ولعن أباه - أن يُقتل أهل البلاد أجمعين!!!!..
    وبدأ التتار يقتلون كل سكان مرو.. يقتلون الرجال.. والنساء.. والأطفال!!..
    قالوا: إن المدينة عصت علينا وقاومت، ومن قاوم فهذا مصيره..
    يقول ابن الأثير رحمه الله: "وأمر ابن جنكيزخان بعد أن قتلوا جميعاً أن يقوم التتار بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!"..
    قتل من مدينة مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما لا يتخيل، وحقاً فإنه لم تمر على البشرية منذ خلق آدم ما يشبه هذه الأفعال من قريب ولا بعيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
    وفنيت مدينة مرو، واختفى ذكرها من التاريخ!!!..

    4ـ اجتياح نيسابور:
    وهي مدينة كبيرة أخرى من مدن إقليم خراسان، (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، واتجه إليها التتار بعد أن تركوا خلفهم مدينة مرو وقد خربت تماماً، وهناك حاصروا مدينة نيسابور لمدة خمسة أيام، ومع أنه كان بالمدينة جمع لا بأس به من الجنود المسلمين، إلا أن أخبار مرو كانت قد وصلت إلى نيسابور، فدب الرعب والهلع في أوصال المسلمين، وما استطاعوا أن يقاوموا التتار، ودخل التتار المدينة، وأخرجوا كل أهلها إلى الصحراء، وجاء من أخبر ابن جنكيزخان أن بعضاً من سكان مدينة مرو قد سلم من القتل، وذلك أنهم ضربوا بالسيف ضربات غير قاتلة، وظنهم التتار قد ماتوا فتركوهم، ولذا فقد أمر ابن جنكيزخان في مدينة نيسابور أن يقتل كل رجال البلد بلا استثناء، وأن تقطع رؤوسهم لكي يتأكدوا من قتلهم، ثم قام اللعين بسبي كل نساء المسلمين في مدينة نيسابور، وأقاموا في المدينة خمسة عشر يوماً يفتشون الديار عن الأموال والنفائس.. ثم تركوا نيسابور بعد ذلك أثراً بعد عين، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    5ـ اجتياح هراة:
    وهي من أحصن البلاد الإسلامية، وكانت مدينة كبيرة جداً كذلك، وتقع في الشمال الغربي لأفغانستان، وتوجه إليها ابن جنكيزخان بقواته البشعة، ولم تسلم المدينة من المصير الذي قابلته مدينتا مرو ونيسابور، فقتل فيها كل الرجال، وسبيت كل النساء، وخربت المدينة كلها وأحرقت.. وإن كان أميرها - وكان يُدعى: "ملك خان" - قد استطاع الهروب بفرقة من جيشه في اتجاه غزنة في جنوب أفغانستان!! وهكذا كان الملوك والرؤساء في ذلك الزمن يُوَفَّقُون إلى الهروب، بينما تسقط شعوبهم في براثن التتار!!!..
    وبسقوط هراة يكون إقليم خراسان قد سقط بكامله في أيدي التتار، ولم يبقوا فيه على مدينة واحدة، وتمت كل هذه الأحداث في عام واحد هو العام السابع عشر بعد ستمائةٍ من الهجرة.. وهذا من أعجب الأمور التي مرت بالأرض على الإطلاق!!!..

    اجتياح خوارزم
    وخوارزم هي مركز عائلة خوارزم شاه، وبها تجمع ضخم جداً من المسلمين، وحصونها من أشد حصون المسلمين بأساً وقوة، وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمنستان، وتقع مباشرة على نهر جيحون، وكانت تمثل للمسلمين قيمة اقتصادية واستراتيجية وسياسية كبيرة..

    ولأهمية هذه البلدة فقد وجه إليها جنكيزخان أعظم جيوشه وأكبرها، وقد قام هذا الجيش بحصار المدينة لمدة خمسة أشهر كاملة دون أن يستطيع فتحها، فطلبوا المدد من جنكيزخان، فأمدهم بخلق كثير، وزحفوا على البلد زحفاً متتابعاً، وضغطوا عليه من أكثر من موضع حتى استطاعوا أن يحدثوا ثغرة في الأسوار، ثم دخلوا إلى المدينة، ودار قتال رهيب بين التتار والمسلمين، وفني من الفريقين عدد كبير جداً، إلا أن السيطرة الميدانية كانت للتتار، ثم تدفقت جموع جديدة من التتار على المدينة، وحلت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشده فيهم، وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار، فقام التتار بعمل بشع إذ قاموا بهدم سد ضخم كان مبنياً على نهر جيحون، وكان يمنع الماء عن المدينة، وبذلك أطلقوا الماء الغزير على خوارزم، فأغرق المدينة بكاملها.. ودخل الماء في كل السراديب والخنادق والديار، وتهدمت ديار المدينة بفعل الطوفان الهائل، ولم يسلم من المدينة أحد البتة!! فمن نجا من القتل قتل تحت الهدم أو أغرق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خراباً، وتركها التتار وقد اختفت من على وجه الأرض وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، ومن مر على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثراً لحياة سابقة.. وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، اللهم ما حدث مع قوم نوح، ونعوذ بالله من الخذلان بعد النصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
    وكانت هذه الأحداث الدامية أيضاً في عام 617 من الهجرة!!..






  4. #14
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي



    التتار يتوجهون إلى وسط وجنوب أفغانستان


    هذه الصورة بحجم اخر انقر هنا لعرض الصورة بالشكل الصحيح ابعاد الصورة هي 675x434 الابعاد 69KB.

    بتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعد من جنوب دولة خوارزم.. وجنوب دولة خوارزم كانت تحت سيطرة "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه"، وهو ابن الزعيم الخوارزمي الكبير محمد بن خوارزم، والذي فر منذ شهور قليلة أمام التتار.. وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك..

    وجنوب دولة خوارزم كان يشمل وسط وجنوب أفغانستان وباكستان، وكان يفصل بينه وبين الهند نهر السند، وكان جلال الدين - زعيم الجنوب - يتخذ من مدينة "غزنة" مقراً له (مدينة غزنة في أفغانستان الآن، وتقع على بعد حوالي مائة وخمسين كم جنوب مدينة كابول، وهي مدينة حصينة تقع في وسط جبال باروبا ميزوس الأفغانية)..
    ولما انتهى جنكيزخان من أمر الزعيم الرئيسي للبلاد "محمد بن خوارزم شاه" وأسقط دولته، بدأ يفكر في غزو وسط أفغانستان وجنوبها لقتال الابن "جلال الدين"، فوجه إلى "غزنة" جيشاً كثيفاً من التتار..

    وبالطبع.. كان جلال الدين قد جاءته أخبار الاجتياح التتري الرهيب لمناطق الشمال والوسط من الدولة الخوارزمية، وبلغه ما حدث لأبيه، وكيف مات في جزيرة ببحر قزوين، وأصبح هو الآن الزعيم الشرعي للبلاد، ومن ثم عظمت مسئوليته جدًا, فبدأ يعد العدة لقتال التتار، وجمع جيشاً كبيراً من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه "سيف الدين بغراق", وكان شجاعاً مقداماً صاحب رأي ومكيدة في الحروب، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضاً ستون ألفاً من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها، كما انضم إليه أيضاً "ملك خان" أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته.. وبذلك بلغ جيش جلال الدين عدداً كبيراً، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى "بلق"، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة.. وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!..

    دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة.. وقاتل المسلمون قتال المستميت.. فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها، وكان لحمية المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين... كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار..

    واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام..
    ثم أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين.. وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين!! وكثر فيهم القتل، وفر الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، والذي كان يتمركز في "الطالقان" في شمال شرق أفغانستان..
    وارتفعت معنويات المسلمين جداً.. فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في غزنة يؤتي ثماره.. لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين، مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة "سيف الدين بغراق", مع "ملك خان" أمير هراة.. واختار المسلمون مكاناً مناسباً وأخذوا بالأسباب المتاحة.. فكان النصر..
    واطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهز جيشاً أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة "كابول" الأفغانية..

    ومدينة كابول مدينة إسلامية حصينة تحاط من كل جهاتها تقريباً بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان..
    ودارت موقعة كابول الكبيرة.. وكان القتال عنيفاً جداً.. أشد ضراوة من موقعة غزنة.. وثبت المسلمون، وحققوا نصراً غالياً على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار.
    وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار، ولكن سبحان الله، بدلاً من أن تكون هذه نعمة على جيش المسلمين، أصبحت هذه الغنائم نقمة شديدة وهلكة محققة!!..
    روى البخارى ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"..

    لقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العضال، إلا ما رحم الله عز وجل.. لقد كانت حروبهم حروبًا مادية قومية.. حروب مصالح وأهواء.. ولم تكن في سبيل الله.. لقد كان انتصارهم مرة وثانية لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر أو القتل.. فكانت لهم جولة أو جولتان.. لكن ظهرت خبايا النفوس عند كثرة الأموال والغنائم..
    لقد وقع المسلمون في الفتنة!!..
    اختلف المسلمون على تقسيم الغنيمة!!..

    قام "سيف الدين بغراق" أمير الترك، وقام أمير آخر هو "ملك خان" أمير مدينة هراة.. قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم.. فحدث الاختلاف.. وارتفعت الأصوات.. ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف!!..
    نعم.. ارتفعت السيوف ليتقاتل المسلمون على تقسيم الغنيمة.. وجيوش التتار ما زالت تملأ معظم مدن المسلمين!!..
    وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين.. وكان ممن سقط أخ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين ومعه الثلاثون ألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته!! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين أن يحل المشكلة، وأسرع إلى سيف الدين بغراق يرجوه أن يعود إلى صف المسلمين؛ فالمسلمون في حاجة إلى كل جندي وإلى كل طاقة وإلى كل رأي، فوق أن هذا الانسحاب سيؤثر على معنويات المجموعة الباقية؛ لأن الفرقة التركية كانت من أمهر فرق المسلمين.. ولكن سيف الدين بغراق أصر على الانسحاب، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه وذكره بالجهاد، وخوفه من الله تعالى.. لكن سيف الدين بغراق لم يتذكر وانسحب فعلاً بجيشه!!

