ونشير هنا إلى كثير من نقط النقص في تناول فيبر للموضوع، وهو أمر متوقعنظراً لاتساع حدود الموضوع:
1 ـ ربما كان أهم نقط النقص في تصوُّرنا هوإغفال فيبر أهمية فكرة التوحيد باعتبارها فكرة تشكل قفزة نوعية للفكر الديني،وبدلاً من ذلك كان تركيزه على عناصر ثانوية (مثل العهد بين يهوه واليهود)، وهيعناصر مهمة ولكنها لا ترقى في أهميتها إلى فكرة التوحيد. كما لم يدرك فيبر أنالتوحيد في العقيدة اليهودية ظل مشوباً بعناصر حلولية وثنية، وأن اليهودية سقطت فيالواحدية الكونية التي تنبذها العقائد التوحيدية الحقة.
2 ـ يُفرِّق فيبربين عبادة يهوه وعبادة بعل مع أن من المعروف أن اليهودية دخلها كثير من العناصر منعبادة بعل حتى أصبحت عبادة يسرائيل خليطاً غير متجانس من العبادتين.
3 ـيفترض فيبر وجود قدر كبير من الوحدة في أسفار الأنبياء، وهو الأمر الذي لا تساندهقراءة متعمقة لهذه الأسفار.
4 ـ يتسم تحليل فيبر للفريسيين بالابتسارالشديد كما أنه لم يشر إلى الاتجاهات الأخرى، خصوصاً الأسينيين والغيورين الذينعبَّروا عن مصالح ومطامح الجماهير الشعبية.
5 ـ معرفة فيبر بالتلمود سطحيةللغاية، ولذا فهو لم يدرك أنه كتاب متناقض وأن كثيراً من أفكار الأنبياء اختفت وحلتمحلها صيغ سحرية أبعد ما تكون عن الترشيد. ويبدو أن معرفة فيبر بالتيارات الفلسفيةالمختلفة التي ظهرت بين الجماعات اليهودية في التشكيل الحضاري الإسلامي، بلوالمسيحي أيضاً، كانت ضعيفة.
6 ـ لم يذكر فيبر القبَّالاه من قريب أو بعيدرغم أنها سيطرت على التفكير الديني اليهودي منذ القرن السابع عشر.
7 ـ يفصلفيبر، وبحدة، بين الأشكال الرأسمالية في المجتمع التقليدي والرأسمالية الرشيدة. ومعالإقرار بالأهمية المنهجية والتفسيرية لهذا الفصل، يظل من الضروري أن ندرك أنالظاهرتين تتداخلان على مستوى التاريخ المتعين وأن اليهود لعبوا بالفعل دوراً فيتحطيم المجتمع التقليدي القديم كما بيَّن ماركس.
8 ـ ينظر فيبر إلى تواريخالجماعات اليهودية من الداخل كما لو كان هناك تاريخ يهودي مستقل عما حولهم منتشكيلات حضارية، ومن هنا محاولته تفسير فكرة «الشعب المنبوذ» بأنها نتاج الجيتوالداخلي الذي فرضه اليهود على أنفسهم.
9 ـ لم يتعرض فيبر لقضية يهودالمارانو وإسهامهم في نشأة الرأسمالية. وحاول سومبارت أن يطرح وجهة نظر مختلفة، حيثبيَّن أن اليهود هم أهم القطاعات البشرية التي أدَّت إلى ظهور الرأسمالية الرشيدةفي الغرب.
وغنيٌّ عن القول أن فيبر وماركس وسومبارت، وغيرهم من المفكرينالغربيين، يتناولون وضع الجماعات اليهودية في الغرب وكأنه وضع عالمي. وربما يعودهذا إلى جهلهم بأحوال يهود الدولة العثمانية ويهود الهند والفلاشاه والصين بل ويهودجورجيا في روسيا. ومن هنا كان جنوحهم نحو التعميم المخل وحديثهم عن اليهود بشكل عامومجرَّد.
