-
ص 448 -
وكذا قال الإمام يوسف الحنفي أبو المحاسن :
" عن زر أنه سأل أبي بن كعب عن المعوذتين وقال : إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : قيل لي ( قل ) ، فقلت -أي أبي بن كعب - فنحن نقول كما قال الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم . ففي هذا الجواب لا دلالة على كونـهما من القرآن ولا نفيهما عنه " ( 1 ) .
ولا ريب
أن اختيار البخاري لهذه الرواية المشينة لمقام الرسالة يعتبر نقطة سوداء مخزية تسجل على البخاري .
ولنرجع لصلب الموضوع ، اتضح إلى هنا أن الروايات صريحة في إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ، بل إن بعضها يفيد أن موقف ابن مسعود كان معروفا ومشهورا بين الصحابة والتابعين .
( 1 )
معتصر المختصر ج2ص201.
موقف علماء أهل السنة
:
افترق المساكين إلى فرقتين
، فمنهم من خضع دون مكابرة وأقرّ ما جاء به صحيح البخاري وغيره من المصنفات ، ومنهم من كابر ورفض الفكرة من الأساس وقال بكذب تلك المرويات وعاند بلا دليل وقال ( هذا غير معقول ! ) ، ولا أرى وجها للاستحالة عند هؤلاء إلا أن ابن مسعود معصوم عن الخطأ !
ثم انقسم من أقر بما جاء به الأثر الصحيح إلى قسمين
قسم يُؤول ما فعله ابن مسعود ، وسيتضح أن تأويلهم بعيد كل البعد عن الواقع مع صراحة الروايات ، وقسم آخر أقر واستسلم للأمر الواقع وطفق يقلب كفيّه !
-
ص 449 -
*
التفصيل :
ذهب القاضي الباقلاني والنووي وابن حزم وقيل هو رأي الفخر الرازي إلى أن ما ذكر عن ابن مسعود باطل مكذوب لا يلتفت إليه ، لأن من أنكر شيئا من القرآن فقد كفر ولو صح عن ابن مسعود هذا لكان كافراً وللزم أن بعض القرآن لم يثبت بالتواتر وهذا في غاية الإشكال ، لذا أراد هؤلاء نفي تلك النسبة عن ابن مسعود حتى يبعدوه عن الكفر ، فمنهم من رد الروايات بلا تعليل وحكم ببطلانـها وكذبـها شاء الواقع أم أبى ! ، وتصدى لهم العسقلاني وردّ عليهم القول بعدم إمكان تكذيب الروايات الصحيحة بالمزاج . ومنهم من قال إن التأويل مقبول والطعن في الروايات مرفوض كابن حجر نفسه ، ولكنه ولم يأت بتأويل مقبول ! قال :
" وأما قول النووي في شرح المهذب ( أجمع المسلمون على أن المعوّذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منهما شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ) ففيه نظر ، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى ( ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنيّة المعوذتين فهو كذب باطل ) وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره ( الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل ) ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل مقبول ، والإجماع الذي نقله إن أراد شـموله لكل عصر فهو مخدوش ، وأن أراد استقراره فهو مقبول " ( 1 ) .
وكذا رجّح السيوطي
في الإتقان كلام ابن حجر لأن ما ورد عن ابن مسعود صحيح ولا مجال لإنكاره ، ولم يقبل ما ذهب له الفخر الرازي والقاضي أبو بكر والنووي وابن حزم من تكذيب الروايات ، ويتضح من إشكال الفخر الرازي أن المشكلة لا تكمن في سند الروايات وإنما فيما يلزم من قبول تلك الروايات وإن كانت صحيحة ، قال الرازي :
( 1 )
فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة .
-
ص 450 -
"
إن قلنا أن كونـهما – المعوّذتين- من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها ، وان قلنا إن كونـها من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعـض الـقرآن لم يتواتـر، قال : وهذه عقدة صعبة " ( 1 ) .
إذن ، فالذي أجبرهم على ردها هو ما يلزم منها من الحكم بالتكفير أو عدم التواتر ، فالروايات من حيث السند والدلالة لا يمكن ردّها أو التغلّب على صراحتها بالتأويل ولو أمكن لما استصعب على الفخر الرازي حل عقدتـها .
وهنا وجه آخر لرد هذه النسبة لابن مسعود
وهو كلام ابن حزم الذي أكثر ترديده بعض الوهابية ، ومفاده أن بعض شيوخ القراءة قرؤوا على ابن مسعود ، وهؤلاء أثبتوا المعوذتين في مصاحفهم ، فلو كان ابن مسعود ينكر المعوذتين لاقتفوا أثره في ذلك ، قال في المحلى :
" وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتان " ( 2 ) .