    وانكسر جيش المسلمين انكساراً هائلاً.. لقد انكسر مادياً، وكذلك انكسر معنوياً!!..
    ولم يفلح المسلمون في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وكابول..
    روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"..
    لم يدرك المسلمون في هذه الآونة حقيقة الدنيا، وأنها دار استخلاف واختبار وامتحان، وليست دار قرار وبقاء وخلود.. نسي المسلمون امتحان ربهم، ولم يستعدوا له..
    نسي المسلمون التحذير النبوي الخطير.. "فاتقوا الدنيا".. فسقط المسلمون سقطة هائلة..
    وبينما هم كذلك إذ جاء جنكيزخان بنفسه على رأس جيوشه ليرى هذا المسلم الذي انتصر عليه مرتين.. ودب الرعب والهلع في جيش المسلمين.. فقد قلت أعدادهم وتحطمت معنوياتهم.. ورأى جلال الدين أن جيشه قد ضعف جداً.. فماذا فعل؟!

    لقد أخذ جيشه وبدأ يتجه جنوباً للهروب من جيش جنكيزخان، أو على الأقل لتجنب الحرب في هذه الظروف..
    ولكن جنكيزخان كان مصراً على اللقاء فأسرع خلف جلال الدين!!..
    وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل..!! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهاً إلى الجنوب، حتى وصل إلى حدود باكستان الآن فاخترقها، ثم تعمق أكثر حتى اخترق كل باكستان ووصل إلى نهر السند، الذي يفصل في ذلك الوقت بين باكستان وبين الهند.. فأراد جلال الدين أن يعبر بجيشه نهر السند ليفر إلى الهند، مع أن علاقاته مع ملوك الهند المسلمين لم تكن على ما يرام.. ولكنه وجد ذلك أفضل من لقاء جنكيزخان !!..
    وعند نهر السند فوجئ جلال الدين وجيشه بعدم وجود السفن لنقلهم عبر النهر الواسع إلى الناحية الأخرى، فطلبوا سفناً من مكان بعيد، وبينما هم ينتظرون السفن إذ طلع عليهم جيش جنكيزخان !!..

    ولم يكن هناك بد من القتال، فنهر السند من خلفهم، وجنكيزخان من أمامهم، ودارت موقعة رهيبة بكل معاني الكلمة.. حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال.. واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة.. واستحر القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان، والذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم.. وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة.. ولكن شتان بين من يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدت إلى هزيمةٍ مُرة..

    وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتب أوراقه، ويضمد جراحه، ويعد عدته.. وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة جداً جاءت السفن إلى نهر السند، ولم يضيع جلال الدين الوقت في تفكير طويل، بل أخذ القرار السريع الحاسم وهو: "الهروب!!.." وقفز الزعيم المسلم إلى السفينة، ومعه خاصته ومقربوه، وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند..
    ولكن.. هل ترك المسلمون التتار وحدهم في هذه الأرض؟

    كلا!!.. إنما تركوهم مع بلاد المسلمين، ومدن المسلمين، وقرى المسلمين.. تركوهم مع المدنيين دون حماية عسكرية.. وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري.. بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيزخان نتيجة كثرة القتلى في التتار في الأيام الأخيرة.. فانقلب جنكيزخان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه.. ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر..
    وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة غزنة، والتي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو شهور عندما كانوا متحدين.. دخل جنكيزخان المدينة الكبيرة.. عاصمة جلال الدين بن خوارزم فقتل كل رجالها بلا استثناء، وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء!!.. وتركها ـ كما يقول ابن الأثير ـ خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس!!..
    ويجدر بالذكر أن نشير إلى أنه في جملة الذين أمسك بهم جنكيزخان من أهل المدن كان أطفال جلال الدين ابن خوارزم.. وقد أمر جنكيزخان بذبحهم جميعاً.. وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه..
    روى البيهقي بسند صحيح، رواته ثقات إلا أنه من مراسيل أبي قلابة - رحمه الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

    "كن كما شئت، كما تدين تدان"..
    وبذلك حقق جنكيزخان حلماً غالياً ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال "أفغانستان"!!..
    ولكن.. لماذا يكون احتلال أفغانستان بالتحديد حلماً لجنكيزخان أو لغيره من الغزاة؟! لماذا يكون احتلال أفغانستان بالذات خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية؟! ولماذا يجب أن يكون سقوط أفغانستان في يد محتل - أياً كان - نذير خطر شديد للأمة بأسرها؟!
    الواقع أن سقوط أفغانستان يحمل بين طياته كوارث عدة:
    أولاً: الطبيعة الجبلية للدولة تجعل غزوها شبه مستحيل، وبذلك فهي تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وهذا الحاجز يخفف الوطأة على البلاد المجاورة لأفغانستان، فإن سقطت أفغانستان كان سقوط هذه البلاد المجاورة محتملاً جداً، وسيكون غزو أو مساومة باكستان وإيران ثم العراق بعد ذلك أسهل جداً..

    ثانياً: الموقع الاستراتيجي الهائل لأفغانستان يعطيها أهمية قصوى، فهي في موقع متوسط تماماً في آسيا، والذي يحتلها سيملك رؤية باتساع 360 درجة على المنطقة بأسرها.. فهو على بعد خطوات من دول في غاية الأهمية.. إنه لا يراقب باكستان وإيران فقط، ولكنه يراقب أيضاً دولاً خطيرة مثل روسيا والهند، وفوق ذلك فهو قريب نسبياً من الصين.. وبذلك تصبح السيطرة على كامل آسيا – بعد احتلال أفغانستان – أمراً ممكناً..
    ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة قد لا تتوفر في غيرها من البلاد، فإن سقط هؤلاء فسقوط غيرهم سيكون أسهل..

    رابعاً: يتمتع سكان هذا البلد بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وظهر ذلك واضحاً في انتصارهم مرتين على التتار بينما فشلت كل الجيوش الإسلامية في تحقيق مثل هذا النصر، ولا شك أن سقوط هؤلاء يُعد نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين..
    خامساً: فوق كل ما سبق، فإن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية، والإيجابي على التتار، سوف يكون عاملاً شديد التأثير في الأحداث، فأنَّى لأمة محبطة أن تفكر في القيام، وأنى لأمة ذاقت طعم النصر الصعب أن تفرط في الانتصارات السهلة!!.. هذا عادة لا يكون!!..

    وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم التركمنستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا وقد اقتربوا جداً من العراق.
    كل هذا في سنة واحدة!!.. في سنة 617 هجرية.. حتى إن ابن الأثير يعلق على هذا فيقول:
    "وقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه، فهذه طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينيا، ويجاورون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا - إذا بَعُدَ العهد - ويرى هذه الحادثة مسطورة فإنه سينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطّرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه، في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، فقد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها"..

    يتبع






  5. #15
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي



    ثم دخلت سنة 618 هجرية


    عودة التتار إلى أذربيجان:
    عاد التتار إلى إقليم أذربيجان المسلم من جديد، ودخلوا مدينة "مراغة" المسلمة.. ومن عجيب الأمور أن امرأة كانت ترأس هذه المدينة، ولا أدري لماذا أعطى المسلمون زمامهم لامرأة، وخاصةً في هذا التوقيت الحساس؟؟ إلا إذا كانت البلاد قد عدمت الرجال الذين يصلحون للقيادة!!..

    حاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وأخذوا يضربون المدينة من كل مكان.. فخرج أهلها للقتال، فإذا بالتتار يدفعون بالأسارى المسلمين الذين أتوا بهم من بلاد متعددة ليقاتلوا عنهم، والتتار يحتمون بهم، ومن تأخر من الأسارى عن القتال قُتل.. فبدأ الأسارى المسلمون يقاتلون إخوانهم المسلمين في مراغة طمعاً في قليل من الحياة.. وسبحان الله!.. إن كان الموت لا محالة آتٍ؛ فلماذا تقتل إخوانك قبل أن تُقتل؟! ولو انقلب الأسارى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان في ذلك فرصة النجاة لبعض المسلمين.. ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في 4 صفر سنة 618 هجرية، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وكل ما استطاعوا حمله، أما ما كانوا يعجزون عن حمله فكانوا يحرقونه كله.. ولقد كانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيضرمون فيه النار!!..
    ويذكر ابن الأثير - رحمه الله - أن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها!! وذكر أيضاً أنه قد سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل مسلم، فما زال يقاتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بالسوء..!! ضربت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان!!..
    التهديد بغزو شمال العراق..

    وبدأ التتار يفكرون في غزو مدينة "أربيل" في شمال العراق، ودب الرعب في مدينة أربيل، وكذلك في مدينة الموصل في غرب أربيل، وفكر بعض أهلها في الجلاء عنها للهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية, فيتجهون إلى بغداد بدلاً منها، فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل إذا وصلوا إليها.. وأعلنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية, وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز..

    تُرى.. كم من الرجال استطاع الخليفة أن يجمع؟
    لقد جمع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" ثمانمائة رجل فقط !!
    ولا أدري كيف سينصر الخليفة دين الله ـ كما يوحي بذلك اسمه ـ بثمانمائة رجل؟!
    أين الجيش القوي؟! وأين الحماية للخلافة؟! وأين التربية العسكرية؟! وأين الروح الجهادية؟!
    لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان "صورة" خليفة.. أو "شبح" خليفة..
    ولم يستطع قائد الجيش "مظفر الدين" طبعاً أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل.. ولكن انسحب بالجيش، ومع ذلك - سبحان الله - فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر، فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن ثمانمائة جندي فقط!.. ولذلك قرروا تجنب المعركة وانسحبوا بجيوشهم..
    وانسحاب جيوش التتار يحتاج منا إلى وقفة وتحليل.. فقد كان الرعب يملأ التتار من إمكانيات الخلافة العباسية التي كانت ملء سمع وبصر الدنيا، وكانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل دولة التتار ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة؛ ولذا فالتتار كانوا يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثم فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يُعرف "بحرب الاستنزاف"، وذلك عن طريق توجيه ضربات خاطفة موجعة للعراق، وعن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضاً عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب..
    لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى..