رؤية فرنر سومبارت (1863-1941) للعلاقة بين الرأسماليةوالجماعات اليهودية
Werner Sombart on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities
يرى العالم الألماني فرنر سومبارت (1863 ـ 1941) أن ثمةعلاقة قوية بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (وبخاصة يهود المارانو) من جهةوظهور الرأسمالية وتطوُّرها من جهة أخرى. ويبدو أن هذا السؤال مطروح على سومبارتمنذ بداية رحلته الفكرية، وأنه حاول أن يعثر على إجابة إلى أن وجد ضالته. ويميِّزسومبارت بين نشاطين رأسماليين أحدهما «النشاط التجاري» (بالإنجليزية: كوميرشيال commercial) والآخر هو «النشاط الاستثماري» (بالإنجليزية: أنتربرينريال entrepreneurial). والترجمة الحرفية لهذه العبارة هي «رأسمالية المقاولات أوالوسطاء» ولكنها لا تؤدي المعنى المطلوب تماماً، على عكس الترجمة التي نقترحها. وهكذا، فإن النشاط الرأسمالي الاستثماري حسب تصوُّر سومبارت نشاط نيتشوي يتسمبالحيوية والتوقد الذهني والإدراك السريع وروح المغامرة والتجديد والإحساس بالقوةوالرغبة في تجاوز الأخلاق والحسابات العادية (أو أخلاق العبيد في فلسفة نيتشه). ويرى سومبارت أن المستثمر الرأسمالي يشبه أبطال ملحمة بيولف الأنجلو ساكسوني، فيمايُسمَّى «العصر البطولي»، وهي فترة قبل العصور الوسطى في الغرب وقبل دخول المسيحية. فهؤلاء الأبطال يجدون لذة غير عادية في الكفاح والصراع باعتبارهما هدفين فيذاتيهما، ويدخلون الحروب التي ليس وراءها عائد مادي، وهم يدخلون في علاقة مباشرةمتعينة مع الأشياء، وهي هنا العملية الإنتاجية. كل هذا يقف على الطرف النقيض منالرأسمالية التجارية التي تنظر إلى العالم بمنظار موضوعي.
وهذا التقسيم هو،في واقع الأمر، تعبير عن التقسيم الثنائي الأساسي في علم الاجتماع الألماني بينالمجتمع التقليدي العضوي المترابط (الجماينشافت)، والجماعة التعاقدية الذريةالمفتتة (الجيسيلشافت). والرأسمالية الاستثمارية تعبير عن الجماعة الأولى،والرأسمالية التجارية تعبير عن الثانية.
ومن الواضح أن التمييز بين هذينالنوعين من الرأسمالية هو تعبير عن الصـراع بين رؤية الاسـتنارة الآلية والرؤيةالعضـوية المعادية للاستنارة. وتبنِّي سومبارت للفكر العضوي هو في جوهره احتجاج علىتزايد معدلات الترشيد والعلمنة في المجتمع الغربي.
كما أننا سنلاحظ أنالرأسمالية التجارية هي رأسمالية المجتمعات الإقطاعية التي تضطلع بها الجماعاتالوظيفية الوسيطة على عكس النشاط الرأسمالي الاستثماري، وهو ما يعادل الرأسماليةالرشيدة عند فيبر.
ويرى سومبارت أن أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا فيتطوُّر الرأسمالية بشكل عام، وإن كانت هناك عدة عناصر جعلت ارتباطهم بالرأسماليةالتجارية أكثر قوة من ارتباطهم بالرأسمالية الاستثمارية. ويورد سومبارت عدة أسبابلهذه الظاهرة بعضها يعود إلى النسق الديني اليهودي والبعض الآخر يعود إلى وضعهم فيالمجتمعات الغربية:
1 ـ لم تُحرِّم اليهودية التجارة، ولم تنظر إليها نظرةسلبية، وإنما قامت بتنظيمها بل تشجيعها. وأبدت اهتماماً خاصاً بالأعمال المالية منأجل تحقيق الربح.
2 ـ حرَّمت اليهودية الإقراض بالربا بين اليهود ولكنهاأحلته بين اليهودي وغير اليهودي، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام اليهوديللاشتغال بالأعمال المالية ومراكمة رأس المال.
3 ـ تشجِّع اليهوديةالاعتدال والتحكم في الذات وعدم التعبير عن العواطف والدوافع بشكل تلقائي إلا منخلال قنوات شرعية مُعتَرف بها دينياً. ويعني هذا، في واقع الأمر، تحويل طاقات حيويةهائلة للنشاطات الاقتصادية. ويرى سومبارت أن هذا هو الترشيد الاقتصادي بعينه.
4 ـ يشير سومبارت إلى النسق الديني اليهودي، فيُلاحظ أن اليهودية مجردة منالأسرار والطقوس ذات الطابع الرمزي، وهو ما يعني أنها تنمي عقلية رشيدة عقلانيةتميل نحو الحساب وتبتعد عن المغامرة.
5 ـ العلاقة بين اليهودي والخالقعلاقة تعاقدية، فالخالق ليس عنصراً محاطاً بالأسرار وإنما عنصر مجرد غير شخصي لايمكن للمؤمن الدخول معه في علاقة شخصية، وبالتالي تظل العلاقة معه مجردة غير شخصية.