غاية هذا الكلام أن ابن مسعود ما أنكر المعوذتين
! ، وهذا الكلام تافه للغاية ويرده رواياتـهم الصريحة الصحيحة ، وعلى أي حال فلا بأس بالتعقيب على هذا كلام المتهالك الباطل صغرويا وكبرويا ، بأمور :
1-إن وظيفة القارئ هي اقتفاء أثر الشيخ في نحو القراءة وكيفية إخراج الحروف لا أن يحذف ويزيد سورا !!
2-سلمنا ، ولكن من قال إن القارئ يجب عليه اقتفاء أثر شيخه فيما علم خطؤه به ؟!
( 1 )
ن.م.
( 2 )
المحلى ج1ص13 .
-
ص 451 -
3-
سلمنا ، ولكن من قال إن الذين قرؤوا على ابن مسعود لم يعترضوا على إنكاره للمعوذتين ؟! فهاهي الروايات صريحة في اعتراض زر بن حبيش عليه وابن مسعود شيخه في القراءة !
فدفاع ابن حزم فاسد من رأسه إلى أخمص قدميه
، والوهابية الغرقى يلقون السمع لأي قائل ويتسمكون به ، والغريق يتمسك بقشه !
*
ابتدأت معمعة التأويل !
ولدفع إشكال الرازي
ذكر ابن حجر جوابا عنه ، قال : " وأجيب باحتمال أنه كان متواترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلت العقدة بعون الله " ( 1 ) .
وللأسف ، فإن العقدة مازالت عالقة بل تعقدت أكثر ! ، لأمور
:
1- ما ذكره ابن حجر ليس إلا احتمال لم يقم الدليل عليه وقد نص ابن حجر على كونه احتمالا .
2-
من قال إن وجوه الصحابة الذين سمعوا آيات القرآن وعلموا بـها وجدانا يحتاجون لتواتر النقل لتثبت الآيات عندهم ؟! هذا خلاف المنطق ، لأن التواتر طريق إلى اليقين والحس المباشر هو عين اليقين ، ناهيك عما في يتضمنه هذا الكلام من تعذر اليقين بالقرآن لابتلائه بالدور ، حيث يحتاج كل صحابي للتواتر .
3-
سلمنا ، ولكن من غير المعقول أن تتواتر سورتان بين الصحابة بعددهم الهائل الذي يصل قرابة مائة ألف صحابي وفي نفس الوقت يقصر التواتر عن ابن مسعود الذي بقي على قيد الحياة بينهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
( 1 )
فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة.
-
ص 452 -
مدة أكثر من ثلاث عشرة سنة !! ، هذا أمرٌ لا يمكن تصوّره فضلا عن قبوله فابن مسعود لم يكن يسكن الوديان وكهوف الجبال حتى يتحقق التواتر عند الصحابة ولا يتحقق عنده
!
4-
ثم إن موقف ابن مسعود وكلامه ليس موقف من لم يثبت عنده قرآنية السورتين ، الذي من شأنه أن يتوقف في حكم المسألة ويكل أمرها إلى الله عز وجل ، لأن موقفه هو موقف الرافض المعارض للفكرة والمتشبث برأيه ، فقد قام بحكها من الصحف ودعا الناس لعدم خلطها بالقرآن لأن المعوذتين من غيره ، وأنـهما نزلتا كعوذتين وليستا كقرآن ، فأين هذا من ذاك ؟!!
وعليه ، فمازالت الروايات سليمة وبعيدة عن الطعن والخدش في السند والدلالة وهذا يعني أن ما ذهب له الفخر الرازي وجماعته من تكذيب الروايات ليس بصحيح ، وما أشكله الفخر الرازي على بني جلدته ما زال قائما لم يدفعه تـهالك ابن حجر .
ولتفاهة توجيه ابن حجر لم يقبله بعض الأساتذة فقال معرضا به
:
" وقد أبى ابن حجر إلا تصحيح تلك الرواية ( 1 ) ، فقال في شرح البخاري (فقول من قال إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل). ثم لم يستطع تأويلا مقبولا ، والله يغفر لنا وله " ( 2 ) .
( 1 )
كلامه يوهم أن تصحيح الروايات نبع من ابن حجر ! مع أن صحة السند هو القول الفصل في المسألة لا رأي فلان وفلان ! وليس ابن حجر هو الوحيد الذي صحح الروايات ، فقد صححها كثير غيره ، وصححها كل من التمس للروايات تأويلا ، وصححها كل من حكم بصحة كل ما أخرجه البخاري في صحيحه ، وكذا من أخذ بالروايات واعترف بأن ابن مسعود أنكر المعوذتين ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
( 2 ) هامش إعجاز القرآن للباقلاني ص442 تحقيق أحمد صقر ط دار المعارف بمصر .
المفضلات