    اجتياح همذان وأردويل:
    وهما من مدن إيران حالياً، وقد حاصر التتار همذان، ثم دار القتال بعد ذلك مع أهلها بعد أن انقطع عنهم الطعام، ووقعت مقتلة عظيمة في الطرفين، لكن في النهاية انتصر التتار، واجتاحوا البلد، وسفكوا دماء أهلها وأحرقوا ديارها، ثم تجاوزوها إلى أردويل فملكوها وقتلوا من فيها وخربوا وأحرقوا..

    التتار على أبواب تبريز:
    واتجه التتار إلى تبريز.. المدينة الإيرانية الكبيرة.. وكان التتار قد رضوا سابقاً بالمال والثياب والدواب من صاحبها المخمور "أوزبك بن البهلوان"، ولم يدخلوها لأنهم جاءوا إليها في الشتاء القارس.. أما الآن وقد تحسن الجو وصفت السماء، فلا مانع من خيانة العهود ونقض المواثيق..
    ولكنهم - في طريقهم إلى تبريز - علموا بأمر قد جد على هذه البلدة.. لقد رحل عنها صاحبها المخمور أوزبك بن البهلوان، وتولى قيادة البلاد رجل جديد هو "شمس الدين الطغرائي"، وكان رجلاً مجاهداً يفقه دينه ودنياه، فقام - رحمه الله - يحمس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة.. وقوّى قلوبهم على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني.. وعلمهم ما عرفوه نظرياً ولم يطبقوه عملي في حياتهم على الإطلاق: علمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبداً .. وأن رزقه وأجله قد كتبا له قبل أن يولد، وأن المسلمين مهما تنازلوا للتتار فلن يتركوهم, إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم.. أما بغير قوة فلن يُحمى حق على وجه الأرض..

    وتحركت الحمية في قلوب أهل تبريز، وقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخندق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف.. لقد تجهز القوم - وللمرة الأولى منذ زمن - للجهاد!!..
    وسمع التتار بأمر المدينة، وبحالة العصيان المدني فيها، وبحالة النفير العام.. سمعوا بدعوة الجهاد، والتجهز للقتال... سمع التتار بكل ذلك، فماذا فعلوا؟

    قد يعتقد بعض القراء أن التتار قد غضبوا وأرعدوا وأزبدوا، وغلت الدماء في عروقهم، وعلت أصواتهم، وجمعوا جيوشهم، وعزموا على استئصال المدينة المتهورة..
    أبداً - إخواني في الله - إن كل ذلك لم يحدث!!..
    لقد أخذ التتار قراراً عجيباً!!..
    لقد قرروا عدم التعرض لتبريز، وعدم الدخول في قتال مع قوم قد رفعوا راية الجهاد في سبيل الله..!! لقد ألقى الله الرعب في قلوب التتار ـ على كثرتهم ـ من أهل تبريز - على قلتهم - ..
    لقد نُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه صلى الله عليه وسلم..
    لقد فعل الجهاد فعله المتوقع.. بل إن القوم لم يجاهدوا، ولكنهم فقط عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، فتحقق الوعد الرباني ـ الذي لا خلف له ـ وهو وقوع الرهبة في قلوب أعداء الأمة.. وهذا درس لا يُنسى..
    [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل؛ ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون]..

    فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم..
    ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة.. تبريز..

    اجتياح بيلقان:
    وهي من مدن إيران حالياً، وللأسف فإنها لم تفعل مثل فعل تبريز، ودخل التتار البلدة في رمضان 618 هجرية، ووضعوا فيها السيف، فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم ـ كما يقول ابن الأثير ـ كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة، وكانوا يرتكبون الفاحشة مع النساء ثم يقتلونهن، ولما فرغوا من البشر في المدينة نهبوا وخربوا وأحرقوا كعادتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    التتار يقفون على أبواب مدينة كنجة:
    وسار التتار إلى مدينة كنجة المسلمة، وفعل أهلها مثلما فعل أهل تبريز، وفعل التتار معهم مثلما فعلوا مع أهل تبريز..
    لقد أعلن أهل كنجة الجهاد وأعدوا العدة المستطاعة، فما دخل تتري واحد مدينتهم، بل تركوها إلى غيرها..
    وليس من قبيل المصادفة أن البلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له هي البلاد التي لم يجرؤ التتار على غزوها.. ليس هذا من قبيل المصادفة أبداً.. إنها سنة من سنن الله عز وجل.. ولو فعلت ذلك كل مدن المسلمين ما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.. لقد حافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات.. لا بكثرة الأعداد, ولا بالاتفاقيات والمعاهدات.. إنما حافظوا عليها بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة..

    وسنة الله لا خلف لها.. إنما الذين يخالفون هم العباد..
    والله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون..
    اجتياح داغستان والشيشان:
    وهما تقعان في شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين من ناحية البحر الغربية، وهما من البلاد المسلمة الواقعة تحت الاحتلال الروسي الآن، ونسأل الله لهما التحرير الكامل، وقد قام التتار كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتل معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة (في داغستان الآن)..

    اجتياح الجنوب الغربي من روسي:
    استمر التتار في صعودهم في اتجاه الشمال، وبعد الانتهاء من الشيشان وصلوا إلى حوض نهر الفولجا الروسي، واستمروا في قتال أهل هذه المناطق، وكانوا جميعاً من النصارى، وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين..
    وبذلك انتهت سنة 618 هجرية وقد وصل التتار إلى أرض الروس، وأصبحت كل البلاد ما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا ملكاً لهم..

    تقييم الموقف في سنة 619 هجرية
    في هذه السنة استمرت العمليات التترية في منطقة أرض الروس، وأكد التتار سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق، فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب:
    1ـ كازاخستان..
    2ـ قيرغيزستان
    3ـ طاجيكستان..
    4ـ أوزبكستان..
    5ـ تركمنستان..
    6ـ باكستان.. (باستثناء المناطق الجنوبية فيها، والمعروفة بإقليم: كرمان).
    7ـ أفغانستان..
    8ـ معظم إيران (باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق والتي يسكنها الإسماعيلية).
    9ـ أذربيجان..
    10ـ أرمينيا..
    11ـ جورجيا..
    12ـ الجنوب الغربي لروسيا

    يتبع






  6. #16
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الاجتياح التتري الثاني

    مقدمة

    أتت سنة 628 هجرية تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية.. وقد تضافرت عوامل شتى جعلت هذا الاجتياح الجديد على نفس مستوى الاجتياح الأول الذي حدث سنة 617 هجرية إلى سنة 620 هجرية، أو لعله أبشع وأسرع...
    من هذه العوامل:
    1ـ استقرار ملك التتار في منغوليا بعد وفاة جنكيزخان؛ فقد تولى قيادة التتار الزعيم الجديد "أوكيتاي"، وأخذ ينظم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين، وذلك سنة 624 إلى سنة 627 هجرية..
    وبعد أن تم له ذلك بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا - التي هُزمت فيها قبل ذلك الجيوش التترية -، ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوروبا.. ويبدو أن اجتياح الخلافة العباسية ذاتها وإسقاط بغداد لم يكن من أهداف هذه الحملة؛ لأنها تجاوزتها إلى أوروبا دون الوقوف أمامها كثيراً، وذلك إما لشدة حصانتها وكثافة سكانها، وإما لتجنب إثارة كل المسلمين في العراق والشام ومصر إذا أسقطت الخلافة العباسية، والتي كانت تمثل رمزاً هاماً للمسلمين على ضعفها.. فأراد التتار أن يجعلوها الخطوة الأخيرة في فتوحاتهم.. وهذا هو عين الذكاء..

    كلف الخاقان الكبير" أوكيتاي" أحد أبرز قادته بالقيام بمهمة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد "شورماجان" والذي جمع جيشاً هائلاً من التتر وتقدم صوب العالم الإسلامي من جديد..
    2ـ شهد هذا العام أيضًا (628 هـ) استمرار حالة الفرقة البشعة التي كانت في الأمة الإسلامية، واهتمام كل زعيم بحدود مملكته وإن صغرت، حتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى، ولم يكتف الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن أخاه مطلقاً.. ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً.

    3ـ حملت هذه السنة - أيضًا - النهاية المأساوية الفاضحة لجلال الدين بن خوارزم شاه!..
    فإنه لما جاءت جيوش التتار بقيادة شورماجان اجتاحت البلاد الإسلامية اجتياحاً بشعاً، وقد وصل إلى علمها أن جلال الدين قد ضعف جداً في هذه السنة لحدوث هزيمتين له من الأشرف بن العادل حاكم ديار الجزيرة في شمال العراق وجنوب تركيا، وكانت طائفة الإسماعيلية - وهي من طوائف الشيعة في غرب إقليم فارس - قد راسلت التتار وأخبرتهم بضعف جلال الدين؛ وذلك لأنه كانت بينهم وبين جلال الدين حروب، فأرادوا الانتقام منه بإخبار التتار بوقت ضعفه...

    وجاءت جحافل التتار ودمرت في طريقها كل ما يمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، وكان لها هدف رئيسي هو الإمساك بجلال الدين بن خوارزم.. والتقى بهم جلال الدين في موقعة انهزم فيها شر هزيمة، وأسرع بالفرار من أمام التتار وقد تمزق جيشه، وإذا به يلقى نفس المصير الذي لقيه أبوه منذ أحد عشر عاماً.. فهو يفر من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى مدينة، والتتار خلفه يقتلون ويسبون وينهبون، حتى وصل جلال الدين إلى أرض الجزيرة بشمال العراق حيث تفرق عنه جنوده أجمعون، وبقى وحيداً شريداً طريداً كما حدث مع أبيه تماماً, وأخذ يتنقل بمفرده بين القرى فراراً من التتار، واختفى ذكره من البلاد شهوراً متصلة؛ فلا يعرف أحد إن كان قُتل أو اختفى أو هرب إلى بلد آخر.. ثم وصل إلى إحدى القرى حيث استقبله فلاح من الأكراد وسأله من أنت؟ وقد تعجب الفلاح من كثرة الجواهر والذهب الذي عليه، فقال له جلال الدين: أنا ملك الخوارزمية..! يقول ذلك ليلقي الرهبة في قلب الفلاح، ولكن- سبحان الله - كان ذلك الإعلان ليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ فقد كانت جنود الخوارزمية قتلت أخاً لهذا الفلاح!! فلما علم الفلاح بأن هذا هو جلال الدين استقبله وأكرمه وقدم له الطعام، ثم اطمأن له جلال الدين فنام، وهنا قام الفلاح وقتل جلال الدين بالفأس، وأخذ ما عليه من الجواهر وسلمها إلى شهاب الدين غازي صاحب هذه المنطقة، والذي طالما ذاق من ويلات جلال الدين...
    هكذا كانت نهاية الظالمين.. ونهاية المفرِّطين.. ونهاية الذين تملكوا رقاب العباد فما رعوا لله حقاً، وما رعوا للرعية حقاً، وما رعوا للرحم حقاً، وعاشوا لأنفسهم فقط، وصدق القائل: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط".