6 ـ ربطت اليهودية بين القداسة والثواب والعقاب في العالم الآخر من جهةوفكرة التعاقد من جهة أخرى. فمن يؤدي وصايا الخالق لابد أن يُكافأ على أفعاله بحسبالعلاقة التعاقدية. وشجع هذا ظهور اتجاه إنمائي بحيث يمكن للمؤمن أن يرجئ تحقيقرغباته في سبيل المكافأة النهائية، وهذا ضرب من التقشف ذي التوجه الدنيوي على نقيضالتقشف الديني ذي التوجه الأخروي.
7 ـ يُلاحظ سومبارت أن اليهودية ديانةمعادية للطبيعة تهدف إلى غزوها والهيمنة عليها، وهذا هو أحد أهداف الرأسمالية.
كل هذه العناصر في النسق الديني اليهودي تتفق تماماً مع روح الرأسمالية،الأمر الذي جعل اليهود مرشحين لأن يضطلعوا بالوظائف التجارية أكثر من أي قطاع بشريآخر. ومما ساعد على تحقيق هذا الاتجاه عناصر خاصة بالتجربة التاريخية لليهود قوَّتهذا الاتجاه وساعدته على التحقق، منها:
1 ـ تشتُّت اليهود، أي انتشارهمخارج فلسطين في ربوع الأرض، وهذا ما جعلهم يكوِّنون شبكة مالية تجارية ضخمة ويعطونالعلاقات التجارية طابعها الدولي اللازم لنشوء الرأسمالية.
2 ـ وحين تشتَّتاليهود، خرجوا من بيئة صحراوية يحملون معهم الروح السامية التجارية إلى الشمال الذيتسود فيه الروح الآرية وروح المغامرة. ويبدو أن الصحراء في ذهن سومبارت هي رمزالحسابات الرشيدة الباردة وهي البيئة التي يتحول فيها الإنسان إلى مخلوق أناني ذرييرغب في البقاء، ونقيضها الطبيعة الثرية في الشمال التي تشجع على اتساع الأفقوارتياد المجهول. وهنا نرى صورة أخرى من الجماينشافت (الجماعة المترابطة) والجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي). ويرى سومبارت أن المدينة الحديثة ليست إلا صحراءكبيرة تضم أشخاصاً أنانيين لا يكترثون إلا بمصالحهم.
3 ـ يبدو أن الحياة فيالصحراء أو العقلية الصحراوية التي تشجع على الحساب تجعل الإنسان شخصية مرتبة ترفضالتلقائية، على عكس حياة الريف في أحضان الطبيعة، أي أن الحياة في الصحراء تشجع علىما يمكن أن نسميه «الشخصية التعاقدية».
4 ـ ظل اليهود، بعد انتشارهم خارجفلسطين، غرباء عن المجتمعات التي حلوا بها، ومن المعروف أن الغريب يقوم بتثويرالمجتمعات التي يحـل بها، كما أنه يضطلـع بوظـائف يأنف أعضاء المجتمع من ممارستها.
5 ـ يرى سومبارت أن أعضاء الجماعة اليهودية ساعدوا الدولة الحديثة على أنتصبح ما هي عليه ربما لكونهم يهود بلاط. وهذه الدولة هي الإطار الذي تطوَّرت منخلاله الرأسمالية الحديثة.
6 ـ طوَّر اليهود أيضاً كثيراً من الآلياتاللازمة لظهور النظام التجاري والحسابات المعقدة.
7 ـ كان لدى اليهود رؤوسالأموال الكافية للاستثمار، ولتمويل المشاريع المختلفة، ومن الواضح أن سومبارت يفكرهنا في يهود المارانو الذين لم يُشر إليهم أيٌّ من فيبر وماركس.
ولعلالمشكلة الأساسية في أطروحة سومبارت هي أنه يجعل من اليهود سبباً في نشوءالرأسمالية ويستبعد العناصر الأخرى مثل حركة الإصلاح الديني. ولو أن اليهود همالسبب الأساسي لكانت الرأسمالية قد ظهرت في شرق أوربا حيث كانوا مُركَّزين (أو حتىفي وسطها)، ولكنها ظهرت أساساً في غرب أوربا، في إنجلترا التي لم يكن يوجد فيهايهود على الإطلاق، وفي فرنسا وهولندا اللتين ضمتا أقليات يهودية صغيرة.