    روى البخارى ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليملي للظالم.. حتى إذا أخذه لم يفلته .. ثم قرأ: [وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد]
    4ـ نتيجة العوامل السابقة، ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسك بالدنيا إلى أقصى درجة، وعدم وضوح الرؤية عند الناس.. فلا يعلمون العدو من الصديق، ونتيجة الحروب التترية السابقة، والتاريخ الأسود في كل مدينة وقرية مر عليها التتار.. نتيجة كل هذه العوامل فقد دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفاً، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة.. وهذا ولا شك سهّل جداً من مهمة التتار الذين وجدوا أبواباً مفتوحة، ورقاباً جاهزة للقطع!!..
    يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث السنة الثامنة والعشرين بعد الستمائة بعض الصور التي استمع إليها بإذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول:
    __ كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحداً تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!!..

    __ أخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً ثم قتله!!..
    __ ويحكي رجل من المسلمين لابن الأثير فيقول: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس واحد من التتر، وأمرنا أن يقيد بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟!! فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير!!..

    __ دخل التتار بلدة اسمها "بدليس" (في جنوب تركيا الآن) وهي بلدة حصينة جداً ليس لها إلا طريق ضيق جداً بين الجبال.. يقول أحد سكانها: لو كان عندنا خمسمائة فارس ما سلم من جيش التتار واحد؛ لأن الطريق ضيق، والقليل يستطيع أن يهزم الكثير.. ولكن - سبحان الله- هرب أهلها إلى الجبال وتركوا المدينة للتتار فقاموا بحرقها!!..
    __ كان كل مسلم قبل أن يقتل يستحلف التتري بالله ألا يقتله.. يقول له: "لا بالله لا تقتلني"، فمن كثرة ما سمعها التتار، أخذوا يتغنون بكلمة "لا بالله".. يقول رجل من المسلمين اختبأ في دار مهجورة ولم يظفر به التتار: إني كنت أرى التتر من نافذة البيت بعد أن يقتلوا الرجال ويسبوا النساء، يركبون على خيولهم وهم يلعبون ويضحكون يغنون قائلين: "لا بالله.. لا بالله"، وهذه - كما يقول ابن كثير -: "طامة عظمى وداهية كبرى فإنا لله وإنا إليه راجعون.."
    كان هذا هو وضع المسلمين في ذلك الوقت.. هزيمة نفسية مرة.. واجتياح تتري رهيب..





  7. #17
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    ماذا فعل شورماجان بعد موت جلال الدين؟



    لقد ضم "شورماجان" شمال إقليم فارس (شمال إيران حالياً) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629 هجرية، ثم زحف بعد ذلك على إقليم أذربيجان فضمه إلى أملاكه..

    وبتلك الانتصارات التترية - إلى جانب موت جلال الدين على النحو الذي مرّ بنا – اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار باستثناء الشريط الغربي الضيق الذي تسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية.



    ثم بدا لشورماجان أن يستقر في هذه المناطق ولا يكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة... وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة..

    ظل "شورماجان" يرسخ حكم التتر في هذه المناطق لمدة خمس سنوات كاملة.. من سنة 629 هجرية إلى سنة 634 هجرية، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة!! ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم!! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها.. لكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهم أهل فارس وأهل أذربيجان، وليس مصيبة عامة على عموم المسلمين..!! لم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تُصَب بعد بِوَيْلات التتار أن عليهم واجباً تجاه هذه البلاد المنكوبة.. وفي ذات الوقت لم يشعروا أن الدائرة حتماً ستدور عليهم في يوم من الأيام.. أضف إلى ذلك أن المسلمين في مناطق العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما كان غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخوارزمية من غير العرب.. ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح.. وغياب الاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يُبنى عليها هذا الدين، ما عاد العربي يشعر بأخيه غير العربي، ولا العكس... كأنهم غرباء بعضهم عن بعض.. بينما هم في الحقيقة.. إخوة!

    [إنما المؤمنون إخوة]

    أمر شنيع حقاً ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي... هذا أمر شنيع.. وقاصمة لظهر الأمة الإسلامية؛ لأن الإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس.. إنما الرابط الوحيد هو الإيمان بالله ورسوله وبهذا الدين.. رباط العقيدة.. ولا شيء غير العقيدة..

    روى الإمام أحمد بسند مرسل عن أبي نضرة - رحمه الله - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    "يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"..

    هكذا جاءت القاعدة واضحة.. لا مكان لعرق أو لون في الإسلام.. إنما المكانة والاعتبار للتقوى..

    بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم المسلمين إلى طائفتين رئيسيتين لا ثالث لهما.. واعتمد في تقسيمه هذا على مسألة التقوى.. جاء ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وكذلك ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وكذلك رواه ابن مردويه في تفسيره بسندٍ رجاله ثقات.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " أما بعد، يأيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها، يا أيها الناس، الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ثم تلا: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى] والعبية هي الكبر والفخر..

    فالمسلم الصادق هو الذي يتحمس لمن اشترك معه في عقيدة واحدة ولو اختلف أصله أو لونه أو نسبه..

    وهكذا فالاعتبار الوحيد المقبول في الإسلام هو اعتبار العقيدة والتقوى..

    الاجتياح التتري في الفترة من سنة 634 إلى 649 هـ



    بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأذربيجان بدأ "شورماجان" في سنة 634 هجرية في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالاً لاستكمال فتوحاته.. وبسرعة استطاع أن يسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكرج النصرانية) والشيشان وداغستان..

    ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة "باتو بن جاجي" في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين، وذلك في نفس السنة (634 هجرية)، و أخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهر الفولجا، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وذلك في سنة 635 هجرية..

    وبدأ هذا الجيش التتري الرهيب يقوم بالمذابح الشنيعة في روسيا النصرانية.. فاستولى على العديد من المدن الروسية، وذلك في سنتي 635 و636 هجرية.. سقطت تحت أقدام هذا الجيش مدن "ريدان"، ثم "كولومونا" بعدها بأيام، ثم سقطت مدينة "فلاديمير" الكبيرة بعد صمود ستة أيام فقط، واقترن سقوطها بمذبحة بشعة، ثم سقطت "سوذال", ثم توجهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا "موسكو" فتم اجتياحها وتدميرها، ثم سقطت بعد ذلك مدن "يورييف" و"جاليش" و"بريسلاف" و"روستوف" و"ياروسلاف"، ثم سقطت مدينة "تورزوك" وبذلك احتل التتار دولة روسيا بكاملها!!.. (ومع أن مساحة روسيا سبعة عشر مليون كيلومتر مربع.. إلى جانب أعداد سكانها الهائلة وأحوالها المناخية القاسية إلا أن التتار احتلوها بالكامل في عامين فقط!!)

    وفي سنة 638 هجرية تحركت جيوش التتار غرباً بقيادة "باتو بن جاجي" فاحتلوا دولة أوكرانيا بكاملها (ومساحتها ستمائة ألف كيلومتر مربع), واجتاحوا العاصمة "كييف", ودمروا كنوزها العظيمة، ولقى أكثر سكانها مصرعهم..

    وفي سنة 639 هجرية زحفت فرقة من قوات التتار بقيادة "بايدر" إلى الشمال الغربي من دولة أوكرانيا فدخلت مملكة بولندا، ودمرت الكثير من المدن البولندية، فلم يجد الملك البولندي إلا أن يستعين بالفرسان الألمان القريبين منه (ألمانيا تقع في غرب بولندا مباشرة) فجاء الأمير هنري دوق "سيليزيا الألمانية" واشترك مع ملك بولندا في تكوين جيش واحد لملاقاة التتار، غير أن هذا الجيش لقي هزيمة ساحقة على أيدي الجيوش التترية بقيادة "بايدر".. وبذلك سقطت بولندا أيضاً تحت حكم التتار!..

    وفي هذه الأثناء وفي نفس السنة - سنة639 هجرية - ترك "باتو" قائد التتار المتمركز في أوكرانيا فرقة تترية في هذه المنطقة، واتجه بجيشه الرئيسي غرباً إلى مملكة المجر حيث التقى مع ملك المجر في موقعة رهيبة دمر على أثرها الجيش المجري بكامله، وبذلك احتُلت المجر أيضاً!

    ثم نزل "بايدر" من بولندا في اتجاه الجنوب لمقابلة جيوش التتار بقيادة باتو في المجر، وفي طريقه للنزول اجتاح دولة "سلوفاكيا" وضمها بكاملها إلى دولة التتار!!..

    ثم تدفقت الجيوش التترية إلى دولة "كرواتيا" فاجتاحتها!!

    وبذلك وصلت الجيوش التترية إلى سواحل البحر الأدرياتي (وهو البحر الفاصل بين كرواتيا وإيطاليا)، وبذلك يكون التتار قد ضموا إلى أملاكهم نصف أوروبا تقريباً!!..

    وكان من الممكن أن تستمر الفتوحات التترية في أوروبا - وقد وصلت حدود دولة التتار إلى دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا- لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار "أوكيتاي" مات في هذا العام (639 هجرية) فاضطر الأمير "باتو بن جاجي" أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى "قراقورم" عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري الجديد..

    تقييم الأوضاع عالميًّا في سنة 639 هـ وما بعدها





  8. #18
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    ـ أولاً: وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً.. وهو اتساع رهيب في وقت محدود.. وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع..

    ـ ثانياً: تولى قيادة التتار بعد" أوكيتاي" ابنه "كيوك بن أوكيتاي"، وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلاً من إضافة بلاد جديدة قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها، ومن ثم فقد توقفت الفتوحات التترية في عهد هذا الخاقان، وإن ظل التتار يحافظون على أملاكهم الواسعة..

    ـ ثالثاً: ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تماماً على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة، وظل الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة..

    ـ رابعاً: ظل القسم الأوسط من العالم الإسلامي - والذي يبدأ من العراق إلى مصر- مفرقاً مشتتاً، لا يكتفي فقط بمشاهدة الجيوش التترية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم، وازداد تفككهم بصورة كبيرة..

    كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي الذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب افريقيا.. كان هذا القسم مفككًا تمامًا بعد سقوط دولة الموحدين..

    ـ خامساً: ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبل، وذبح منهم مئات الآلاف أو الملايين، ودمرت كنائسهم، وأحرقت مدنهم، بل هُددوا تهديداً حقيقياً أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثولكية النصرانية في روما..

    ـ سادساً: ومع أن النصارى رأوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوربا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا) كانوا يرون أن هذه مرحلة مؤقتة سوف تقف عند فترة من الفترات، أما حروب النصارى الصليبيين ضد المسلمين فهي حروب دائمة لا تنتهي.. ومن ثم فقد كان ملوك الصليبيين على استعداد كامل للتعاون مع التتار رغم كل الأعداد الهائلة التي قتلت منهم بدلاً من التعاون مع المسلمين!!

    أما لماذا يعتقد الصليبيون أن حرب المسلمين دائمة وحرب التتار مؤقتة، فإن ذلك يرجع إلى أن حروب الصليبيين مع المسلمين هي حروب عقيدة، والعداء بين المسلمين والصليبيين يقوم على أساس ديني، والصراع بينهما أبدي.. والنصارى لن ينهوا القتال إلا بدخول إحدى الطائفتين في دين الأخرى، كما يقول الله عز وجل في كتابه: [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم]

    أما حروب التتار مع الصليبيين فلم تكن حروب عقيدة؛ فعقيدة التتار كانت عقيدة مشوهة باهتة.. مجموعة من أديان شتى.. لم يسع قائد تتري واحد لنشر هذه العقيدة في البلاد المغنومة، إنما كان هدف التتار فقط هو الإبادة والتشريد، وجمع المال وسبي النساء والأطفال.. ومن كانت هذه صفته فلا يُتوقع له الاستمرار..

    لذلك فإنه على الرغم من الصدمات التي تلقتها أوروبا على يد التتار، إلا أن أوروبا استمرت في تجهيز حملاتها لغزو بلاد المسلمين من ناحية مصر والشام بدلاً من تكثيف الجهود لصد التتار، وفي ذات الوقت فإن حكام أوروبا الغربية الصليبيين ما يئسوا من إمكانية التعاون مع خاقان التتار لسحق الأمة الإسلامية..

    ـ سابعاً: أخذت عقائد الجيش التتري في التغيّر بعد الحملات التي وجهوها إلى أوروبا.. فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبياً في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين..

    ـ ثامناً: استمرت الحروب الصليبية الأوروبية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شقي الرحى: بين التتار من ناحية، والصليبيين من ناحية أخرى..

    ـ تاسعاً: في سنة 640 هجرية توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة ابنه "المستعصم بالله"، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عاماً، وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير، إلا أنه لم يكن يفقه كثيراً - ولا قليلا!!ً - في السياسة ، ولم يكن له علم بالرجال؛ فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه... وسنأتي إلى ذكره بعد ذلك؛ فهو آخر الخلفاء العباسيين، وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك..

    ـ عاشراً: لم يبق فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس، (غرب إيران الآن).. وهو على قدر من الأهمية- وإن كان ضيقاً - ؛ إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلاً عن طبيعة المكان الجبلية.. وكانوا على خلاف دائم مع الخلافة العباسية.. وكراهية شديدة للمذهب السني، وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيراً.. فمرة يراسلون التتار، ومرة يراسلون الصليبيين.. وكان التتار يدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنون لهم؛ فالتتار ما كانوا يرغبون في بقاء قوة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض..

    وخلاصة القول بعد هذا التحليل فإن "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد استلم مملكة واسعة تعد هي القوة الأولى في العالم، وأن الصليبيين بالرغم مما ذاقوه من التتار فإنهم ما زالوا يطمعون في التعاون معهم ضد المسلمين، أما المسلمون فكانوا في خلافات مستمرة، وتحت ضغوط تترية من ناحية، وصليبية من ناحية أخرى، وليس لأي قائد مسلم في ذلك الوقت أي طموح - كبير أو صغير- في تحرير البلاد واستنقاذ العباد، إنما كانت رغبتهم فقط في تثبيت السلطان على البقعة التي يعيشون عليها مهما صغرت أو ضعفت، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    أحداث الفترة من 639 إلى 649 هجرية

    بعد تولية "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد قرر أن يوقف الحملات التوسعية، ويتفرغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة.. وقد ظل "كيوك" يحكم من سنة 639 هجرية إلى سنة 646 هجرية وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلاداً جديدة إلا فيما ندر.. وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار، وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الاحتلال التتري..

    وعندما رأى الصليبيون في غرب أوروبا النهج غير التوسعي عند "كيوك" تجددت آمالهم في التعاون مع التتار ضد المسلمين، فأرسل البابا "إنوسنت الرابع" سفارة إلى منغوليا في سنة 643 هجرية، وكان غرض السفارة هو التوحد مع التتار لحرب المسلمين في مصر والشام، (لم يكن همّها - مثلاً - أن ترفع الاحتلال والظلم عن نصارى أوروبا وروسيا), واستقبل "كيوك" السفارة الصليبية بحفاوة لكثرة النصارى في البلاط المغولي، ولكن عندما قرأ كيوك رسالة البابا وجده - بالإضافة إلى طلبه توحيد العمل العسكري ضد المسلمين - فإنه يدعوه إلى اعتناق النصرانية، واعتبر خاقان التتار أن هذا تعدياً من البابا؛ إذ كيف يطلب من خاقان التتار أن يغير من ديانته؟! فأعاد الخاقان "كيوك" السفارة الصليبية بعد أن حملها برسالة إلى البابا يطلب منه أن يجمع أمراء الغرب الأوروبي جميعاً ليأتوا إلى منغوليا لتقديم فروض الولاء والطاعة للخاقان التتري، وبعد ذلك يبدأ التعاون.. وبالطبع رفض ملوك أوروبا الغربية هذا الطلب، وبذلك فشلت السفارة الصليبية في تحقيق أهدافها..

    لكن البابا الكاثوليكي "إنوسنت الرابع" لم ييئس من فشل هذه السفارة، بل أرسل سفارة صليبية أخرى، ولكنه هذه المرة أرسلها إلى قائد القواد التترية في مدينة "تبريز" بمنطقة فارس الملاصقة للخلافة الإسلامية، وكان اسمه "بيجو" وذلك في سنة 645 هجرية، وقد لمس فيه البابا حباً للعدوان والهجوم، وعلم أنه من أنصار التوسع من جديد في أراضي المسلمين، وقد لاقت السفارة ترحيباً كبيراً من "بيجو" الذي توقع أن هجوم الصليبيين على مصر والشام سوف يشغل المسلمين في هذه الأقاليم عن الدفاع عن الخلافة العباسية في العراق، وبذلك تسهل مهمته في اقتحامها.. ولكن لا يخفى على أحد أن صلاحيات "بيجو" لم تكن تؤهله لاتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الخطير بالتعاون مع الصليبيين، وكان "كيوك" ما زال على رأيه في عدم التوسع، وعدم التعاون مع الصليبيين إلا بعد خضوعهم له، ومن ثم فشلت أيضاً هذه السفارة الثانية..

    في هذه الأوقات كان "لويس التاسع" ملك فرنسا يجهز لحملته الصليبية على مصر، والتي عرفت في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة، وكان يجمع جيوشه في جزيرة قبرص، وذلك في سنة 646 هجرية، وقد رأى "لويس التاسع" أن الأمل لم ينقطع في إمكانية التحالف مع التتار ضد المسلمين، فأرسل سفارة صليبية ثالثة من قبرص إلى منغوليا لطلب التعاون من "كيوك" في هذه الحملة، وزود السفارة بالهدايا الثمينة، والذخائر النفيسة.. لكن عندما وصلت هذه السفارة إلى "قراقورم" العاصمة التترية في منغوليا فوجئت بوفاة خاقان التتار "كيوك" ولم يكن "كيوك" قد ترك إلا أولاداً ثلاثة صغاراً لا يصلحون للحكم في هذه السن الصغيرة فتولت أرملة "كيوك", وكانت تدعى "أوغول قيميش" الوصاية عليهم، ومن ثم تولت حكم التتار وذلك ابتداءً من سنة 646 هجرية, ولمدة ثلاث سنوات..

    توجهت إلى ملكة التتار الجديدة سفارة لويس التاسع فاستقبلتها بحفاوة، لكنها اعتذرت عن إمكانية المساعدة في الحملة الصليبية الآن لأنها مشغولة بالمشاكل الضخمة التي طرأت في مملكة التتار نتيجة موت "كيوك"، بالإضافة إلى أن عامة قواد التتار لم يكونوا موافقين ببساطة على حكم امرأة لدولة التتار العظيمة، والتي تعتمد في الأساس الأول على البطش والإجرام والقوة، فكانت الأوضاع غير مستقرة تماماً في منغوليا..