ويبدو أن سومبارت لم يكن ملماً بقدر كاف بعدم تجانس التراث الديني اليهوديوبخاصيته الجيولوجية، فبينما كان يتحدث عن اليهودية كديانة تعاقدية، كانت الحسيدية (الصوفية) قد اكتسحت معظم يهود العالم منذ قرنين أو ثلاثة قرون. ومع هذا، تَجدُرالإشارة إلى عدم وجود تَعارُض بين الحلولية والتجارة، بل إن الفكر الحلولي يشجع علىالاهتمام بالعالم المادي ويخلع عليه القداسة. ولكن هذا يختلف عن طرح سومبارتللقضية، فهو يتحرك في إطار التلمود واليهودية الحاخامية أو ربما العهد القديم وحسب.
ولم يأخذ سومبارت في الاعتبار أن خصوصية وضع اليهود داخل التشكيل الحضاريالغربي، كجماعة وظيفية وسيطة، والتي جعلتهم يساهمون بشكل واضح في نشوء الرأسمالية،هي ذاتها التي وضعت حـدوداً على حركتهم بحـيث ظل إسـهامهم هو إسهام الجزء في حركةالكل.
ولتوثيق هذا التعميم قد يكون من المفيد دراسة مدى إسهام يهودأمستردام (وكان معظم أثريائهم من المارانو) في نمو الرأسمالية الهولندية بشيء منالتفصيل.
بلغ دخل عضو الجماعة اليهودية في القرنالسابع عشر 1448 جلدراًمقابل 828 لغير اليهودي، وكان اليهود السفارد من أكبر مالكي الأسهم، فكانوا من كبارالمساهمين في شركتي الهند الشرقية والهند الغربية الهولنديتين، وشاركوا في مختلفنشاطاتها الاقتصادية الاستيطانية، وكان 25% من أسهم شركة الهند الشرقية في أيديهودية. ولكن الوضع كان مختلفاً في شركة الهند الغربية إذ كانت نسبة المساهميناليهود ضئيلة للغاية (دفع 18 يهودياً نحو 36 ألف جلدر من رأسمال يبلغ ثلاثةملايين). ولعب اليهود السفارد دوراً في تأسيس الجماعات اليهودية في نيويورك ولندنوفي أنحاء العالم الجديد، كما استوطنوا في البرازيل وكوراساو وكايان وسورينام التيكان يُوجَد فيها أربعمائة مزرعة عام 1733 منها 115 في يد اليهود.
وحسبسجلات أمستردام لعام 1609، وهي أقدم السجلات، لم يكن يوجد سوى 24 يهودياً سفاردياًبرتغالياً بين 731 مودعاً، ومن 708 مودعين عام 1611 لم يكن يوجد سوى 28 يهودياً. وبين أكبر 320 مودعاً، لم يكن يوجد سوى عشرة يهود. وفي عام 1620، كان عدد المودعين 1202، بينهم 106 فقط من اليهود. وظلت النسبة ثابتة، ففي عام 1674 بلغ عدد المودعين 1302 من بينهم 265 يهودياً، ومن بين 685 يدفعون أعلى ضرائب كان يوجد يهودي واحدفقط. وفي عام 1631، لم يكن يوجد سوى ستة يهود. ومن المجموعة الثانية من دافعيالضرائب لم يكن يوجد سوى 15 يهودياً، أي أنه لم يكن يوجد سوى 21 يهودياً ثرياً فيأمستردام عام 1631.
وتغيَّرت الصورة قليلاً في منتصف القرن السابع عشرالميلادي، فكان يوجد 13 يهودياً يحتفظون بحسابات ضخمة في بنك أمستردام (عام 1646). وكان هناك 245 يهودياً ثرياً، من بينهم ستة كان كل منهم يمتلك 100,000 جلدر. ومعهذا، كانت ثروة اليهود صغيرة بالنسبـة إلى الثروة الكليـة، فكـان أثرياء اليهـودهـؤلاء (245) يمتلكون 3,621,800 جلدر من مجموع 185,582,000 جلدر يملكها الأثرياء فيأمستردام، أي أن اليهود كانوا يمتلكون نحو 2% من الثروة. وهذا هو النمط العام الذيساد غرب أوربا والبلاد التي ظهرت فيها رأسماليات قوية في مرحلة مبكرة، وبالتاليكانت لها تجارب استعمارية. وهو نمط وجود ثروة في يد بعض المموِّلين اليهود بنسبةتفوق كثيراً نسبة اليهود إلى عدد السكان. ولكن تظل هذه الثروة جزءاً من كل، ولايمكن أن يُطلَق عليها «رأسمال يهودي» حيث إن ما يُحدِّد حركة رأس المال هو الحركةالاقتصادية للمجتمع ككل، وليس كون رأس المال مملوكاً من قبَل بعض الممولين من أعضاءالجماعات اليهودية.
المفضلات