    لكن لويس التاسع أصر على القيام بحملته حتى مع عدم اشتراك التتار، فتوجه فعلاً من قبرص إلى مصر، ونزل بدمياط في سنة 647 هجرية، واحتل دمياط, ثم تجاوزها إلى داخل مصر - عبر نهر النيل - في اتجاه القاهرة، ولكن الجيش المصري قابله في المنصورة، وكان معه سلطان مصر "الصالح أيوب" الذي مات بعد ثلاثة أيام من بداية المعركة في المنصورة، وتولت أمر مصر السلطانة "شجرة الدر" زوجة الصالح أيوب التي أخفت خبر وفاة زوجها، وراسلت توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان يحكم إحدى المناطق في تركيا، وقامت شجرة الدر - بالاشتراك مع قواد الجيش فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس - بإدارة موقعة المنصورة المشهورة ضد الصليبيين، وانتصر المسلمون في هذه الموقعة، ثم وصل توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى مصر، وتولى حكم البلاد، وانتصر مرة أخرى على الصليبيين في موقعة فارسكور، وأسر لويس التاسع وذلك في سنة 648 هجرية، ثم حدثت بعض الفتن في مصر، وقتل توران شاه، وتولت شجرة الدر ملك مصر علانية، ولكن الجو العام في مصر لم يكن يقبل بولاية امرأة, فتزوجت من أحد قادة المماليك وهو "عز الدين أيبك"، ثم أصبح سلطاناً على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفاً للأيوبيين، وسيأتي تفصيل عن نشأة المماليك وطبيعتهم بعد ذلك.

    لكن المهم في تلك الأحداث أن نشير إلى ظهور قوة المماليك، وفشل الحملة الصليبية السابعة، وهذا ولا شك قد زاد من حقد الصليبيين، وأكد على ضرورة التعاون مع التتار لحرب المسلمين..

    أما الوضع في منغوليا فلم يكن مستقراً؛ فالتتار لم يستطيعوا قبول أرملة "كيوك" كملكة عليهم، ومن ثم اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمى "بالقوريلتاي"، وذلك في سنة 649 هجرية، وقرروا اختيار خاقان جديد للتتار، وبالفعل اختاروا "منكوخان" ليكون زعيماً جديداً للتتار..

    وكان اختيار "منكوخان" زعيماً لمملكة التتار بداية تحول كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كانت لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوروبا في عهده... ومن ثم بدأ "منكوخان" يفكر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين..

    وللأسف الشديد فإن أمراء المسلمين وقت تولية "منكوخان" لم يكونوا على مستوى الحدث الكبير، والمسلمون - وإن كانوا قد انتصروا في موقعة المنصورة في مصر سنة 648 هجرية - كانوا مشغولين جداً بأنفسهم، ففضلاً عن الفتن الداخلية في كل إمارة، والتصارع على الحكم، فقد كانت تقوم حروب مريرة بين الإمارات الإسلامية، والضحايا جميعاً من المسلمين..

    ومن ذلك الحرب الكبيرة التي دارت بين الجيش المصري بقيادة عز الدين أيبك والجيش الشامي الذي أرسله الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ودارت رحاها في منطقة تسمى "العباسية" (18 كيلومتر شرق مدينة الزقازيق المصرية حالياً) وانتصر فيها الجيش المصري، ولا أدري كيف كانت تطيب نفوسهم بهذه الحروب، والحملات الصليبية لا تتوقف، والتتار يقفون على أبواب الخلافة العباسية!..

    والغريب جداً في هذه الفترة أن الحكام والشعوب - بل والعلماء - كانوا قد نسوا تماماً أن نصف الأمة الإسلامية يقع تحت الاحتلال التتري، ونسوا أن التتار أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخلافة العباسية، ومن الحجاز ومصر والشام، لدرجة أن المؤرخين الذين يؤرخون لهذه الفترة لا يذكرون البتة أي شيء عن التتار!!..

    فعلى سبيل المثال تجد ذكر التتار يختفي في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير - رحمه الله - عند تأريخه للفترة من سنة 639 هجرية إلى 649 هجرية (فترة حكم "كيوك" ثم أرملته) والتي لم يحدث فيها توسع تتري، وكأن القضية التترية قد حلت، وما ترك ابن كثير - رحمه الله - الكلام عن التتار إلا لقلة المصادر التي تتحدث عن هذه الفترة، ولقلة الأخبار التي كان أهل العراق والشام ومصر يتناقلونها عن جيوش التتار أو عن المسلمين الذين يعيشون تحت الظلم التتري المستمر..

    بل وتجد ابن كثير - رحمه الله - عند وصفه للحياة في العراق والشام ومصر في هذه السنوات العشر يصف حياة طبيعية جداً، فالخليفة يعالج بعض المشاكل الاقتصادية، ويتصدق على بعض الفقراء، وقد يحدث وباء فيعالج، أو غلاء فيشق ذلك على الناس إلى أن يمنح الخليفة بعضاً من المال لمقاومة الغلاء، وهذا يفتح مدرسة، وذاك يفتح داراً للضيافة، وغيره يفتح داراً للطب، ومن أحوال هذه السنوات أن مات فلان من الشعراء وفلان من الأدباء وفلان من الكرماء وفلان من الوزراء!.. لكن أين العلماء الذي يخطبون على المنابر وفي حلقات العلم يشرحون للناس خطر التتار، ومصيبة المسلمين في البلاد المنكوبة بالتتار؟ وأين الحكام الذين يجهزون شعوبهم ليوم لا محالة هو آت؟ لم يكن هذا مشتهراً في ذلك الوقت.. ومن ثم اختفى ذكره من كتب التاريخ!..

    وهكذا فأحداث ذلك الزمان كانت تشير جميعاً إلى أن اجتياحاً تترياً جديداً سوف يحدث قريباً، وذلك على غرار الاجتياح التتري الأول الذي حدث في زمان جنكيزخان، أو على غرار الاجتياح التتري الثاني الذي حدث في زمان أوكيتاي.. ولعله يكون أشد وأنكى؛ لأنه كلما ازداد خنوع المسلمين ازداد طمع التتار وغيرهم فيهم، وكلما فرط المسلمون في شيء طمع أعداء الأمة في الشيء الذي يليه، وهذه سنة ثابتة لأهل الباطل، وراجعوا التاريخ والواقع!!





  9. #19
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الاجتياح التتري الثالث

    مقدمة

    منذ تولى "منكوخان" زعامة دولة التتار وهو يفكر في إسقاط الخلافة العباسية، واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام ومصر.. وكان منكوخان قائداً قوياً حازماً، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عوناً له في تحقيق أحلامه.. فأحد إخوته وهو "أريق بوقا" ظل معه في "قراقورم" العاصمة؛ ليدير معه الإمبراطورية الواسعة.. وأما الأخ الثاني "قبيلاي" فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية، والتي تضم الصين وكوريا وما حولها من أقاليم.. وأما الأخ الثالث "هولاكو" فقد أصبح مسئولاً عن إدارة إقليم فارس وما حوله، مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة.. ولا شك أن الجميع قد سمع عن اسم "هولاكو" قبل ذلك!!..
    هولاكو هو الزعيم التتري السفاح.. الذي لا يمتلك أية نزعة إنسانية.. الرجل الذي كان لا يرتوي إلا بدماء البشر.. تماماً كسلفه جنكيزخان، لعنهما الله..
    هولاكو.. شخصية من أبشع الشخصيات في تاريخ الأرض!!..
    ولأنه كان موكلاً بقيادة إقليم فارس، فإن مجال عمله الرئيسي كان البلاد الإسلامية.. وكانت معظم الدماء التي أراقها دماءً إسلامية.. ومعظم الآلام التي زرعها في قلوب البشر كانت في قلوب المسلمين.. وسبحان الله!.. كأن الحقد الذي كان في قلب هولاكو لم يكن كافياً لتدمير الأرض، فقد تزوج امرأة لا تقل عنه حقداً وبطشاً وظلماً.. لقد تزوج من الأميرة المغولية "طقزخاتون"، وكانت امرأة قوية ذات نفوذ في البلاط المغولي، وكانت فوق ذلك قد انتقلت إلى النصرانية، وكانت شديدة التعصب لديانتها، وشديدة الكراهية للإسلام..
    وهكذا اجتمع هولاكو مع زوجته "طقزخاتون" ليصبا جام غضبهما على الأمة الإسلامية.. وكان الهدف واضحاً في ذهن هولاكو.. إنه كان يريد بوضوح أن يُسقط "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية، ثم يتجاوزها إلى ما بعدها..
    ومنذ تسلم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يعد العدة لإسقاط الخلافة العباسية.. والحق أن إعداده كان مبهراً عظيماً.. بقدر ما كان رد فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهاً حقيراً.. وإذا كان الوضع كذلك فلابد أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله عز وجل سننًا لا تتبدل ولا تتغير، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يعطيه الله عز وجل وإن كان كافراً، والذي لا يُعد نفسه ليوم اللقاء لابد أن ينهزم وإن كان مسلماً..
    [من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يبخسون]..
    وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعد لها إعداداً جيداً، فأخذ نصيبه من الدنيا ولم يُبخس منه شيئاً..





  10. #20
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    ماذا فعل هولاكو لكي يسقط الخلافة العباسية؟

    لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649 هجرية بحمية شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة.. فمع حقده الشديد ورغبته الملحة في تدمير الخلافة الإسلامية، واشتياقه الكامل لكنوز العباسيين، ومع كثرة جنوده وتفوقه العسكري الظاهر، إلا أنه ـ برغم كل هذا ـ لم يتسرع في اتخاذ قرار الحرب ضد الخلافة العباسية.. بل ظل يعد العدة في صبر حتى مرت خمس سنوات كاملة من سنة 649 هجرية إلى سنة 654 هجرية، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزاً تماماً..

    وتعالوا نتابع - كما كان المسلمون آنذاك يتابعون! - خطوات هولاكو في إعداده: لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة.. هذه المحاور الأربعة تزيد جداً من فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وكل هذا العمل يتم قبل حركة الجيوش، وقبل النزول الفعلي إلى ساحة المعركة في بغداد.. والجدير بالذكر أن هذا الإعداد -في معظمه - كان يتم علناً على مرأى ومسمع من المسلمين وغير المسلمين..!! والتاريخ يتكرر!!...

    المحور الأول

    الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين:

    1ـ بدأ هولاكو في إصلاح كافة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وهي مسافات رهيبة، لكنه عمل على تهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة الجبلية لمنطقة طاجيكستان وأفغانستان وفارس، والموانع الطبيعية الصعبة..

    2ـ أقام هولاكو الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، وبالذات نهري سيحون وجيحون، ووضع قوات كافية تحمي هذه الجسور، وبذلك ضمن استمرار عمليات التموين، وفي ذات الوقت تفتح هذه الجسور الطريق لخط رجعة لجيوش التتار في حال الهزيمة..

    3ـ جهز هولاكو مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة صنعت خصيصاً لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد، وبذلك لا يأخذ وقتاً طويلاً في نقل المعدات الثقيلة عبر هذه المسافة الطويلة..

    4ـ بدأ هولاكو في السيطرة على كل المدن والمراكز التي تتحكم في محاور الطرق، وبذلك تجنب حدوث أي مباغتة أو قطع لطرق جيشه أثناء سيرها..

    5ـ قام هولاكو بشيء عجيب فيه ذكاء شديد، وهو إخلاء كل الطرق من الصين إلى بغداد من قطعان الماشية سواء البرية أو المملوكة للسكان، وذلك لترك الحشائش والأعشاب لتكفي لطعام الأعداد الهائلة جداً من الخيول الخاصة بالفرسان، والدواب المكلفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام وغير ذلك.. وبذلك لا يحتاج أن يحمل معه طعاماً للحيوانات.. ولا يتعرض لمفاجأة غياب الطعام، وهو كفقد البنزين بالنسبة للسيارات، بل أشد؛ فالسيارة تظل بحالتها إذا غاب البنزين حتى يؤتى به، أما الحيوانات فلا تصبر على غياب الطعام..

    المحور الثاني

    الاستعداد السياسي والدبلوماسي:

    بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة، وذلك لضمان نجاح المهمة الكبيرة، وهو تغير كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفاً ولا دبلوماسية..

    ولما كانت هذه نقطة تحول في السياسة التترية، وفي ذات الوقت كانت هذه الأحلاف في منتهى الخطورة، فقد تكفل بالقيام بهذه المعاهدات الخاقان الكبير "منكوخان" شخصياً، ولم يترك فيها حرية التصرف "لهولاكو"، وإن كان هولاكو من أكثر الناس الذين يعتبر برأيهم في هذا المجال..

    1ـ استقبل "منكوخان" زعيم التتار سفارة صليبية أرسلت في سنة 651 هجرية من قبل "لويس التاسع" ملك فرنسا.. الذي ما يئس من إمكانية التعاون مع التتار، وكان بالطبع يُكِنّ حقداً كبيراً على المسلمين لهزيمته في موقعة المنصورة سنة648 هجرية، (منذ ثلاث سنوات فقط)، وكان يتزعم السفارة راهب دومينيكاني اسمه "وليم روبروك"، ومَثُل فعلاً بين يدي "منكوخان"، وبدأت المفاوضات للتعاون، ولكن سرعان ما فشلت هذه المفاوضات، والسبب أن "منكوخان" كان رجلاً صريحاً للغاية؛ فلم يكن دبلوماسيًّا بما يكفي لإبرام معاهدات أو عقد أحلاف, ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، ولم يكن يعرف الطرق الغربية الملتوية، وتنميق الألفاظ، واختيار العبارات، والحصول على ما تريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه يفرط، ولم يكن يعرف شيئاً عن النفاق الأوروبي، أو عن الابتسامة الأوروبية التي تخفي وراءها كل الحقد... لم يكن يعرف كل ذلك.. إنما كان رجلاً بسيطاً واضحاً، مباشراً في كلامه، محدداً في رغباته..

    لقد قال "منكوخان" في بداية مفاوضاته: إنه لا يقبل أن يكون في العالم سيد سواه!! وإنه لا يعرف كلمة "صديق" إنما يعرف كلمة "تابع"!!.. فأصدقاؤه هم من يتبعونه.. ويعلنون الولاء له والطاعة، وأعداؤه هم الذين يحاربونه، أو الذين لا يقبلون طاعته، وهؤلاء ليست بينه وبينهم مفاوضات، إنما لهم السيف والإبادة..

    سياسة بسيطة جداً!!.. سياسة "القطب الواحد" في العالم!!..

    يقسم العالم إلى دولة "صديقة" أي: تابعة.. ودولة "مارقة" أي: معادية!..

    وبالطبع رفض ملك فرنسا أن يتحالف على أساس هذا الشرط، ومن ثم فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوروبا..

    2ـ وإذا كان نصارى غرب أوروبا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع "منكوخان" على أساس التبعية فهناك من الملوك الآخرين من يقبل بذلك، ويعتبره نوعاً من الواقعية..

    لقد فكر "هيثوم" ملك أرمينيا النصرانية في التحالف مع التتار على أساس التبعية كما يريد "منكوخان"؛ فملك أرمينيا يعلم قوة التتار؛ إن بلاده قد دُمِّرت من قبل على أيديهم في عهد جنكيزخان ثم في عهد أوكيتاي.. كما يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة لا تقارن بأي حال من الأحوال مع دولة التتار؛ فمساحة أرمينيا أقل من 30 ألف كيلومتر مربع.. ويعلم ملك أرمينيا - أخيرًا - أنه محصور بين قوات التتار من جهة وقوات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جداً بينه وبين المسلمين، وهو يتحرق شوقاً لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيرغم عليها غداً، وساعتها سيفقد ملكه بلا ثمن..

    كل هذا دفع "هيثوم" ملك أرمينيا أن يذهب بنفسه لمقابلة "منكوخان" في قراقورم عاصمة المغول.. ويبدو أن منكوخان قد بدأ يتعلم طرق السياسة، وبدأ يتعلم الاعتماد على المظاهر والكلمات المنمقة المختارة، فقد أقام "منكوخان" احتفالاً كبيراً، واستقبالاً رسمياً مهيباً "لهيثوم" ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع، وإن كانت كل بنود الاتفاق بينهما لا تصلح إلا بين سيد وتابع، لا ملك وملك..

    فبعد الاستقبال الحافل لملك أرمينيا (الذي قدم نفسه على أنه من رعايا "منكوخان").. بدأ منكوخان يعطي وعوداً كبيرة وهدايا عظيمة إلى هذا الملك، وهو يشتري بذلك ولاءه وتبعيته.. فماذا أعطاه "منكوخان"؟..

    لقد أعطاه ما يلي:

    1ـ ضمان سلامة الممتلكات الشخصية للملك "هيثوم" ..

    2ـ إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب..

    3ـ مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون منهم خلال الحروب التي دارت بينهم..

    4ـ اعتبار ملك أرمينيا هو كبير مستشاري الخاقان الكبير "منكوخان" فيما يختص بشئون غرب آسيا..

    وهكذا سعد ملك أرمينيا "هيثوم" بقربه من ملك التتار..

    ولكن يجب أن نتساءل: في مقابل ماذا كان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني؟! إن الناظر للقوى العسكرية في ذلك الوقت يجد أن القوة العسكرية لأرمينيا لا تقارن بالمرة بقوة التتار، وقد لا تضيف إليها عدداً مؤثراً، فلماذا يتواضع ملك التتار ويعقد معاهدة مع ملك أرمينيا؟

    الناظر والمحلل لهذا الحدث يجد ما يلي:

    ـ أولاً: ملك التتار سيستفيد من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين.. فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة، وقد خبر الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، ولا شك أن المعلومات الصادقة التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في حرب المسلمين.. (تمامًا كما تحالفت أمريكا القوية مع إنجلترا الضعيفة فقط لأن عندها الخبرة في أرض المسلمين والخبرة في أرض العراق بالتحديد..)

    ـ ثانياً: سيحتاج ملك التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، فإذا كان المدير من أهل البلد، وله ولاء ووفاء له فهو أفضل من الإدارة الخارجية، وأقدر على التحكم في الموقف، وأقوى على تهدئة غضب الشعوب..

    ـ ثالثاً: بهذه الخطوة يفتح ملك التتار "منكوخان" باب المعاملات مع النصارى من جديد, الذين قد يحتاجهم بعد ذلك عند استكمال فتوحاته في داخل الشام ومصر، وقد يحتاج إلى ملك أرمينيا في استئناف المفاوضات مع ملوك أوروبا، هذا بالإضافة إلى أنه يعلم أن في قلوب النصارى كراهية شديدة للتتار، وذلك بسبب المذابح البشعة التي قام بها التتار في روسيا وشرق أوروبا.. وقد تكون فرصة المعاهدة مع ملك أرمينيا داعية إلى شيء من التعاون لرعاية المصالح المشتركة..

    ـ رابعاً: الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي عند المسلمين؛ فالحرب مع التتار شيء، والحرب مع قوات "التحالف" شيء آخر!.. نعم القوات المتحالفة مع التتار لا تمثل شيئاً يذكر في الجيش التتري.. ولكن كلمة "التحالف" لها وقع خاص في نفوس الناس..

    ـ خامساً: قد توكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهام الخطرة، والتي قد يرغب ملك التتار في تجنبها، وبذلك تكون الخسارة البشرية في جانب الأرمن بدلاً من التتار..

    وهكذا فالناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار والأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئاً مطلقاً، وأن المفاوضات بين سيد يملك كل شيء، وتابع لا يملك أي شيء، وهكذا يفعل الزعماء الكبار في العالم، فإنهم يعقدون معاهدات مع ملوك صغار لا يحملون من صفات الملك إلا الاسم فقط، ويوكلون إليهم القيام بمهام كثيرة، ولا يكون المقابل أكثر من السماح لهم بمجرد العيش إلى جوارهم في الأرض، مع إمكانية منحهم بعض الألقاب الفخرية مثل: "كبير مستشاري ملك التتار لشئون غرب آسيا" أو لقب: "الملك الصديق" أو "الدولة الصديقة" أو "العلاقات الحميمة بين البلدين" أو "فخامة الرئيس" أو "جلالة الملك"....

    مجرد ألقاب لا تسمن ولا تغني من جوع، والواقع الحقيقي أن القوة التي بيد التتار هي التي فرضت بنود المعاهدة، وهذا يحدث ويتكرر في كل الأزمان والأمكنة.. فالحقوق لا تُحمى إلا بالقوة..

    وهكذا عاد ملك أرمينيا "هيثوم" منتشياً بمعاهدته، فخوراً بعلاقته مع ملك التتار، معظماً في شعبه؛ لأنه استطاع بسياسته التي يسمونها "حكيمة" أن يجنب مملكته ويلات الحروب!!..

    3ـ كان من رغبات "منكوخان" أيضاً أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، وكان لهم أكثر من مملكة في أنطاكية وطرابلس وصيدا وحيفا وعكا، وذلك لشغل المسلمين في منطقة الشام فلا يدافعون عن الخلافة العباسية إذا هوجمت..

    ولتشجيع هؤلاء الأمراء فقد أوصل لهم ملك التتار طلب التحالف مع "صديقه" الجديد ملك أرمينيا، والذي بدأ يقوم بدور السفير التتري في هذه المنطقة.. ولزيادة التشجيع فإن ملك التتار وعد الأمراء الصليبيين في الشام بأن يعطيهم بيت المقدس "هدية" لهم في حال اتفاقهم معه.. (وكان بيت المقدس قد حُرِّر مرة ثانية على يد الملك الصالح أيوب سنة 643 هجرية بعد أن أهداه أمراء الشام الأيوبيون إلى الصليبيين سنة 626 هـ).. وكأن منكوخان يملك بيت المقدس، وله الحق في إهدائه!! وهكذا وعد من لا يملك بإعطاء من لا يستحق.. والتاريخ يتكرر بحذافيره!!..

    ومع كل هذا التشجيع إلا أن أمراء الممالك الصليبية بالشام ترددوا كثيراً في قبول هذه الاتفاقيات، باستثناء أمير أنطاكية "بوهمند" الذي استحسن هذا الأمر، وانضم فعلاً إلى ملك التتار..

    أما لماذا لم يستحسن بقية الأمراء الصليبيين في الشام هذه الفكرة فذلك لأنهم أولاً: يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، أو يضحون بهم في مقابل أي شيء.. أو ربما دون مقابل..

    وثانياً: لأنهم في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار، بل لعلها خطورة أقرب.. ومن ثم لم يتحمس هؤلاء الأمراء للتحالف المعلن مع التتار، وإن كانوا لم يرفضوا الأمر صراحة، وتعاملوا مع الطلب بالطريقة السياسية النفاقية المعروفة، مع شيء من الابتسامة وبعض كلمات التبجيل، واختاروا أن يقفوا على الحياد بصورة مؤقتة إلى أن ترجح إحدى الكفتين: التتارية أو الإسلامية، وهنا سوف يسارعون في الفئة المنتصرة: يصافحون ويباركون ويهنئون ويؤيدون.. ويعتذرون أنه لولا "الظروف القاسية" التي كانت تمر بها بلادهم لهان عليهم كل شيء في سبيل راحة المنتصر.. وهذا ما يسميه البعض "السياسة"..!!

    4ـ سعى "منكوخان" أيضاً إلى عقد بعض الاتفاقات مع نصارى الشام والعراق، وهؤلاء ليسوا من الأمراء أو الملوك، ولكنهم من النصارى الذين يعيشون في كنف الإمارات الإسلامية في الشام، أو في الخلافة العباسية في العراق.. وهذه بالطبع لم تكن اتفاقات رسمية ولا معلنة، وإنما كانت اتفاقات سرية مع بعض رؤوس النصارى، ومع بعض القساوسة، وذلك لتسهيل مهمة دخول التتار إلى هذه البلاد، ولنقل الأخبار من وإلى التتار.. وقد نجح "منكوخان" فعلاً في الوصول إلى عدد كبير من هؤلاء النصارى، وعلى رأسهم بطريرك بغداد شخصياً وكان اسمه "ماكيكا"، وكان عاملاً مساعداً هاماً في دخول بغداد..

    5ـ عقد "منكوخان" أيضاً معاهدات مع مملكة الكرج النصرانية (في جورجيا الآن).. ومع أن تاريخ التتار مع مملكة الكرج كان تاريخاً أسود، إلا أن تاريخ الكرج مع المسلمين لم يكن أقل سواداً؛ ومن ثم فضل نصارى الكرج التعاون مع عدوهم الجديد التتار ضد عدوهم القديم المسلمين؛ وذلك لأمرين.. الأول: هو أن التتار لهم القوة الأعلى، ويغلب على الظن جداً أن ينتصروا، وثانياً: لأن الحرب بين النصارى والمسلمين حرب عقائدية أبدية كما ذكرنا من قبل، والكراهية أصيلة بين الطرفين، ولا تغير في العقيدة، ولذلك لا تغير في الكراهية.. وغياب الكراهية لن يكون إلا بغياب العقيدة.. : [ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا]

    أما الحرب مع التتار فهي حرب مصالح.. فإذا تعارضت المصالح حدثت الحرب، وإذا اتفقت المصالح حدث الوئام والألفة والصداقة.. وقد اتفقت مصالح مملكة الكرج النصرانية مع مصالح التتار الوثنية، فلا مانع من السير معاً في طريق واحد.. وهذا أيضاً مما يسمونه: "سياسة"!!..

    6ـ وإذا كانت كل هذه المفاوضات والمعاهدات في كفة، فالمفاوضات التي سأذكرها الآن في كفة أخرى.. ليس لأهميتها فقط ولكن لغرابتها.. أو قل: لبشاعتها!!..

    فهذه المعاهدات عقدت مع بعض "أمراء المسلمين" لتسهيل ضرب "بلاد المسلمين"..!!

    ولم يعقد "منكوخان" هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جداً بهؤلاء الأمراء؛ فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يسمي نفسه أميراً، بل ويلقب نفسه بالألقاب الفاخرة مثل المعظم والأشرف والعزيز والسعيد وغير ذلك..

    وكّل "منكوخان" أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية.. فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء..

    ]فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين[..

    ـ فجاء إلى هولاكو "بدر الدين لؤلؤ" أمير الموصل ليتحالف معه..

    ـ وجاء سلطانا السلاجقة وهما "كيكاوس الثاني"، و"قلج أرسلان الرابع" ليتحالفا أيضاً مع هولاكو، وكانا في مكان حساس جداً، فهما في شمال العراق (تركيا الآن)، وتحالفهما يؤدي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزياً جداً إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!..

    ـ ورضخ أيضاً "الناصر يوسف" أمير حلب ودمشق، ومع كونه حفيد "الناصر صلاح الدين الأيوبي" رحمه الله، بل شبيهه في الاسم واللقب.. إلا أنه لم يكن يشبهه في شيء من الأخلاق أوالروح، بل كان مهيناً إلى الدرجة التي أرسل ابنه "العزيز" لا ليقدم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه!!..

    ـ وكذلك جاء "الأشرف الأيوبي" أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار..

    لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة.. فهي - بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها - قد زادت جداً من قوة التتار الذين أصبحوا يحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حكامها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وانعدمت الثقة في القادة، ومن ثم لم يعد لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار..

    لقد كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس!!..

    7ـ ووصل هولاكو أيضاً في مجهوده السياسي والدبلوماسي إلى شخصية خطيرة في البلاط العباسي نفسه.. فقد وصل إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة.. وهو الوزير "مؤيد الدين العلقمي الشيعي"..!!

    كان مؤيد الدين رجلاً فاسداً خبيثاً رافضياً (يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما)، وكان شديد التشيع، كارهاً للسنة ولأهل السنة، ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سنية تحمل اسم الخلافة، ولا شك أن هذا كان قلة رأي، وضحالة فكر، وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الخطير..

    وهذا الوزير هو ممن ينطبق عليهم وصف "بطانة السوء".. ولا يخفى على عاقل كيف يكون دور بطانة السوء في فساد البلاد، وهلاك العباد..

    روى البخارى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما استخلف خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله"..

    والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبق في مكانه شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين، وإنما بقي في مكانه أربعة عشر سنة كاملة، من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية عندما سقطت بغداد.. وإذا مرت كل هذه الفترة دون أن يدرك الخليفة خطورته، فلاشك أن هذا دليل واضح على خفة عقل الخليفة..

    لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاً فساده وتشيعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في "مجلس الحكم" الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة.. وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون.. وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرت بالمنطقة في تلك الأوقات..

    بالاطلاع على هذه الجهود الدبلوماسية التي قام بها "منكوخان" و"هولاكو" يتبين أنهما بذلا جهداً كبيراً ضخماً للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، والتي تهدف إلى أمر خطير لم يحدث قبل ذلك في الدنيا.. ولو مرة واحدة، وهو إسقاط عاصمة الخلافة الإسلامية..

    وخلاصة الجهود الدبلوماسية التترية أنهم تعاونوا تعاوناً قوياً مهماً مع ملوك أرمينيا والكرج وأنطاكية النصارى، وحيّدوا إلى حد كبير جانب حكام الإمارات الصليبية بالشام، وأقاموا تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وكذلك تحالفوا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي.

    ولا شك أن هذه الجهود الدبلوماسية كان لها دور ملموس في إنجاح الخطة التترية لإسقاط الخلافة الإسلامية..

    ويجدر القول هنا: إن المسلمين بصفة عامة ـ إلا من ندر ـ كانوا يراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم.. أو وهم يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمس من القيام أو الحركة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..





 

صفحة 2 من 11 الأولىالأولى 123456 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رسول الله في كتب السابقين !( فى كتب الهندوس) د . راغب السرجانى
    بواسطة عبدالرحمن السلفى في المنتدى البشارات الحق بمبعث سيد الخلق
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 2012-06-09, 02:30 PM
  2. قصة الحروب الصليبية مع د. راغب السرجاني
    بواسطة kholio5 في المنتدى ثمار النصرانية
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 2011-04-16, 01:17 PM
  3. عناية الاسلام بالنفس الانسانية : د. راغب السرجانى
    بواسطة بن الإسلام في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-01-19, 11:26 AM
  4. جميع مقالات الدكتور راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 95
    آخر مشاركة: 2010-10-31, 01:37 PM
  5. سلسلة فتح مصر بقلم د. راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 2010-10-20, 09:39 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML