صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 1234567 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 62
 
  1. #21
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    صالوناتالنسـاء الألمانيات اليهوديات
    Salons of German Jewish Women
    «صالوناتالنساء اليهوديات» صالونات فكرية أقامتها بعض بنات أثرياء اليهود في فيينا وبرلينفي بداية القرن التاسع عشر، وأصبحت مركزاً يلتقي فيه أعضاء النخبة الثقافيةوالسياسية في أوربا مع بعضهم البعض، ومع البارزين من أعضاء الجماعة اليهودية. وظاهرة الصالونات ظاهرة مرتبطة تماماً بحركة التنوير اليهودية ثم بداية انفتاحالجماعة اليهودية على عالم غير اليهود وبداية علمنة أعضائها ودمجهم بل صهرهموأحياناً تنصيرهم.

    ولعل قيام النساء بهذا الدور القيادي في عملية التقارببين الجماعة اليهودية وعالم غير اليهود يعود إلى مُركَّب من الأسباب الثقافيةوالاقتصادية. وأهم الأسباب بطبيعة الحال هو أن المجتمع الغربي بأسره كان قد بدأيتحول من مجتمع تقليدي مبني على الفصل بين الطبقات والجماعات إلى مجتمع حديث تديرهدولة قومية علمانية مركزية. ولم يكن هناك مفر من القضاء على كل الجيوب الإثنيةوالدينية والجماعات الوظيفية بحيث يتم دمجها في بنية المجتمع ككل. والجماعةاليهودية كانت إحدى هذه الجماعات، كما أن الصالونات كانت آلية من آليات الدمج إذ أناحتكاك أعضاء القيادة اليهودية بالثقافة غير اليهودية كان يسهم ولا شك في زيادةاقترابهم منها واستيعابهم لها ومن ثم وصولها إلى كل أعضاء الجماعة، ذلك أنه، معتحوُّل النخبة، يَسهُل تحوُّل الجماهير. وقبل أعضاء الأرستقراطية الألمانية، رغم ماعرف عنهم من عنصرية، ارتياد هذه الصالونات لأنها كانت تتسم بقدر كبير من الحريةوالانفتاح، ومن ثم كانت مجالاً لتبادل الأفكار غير متاح في المجتمع. ولابد أن نتذكرأن الفكر العقلاني وجد طريقه إلى أعضاء الأرستقراطية الغربية وعبَّر عن نفسه فيظاهرة الحكومات المطلقة المستنيرة التي كانت تبغي إصلاح المجتمع من أعلى، ومن خلالتشريعات حكومية. كما أن انتشار الرؤية النفعية والمركنتالية في المجتمع، جعلبالإمكان تقبُّل اليهودي أو أي شخص آخر ما دام أثبت نفعه.

    أما من الناحيةالاقتصادية المباشرة، فيعود ظهور الصالونات إلى حرب الأعوام السبعة (1756 ـ 1763)،إذ أعطى فريدريك الأكبر مجموعة من العقود للمتعهدين العسكريين اليهود، الذين أثبتواكفاءتهم في سد حاجاته من السلع والمواد المختلفة ونفعهم لبروسيا. وتمكَّن هؤلاءالمتعهدون من مراكمة الثروات إبَّان هذه الحرب، وكثير من المزايا التي منحها إياهمالإمبراطور مكافأة لهم على الخدمات التي أدوها لوطنهم بروسيا. وقد اضطر كثير منأعضاء الأرستقراطية الألمانية إلى اقتراض المال من المموِّلين اليهود في هذهالفترة. ولكل هذا، ازداد اختلاط أعضاء الأرستقراطية الألمانية بأثرياء اليهود.

    وفي إطار هذا، يمكن القول بأن الصالونات كانت تمثل مرحلة انتقالية في تاريخالجماعات اليهودية، فهي مرحلة كانت الجماعات اليهودية لا تزال تلعب فيها دورالجماعة الوظيفية، ولكن قوة الدولة المركزية كانت آخذة في التزايد، ومن ثم بدأتعملية الاستغناء عن الجماعات الوظيفية. كما أن الجماعة الوظيفية اليهودية ذاتهاكانت قد بدأت تراكم الثروات وهو ما جعلها مستعدة لارتياد قطاعات اقتصادية جديدةداخل الاقتصاد الوطني وفي صلبه. وعلى المستوى الثقافي، نجد الوضع نفسه، فأعضاءالنخبة في الجماعة اليهودية كانوا لا يزالون (يهوداً) يتَّسمون بشيء من الخصوصيةالتي يتمتع بها أعضاء الجماعات الوظيفية. ولكنهم كانوا في الوقت نفسه قد بدأوايتحركون في عالم الألمان، ويتشربون شيئاً من ثقافتهم، ويتطلعون إلى فقدان ما تبقىلديهم من خصوصية، ويندمجون تماماً في عالم ثقافة الأغلبية.

    ويظل سؤال أخير: لماذا النساء اليهوديات دون الرجال؟ وللإجابة على هذا السؤال، لابد من الإشارة إلىمفارقة غريبة وهي أن التراث الديني اليهودي كان يحرم على المرأة المشاركة في الحياةالعامة (الدينية) والدراسة الدينية، وكان هذا يعني أن كثيراً من الفتيات اليهودياتمن أبناء الأسر الثرية بدأن يتلقين تعليماً غربياً علمانياً، فأصبحن أكثر إلماماًبالعلوم والثقافة الغربية وأكثر كفاءة في التعامل مع العالم الغربي وأكثر تملكاًلناصية خطابه الحضاري. ولذا، كان بمقدورهم أن يلعبن دور الوسيط بين أعضاء الجماعةاليهودية والنخبة الألمانية. كما أن ثراء أسرهن حررهن من الدور التقليدي للمرأة،فأصبح لديهن الوقت والثقافة والثراء الكافي لمثل هذه الصالونات.

    وبدأمندلسون تقليد الصالونات هذا حين خصص ليلة يلتقي فيها المثقفون اليهود مع غيراليهود ليتبادلوا الأفكار. وكان أول صالون تفتحه مثقفة يهودية هو صالون هنريتا هرتز (1764 ـ 1847) وهي زوجة ماركوس هرتز أحد تلاميذ مندلسون، الذي كان يكبرها سناً،فتولى إكمال عملية تعليمها. وكانت تجيد عشر لغات من بينها العبرية، وكان صالونهاملتقى لمعظم المفكرين والأدباء مثل جوته وميرابو وأعضاء الأرستقراطية الألمانية. وتزوجت هنريتا هرتز من أحد رواد الصالون بعد موت زوجها، وتنصَّرت. ومن أهمالصالونات الأخرى صالون دوروثيا فايت (1763 ـ 1879) وهي ابنة مندلسون التي تزوجتمصرفياً يهودياً، ولكنها طلقت زوجها وتزوجت من الكاتب الألماني فريدريك فون شليجيلواعتنقت المسيحية البروتستانتية، ثم تكثلكا معاً. وكان صالون راحيل ليفين فارنهاجن (1771 ـ 1833) أهم الصالونات جميعاً، وكان ملتقى النخبة. وبعد زيجتين فاشلتين،التقت بضابط يهودي يصغرها سناً بأربعة عشر عاماً فتزوجا. وحينما استقرت في فيينا،فتحـت صالونها هـناك، فكان مندوبو بروسيا لمؤتمر فيينا يلتـقون فيه. وكانتالصالونات نقطة تجمُّع للحركة الرومانتيكية ولحركة ألمانيا الفتاة.

    وكانتظاهرة صالون النساء اليهوديات ظاهرة مؤقتة، فمع نمو عدد أعضاء النخبة الثقافيةوالسياسية في المجتمع، ومع تنوُّع حاجاتها الفكرية، بدأت تظهر مؤسسات متخصصة للوفاءبهذه الحاجات، مثل الجماعات المهنية والنادي الثقافي والمجلات والصحف. كما أنتزايُد النزعة القومية الألمانية، وما صاحبها من معاداة اليهود، ساهم في تشجيعأعضاء النخبة على الانصراف عن هذه الصالونات. ولعل تنصُّر كثير من القائمات على مثلهذه الصالونات ساهم أيضاً في القضاء عليها إذ أن ذلك يعني أنها عجزت عن مد أية جسوربين الجماعة اليهـودية وحضـارة الأغيار. وأخـيراً، مع تزايد معـدلات الاندماجوالعلمنة، بدأت أعداد أكبر من الرجال تمتلك ناصية الخطاب الحضاري الغربي وتتحركبكفاءة أكبر في المجتمع وتعقد صلات مع المجتمع المضيف دون حاجة إلى صالونات النساءاليهوديات.







  2. #22
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    دوروثيــا شــليجـل (1764 – 1839(
    Dorothea Schlegel
    كبرى بنات موسى مندلسون، تزوجت في سن العشرين من المصرفي الألماني سيمون فيت (من أسرة فيت الشهيرة في عالم المصارف) وأنجبت منه أربعة أولاد، وكان ينعقد فيمنزلها واحد من أشهر الصالونات الأدبية. وقد صوَّرها الفيلسوف والكاتب الرومانسيالألماني فريدريش فون شليجل (1772 - 1829 ) في روايته التي لم يكملها لونسيد علىأنها المثل الأعلى للمرأة. وتقبلت دوروثيا مبدأه الخاص بالحب الحر (أي ممارسة الجنسبلا أية حدود أو قيود أخلاقية) وذهبت وعاشت معه وكتبت رواية رومانسية تحت تأثيره (وتحت تأثير جوته) تُسمَّى فلورنتين كما ترجمت رواية مدام دي ستايل كورنين. وفي عام 1802، تنصَّرت على المذهب البروتستانتي، وبعد ستة أعوام تكثلكلت مع شليجل، وعندهاتزوجا زواجاً شرعياً واستقرا في فيينا حيث أصبح منزلهما مركزاً اجتماعياً وثقافياً. وقد أقنعت ابنيها فيليب وجوناس بأن يتكثلكا، وعاشت بقية حياتها مع ابنها فيليب فيفرانكفورت.

    وحياة دوروثيا شليجل حياة مثيرة، ولكنها مع هذا تنتمي إلى نمطآخذ في الشيوع وهو نمط اليهودي غير اليهودي.وإذا كان الجيل الأول هو موسى مندلسونالذي بدأ يترك عالم اليهودية الحاخامية وراءه، فإن ابنته بدأت تُسرع الخطى نحو عالمأوربا للحصول على تأشيرة دخول فتنصَّرت،ومع الجيل الثالث يصبح التنصُّر حدثاًعادياً. ولذا تنصَّر كل أولاد مندلسون وتيودور هرتزل.كما أن صالونها الأدبي تعبيرعن الظاهرة نفسها،أي رغبة كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في أن يتركوا عالمهماليهودي لينضموا لعالم الأغيار، فكان الصالون هو الأرضية التي يلتقون فيها بأقرانهممن الأغيار.

    راحـيل فارنهاجـن (1771-1833(
    Rahel Varnhagen
    سيدة صالون ألمانية وُلدت لعائلة يهودية ثرية في برلين، واسمها الأصلي راحيلليفاين. نشأت راحيل في بيئة يهودية أرثوذكسية، ولكنها كانت تخجل من أصلها اليهوديالذي اعتبرته «كالخنجر الذي غُرس في قلبها » وسعت للهروب منه. وقد تنصَّر أخوها بعدوفاة والدهما، ولم تمانع راحيل، هي الأخرى، فكرة التنصُّر، ولكنها لم تقدم على ذلكبسبب اعتمادها مالياً على والدتها. وأتاحت لها خطبتها لنبيل بروسي الدخول في دائرةالأرستقراطية الألمانية. وبرغم أن هذه الخطبة فُسخت بعد أربع سنوات بسبب رفض عائلةالنبيل الألماني زواجه من يهودية، إلا أن بيتها كان قد تحوَّل إلى ملتقى للأدباءوالمفكرين والسياسيين وغيرهم من الشخصيات اللامعة آنذاك يمثلون مختلف التياراتوالاتجاهات الفكرية والأدبية والسياسية. وكان من بين راود صالونها الأديب الألمانيالكبير جوته.

    وفي عام 1801 خُطبت راحيل للمرة الثانية لسكرتير المفوضيةالإسبانية لدى بروسيا وفُسخت الخطبة مرة أخرى عام 1804. وفي عام 1810، اتخذت راحيلاسم روبرتس بدلاً من اسم ليفاين وهو نفسه الاسم الذي اتخذه أخوها بعد أن تنصَّر. وفي عام 1814، تزوجت من دبلوماسي بروسي يصغرها بأربعة عشر عاماً اسمه كارل أوجستفارنهاجن، واعتنقت المسيحية البروتستانتية. وبعد زواجها، تحوَّل بيتها مرة ثانيةإلى ملتقى للشخصيات الفكرية والسياسية، وغلب على صالونها هذه المرة الطابع السياسيحيث ضم كثيراً من المتعاطفين مع حركة ألمانيا الفتاة أمثال هنريش هايني. واكتسبتراحيل بفضل شخصيتها وذكائها إعجاب الكثيرين من رواد صالونها، وتمتعت بنفوذ واسع،وتعتبر راحيل إحدى ألمع السيدات اليهوديات الأوربيات في عصرها. وظلت راحيل طوالحياتها رافضة ليهوديتها، واعتبرتها نوعاً من البلاء ابتليت به وأحد أسباب تعاستها. ومع هذا، يُقال إنها اتجهت في أواخر أيامها لقبول أصلها اليهودي، ويبدو أن هذاالتحول بدأ عقب اندلاع مظاهرات معادية لليهود في ألمانيا أثار تعاطفها مع اليهود.

    علْــــــم اليهوديـــــــــة
    Wissenchaft des Judentums (Science of Judaism)
    «علْم اليهودية» علم أسسه في القرن التاسع عشر المفكرون الألماناليهود ذوو التوجه العلماني والاهتمام التاريخي، بهدف دراسة اليهودية واليهوددراسةً تاريخية وعلمية لاكتشاف الخصوصية اليهودية. وكلمة «علم» ترجمة للكلمةالألمانية «فيزنشافت» وهي تشير إلى الدراسة المنهجية في العلوم الإنسانية والتاريخوالتي تتبنَّى طريقة علمية تعتمد كل وسائل البحث الدقيق وتنطوي على احترام الحقائقوالخصوصية التاريخية. ويُلاحَظ أن ثمة تناقضاً كامناً في الأهداف، فهي من ناحيةموضوعية متطرفة فيما يتعلق بناحية البحث العلمي، ولكنها ذاتية ذات قصد محدَّد فيمايتعلق بالبحث عن الخصوصية التاريخية. ويعود هذا التناقض الأساسي إلى ذلك التناقضالكامن في فكر حركة الاستنارة آنذاك. فهي حركة عقلانية تؤكد أهمية الموقف العلميوالموضوعي والتجريدي والحقائق العامة والعالمية. ولكن هناك أيضاً جانباً آخر وهوالجانب التجريبي الحسي الذي يؤكد أهمية التجربة المباشرة والخصوصية. ودعَّم ذلكظهور الحركة الرومانسية التي تهتم بالعاطفة والماضي واللون المحلي والخصوصيةوالتطور. وتأثر أعضاء النخبة المثقفة اليهودية بحضارتهم الغربية، فمندلسون مثلاًيرى أن اليهودية دين عام عقلاني ولكن شعائرها خاصة مقصورة على اليهود. ونتيجةًللتطور التاريخي، يُلاحَظ تناقص رقعة العام واتساع مساحة الخصوصية حتى تصبح هيالرقعة الأساسية بين أعضاء الجيل الثاني من دعاة التنوير اليهودي الذين دعوا منالناحية النظرية إلى دراسة اليهودية لاكتشاف الماضي وليس رفضه أو تقديسه.

    وأحد الافتراضات الأساسية الكامنة وراء علْم اليهودية أن المؤسسات والأفكاراليهودية تطوَّرت بحسب قوانين تطوُّر المجتمعات التي وُجدت فيها، وأن هذه المؤسساتلم تكن أحسن أو أسوأ حالاً من أية مؤسسات اجتماعية أو ثقافية غير يهودية أخرى. ولكنهناك افتراضاً آخر يتناقض تماماً مع الأول وهو أن ثمة خصوصية يهودية تُعبِّر عننفسها من خلال هذه المؤسسات.

    وينعكس هذا التناقض في أهداف علْم اليهوديةعلى النحو التالي:

    1
    ـ ستؤدي عملية اكتشاف اليهودية إلى اكتشاف جوهرهاالحقيقي، وبالتالي يمكن التخلص من التراكمات الخرافية التلمودية التي علقت بها. ومنثم يمكن القول بأن علم اليهودية هو جزء من حركة الإصلاح الديني اليهودي. وقد حاولهذا العلم أن يبين دنيوية وتاريخية التراث الديني اليهودي، أي أنه نتاج ظروفتاريخية محددة، وبالتالي نزع عنه أية قداسة أو مطلقية وهو ما فتح الطريق أمامإمكانية التحرر منه ورفضه واكتشاف سوابق تاريخية داخله تبرر الإصلاح. فعلى سبيلالمثال، تمكَّن ليوبولد زونز، من خلال الدراسة العلمية التاريخية، أن يبيِّن أن لغةالصلوات اليهودية لم تكن دائماً العبرية، ومن ثم لا يوجد أي مبرر للسلطات الألمانيةلأن تغلق معبداً يهودياً كانت تُقام فيه الصلوات بالألمانية على أساس أن هذا منافللتراث اليهودي كما ادعى اليهود الأرثوذكس، أي أن اليهودي أصبح بوسعه التحرر منقبضة تراثه الذي كان يكرس عزلته المقدَّسة وأن يندمج في مجتمعه. كما أن تدهوروتخلُّف المؤسسات اليهودية، وهي جزء من تشكيلات حضارية أكبر، لا يمكن أن يُستخدَممسوغاً للتمييز ضد اليهود باعتبار أن هذا التخلف جزء من كل أكبر غير يهودي. وإذاكان التخلف نتيجةً لاعتبارات تاريخية وبيئية، فإن من الممكن تجاوزه من خلال عمليةالإصلاح.

    2
    ـ ستؤدي عملية اكتشاف اليهودية إلى اكتشاف خصوصيتها وقوانينهاالعضوية. وسيؤدي اكتشاف الخصوصية إلى إظهار الشخصية اليهودية المستقلة وإنجازاتهاالحضارية، الأمر الذي سيعيد لليهود هويتهم واحترامهم أمام الشعوب الأوربية. كما أناكتشاف هذه الخصوصية سيقوي وعي اليهود بأنفسهم وتراثهم وهويتهم المستقلة ووعيهمبذاتهم القومية.

    فكأن الهدف الثاني مناقض تماماً للهدف الأول. وقد اكتسبالهدف الثاني إلحاحاً غير عادي نظراً لتزايد انصراف الشباب من اليهود عن اليهوديةبعد حركة الإعتاق والدمج ونظراً لبعدهم عن تراثهم الديني بل احتقارهم اليهودية (وهذا أمر لم يكن مقصوراً على الشباب من اليهود فالموقف نفسه كان شائعاً بين كلشباب أوربا مع تزايد معدلات العلمـنة). وأدَّى كل ذلك إلى تراجُـع اليهـودية وإلىانصـهار اليهود، ومن ثم أصبح اكتشاف التراث ضرورة ملحة لوقف هذا التراجع وهذاالانصهار، أي أن هذه العملية كانت، من هذا المنظور، تصدياً لحركة الإصلاح الدينيولليهودية الإصلاحية. وبالتدريج، أصبح الهدف الأساسي من الاكتشاف ليس الدراسة وإنماتقديس التراث. وبالتالي، نجد أن علم اليهودية مرتبط باليهودية المحافظة. ومع هذا،كان لمفكري اليهودية الإصلاحية بعض الإسهامات في هذا الحقل (والفكر الديني الإصلاحياليهودي تعبير عن الجانب العقلي العقلاني في فكر حركة الاستنارة). ولم يكن منالممكن أن تنشأ حركة علم اليهودية من داخل المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، حيثإن خريجي هذه المعـاهد الدينية لـم يكونوا مُعَـدِّين الإعـداد الثقـافي اللازملكتـابة دراسـات تاريخيــة أو اجتماعية في التراث الديني. ومن هنا نجد أن كلالمشتغلين في حقـل علـم اليهـودية من خريجـي المـدارس التي أسستها الحكومات الغربيةالتي كانت مقرراتها غير دينية أو مُختلَطة (أي دينية دنيوية).
    وقد قامليوبولد زونز، وصديقه إدوارد جانز (1798 ـ 1839)، وهو قانوني من أتباع هيجل، وموسىموزر (1796 ـ 1838)، وهو تاجر مثقف، وآخرون، بتأسيس رابطة الثقافة اليهودية وعلماليهودية. وكان من أعضاء هذه الجماعة الشاعر هايني. وكانت الجماعة تهدف إلى اكتشافالثقافة اليهودية، ونشرها بين الشباب، وتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة والحرفاليدوية والإنتاجية. وقد حُلَّت الرابطة عام 1824 بعد أن تنصَّر رئيسها جانز وتبعههايني. ولكنها، مع هذا، كانت قد أسست هذا النوع من الدراسة وجمعت تحت مظلتها كثيراًمن الدارسين، مثل: المؤرخ كروكمال والمؤرخ جرايتز وجايجر وفرانكل وصموئيل ولوتساتووستاينشنايدر وغيرهم. كما أصدرت حولية نشرت عشرات الدراسات المهمة. وتفرَّع علماليهودية إلى كثير من المجالات والموضوعات، مثل: نقد العهد القديم ودراسة التلمودوالأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود والتاريخ والآثار والفلسفة الدينية. وكانيُشار إلى علم اليهودية في بعض بلدان أوربا بعبارة «الدراسات اليهودية»، أو بالكلمةاللاتينية «جودايكا».

    وكان التركيز الأساسي على تاريخ الأفكار والأدب، حتىأصبح ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» تاريخ أفكار أساساً، في حين احتل التاريخالاقتصادي والاجتماعي مكاناً ثانوياً تحت تأثير الفلسفة الألمانية المثالية، كما أنالدراسات اليهودية كانت تحتوي على قدر كبير من الاعتذاريات.وأدَّت هذه الدراسات إلىتراكُم قدر كبير من المعلومات والحقائق عن التجارب التاريخية للجماعات اليهودية،وبالتالي ساهمت في الترويج لمفهوم وجود هوية يهودية تاريخية إثنية مستقلة.

    واستمرت الدراسات العلمية لليهودية وأُسِّست كراسٍيّ في الجامعات وأنشئتمعاهد مستقلة لهذا الغرض. ولم يعد يُستخدَم مصطلح «علم اليهودية» في الوقت الحاضر،ويُستخدَم بدلاً منه مصطلح «الدراسات اليهودية».






  3. #23
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    صمـوئيل لوتسـاتو (1800-1865)
    Samuel Luzzatto
    ويُعرَف أيضاً باسم «شادال» المكوَّن منالحروف الأولى لاسمه، فصموئيل هو شموئيل بالعبرية، وهو مفكر إيطالي يهودي وُلد فيتريسته لأسرة سفاردية إيطالية. وهو من نسل موشيه حاييم لوتساتو الشاعر القبَّاليالإيطالي مؤسس الآداب المكتوبة بالعبرية في العصر الحديث. كان أبوه عاملاً عارفاًبالقبَّالاه، حيث تلقَّى تعليماً دينياً، كما درس هو في إحدى المدارس التي أسسهانفتالي فيسيلي بناء على براءة التسامح التي أصدرها جوزيف الثاني. وكانت ثمة مقرراتمُختلَطة، دينية ودنيوية، تدرس في هذه المدارس. تعلم في المدرسة اللغات الحديثةوالجغرافيا والعلوم الطبيعية، وعُيِّن أستاذاً في أول كلية حاخامية حديثة في العالمفي بادوا، وظل في هذا المنصب طيلة حياته. ووفر له منصبه إمكانية التفرغ للبحثالعلمي، فنشر ديوان يهوذا اللاوي عام 1864، كما كتب أول تعليق نقدي على الكتابالمقدَّس وترجم أسفار موسى الخمسة والصلوات العبرية إلى الإيطالية، وكتب العديد منالكتيبات بالإيطالية والعبرية عن النحو والفلسفة والدراسات اللاهوتية، ونُشرترسائله بعد موته في تسعة أجزاء.

    تأثر لوتساتو بكل من الاتجاهات الرومانسيةفي عصره وبقيم العقلانية النقدية. وينعكس هذا في أعماله التي تتأرجح بين قبول كل منالعقل والوحي وبين النقد والنقل، فقد هاجم القبَّالاه وتقاليدها. ويُعدُّ لوتساتوأحد كبار المساهمين في علم اليهودية النقدي، كما تناول كتب العهد القديم تناولاًنقدياً، فأكد أن سفر الجامعة أُلف في تاريخ متأخر عن التاريخ الذي يُفترَض أنه تمتأليفه فيه، بل وعارض رؤيته التشاؤمية العدمية. ولكنه، مع هذا، أصر على أن سفرأشعياء من تأليف مؤلف واحد استخدم أساليب مختلفة، في حين يذهب معظم علماء العهدالقديم إلى أن الجزء الذي يلي الإصحاح الأربعين من تأليف أنبياء آخرين. وبرغم موقفههذا، فإنه لم يتردد في إدخال بعض التعديلات على هذا السفر وعلى أسفار العهد القديمباستثناء أسفار موسى الخمسة التي كان يرى أنها وحدها من وحي إلهي. وبيَّن لوتساتوأن كتاب الزوهار لا يمكن أن يكون قد تم تأليفه في القرن الثاني الميلادي كما كانالزعم. ويتجلى تأرجحه، بين الموقف العقلي والعاطفي والإيماني والعلمي والعقلانيواللاعقلاني، في إصراره على أن العهد القديم لا يخاف النور أو النقد، ومع هذا فقدأصر في الوقت نفسه على ضرورة عدم توجيه النقد إليه.

    ومن بعض الوجوه، فإنلوتساتو يشبه مندلسون. فهو يحاول المزج بين العقل والوحي، كما يُعرِّف اليهوديةبأنها عقيدة لا تتنافى مع العقل، مع أن شعائرها مُرسَلة من الإله. ويرى لوتساتو أنالعقيدة الوحيدة المطلقة في اليهودية هي الإيمان بالإله الواحد، فهي وحدها الملزمةلليهودي، أما ما عداها فيمكن الأخذ والرد بشأنه، كما أن بوسع اليهود أن يختلفوافيما بينهم بشأن كل القضايا الدينية الأخرى دون أن يُعَدُّوا مهرطقين.وضرب مثلاًبالفيلسوف قريشقش وتلميذه يوسف ألبو اللذين اختلفا مع موسى بن ميمون لأنه لم يميِّزفي عقائده الثلاث عشرة بين العقائد الأساسية والعقائد الفرعية.ورفض قريشقش مفهومحرية الإرادة،وآمن جيرونيدس بقدم العالم،ولم يشك أحد في إيمانهما،ذلك أن جوهراليهودية العقائدي عقلاني عالمي،فهي ديانة العدالة وحب الخير،وهي ديانة تهدف من هذاالمنظور إلى حماية المجتمع الإنساني والإنسانية جمعاء.

    ولكن البحث عنالحقائق العامة المطلقة هو مجال الفلسفة. فالإله لا يتواصل مع الإنسان من خلالالحقيقة المجردة المطلقة إذ أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يؤسَّس على مثل هذهالحقيقة. ومن هنا، كان هجوم لوتساتو على ابن ميمون وبن عزرا وإسبينوزا، ومن هناأيضاً تَبرُز أهمية الدين وحتمية الوحي، فالدين لا يهدف إلى نشر الحقيقة المجردةوإنما إلى نشر الفضيلة وهداية الناس إلى طريق الخير. وهو يؤمن بالمعجزات التي وردتفي التوراة، وبأنها حقائق ليست عقلية إذ شاهدها ستمائة ألف يهودي في سيناء. كمايؤمن بمعجزات الأنبياء، فهي أحداث تتجاوز العقل والزمان والمكان والسبب والنتيجةالتي تقع في عالم المحسوسات.

    وتتضح ازدواجية العقل والوحي في تمييزه بينالروح الهيلينية والروح العبرانية، وهو نمط إدراكي كان يشكل أساساً فكرياً للحضارةالغربية في القرن التاسع عشر (ثم للعنصرية الغربية بعد ذلك). فالروح الهيلينية هيروح الجمال والشكل والعقل والاتزان والعلم، وهي الروح التي أدَّت إلى تَراكُمالمعلومات، ولكنها أيضاً أدَّت إلى عقلانية لا معنى لها وعالم متقدم بلا روح. أماالروح العبرانية، كما أسلفنا، فلها جانبها العالمي متمثلاً في دعوتها إلى العدلوالحق والخير. ولكن ثمة جانباً آخر لليهودية. ويذهب لوتساتو، شأنه في هذا شأنمندلسون، إلى أن الجانب العقائدي العام في اليهودية ليس مهماً على الإطلاق، فالمهمهو الجانب الشعائري الخاص. بل إنه يذهب إلى أنها دين يُركِّز على الممارسة والشعائروسلوك الإنسان بالدرجة الأولى، فالتوراة لا تهدف إلى ضمان انتشار الحقيقة الصحيحةالمجردة مثل النزعة الهيلينية وإنما إلى إصلاح أخلاق الإنسان من خلال طاعة الشريعةوتنفيذ الأوامر والنواهي بشكل متعيِّن كما في النزعة العبرانية. ولكن هذا ليس الهدفالوحيد للشعائر، فهي تهدف أيضاً إلى الحفاظ على الهوية اليهودية وعلى تَفرُّداليهود وعلى تقوية وعيهم القومي وعلى عزلهم عن الشعوب الأخرى. ومن هنا تسميةاليهودية «الإبراهيمية» (نسبة إلى إبراهيم) لتأكيد خصوصيتها ولتأكيد الجانب الإثنيفيها.

    ثم يربط لوتساتو بين الخاص والعام في اليهودية إذ يقول: إن اليهودي،بحفاظه على يهوديته وإثنيته وتَفرُّده، إنما يدافع عن القيم العالمية العامة فيدينه، وبالتالي فحفاظه على هويته فيه خدمة للإنسانية وتخليه عنها لا يخدم الإنسانيةقط وإنما يشكل تخلياً عنها لأن اليهودية هي قلب العالم الذي يمكنه أن يأتي بالتوازنله، ومن ثم يتحول اليهود إلى مركز عملية الخلاص الكونية، وهذا أحد المفاهيمالقبَّالية الأساسية. وهكذا يحدث التداخل بين القومية والدين. وقد كان لوتساتو يرىأن العبرية ليست لغة مقدَّسة وحسب وإنما لغة قومية أيضاً،وكذا الكتاب المقدَّس، فهوكتاب مقدَّس وكتاب قومي. وهذه الصيغة تشبه الصيغة الصهيونية الحلولية التي يتداخلفيها المقدَّس مع القومي.ويُلاحَظ أن نقد لوتساتو للعقل ليس نقداً لحدوده وحسبوإنما يشكل انسحاباً مما هو إنساني وعالمي وعام إلى ما هو يهودي ومحلي وخاص.ولذا،كان لوتساتو يرى أن النضال الحديث من أجل الحقوق المدنية لليهود يشكل خطراً قد يؤديإلى الإبادة، لأن اليهـودية ليسـت ديناً وحسـب وإنمـا هي وعي قومي أيضاً.

    موريــتز سـتاينشـنايـدر (1816-1907(
    Moritz Steinschneider
    أحد مؤسـسي علم اليهـودية، وبخـاصة في حـقل البيبليوجرافيا. وُلد في مورافيا،ودرس دراسات دينية ودنيوية، وأتقن عدداً من اللغات الأوربية من بينها الفرنسيةوالإيطالية كما أتقن العبرية. وذهب إلى برلين حيث تعرَّف إلى زونز وجايجر واستقر فيبرلين عام 1845.

    انصب اهتمامه على دراسة علاقة اليهود بالحضارات الأخرى،واهتم بشكل خاص بعلاقة اليهود بالحضارة العربية، ودورهم باعتبارهم مترجمين وناقلينللحضارة العربية والهيلينية في العصور الوسطى في الغرب. وكان موقفه رافضاً تماماًللصهيونية إذ كان يرى أن اليهودية قد ماتت، وأن علم اليهودية هو العلم الذي سيقومبعملية دفنها.

    سولومون سـتاينهايم (1789-1866)
    Solomon Steinheim
    مفكر ديني ألماني يهودي كان يعمل طبيباً. حاول في كتاباته أن يبيِّن الفرق بينالوحي والعقل وأن يبيِّن أن الحقيقة (من ثم) ثنائية. والوحي، في رأيه، يفوق العقلمنزلةً، والشعب اليهودي هو حامل عبء رسالة مُوحى بها من الإله، وهذا هو سرّ بقائه. ويُلاحَظ تأثره بالفلسفة الرومانسية الألمانية وبفكرة الشعب العضوي بعد ربطهابالديباجات الدينية.





  4. #24
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    البابالسادس: الرأسمالية والجماعات اليهودية



    الرأسـمالية والجماعات اليهودية: مقدمة
    Capitalism and the Jewish Communities: (Introduction)
    يمكن القول، بشكل عام، بأن يهود العالمين العربيوالإسلامي لم يلعبوا دوراً اقتصادياً متميِّزاً، ولم يضطلعوا بوظائف اقتصادية خاصةمقصورة عليهم دون بقية أعضاء المجتمع، ومن ثم فإنهم لم يلعبوا دوراً خاصاً أومتميِّزاً في نشأة الرأسمالية أو في المشروعات الرأسمالية الحرة في العالم العربيأو الإسلامي، وخصوصاً أن الرأسمالية لم تنبع من داخل البلاد العربية والإسلاميةوإنما وفدت من أوربا، وبخاصة مع الجيوش الاستعمارية. كما يُلاحَظ أن البلاد العربيةوالإسلامية التي أسست نظاماً اقتصادياً يتبع نموذج الاقتصاد الحر، مثل تركيا ودولالخليج ولبنان، لم يكن فيها جماعات يهودية كبيرة. وحتى حين وُجدت جماعات يهوديةكبيرة نسـبياً في بعـض البلاد، كما هو الحال في المغرب، فإنها لم تساهم بشكل خاص فيالتاريخ الاقتصادي لهذه البلاد. لكن هذا التعميم لا ينفي، بطبيعة الحال، وجود أيشكل من أشـكال التمـايز بين الجمـاعة اليهودية والأغلبية، فهذا ضد طبيعة الأشياء. فالأقليات الدينية والإثنية والعرْقية لعبت دائماً وأبداً دوراً متميِّزاً فيالمجتمعات التقليدية؛ إذ كانت قطاعات منها تتحول إلى جماعات وظيفية، وجماعات وظيفيةوسيطة على وجه التحديد. وكان تقسيم العمل يتم أحياناً في هذه المجتمعات التقليديةحسب الأوضاع الإثنية والدينية. ولا يشكل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربياستثناءً من القاعدة، لكن درجة تميُّزهم الاقتصادي لم تكن حادة، كما أنهم لم يكونواقط الأقلية الوحيدة التي تلعب دوراً اقتصادياً متميِّزاً. ومن ناحية أخرى، كان كثيرمن الحرف والوظائف التي كان يشتغل بها أعضاء الجماعة اليهودية غير مقصورة عليهم بلكان يشتغل بها المسلمون والمسيحيون.

    أما في العالم الغربي، فقد كان الأمرجد مختلف، إذ لعب أعضاء الجماعات اليهودية فيه دوراً محدَّداً بارزاً الأمر الذيحدا بكثير من المفكرين الغربيين، مثل كارل ماركس وماكس فيبر ووارنر سومبارت، إلىدراسة قضية العلاقة الخاصة بين أعضاء الجماعات اليهودية وظهور الرأسمالية في العالمالغربي وتطوُّرها ومدى مساهمتهم فيها. وأصبحت القضية نفسها إشكالية أساسية في الفكرالاشتراكي وأدبيات معاداة اليهود والفكر الصهيوني ذاته. وتُركِّز الأدبيات الخاصةبهذه الإشكالية على عنصرين أساسيين يربطان بين أعضاء الجماعات اليهودية والعقيدةاليهودية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى:

    1
    ـ تجربة الجماعات اليهوديةكجماعات وظيفية داخل التشكيل الحضاري الغربي (دون تسمية المصطلح بطبيعة الحال(.

    2
    ـ النسق الديني اليهودي ذاته.ولا يميِّز ماركس وفيبر وسومبارت بيناليهودية واليهود (خصوصاً ماركس الذي يكاد يفترض ترادفهما(.

    ويؤكد فيبرأهمية العنصر الديني (الفكر الديني اليهودي) على حساب العناصر التاريخية. أماسومبارت، فإنه يؤكد أهمية العنصرين معاً، ولكنه يعطي لأطروحته الخاصة بمسئوليةاليهود (خصوصاً المارانو) عن ظهور الرأسمالية صفة الحتمية بل والعرْقية إذ يرى وجودعلاقة سببية بسيطة بين اليهود والرأسمالية.

    ويميِّز المفكرون الثلاثة بينشكلين من أشكال الرأسمالية:

    1
    ـ رأسمالية المجتمعات التقليدية أو الإقطاعيةوالتي يُسمِّيها ماركس «الرأسمالية الشكلية»، ويسميها فيبر «الرأسمالية المنبوذة»،ويسميها سومبارت «الرأسمالية التجارية». ويستخدم ماركس وإنجلز المصطلح الأخير أيضاً (ونسـميها نحـن في مصطلحنا «الجماعة الوظيفية الوسيطة»).

    2
    ـ رأسماليةالمجتمعات الحديثة والتي يُسمِّيها ماركس «الرأسمالية الصناعية أو الحقيقية»،ويسميها فيبر «الرأسمالية الرشيدة»، ويُطلق عليها سومبارت مصطلح «رأسماليةالاستثمارات».

    ويتسم الشكل الأول بأنه رأسمالية تعمل بنَقْل البضائع منمجتمع إلى آخر، أما نشاطها فيتركز على عمليات التبادل دون أن تقوم بإنتاج أية سلعجديدة ولا تُضيف أي فائض قيمة. أما الشكل الثاني، فإنه يقوم بالاستثمار والمخاطرةوإنتاج السلع الجديدة. ولذا، نجد أن مركز الرأسمالية الأولى هو سوق الأوراقالمالية، أما الثانية فمركزها المصنع. ومن ثم، نجد أن الرأسمالية الأولى هي مجردجيب رأسمالي (تجاري مالي) في المجتمع الإقطاعي يعيش فيه وبه، على نقيض الرأسماليةالحقيقية التي تُولَد في المدينة خارج المجتمع الإقطاعي وتقف على الطرف النقيض منهوتقضي عليه في نهاية الأمر. وقد ربط هؤلاء المفكرون بين أعضاء الجماعة اليهودية منجهة والرأسمالية التجارية من جهة أخرى. ولعل هذا من أهم أسباب عدم تحدُّد وضعاليهود داخل الحضارة الغربية من وجهة نظرهم، فهم ممثلون لقوى رأسمالية ولكنهارأسمالية المجتمع الإقطاعي. ولذا ارتبط وجودهم في الأذهان بعدة قوى متناقضة: الطبقات الحاكمة التقليدية، والقوى الرأسمالية المعادية لها، ثم القوى الثورية التيوقفت ضد الفريقين.

    ويمكننا أن نحيل القارئ إلى المداخل الثلاثة (في هذاالقسم) عن ماركس وإنجلز ثم فيبر وسومبارت، ونؤكد على أهمية ما قاله فيبر بشأنمحاولة تفسير ظاهرة عدم إسهام اليهود في نشأة الرأسمالية الرشيدة رغم أن اليهوديةلعبت دوراً أساسياً في ترشيد الحضارة الغربية.

    وفي محاولتنا رصد دورالجماعات اليهودية في ظهور الرأسمالية سنفرِّق بين العقيدة اليهودية من جهةوالجماعات اليهودية من جهة أخرى. كما سنحاول الابتعاد عن طرح أي تصور خاص بوجودعلاقة سببية واضحة بين اليهود وظهور الرأسمالية في الغرب. وسيكون نموذجنا التفسيريلهذه العلاقة هو مفهوم الجماعة الوظيفية الوسيطة.

    العقيدة اليهوديةوالرأسمالية
    Judaism and Capitalism
    ليس بإمكان الدارس المدقق إنكار أنالنسق الديني اليهودي، في صياغته الأولى التوراتية، ثم في صياغاته التلمودية ثمالقبَّالية، يحوي داخله استعداداً كامناً أو قابلية لظهور الرأسمالية، وهذا جانبوفَّاه فيبر حقه من الدراسة. ولكن من الواضح أن فيبر لم يكن ملماً بالتحولاتالعميقة التي دخلت اليهودية بعد هيمنة الفكر القبَّالي عليها وانتشار التصوف بينأعضاء الجماعات أو لعله لم يدرك أهميتها. والقبَّالاه اللوريانية فكر حلولي (روحي) متطرف يضع اليهودي في مركز الكون باعتباره امتداداً للخالق ويعمق من إحساس اليهوديبأنه من الشعب المختار، كما يُصعِّد حدة التوقعات المشيحانية. فالحلولية تعني حلولالإله في الأشياء حتى يتوحَّد بها ولا يُوجَد مستقلاً عنها فتصبح المخلوقات فيقداسة الخالق مساوية له فتُرَدُّ كل الأشياء إلى مبدأ واحد، كامن في المادة ولايعلو عليها، وكل هذا يساعد على تزايُد معدلات العلمنة. أما النزعة المشيحانيةوالإحساس بالاختيار فهي عناصر تعزل اليهودي عن واقعه المباشر وعن الجماعاتالإنسانية المحيطة به فيصبح عنصراً موضوعياً وشخصاً غريباً، وهذه صفات أساسية تخلقاستعداداً كامناً لدى صاحبها لتبنِّي أخلاقيات الرأسمالية المجردة والسوق الحر الذييرى كل الظواهر باعتبارها خاضعة تماماً لآليات العرض والطلب. وتَجدُر الإشارة إلىأن العلاقة بين التصوف (الحلولي) والتجارة أمر مثير للغاية ويحتاج إلى مزيد منالدراسة، وبخاصة في ضوء علاقة الجماعة الوظيفية بالرؤية الحلولية للكون (المكانوالزمان والإنسان) ومركب الشعب المختار (انظر: «الجماعات الوظيفية والحلوليةالكمونية الواحدية»).







  5. #25
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    دور الجماعات اليهودية في ظهور الرأسمالية
    The Role of the Jewish Communities in the Emergence of Capitalism
    إذاكانت ثمة عناصر داخل النسق الديني تخلق عند أعضاء الجماعات اليهودية استعداداًكامناً لتقبُّل أخلاق الرأسمالية، ومن ثم المساهمة في تطويرها، فإن تجربتهمالتاريخية داخل التشكيل الحضاري الغربي هي التي بلورت وضعهم وحوَّلت الاستعدادالكامن والقابلية إلى حقيقة تاريخية واقعة. وأهم سمات هذه التجربة أن أعضاءالجماعات اليهودية قد نُظر إليهم، منذ البداية (داخل التشكيل الحضاري الغربي)،باعتبارهم الشعب الشاهد، أي أنهم ليسوا جزءاً من جماعة الأغلبية المسيحية، كماأصبحوا أقناناً للبلاط ومن بعد ذلك يهود أرندا ثم يهود بلاط، أي أن اليهود ظلواخارج نطاق العلاقات الاقتصادية والدينية والأخلاقية للمجتمع الإقطاعي. فاليهودي كانغريباً بمعنى الكلمة، ونحن نرى أن انتشار القبَّالاه ساهم ولا شك في تعميق هذهالعزلة والغربة إذ أضفت على دور اليهود، كوسطاء وغرباء، قدراً عالياً من القداسة،بحيث أصبح اليهودي هو الوسيط الكوني بين الإله والعالم، مجرد أداة لتوصيل الإرادةالإلهية لبقية البشر. وترتبط رؤية الخلاص بمدى قيامه بتنفيذ الأوامر والنواهي، أيأن القداسة حوسلت اليهودي تماماً. ولكن هذه الوساطة الكونية كانت صدى (وربماتبريراً وتسويغاً أيضاً) لعملية وساطة أخرى؛ إذ اضطلع أعضاء الجماعات اليهودية فيالغرب، منذ بدايات العصور الوسطى حتى بدايات الثورة التجارية، بدور الجماعةالوظيفية الوسيطة، فكانوا يقومون بنقل الفائض الزراعي والسلع الترفية، ويؤدون وظائفمالية وتجارية مختلفة في غاية الحيوية للمجتمع الإقطاعي، مع أنها لم تكن من صميمالعلاقات الإنتاجية لهذا المجتمع، كما لم يكن بوسع بقية أعضاء المجتمع القيام بها. وكان المجتمع يُظهر التسامح تجاه اليهود مادام في حاجة إليهم، ولكنهم لم يُعطوا قطحقوقاً قانونية محدَّدة (مثل حقوق وواجبات أهل الذمة في الإسلام). وكانت تَصدُرمواثيق خاصة تؤمِّن حقوقهم وتحدِّد واجباتهم ومقدار الضرائب المفروضة عليهم وأماكنإقامتهم وتُزوِّدهم بالحماية وتمنحهم المزايا. وكانت هذه المواثيق تُلغَى في أي وقتتنتفي فيه الحاجة إلى اليهود وإلى دورهم الاقتصادي، وبالتالي كان يتم طردهم، أي أنحوسلة أعضاء الجماعات اليهودية تمت تماماً. وكان يُشار إلىهم باعتبارهم أقنان بلاط،أي أنهم كانوا خاضعين للملك أو الإمبراطور مباشرة بل يُعَدُّون ملكية خاصة له وأداةمن أدواته، يدينون له وحده بالولاء، الأمر الذي حقق لهم قسطاً كبيراً من حريةالحركة، لكن ذلك زاد في الوقت نفسه من عزلتهم عن بقية قطاعات المجتمع.

    ونتجعن ذلك أن وجود أعضاء الجماعات اليهودية في إطارالحضارة الغربية كان يتسم بعدمالتجذر أو الانتماء الكامل لأي تشكيل ثقافي أو طبقي محدَّد، فتحولوا إلى عنصر بشريحركي يحتفظ برأسماله على هيئة نقود سائلة يمكن نقلها بسهولة من مكان إلى آخر. ودعمهذا الاتجاه عدم السماح لليهود، في معظم الأحوال، بشراء العقارات الثابتة.

    لقد تحوَّل اليهود، نظراً لغربتهم وعدم تَجذُّرهم وبسبب الطبيعة السائلةلثروتهم، إلى عنصر بشري متحرك وموضوعي ومجرد: موضوعي لأنه يُنظَر إليه دائماً منالخارج، ومجرد لأنه لا يوجد داخل سياق مُحدَّد. وأصبح أعضاء الجماعة يجسدون ضرباًمن الاقتصاد الحركي المجرد داخل الاقتصاد الزراعي الثابت الطبيعي. ووصل هذا التجريدإلى قمته في التنظيم الكامل لعلاقة اليهود بالمجتمع، وفي إحلال العلاقات القانونيةالتعاقدية محل العلاقات التقليدية الشخصية المبنية على كلمة الشرف والثقة التي كانتسائدة في المجتمع الإقطاعي. فكانت المواثيق التي تُمنَح لليهود تحاول أن تنظم كلجوانب العلاقات الممكنة بين المجتمع المسيحي وأعضاء الجماعة اليهودية، وهي علاقاتكان الهدف منها، بالنسبة إلى الطرفين، الربح الاقتصادي المحض. وفكرة القانوناللاشخصي والعلاقات البشرية (علاقات إنسانية بين أشياء وعلاقات إنتاج بين بشر) هماالجوهر النفعي للاقتصاد والمجتمع الرأسماليين. ويمكننا القول بأن اليهود أصبحوانواة الجيسيلشافت Gesellschaft (المجتمع التعاقدي الذري المفتت) في داخلالجماينشافت Gemeinschaft (الجماعة العضوية التراحمية المترابطة التقليدية).

    وأدَّى عدم انتماء اليهود وتجريدهم - إلى جانب وجود التبادل الاختياري بيناليهودية والرأسمالية - إلى تحوُّل أعضاء الجماعة إلى الخميرة التي ساعدت على نشوءالرأسمالية، دون أن يكونوا بالضرورة السبب الوحيد أو حتى الأساسي في العمليةالتاريخية المركَّبة التي أدَّت إلى ظهور الرأسمالية.

    ويظهر دور أعضاءالجماعات اليهودية، كخميرة للنظام الرأسمالي في الغرب، في كثير من النشاطات التيلعبوها وفي إبداعاتهم. فهم من أوائل منْ طوَّروا فكرة الأسهم والسندات التي تحققتراكماً رأسمالياً يمكن توجيهه إلى أي مجال استثماري قد يظهر،أي أنهم أسرعوا بعمليةتجريد النقود بفصلها عن الأفراد وعن الرغبات البشرية والعواطف والأخلاق،وزادواكفاءتها كرأسمال، وجعلوا مقياس الكفاءة الذي يُطبَّق عليها هو معدل الربحية وحسب.

    وبالطبع، كان اليهودي الذي تم استبعاده من النظام الإقطاعي يقع خارج نطاقالقيم الدينية والأخلاقية للمجتمع (وهو في هذا لا يختلف عن عضو الجماعة الوظيفيةالذي ينظر له المجتمع المضيف باعتباره شيئاً لا قداسة له، ومجرد آلة يستفاد منها ثمتُنبَذ). كما أن قيمه التجارية الموضوعية المجردة كانت مختلفة عن القيم المسيحيةالتي كانت تنظر بعين الشك إلى النشاط التجاري ككل، وإلى الربا على وجه الخصوص،وتهدف إلى أن تجعل من السوق مكاناً يلتزم بالحد الأدنى من الأخلاق وبأفكار مثل فكرةالثمن العادل والأجر الكافي، مع ضرورة إتاحة الفرصة لكل التجار لتحقيق ربح معقول معوضع حدٍّ أقصى للأرباح. وأدَّت هذه الأخلاقيات، المتخلفة من منظور رأسماليدنيوي،والتي تخلط بين الاقتصاد والأخلاق،إلى الحد من حركية التجارة.أما العنصراليهودي، فلم يكن يدين بالولاء لمثل هذه الأخلاقيات. بل ظهر بين أعضاء الجماعاتاليهودية مقياسان أخلاقيان: أحدهما يُطبَّق على الجماعة اليهودية (باعتبارها جماعةمقدَّسة لها حرمتها) والآخر يُطبَّق على المجتمع ككل (باعتباره لا حُرمة له ولاقداسة). ولذا، لعب العنصر اليهودي دوراً أساسياً في تحطيم الأخلاقيات المسيحيةالاقتصادية الإقطاعية وفي تقويض هذا الضرب من الاقتصاد المحافظ الذي تتداخل فيهالعناصر الاقتصادية مع العناصر الأخلاقية والدينية. فساهم أعضاء الجماعة في عمليةالعلمنة والترشيد، أي فصل العنصر الاقتصادي عن العناصر الأخرى، بحيث يصبح النشاطالاقتصادي مرجعية ذاته ولا يتم ضبطه من خلال مرجعيات (أخلاقية أو دينية أو إنسانية) متجاوزة له. وأدَّى هذا إلى ظهور اقتصاد تجاري مبني على التنافس وعلى محاولة تعظيمالربح (اقتصاد يطرح فكرة الإنتاج بلا حدود وإشباع حاجات المستهلك التي لا تنتهي).

    كما أن أعضاء الجماعة، بسبب عدم انتمائهم، كانوا من أكثر العناصر حركيةوالتزاماً بالقوانين الاقتصادية للسوق كقيمة مطلقة. فنجد أنهم حاولوا دائماً أنيوسِّعوا نطاق السوق وانتشاره، وهي العملية التي انتهت إلى تحويل المجتمع بأسره إلىالنمط الرأسمالي والتي أطلق عليها ماركس تعبير «تهويد المجتمع». وكانوا يبحثون عنأسواق جديدة وعن زبائن جدد وعن سلع جديدة. كما أنهم كانوا على استعداد لأن ينتجواسلعاً أقل جودة وأقل تكلفة عما كان ينتجه (في العصر الوسيط) الحرفي أو التاجر الذييعتز بحرفته وتجارته، والذي تعوَّد على إنتاج سلعة بعينها يرقى بها إلى مستوىمعيَّن من الجودة ولا يمكنه أن يتنازل عنه أو يتهاون فيه، فالواقع أن حرفته كانتجزءاً من ميراثه الشخصي. وكان اليهودي، في محاولة توسيع نطاق السوق، من أوائلالعناصر التي شجعت على استخدام الإعلانات على حين كان كثير من المفكرين الغربيين،حتى منتصف القرن الثامن عشر، يهاجمون الإعلانات باعتبارها عملاً غير أخلاقي، بل صدرفي باريس عام 1761 قانون يمنع الإعلانات أو الجري وراء الزبائن لحثهم على الشراء. ويمكننا أن نرى هنا، مرة أخرى، أن الأخلاق المسيحية والتقليدية تحد من حركية السوق،على عكس الأخلاقيات الحركية (العلمانية) للجماعة الوظيفية التي لا تأبه بالحرماتولا تعبأ بالمطلقات ولا تهتم بأية قيم، سوى قيم الربح والخسارةوالبقاء.

    وربما كان من العناصر الأساسية التي جعلت من أعضاء الجماعةاليهودية خميرة للنظام الرأسمالي أنهم، نظراً لانتشارهم (شتاتهم) على هيئةجماعاتمنفصـلة مترابـطة، كانوا عنصراً بشــرياً متعدد الجنسيات، عابراً للقارات، إن صحالتعبير. فقد كان ليهود بولندا علاقات تجارية ومالية وثيقة مع يهود ألمانيا ومعيهود العالم الإسلامي، وهلم جراً. وساهم هذا في تسهيل عملية التجارة الدولية وتوسيعنطاق السوق، كما سهل عملية جمع المعلومات التجارية، الأمر الذي جعلهم قادرين علىالمنافسة.

    وقد لعب يهود شرق أوربا دوراً خاصاً، فالباعة اليهود، وكذلكاليهود الذين كانوا يقومون بأعمال الفنادق الصغيرة وتقطير الخمور وبيعها وإنتاجالماشية في المناطق الريفية وجمع الضرائب لحساب كبار الملاك، ساعدوا على إدخالعناصر التبادل واقتصاد المال. وكان نشاط صغار التجار اليهود في المناطق الريفيةيشجع إنتاج فائض زراعي لزيادة استهلاك البضائع غير الزراعية، كما كان يساهم فيإبعاد جزء من قوة العمل الزراعي عن الأراضي، وتوجيهها إلى صناعة الأكواخ المنزليةوخدمات النقل. وهذا النشاط هو الذي ساعد على خلق قوة عمل غير زراعي في المناطقالريفية تعتمد على الأجور أكثر من اعتمادها على العائد من الأرض.

    وبظهورالنظرية المركنتالية، زاد الدور الذي يلعبه أعضاء الجماعات اليهودية داخل النظامالرأسمالي. فهذه النظرية تجعل مصلحة الدولة المبدأ الأعلى المقبول لدى الجميع،والإطار المرجعي بحيث يتم الحكم على الإنسان لا بحسب انتمائه الديني وإنما بمدىنفعه للدولة. وقد ظهرت في هذه الفترة فكرة مدى نفع اليهود وفُتح المجال أمامهمللإسهام في جميع النشاطات الاقتصادية. وابتداءً من منتصف القرن السابع عشر، استعانالملوك والأمراء في وسط أوربا (في ألمانيا وغيرها من الدول) باليهود في كثير منالنشاطات الاقتصادية، مثل:التجارة الدولية،وتمويل الجيوش،وعقد القروض والصفقات. وهـؤلاء هـم الذين يُطلَق علـيهم مصطلـح «يهود البلاط».

    لكل ما تقدَّم، نجدأن تاريخ الجماعات اليهودية في الغرب مرتبط بتاريخ الرأسمالية في كثير من الوجوه. ومن الملاحظ أن كثيراً من الدول التي كانت لها مشاريع تجارية أو استعمارية، كانتترى أن العنصر اليهودي عنصر أساسي في هذه العملية ويمكن الاستفادة من خبراتهورأسماله كما يمكن توظيفه في أماكن نائية وجديدة، فهو عنصر حركي وحسب. وقد تم توطيناليهود في بولندا في القرن الثالث عشر مع التجار الألمان، لتشجيع الاقتصاد التجاري. ثم تم توطينهم في أوكرانيا بعد ضمها إلى بولندا للسبب نفسه. كما تم توطين اليهود فيكثير من المستعمرات الاستيطانية والمراكز التجارية التابعة لإنجلترا وهولندا فيالعالم الجديد.

    وقد رحب كرومويل بتوطين اليهود في إنجلترا لكي ينعشواالاقتصـاد الإنجليزي ولكي يكونوا جواسـيس يأتون له بالمعلومات التجارية. وسمحتفرنسا ليهود المارانو المطرودين من إسبانيا بالاستيطان في بعض المراكز التجاريةالمهمة فيها، مثل بايون وبوردو. وكان توطين أعـضاء الجمـاعات اليهـودية يأخذ، فيالعادة، النمط التالي: يبدأ توطين اليهود السفارد، بمالهم من خبرات تجارية ماليةورؤوس أموال واتصالات دولية، في الدول الغربية والدولة العثمانية ثم يتبعهم في معظمالأحوال جماعات من اليهود الإشكناز الذين بدأوا في الهجرة بعد ثورة شميلنكي.

    ولكن، ورغم أهمية الدور الذي لعبه أعضاء الجماعات اليهودية كخميرة ساعدت فينشوء الرأسمالية الحديثة الرشيدة، فإنهم كجماعة وظيفية وسيطة ظلوا مرتبطين بالطبقةالحاكمة في المجتمعات الإقطاعية تابعين لها يخدمونها ويخدمون مصالحها. فالتجارةوالربا اليهوديان، أي ما يسميه فيبر «رأسمالية المنبوذين»، لم يشكلا نقيضاً للمجتمعالإقطاعي وإنما خلية داخله. ولذا، كانت هذه التجارة اليهودية تقع ضحية عملية ظهورالرأسمالية الرشيدة المحلية رغم أنها ساهمت هي نفسها في الإعداد لها وتخميرها وإنكانت ساهمت أيضاً في قمعها وتأخير ولادتها كما حدث في بولندا. وربما يكون من المفيدفي هذا المضمار أن نفرق بين الدور الذي لعبه أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا فيقمع الرأسمالية المحلية وبين الدور الذي لعبه أعضاء الجماعة اليهودية في هولنداوإنجلترا وفرنسا في تطويرها. ولكن أعضاء الجماعات اليهودية، سواء أكانوا أداة قمعفي بولندا أم كانوا أداة للتطوير في هولندا، ظلوا دائماً أداةً وحسب لخدمة هدف ما. وهم، في هذا، يشبهون الجماعات الوظيفية الوسيطة في كل مكان. ولقد كانت جيوباليونانيين والإيطاليين في مصر تمثل عنصراً تجارياً نشيطاً حيث بنوا المصانع، مثلمضارب الأرز ومطاحن الدقيق، ولكنهم لم يغامروا قط في الصناعة الثقيلة أو تلك التيتتطلب استثمارات ضخمة بعيدة المدى. فقد ساهموا في حركة التصنيع التي ساعدت على نشوءطبقة رأسمالية محلية، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يحاولون وقف نموها من خلالالهيمنة الاستعمارية. ثم تزايدت قوة الطبقة الجديدة بالتدريج، فطردت الجماعاتالوظيفية الوسيطة الغربية لتتولى هي كل النشاطات التجارية والاستثمارية ثمالصناعية.







  6. #26
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    أثر الرأسمالية الرشيدة فى الجماعات اليهودية
    The Impact of Rational Capitalism on the Jewish Communities
    بعد تناول الدور الذيلعبه أعضاء الجماعات اليهودية في تكوين الرأسمالية والاقتصاد التجاري، يمكننا الآنأن نترك المرحلة التكوينية لنرى أثر ظهور الرأسمالية (الرشيدة) عليهم ومقدارإسهامهم في الاقتصاد الرأسمالي ذاته. وسنلاحظ أن دور يهود غرب أوربا يختلف عن الدورالذي لعبه يهود وسط أوربا وشرقها. ويعود هذا إلى معدلات النمو الرأسمالي في هذهالبلاد وإلى علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بالمجتمع ككل ووضعهم فيه. ففي فرنساوإنجلترا وهولندا لعب اليهود دوراً ثانوياً، أو لنقل دور الجزء في الكل الاقتصاديالأكبر الذي كان قد اكتسب كثيراً من ملامحه الرأسمالية الحديثة في غيبة أعضاءالجماعات اليهودية، وكان لهذه الدول مشاريعها الاستعمارية الضخمة، ولذا لم يلعبأعضاء الجماعات اليهودية في هذه البلاد سوى دور جزئي منشط.

    أما في شرقأوربا، فلم تكن المجتمعات الأوربية هناك متطورة بما فيه الكفاية ولم يُقدَّرللرأسمالية الرشيدة التي نشأت في مرحلة متأخرة أن تتطور، كما لم يكن لديها مشروعاستعماري مهم. وانتهى الأمر بأن حل النمط الاشتراكي في الإنتاج محل النمطالرأسمالي. ولهذا، انخرط أعضاء الجماعات اليهودية هناك إما في الطبقة العاملة وإمافي الطبقة البورجوازية الصغيرة. وكان من بينهم كذلك رأسماليون ولكنهم كانوا نسبةصغيرة.

    وفي وسط أوربا، وبخاصة في ألمانيا، ظهر النظام الرأسمالي الذي أخذيتطور بسرعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتبلور لألمانيا مشروعهاالاستعماري الخاص، وكان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون عنصراً مهماً في عمليةالتطور الرأسمالي هذه. ولكن الرأسمالية الألمانية تم ضربها وتم كذلك ضرب مشروعهاالاستعماري ثم تحوَّلت ألمانيا نفسها إلى ما يشبه المستعمرة بعد اتفاقية فرسـاي (1919). وحينـما عاودت ألمانيا محاولة التصنيع مرة أخرى، لم يتم ذلك حسب النمطالرأسمالي الحر وإنما تم بتدخل الدولة، وقد راح رأس المال الذي يملكه بعض أعضاءالجماعات اليهودية ضحية هذه العملية.

    ويتضح تباين معدلات إسهام أعضاءالجماعة في نمو الرأسمالية من بلد إلى آخر من خلال علاقتهم بالمدن ومدى تركُّزهمفيها. فظهور المدن وازدياد أهميتها كان يعني أن الوظائف المالية والتجارية الهامشيةالقديمة أصبحت تحتل المركز. وقد صاحب ذلك تحوُّل في وَضْع أعضاء الجماعات اليهودية،فبدلاً من كونهم عنصراً بشرياً متحركاً يحمل رأس مال متحركاً ويتحرك على أطرافالمجتمع، تحوَّلوا إلى عنصر بشري يقطن المدينة في داخل المجتمع وليس على هامشه، أيأنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني. وأتاح ظهور الرأسمالية فرصة أمامرأس المال الذي يمتلكه يهود (ومن ثم فإنه قد اتسم بدرجة عالية من الحركية) لدخولالاقتصاد الجديد بنسبة أعلى من رأس المال المحلي (غير اليهودي) الثابت المُستثمَرفي العقارات والمزارع، وهو الأمر الذي تم إنجازه في إنجلترا وفرنسا ثم ألمانيا. أمافي شرق أوربا، فرغم أن تركُّز أعضاء الجماعة اليهودية في المدن قد ازداد، فإنالسياق الطبقي لهذه العملية كان مختلفاً، فقد ساهم وجودهم في المدن في تحويل أعدادمنهم إلى طبقة عاملة.

    أما فيما يتصل بعلاقة الصهيونية بالرأسمالية، فيمكنالقول بأنها ليست مباشرة. فالصهيونية ليست جزءاً من التشكيل القومي الغربي، وإنماهي جزء من التشكيل الإمبريالي الغربي يخدم مصالحه الإستراتيجية تحت ظروف خاصة هيظروف الاستيطان في فلسطين. ولذا، لم تصر الإمبريالية الغربية، أو البورجوازيون منأعضاء الجماعة اليهودية في الغرب، على أن يأخذ المشروع الصهيوني شكلاً رأسمالياًمحدَّداً، بل سمحت له وللدولة الصهيونية الوظيفية من بعده باتخاذ الشكل الاقتصاديالمناسب الذي يضمن بقاءه حتى يستمر في خدمتها. وقد توصَّل الصهاينة إلى أن الأشكالالجماعية في الإنتاج التي تستخدم ديباجات اشتراكية هي أنسب الطرق لتنفيذ المشروعالصهيوني الاستيطاني الإحلالي. ولذا، فعلى حين كانت الولايات المتحدة (المكارثية) تحارب الشيوعية في الولايات المتحدة، كان الصهاينة في الخمسينيات يرفعون لواءالاشتراكية، ويحتفلون بعيد العمال في مايو، وينتسبون إلى الدولية الاشتراكيةويتلقون المعونات بسخاء من الحكومات ومن أعضاء الجماعات اليهودية في العالمالرأسمالي، ويقومون على خدمة الإمبريالية.

    ديفيـد ريكــاردو (1772-1823)
    David Ricardo
    اقتصادي بريطاني، وُلد في لندن لعائلة يهوديةسفاردية من أصل إيطالي كانت قد استقرت في هولندا (مسقط رأس إسبينوزا) ثم هاجرت إلىإنجلترا عام 1760 قادمة من أمستردام. أرسلته أسرته إلى هولندا للدراسة، فعاد إلىلندن عام 1786 حيث اشتغل مع والده الذي كان سمساراً ناجحاً في البورصة. ولكنه، فيعام 1793، انفصل عن عائلته حيث تزوج من سيدة من طائفة الكويكرز، كما ترك العقيدةاليهودية وانضم إلى الكنيسة. ثم عمل ريكاردو في البورصة بمفرده وحقق ثروة فاقت ثروةأبيه. وفي عام 1814، اعتزل البورصة وعالم المال واتجه إلى دراسة الاقتصاد ليصبح أحدأهم مؤسسي علم الاقتصاد السياسي الحديث. ويعود اهتمامه بهذا المجال إلى عام 1799حينما قرأ ثروة الأمم لآدم سميث، حيث بدأ بعد هذا التاريخ في الكتابة حـول بعضالقضـايا المالية والاقتصـادية المهمة في إنجلترا آنذاك. كما نشأت علاقة فكرية بينهوبين الاقتصاديين جيمس ميل وتوماس مالثوس، الأمر الذي زاد من اهتمامه بدراسةالاقتصاد. وتوثقت علاقته بفيلسوف النفعية (المادية) جيريمي بنتام (أي أنه كان علىعلاقة وطيدة بأهم المفكرين العلمانيين في إنجلترا آنذاك). وأهم أعمال ريكاردو علىالإطلاق هو مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب (1817) ويضم أهم تحليلاته ونظرياتهالخاصة بالسياسات المالية والضريبية والتجارة الدولية والتي أصبحت أساساً لكثير منالمفاهيم الاقتصادية الحديثة. تناول في تحليلاته: قيمة العمل، وعلاقة الأرباحبالأجور، وعلاقة مستوى الأجور بالنمو السكاني، وندرة الموارد الطبيعية، والقوانينالتي تحكم عملية توزيع الثروة. وقدم ريكاردو تحليلاً للآثار الاقتصادية للسياساتالضريبية على التراكم الرأسمالي ولتوزيع الدخل القومي ومستوى الأسعار، كما اكتملتنظريته في التجارة الدولية. ومن أهم إسهاماته، استنتاجه أن ما يحدد قيمة السلعة هوقيمة الجهد المبذول فيها، ومن ثم فقد استبعد الريع وإيجار الأرض كمصدر للقيمة، أيأن ساعة قيمتها 100 جنيه تتطلب عشرة أضعاف العمل المطلوب لإنتاج حذاء قيمته 10جنيهات. كما طوَّر ريكاردو مفهوم الأجور وحد الكفاف، وهو يرى أن الأجور خاضعة لماسماه «القانون الصارم للأجور» والذي يؤدي إلى استقرار الأجور عند حد الكفاف. فإنزادت الأجور على حد الكفاف، فإن الطبقة العاملة ستتزايد عدداً وسيزداد التنافس بينأعضائها فتزداد أثمان السلع وتقل الأجور ويستقر كل شيء عند حد الكفاف مرة أخرى. أمافيما يتصل بالتجارة الدولية، فكان يطالب بحرية التجارة وحرية انتقال السلع، وكانيرى أن آليات السوق في حد ذاتها كفيلة بتحقيق التوازن. وظلت نظريات ريكاردو تسيطرعلى السياسات الاقتصادية البريطانية مدة خمسين عاماً. وقد دخل ريكاردو البرلمان عام 1819 ليس عن طريق الانتخاب ولكن عن طريق شراء مقعد له (كما جرت العادة آنذاك). ورغمانفصاله عن اليهودية، دافع ريكاردو داخل البرلمان عن إسقاط الأهلية القانونية عنأعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا. وكان موقفه هذا نابعاً من رؤيته الليبرالية،فهو لم يكن يرى أن ثمة دوراً خاصاً لليهود أو للرأسمالية اليهودية، كما أن كتاباتهعن النظرية الاقتصادية لا تتعرض لوضع اليهود أو دورهم داخل التشكيل الرأسماليالغربي (وهو الأمر الذي ناقشه ماركس وفيبر وسومبارت والفكر الاشتراكي الغربي ككل).

    ويُعتبَر ريكاردو من أهم الفلاسفة الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين قدَّموارؤية اقتصادية (مادية) محضة، فهو لم يشغل باله بالاعتبارات الأخلاقية أو النفسيةفقدَّم رؤية أحادية علمية (بالمعنى الضيق) من خلال أسلوب مجرد شبه رياضي لا يستخدمأية استشهادات تاريخية بقدر ما يلجأ لاستشهادات مجردة افتراضية. وجعل ريكاردوالعامل الاقتصادي هو العامل الأساسي أو المبدأ الواحد الذي يُرَدُّ إليه سلوكالإنسان (القوة الدافعة له التي تتخلل ثناياه وتضبط وجوده). كما أنه، شأنه شأنالفلاسفة النفعيين، جعل حب الذات الدافع الأساسي في سلوك الإنسان، ومن ثم فإنالمنافسة هي الآلية الكبرى. وعلى هذا، ساهم ريكاردو مساهمة فعالة في وضع أسس علمالاقتصاد الحديث وفي فصله عن المنظومات الدينية والأخلاقية وعن العلوم الأخرى،وجعله مجموعة من المبادئ تتعامل مع المصادر المادية. كما طوَّر النماذج الرياضيةالمجردة، وهو ما يعني استبعاد العناصر الإنسانية والأخلاقية. ويظهر في كتاباتهالإنسان الاقتصادي الذي لا يبحث إلا عن مصلحته، واليد الخفية التي طرحها سميث تفقدأي مضمون ديني أو إنساني لتصبح جزءاً من الآلية الاجتماعية الصماء (قوة لا متعينةلا تعرف التمايز الفردي).

    ويمكن أن نضع ريكاردو في إطار أولئك المفكريناليهود السفارديين (الممتدين من إسبينوزا إلى دريدا) الذين قاموا بتفكيك ظاهرةالإنسان تماماً ورأوه في ضوء مجموعة من الحتميات المادية الصارمة وردوه إلى بعضالأصول المادية دون أية مثاليات أو غيبيات. وعالم ريكاردو المادي الآلي لا يختلفكثيراً عن عالم إسبينوزا في ماديته وآليته الصارمة، فهو عالم تسوده المادية الصلبةالتي لا تحتمل أية فراغات أو ثغرات أو مسافات، ومن هنا جاءت سيادة النماذج الرياضيةوالهندسية في كتابات كل منهما.

    ويثير ريكاردو قضية أساسية فيما يتعلقبالمعادين لليهودية، فالكثيرون منهم يفسرون سلوك ماركس وفكره على أساس يهوديته. وحينما يُشار إلى حقيقة أن أباه قد تنصَّر وأنه عمَّد الطفل ماركس في طفولته، فإنهعادةً ما يُقال: ولكنه مع هذا ظل يهودياً. وهم يفعلون ذلك ليبينوا أن اليهودمسئولون عن الشيوعية وأن الشيوعية ثورة يهودية. والمشكلة التي تظهر هنا هو أنريكاردو فيلسوف الرأسمالية الحرة في أقصى أشكالها تجريداً وتطرفاً هو الآخر يهوديمتنصِّر. ولعل الفارق الوحيد هو أن أصول ماركس إشكنازية بينما أصول ريكاردوسفاردية! وإذا قبلنا منطق تصنيف الشيوعية كحركة ذات أصول يهودية لأن مؤسسها من أصوليهودية، فلابد أن نقبل أيضاً مقولة أن الرأسمالية هي الأخرى حركة ذات أصول يهودية،ذلك أن واحداً من أهم فلاسفتها ذوو أصول يهودية. وغني عن القول أن هذا منطق متهافتيشبه منطق الصهاينة الذين ينسبون لليهود صفات عجائبية!

    رؤية كارلماركس (1818-1883) وفريدريك إنجلز (1820-1895) للعلاقة بين الرأسمالية والجماعاتاليهودية
    Karl Marx and Friedrich Engels on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities
    تظهر موضوعات الفكر الاشتراكي بشأن اليهودفي كتابات كارل ماركس (1818 - 1883) وفريدريك إنجلز (1820 - 1895) بدرجات متفاوتةمن الحدة وبأشكال مختلفة. فالأطروحات الغربية العرْقية، على سبيل المثال، لهاأصداؤها في كتابات هذين المفكرين، ولكنها مجرد أصداء. وهذا على عكس الأطروحةالاجتماعية التي تربط بين اليهود والتجارة أو الرأسمالية البدائية التجارية، فهيأكثر عمقاً وتَجذُّراً ومركزية. ويُلاحَظ أن أياً منهما لا يطرح حلاًّ صهيونياًللمسألة اليهودية. كما يجب أن نذكر أيضاً أن أياً منهما لم يُعر المسألة اليهوديةأو أعضاء الجماعات اليهودية اهتماماً خاصاً. فرغم الخلفية اليهودية لماركس، فإنالموضوع اليهودي لم يشغل باله كثيراً. وقد أشار المؤرخ الألماني اليهودي هاينريشجرايتز في خطاب منه إلى ماركس إلى أن كتابه تاريخ اليهود يقع خارج نطاق اهتماماته. ولم يكن جرايتز نفسه ـ على ما يبدو ـ يعرف شيئاً عن كتاب ماركس المسألة اليهودية،رغم أنه تعرَّف إلى المؤلف عام 1877. لكن عدم اهتمام ماركس وإنجلز بالمسألةاليهودية أمر مفهوم في إطار اهتماماتهما التي انصبت بالدرجة الأولى على الظاهرةالرأسمالية بقطبيها الأساسيين: أصحاب العمل والعمال. ومما زاد من عدم اهتمامهماأنهما - على ما يبدو - كانا لا يعرفان الكثير عن يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) الذين كانوا يشكلون آنذاك أكبر جماعة يهودية في العالم كانت تضم نحو 80% من يهودالعالم. ومن ثم، فإنهما لم يكونا يعرفان الكثير عن اليهود من أعضاء الطبقة العاملة. ومع هذا، لابد أن نشير هنا إلى أن عملية تحوُّل كثير من اليهود في شرق أوربا إلىعمال لم تتضح معالمها إلا مع العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. كما أن ماركسوإنجلز قضيا معظم حياتهما في إنجلترا بعيداً عن يهود شرق أوربا. وقد مات ماركس قبلأن تبدأ روسيا وبولندا في تصدير الفائض البشري اليهودي إلى إنجلترا وإلى غيرها منالدول. أما إنجلز الذي عاش حتى نهاية القرن التاسع عشر، فشاهد وصول المهاجريناليهود إلى إنجلترا وتحوُّلهم إلى طبقة عاملة. وكان لهذا أعمق الأثر فيه وفيإليانور ابنة كارل ماركس التي اكتشفت ما زعمت أنه هويتها اليهودية مرة أخرى منخلالهم، وإن كان الاكتشاف تم لأسباب اجتماعية ثورية لاعلاقة لها بأي انتماء يهوديديني أو حتى إثني.

    لكل ما تقدَّم، لا يتناول المفكران الاشتراكيان المسألةاليهودية إلا بشكل عرضي وغير منهجي. كما ظهرت بعض كتاباتهما في الموضوع إبَّانالمرحلة الأولى من حياتهما قبل أن يتبلور فكرهما، وقبل أن تتضح كثير من معالمه.

    والعمل الأساسي الذي خطه ماركس في هذا الموضوع هو المسألة اليهودية (1844)،الذي كتبه وهو بعد في مقتبل حياته، حينما كان فكره لا يزال هيجلياً بشكل فاقع، كماكان أسلوبه يتسم بالتناقضـات والتقابلات اللفظية الطريفة والسـحرية والسـطحية،مثــل: « المسيحية هي الفكر السامي لليهودية»، و« اليهودية هي التطبيق العاديللمسيحية »، و« التحرر الاجتماعي لليهودي إنما هو تحرير المجتمع من اليهودية »، و« لم يجر تحرير الإنسان من الملكية بل نال الإنسان حرية الملكية ». ومن الصعب الوصولإلى وضوح في الأفكار من خلال هذا الأسلوب إذ أن حركيته ومنطقه يفرضان على كاتبهمواقف متطرفة يتطلبها التقابل الهندسي اللفظي. وإلى جانب كل هذا، فمن المعروف أنماركس كانت له تحيزاته الشخصية الحادة والواضحة مثل أية شخصية عظيمة أو أي مفكرضخم، فكان لا يتورع عن الإفصاح عنها بأسلوب قاطع له أنياب وأظفار الأمر الذي يؤديإلى التضحية بكلٍّمن الإبهام والتركيب.

    وسنحاول أن نعرض في هذا المدخلأفكار ماركس وإنجلز في المسألة اليهودية بادئين بماركس. وبطبيعة الحال، يشكل كتيبالمسألة اليهودية النص الماركسي الأساسي، ولكننا لن نهمل الإشارات المتفرقة فيالكتابات الأخرى لماركس مثل الخطابات والمقالات. ولا يوجد في العمل الكلاسيكيالأساسي لماركس رأس المال (الجزء الأول، عام 1867) سوى إشارات نادرة متفرقة هناوهناك تلقي مزيداً من الضوء على موقفه ولكنها لا تعِّدله بشكل جوهري.

    ولفهمموقف ماركس من اليهود واليهودية، يجب أن نضعه أولاً في سياقه الشخصي والحضاري. جاءماركس من أسرة يهودية متدينة، فعمـه من حاخامات مدينة تريير التي وُلد هـو فيهـا. وجاءت أمه من هولندا، من أسرة تشتهر بوجود عدد كبير من الحاخامات فيها. ولكناليهودية كانت قد دخلت في ذلك الوقت مرحلة أزمتها الحادة نتيجةً لمواجهتها معالحضارة العلمانية، وتَصاعُد الهجوم عليها من داخلها. فهناك اليهودية الإصلاحية،وعلم اليهودية، وهناك حركات التنوير المختلفة التي كانت تبيِّن أن الموروث الدينياليهودي يشكل عبئاً ثقيلاً لا طائل من ورائه. لكن الهجمات من الخارج كانت أكثر حدة،فقد شهدت الفترة نفسها الهجوم العقلاني والعلماني الشرس على ظاهرة الدين ككلباعتبارها تعبيراً عن حرمان الإنسان. وشهدت هذه الفترة حركة نقد قوية للعهد القديم،كما شهدت نشر كتاب لودفيج فيورباخ جوهر المسيحية (1841) الذي حاول فيه تبيان أنالإنسان هو الذي خلق الإله وليس العكس، أي أن الإله إن هو إلا إسقاط للطموحاتالسامية عند الإنسان، وهي فكرة استفاد بها ماركس. وقد أخذ الهجوم على الدين ككل شكلالهجوم على العنصر السامي (الأخلاقي) وتمجيد العنصر الهيليني (الجمالي). لكل هذا،ليس من الصعب فهم سبب تنصُّر والد ماركس، خصوصاً أن التنصُّر كان يعني دخول الحضارةالغربية، كما كان يعني أن بوسعه ممارسة مهنة المحاماة في المحاكم البروسية التي لميكن مسموحاً لغير المسيحيين بالعمل فيها. وقد عُمِّد كل أولاده ومن بينهم كارل الذيعُمِّد وهو في سن السادسة. ولكن يبدو أن ماركس كان مثل كثير من اليهود المتنصرين فيعصره، ممن تركوا اليهودية فعلاً وتبنوا المسيحية اسماً وحسب، أو لم يتبنوا أي دينعلى الإطلاق على طريقة إسبينوزا، وأصبحوا علمانيين بمعنى الكلمة غير مكترثينبالدين. وربما كان هذا العنصر في خلفية ماركس مسئولاً عن فشله الكامل في إدراكأهمية العنصر الديني في تشكيل القوى السياسية والتاريخية. وعلى كلٍّ، فهذه نقطةقصور في عصر الاستنارة ككل حيث جرى تجاهُل أهمية الدين بسبب الالتزام بفكرة الإنسانالطبيعي أو الإنسان العقلاني المادي. ومن هنا نجد بعض العبارات السطحية، مثل « فيكلمة واحدة، أكره كل الآلهة »، وهي عبارة من مسرحية بروميثيوس للكاتب الإغريقيأيسـخيلوس جعلها ماركـس شـعاراً لرسالته في الدكتوراه. ومن هنا نجد بعض الشعاراتالسطحية التي أطلقها ماركس مثل: « الدين أفيون الشعب » والتي لا تعبِّر بالضرورة عنكلية وتركيبية موقفه من الدين. ومن هنا نجد رؤيته السطحية للدين باعتباره جزءاً منبناء فوقي غير حقيقي خاضع بشكل مطلق للظروف الاجتماعية والاقتصادية يعبِّر في نهايةالأمر عن بناء تحتي حقيقي (اقتصادي مادي).

    أما الدراسات الأنثروبولوجيةوالاجتماعية التي ترى أن الدين مقولة تحليلية وعنصر مهم في الحضارة الإنسانية، فلمتظهر إلا في مرحلة لاحقة، واتضح أثرها في تفكير ورنر سومبارت وماكس فيبر اللذينطرحا إشكالية أصول الرأسمالية وعلاقتها بالدين اليهودي أو بالبروتسـتانتية (علىعكـس الكاثوليكية) بشـكل أكثر تركيباً وعمـقاً وأصالة، وبشكل يحاول تحاشي السببيةالبسيطة الصلبة.


    وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن ماركس شارك فيالعنصرية العامة التي كانت تسم الحضارة الغربية في ذلك الوقت، وإلى أن الصورةالإدراكية لليهود في ذهنه لم تكن تختلف كثيراً عن الصورة الإدراكية التي صاغتهاالعنصرية الغربية، واستمر إدراكه لليهود من خلال هذه الصورة طوال حياته. وقد وردتهذه العبارات في كتابات ماركس (الرسائل والكتب):

    ـ « اليهودي ذو الابتسامةالباهتة».

    ـ « يهودي فيينا الملعون».

    ـ « المؤلف.. هذا الخنزير.. يهودي اسمه ماير».

    وتصبح الأمور أكثر سوءاً إذا كان اليهودي من العاملينبالشئون المالية:

    ـ « اليهودي بامبرجر جزء من معبد/ بورصة باريس».

    ـ « يهودي البورصة».

    وأحياناً تتسع العنصرية لتصبح عنصرية ضد كلالأجناس الأخرى:

    ـ « يدل شكل رأس لاسال وشعره على أنه سليل الزنوج الذينانضموا لقطيع موسى إبَّان الخروج من مصر».

    ـ « هو أيضاً الييد » (و«الييد»لفظة تحقير ليهود بولندا).

    ـ « وهو لاعازا الأبرص ـ النموذج البدائيلليهودي».

    وقد استمرت عنصرية ماركس حتى آخر أيام حياته، إذ نجده يستخدمالعبارات التالية:

    ـ « الممارسة البورجوازية لليهودي القذر».

    ـ « هذه المدينة مليئة بالذباب واليهود».

    ووردت هذه العبارة في رأس المال:

    ـ « يعرف الرأسمالي أن كل السلع هي مجرد نقود تشبه اليهود المختنين منالداخل».

    ولكن يُلاحَظ أن الإشارات تناقصت على مر الأيام حتى أصبحت نادرة،كما أن مثل هذه الأقوال لا يمكن أن يُحاسَب ماركس عليها، رغم عنصريتها الكريهة،لأننا نتعامل في نهاية الأمر معه باعتباره مفكراً يقدم نسقاً فكرياً، وهذه العباراتلا تشكل عنصراً أساسياً في هذا النسق.

    وثمة جانب آخر لموقف ماركس، ورثه منعصر الاستنارة، وهو أن الهجوم على المسيحية كان أمراً لا يزال محفوفاً بالمخاطر بعضالشيء في الحضارة الغربية. ولذا، كان الهجوم على المسيحية وعلى الكنيسة يأخذ شكلهجوم على ما يمكن تسميته «المسيحية البدائية»، أي اليهودية. فالهجوم على اليهوديةهو، في واقع الأمر، هجوم على المسيحية. وقد كان هذا هو أحد أشكال الخطاب العلمانيفي ذلك العصر وإحدى شفراته المفهومة لدى الجميع. ولا شك في أن ماركس قد تأثر بهذاالجانب من الخطاب الفلسفي، كما أنه كان يتسم بالجراءة غير العادية، بل والوقاحةأحياناً، في التعبير. ولذا، فإن هجومه على اليهودية لم يكن ينبع من مثل هذه الذرائعوحسب وإنما من رؤية متكاملة لليهودية، في علاقتها بالمسيحية، ولعلاقة الدين ككلبالمجتمع المدني البورجوازي، مجتمع العلاقات البرانية والتعاقدية التي يغترب فيهاالإنسان عن نفسه.

    ولكن ماركس هو، في نهاية الأمر، إحدى الثمرات المتألقةللفكر الألماني في القرن التاسع عشر. وقد تواترت فكرة أساسية في كتابات المفكرينالألمان وهي التمييز بين الجماينشافت، أي الجماعة العضوية المترابطة التقليدية،مقابل الجيسيلشافت، أي المجتمع التعاقدي الذري المفتت. وهو تمييز له جانبان: أحدهمامعرفي وأخلاقي ينصرف إلى رؤية الإنسان وطريقة إدراك الكون، والآخر سياسي واقتصاديواجتماعي ينصرف إلى طريقة تنظيم المجتمع. والجانبان هما تعبير عن الفكرة الواحدةنفسها في مجالين مختلفين. ومن الواضح أن من استخدموا هاتين الفكرتين كأداة تحليلية،كانوا يفضلون الجماعة المترابطة التي ينتمي إليها المواطن الذي يصبح جزءاً من كليفقد ذاته فيه بحيث تختفي مصلحته الشخصية الأنانية الضيقة ويحل محلها مصلحة الدولةأو الجماعة، ويصبح لا وجود له خارجها. ونظراً للارتباط العضوي للإنسان بجماعتهوتطابُق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فإن الجماعة تُعبِّر عن جوهر الإنسان بدلاًمن أن تشكل اغتراباً عنه. والقانون البشـري لا يشـكل في هـذه الحالة قيداً علىالإنسان أو حدوداً له، ولا يتعارض مع إدراكه لنفسه، وإنما يعبر عن جوهره ويحققإمكاناته الكامنة. ومن هنا، فإن الرابطة بين الإنسان والجماعة رابطة عضوية ورابطةداخلية (جوانية) لا يتناقض فيها الذات والموضوع.

    كل هذا يقف ضد الجماعاتالتعاقدية (المجتمع التعاقدي الحديث) التي تتألف من أشخاص أنانيين فرديين، لكلمصلحته الشخصية المحددة التي قد تتفق مع مصلحة المجتمع أو تختلف عنها. وكل فرديحاول أن يحقق مصلحته ومنفعته هو دون الالتفات إلى الآخرين أو إلى الكل الاجتماعي،ومن ثم فإن المجتمع مبني على التنافس بوصفه قيمة مطلقة. والمجتمع هنا لا يُعبِّر عنجوهر الإنسان وإنما يجابهه باعتباره شيئاً غريباً عنه. ويصبح القانون للسبب نفسهقيداً على الإنسان لا وسيلة لتحقيق جوهره. والرابطة بين البشر رابطة تعاقدية خارجيةبرانية موضوعية. ولذا، فإن انتماء الإنسان إلى مثل هذا المجتمع هو انتماء ذرةمنغلقة على نفسها؛ تجاور الذرات الأخرى ولا تلتحم بها، ومن ثم ينشأ تناقض حاد بينالذات والموضوع.

    وهذا التمييز بين شكلين من أشكال التنظيم الاجتماعي ورؤيةالكون هو تمييز بين فكرين، فكر عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) وفكر معاداةالاستنارة (القرن التاسع عشر). وكلاهما يُعَدُّ أساساً للفكر الغربي الحديث برغمتناقضهما. وما يهمنا هنا أن هذا التمييز الذي تغلغل في الفكر الاشتراكي الغربي،خصوصاً الألماني، يكمن وراء الهجوم على اليهود واليهودية باعتبار أن اليهودي جزء منالاقتصاد التجاري (الموضوعي التعاقدي) مقابل الاقتصاد الزراعي (العضوي المبني علىالارتباط الداخلي) ولا يمكن أن نفهم تحليـل ماركـس للمسـألة اليهـودية دون أن نأخذهذا البعد في الاعتبار.

    وقد كتب ماركس كتيبه رداً على برونو باور الذيأصدر كتيباً بعنوان المسألة اليهودية عام 1843 أنكر فيه على اليهود حقهم فيالانعتاق باعتبارهم أعداء للتقدم ولأنهم يتمسكون بخصوصيتهم وعزلتهم. بل إن باوريقول إن ما يسميه «الانعزالية المسيحية» إن هي إلا وريثة الانعزالية اليهودية. واليهود، بحسب رأيه، لم يتخلوا عن دينهم وقوميتهم (الوهمية)، بل يذهب إلى أنهميتسمون بالدهاء بسبب جذورهم الشـرقية (السـامية)، مقابل الحضـارة الغربية الهيلينيةالآرية. ولكنهم، لهذا السبب ذاته، بليدو الإحساس ولا يتسمون بأي إبداع. وقد أشارباور إلى أن اليهود يسيطرون على البورصة وعلى البلاط. ولذا، حتى إذا تغيَّر وضعهمالسياسي، فإن طبيعتهم الحضارية والاقتصادية قد لا تتغيَّر. ثم هاجم باور اليهوديةالإصلاحية التي دعت إلى العودة إلى ما تصورته الموسوية الحقة الصافية، فمثل هذهالموسوية في نظره غير ممكنة إلا في أرض كنعان وداخل دولة يهودية مستقلة، وهذا هوالحل الصهيوني. ولكن الأطروحة الصهيونية خافتة للغاية في فكر باور، فالفكر العرْقيلم يكن قد اكتسح أوربا بعد، كما حدث لاحقاً، حيث تركت هذه العرْقية أثرها في تيارمهم في الفكر الاشتراكي الغربي. ومن ثم، فإننا نجد أن باور لا يزال يتحرك في الإطارالعقلاني الليبرالي الآلي، إطار فكر الاستنارة الذي ساد أوربا حتى النصف الأول منالقرن التاسع عشر، أي أنه كان يرى إمكانية إصلاح اليهود وضرورة إعطائهم حقوقهمالسياسية بل ودمجهم، شريطة أن يتخلوا تماماً عن أية خصوصية. وبالفعل، يقول باور إنهيمكن إعتاق اليهود إذا ما أعدوا أنفسهم لذلك عن طريق الاختلاط بحرية وعلى قدمالمساواة بالمسيحيين. فيجب أن ينسلخوا من عقيدتهم الشرقية، وعلى المجتمع ككل أنيلغي الدين حتى يتم الانعتاق السياسي الكامل.

    قَبلَ ماركس كل مقدمات باوربشأن اليهود واليهودية، بل إن نبرته كانت أكثر حدة وأكثر عداء لليهود. ولكنه رفضنتائجه بشأن رؤيته للدولة وطريقة الانعتاق وحدود هذا الانعتاق السياسي أو المدني،فباور بحسب تصور ماركس لم يدرك أهمية البُعد الاجتماعي في عملية الإعتاق باعتبارهبُعداً لصيقاً ومستوى كامناً تحتياً للبعد السياسي والديني، وهو ما حاول تغطيته فيدراسته. وبهذه الطريقة، تمكَّن ماركس من تحويل المسألة اليهودية من قضية أقليةدينية أو إثنية إلى قضية عامة تخص الحضارة الغربية والنظام السياسي والاجتماعيالغربي ككل.

    وكما أسلفنا، يميِّز الفكر الألماني الرومانسي، ثم من بعدهالاشتراكي، بين الجماعة العضوية المتكاملة التي تُعبِّر عن الجوهر الإنساني من جهة،و من جهة أخرى المجتمع التعاقدي الذي يخفي هذا الجوهر ويطمسه ويجعل الإنسان يغتربعن ذاته. وتظهر الفكرة نفسها على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تمييزماركس بين المواطن وعضو المجتمع المدني. أما المواطن (ممثل النوع البشري) فهو عضوالجماعة السياسية المتكاملة (متمثلة في الدولة الليبرالية الحقة الكاملة) وهذهالدولة هي مجال الحرية الكامل الذي يتحقق من خلاله الإنسان ولا يغترب عن جوهره. وليس بإمكان هـذه الدولة أن تقـوم بدورها هذا إلا بعد أن تصبح عقلانية تماماً، بأنتفصل نفسها تماماً عن كل المؤسسات غير العقلانية غير الإنسانية، مثل الكنيسةوالملكية والأرستقراطية، بحيث تصبح أداة الجماعة السياسية التي يعيش داخلها المواطنممثلاً للنوع. ويُلاحَظ أن الافتراض أو الأمل هنا هو ألا يكون القانون الخارجيللدولة إلا تعبيراً عن القانون الداخلي للإنسان ورغباته الذاتية. ولكن كيف يمكنللذات أن تلتقي بالموضوع ويلتقي الخاص بالعام والمحلي بالعالمي؟ يتجاوز ماركس هذهالثنائية بتبنِّي الفكرة المحورية في فلسفة الاستنارة، وهي تصوُّر وجود عقل (وجوهر) إنساني عالمي عام ثابت لا تتغيَّر قوانينه أو سماته، ويحاول الإفصاح عن نفسه في كلمكان وزمان، ويمكن أن تتحقق عملية الإفصاح بشكل كامل إذا أزيلت العوائق من طريقها. والمشروع الثوري يصبح، إذن، عملية إزالة للعوائق وتأسيس للدولة التي تجسد هذا العقلوهذا الجوهر حتى يمكنها أن تُعبِّر عن الإنسان العقلاني وجوهره. وغني عن الذكر أنمثل هذه الدولة ومثل هذا الموقف يرفضان تماماً أية خصوصية باعتبارها قيوداً على هذهالعقلانية العامة.

    ويقف عضو المجتمع المدني (أي «المجتمع البورجوازي») علىالطرف النقيض من المواطن. ففي المجتمع المدني، يتحول الأفراد إلى وحدات ذرية أوينظر الإنسان إلى الآخرين باعتبارهم أدوات، وينحط هو نفسه إلى مجرد وسيلة ويصبحلعبة في يد القوى الغريبة عنه. وتشكل الليبرالية السياسية، والإعتاق السياسي لأعضاءالمجتمع، تقدماً هائلاً. لكن الإعتاق السياسي ليس آخر أشكال الإعتاق الإنساني، بلإن الليبرالية لم تستكمل عملية إعتاق الدولة تماماً. فقد أصبحت الدولة أداةللأثرياء، كما أنها لم تتحرر من الدين تماماً، بل احتفظت بموقف يستند إلى التفاوتالطبقي ولا يرفض الدين كليةً. وما حدث في المجتمع المدني أن الإنسان لم يتحرر منالدين بل تلقَّى الحرية الدينية. ولم يجر تحريره من الملكية، بل نال حرية الملكية. ولم يتحرر من أنانية الصناعة، بل نال حرية الصناعة. والحرية هنا هي حرية الإنسانبوصفه ذرة منعزلة، حرية تُعبِّر عن نفسها لا في شيء داخلي عضوي إنساني جواني وإنمافي حق الملكية الذي هو حق الإنسان في التمتع بثروته، والتصرف فيها وفق مشيئته، دونالاهتمام بسائر الناس وبصورة مستقلة عن المجتمع. إنه الحق في الأنانية. وهذه الحريةالفردية، مع تطبيقها، هي التي تؤلف أساس المجتمع البورجوازي. ويصبح الأمن هو أسمىمبادئ المجتمع البورجوازي (المدني). ولكن هذا الأمن ليس إلا تعبيراً عن التفتتوالذرية. فالأمن هو قانون الشرطة لا قانون الإنسان المتكامل ولا قانون الدولةالحقيقية العقلانية. وهو ليس وسيلة يترفَّع بها المجتمع البورجوازي عن أنانيته (ذَريته وتعاقديته) وإنما هو ضمان الأنانية. وهكذا، بدلاً من أن يكون الإنسانكائناً بشرياً اجتماعياً يعيش في مجتمع متكامل ويُعبِّر عن جوهره الإنساني، فإنالحياة البشرية نفسها (أي المجتمع) تظهر في شكل إطار خارجي عن الفرد، أي تحديدلحريته الأولية. والرابطة الوحيدة التي توحِّد بينهما ليست الرابطة العضويةالداخلية وإنما رابطة الضرورة الطبيعية والحاجة والمصلحة الخاصة، ورابطة الحفاظ علىالملكية وعلى الذات الأنانية المنغلقة على نفسها، أي أنها رابطة خارجية آليةواغتراب عن الجوهر.

    ويستخدم ماركس أيضاً فكرة الجماعة العضوية التراحميةالمترابطة (جماينشافت) والمجتمع التعاقدي الذري المفتَّت (جيسيلشافت) في وصفهللدين، إذ يذهب إلى أن الدين، أي دين، يلعب دوراً حاسماً في عملية اغتراب الإنسانعن جوهره وتخليه عنه. فالإنسان ما دام سجين الدين وتحت سيطرته، لا يمكنه إلا أنيُموضع جوهره، أي يحوِّله إلى موضوع بأن يجعله كائناً غريباً عنه خرافياً متعالياًعليه. ويضرب ماركس مثلاً بالمسيح الذي يصبح الوسيط الذي يُحمِّله الإنسان كلألوهيته، فالإنسان يُسقط إلوهيته (جوهره) على المسيح بدلاً من أن ينظر إلى نفسهباعتباره هو نفسه الإله أو الجوهر الأسمى أو المطلق (وهي نفسها فكرة فيورباخ). ومنثم يغترب الإنسان عن نفسه، تماماً كما يحدث حينما يكون الإنسان تحت سيطرة الحاجةالأنانية، فإنه حينئذ لا يمـكن إلا أن يصـبح عملياً (برانياً خارجياً وفي علاقةآلية مع كل ما حوله)، ولا يمكنه إلا أن يخلق أشـياء عملـية ويضـع منتوجـاتهونشاطاته تحت سـيطرة جوهر غريب عنه وينسـب إليها مدلول جـوهر غريب هو المال. فالمالهو جوهر الإنسان المنفصل عن الإنسان والذي تَموضع خارجه وهو جوهر يسيطر عليهويستعبده، تماماً مثل الرب الذي هو أيضاً جوهر الإنسان المنفصل عنه. ويمكننا أننكتشف بنية أساسية هنا وهي جوهر إنساني أو عقل إنساني عام يمكنه أن يتحقق أو يغتربعن نفسه. ويأخذ الاغتراب شكل إسقاط الجوهر الإنساني الداخلي على شيء غير إنسانيخارجي (الإله أو المال). ولذا، فإن كلاًّ من الدين والمجتمع البورجوازي يؤديان إلىالنتيجة نفسها، أي اغتراب الإنسان عن جوهره الإنساني، وبالتالي إلى تفتُّت المجتمعوتحوُّل الجماعة العضوية إلى مجتمع تعاقدي والإنسان العضوي الجواني إلى إنسان آليبراني. وهذا يعني أن الجانب المعرفي يلتقي تماماً مع الجانب الاقتصادي الاجتماعي.

    ولكن علاقة البورجوازية بالدين لا تقتصر على التقابل البنيوي وإنما ثمةعلاقة سببية تاريخية. فالمجتمع البورجوازي لم يكن بوسعه التوصل إلى الانفصال التامعن مجرى الدولة (الواقعية الحقيقية، أي العقلانية، التي يُعبِّر الإنسان من خلالهاعن جوهره)، وإلى تمزيق جميع الروابط الاجتماعية للإنسان، وإلى إحلال النزعةالأنانية والحاجة الأنانية محلها، وإلى تفكيك عالم الناس إلى عالم أفراد ذريينبعضهم أعداء لبعض، لم يكن بوسع المجتمع البورجوازي التوصل إلى ذلك كله إلا في ظلالمسيحية التي حولت جميع علاقات الإنسان (القومية والطبيعية والأخلاقية) من أشياءداخلية جوانية إلى علاقات خارجة عن الإنسان. وبهذه الطريقة، أي من خلال انتشارالمثُل المسيحية، تمكَّن المجتمع المدني (البورجوازي) من أن يُمزِّق كل أواصر النوعالإنساني وأن يُحل الأنانية محل هذه الأواصر. ومن هنا يقول ماركس إن المجتمع المدنيالبورجوازي يبلغ اكتماله وذروته في العالم المسيحي.

    والآن، ما علاقة كلهذا باليهود واليهودية؟ لابد أن نشير إلى الاعتقاد السائد في الفكر الاشتراكيوالاجتماعي الغربي بأن اليهود يُكوِّنون حلقة مغلقة من المموِّلين الدوليينالمتحالفين مع النخب الحاكمة. وهو تصوُّر، برغم جزئيته، لم يكن منافياً تماماًللحقيقة التاريخية. فيهود البلاط كانوا ظاهرة أوربية بمعنى الكلمة. كانوا يتركزونفي وسط أوربا وألمانيا، فلم تمتد دائرة وجودهم لتشمل فرنسا أو إنجلترا. وكان هناكروتشيلد (آخر يهودي بلاط) وصديق مترنيخ والذي كان يرتبط بعلاقات وثيقة مع أسرةالهابسبورج وبعض الأسر الملكية الحاكمة الأخرى. ولم يكن دور يهود الأرندا في بولندابعيداً عن الأذهان. كما أن المرابين اليهود في الألزاس ووادي الراين كانوا يستولونعلى الأراضي المرهونة بعد فَشَل ملاكها في تسديد ديونهم بدرجات متزايدة في نهايةالقرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، ومعنى ذلك أن اليهود أو قطاعاًمنهم كانوا مرتبطين تماماً بالقوى الرجعية وقوى الاسـتغلال. وقد تغيَّر الوضـع كماأسـلفنا، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، فانخرطت أعداد متزايدة من أعضاءالجماعات اليهودية في صفوف الطبقة العاملة في شرق أوربا. ونضيف، إلى كل هذا، أنالهجوم على النخبة الحاكمة الرجعية كان يأخذ أحياناً طابع الهجوم على اليهود بشكلعام، لا على المموِّلين اليهود وحسب.

    ونضيف إلى هذا عنصراً آخر وهو الكرهالعميق الذي يكنه ماركس للرأسمالية التجارية والتي نسميها في مصطلحنا «الجماعةالوظيفية الوسيطة». وبحسب وجهة نظره، تعيش المشاريع التجارية، على عكس المشاريعالصناعية، في الشقوق بين المجتمعات وداخلها. فالاتجار والتبادل لم ينشأ داخلالجماعات الإنسانية وإنما فيما بينها، ومن هنا كان بوسع نمطين اقتصاديين متناقضين (الزراعي والتجاري) أن يتعايشا معاً في المجتمع الإقطاعي. وميَّز ماركس بين هذهالرأسمالية التجارية من جهة والرأسمالية الصناعية « الحقة » (أو « الرشيدة » فيمصطلح فيبر فيما بعد) من جهة أخرى؛ والأولى تشجع حركة التبادل، وعملية التبادلعملية أساسية، ولكنها في الواقع لا تضيف أية قيمة حقيقية للمُنتَج، فالرأسماليالتجاري كان يتاجر في سلع تقع خارج النشاط الإنتاجي، وقد سماها ماركس «رأسماليةشكلية» حتى يبرهن على انفصالها عن الإنتاج، فهي رأسمالية تعيش بطريقة طفيلية علىالمجتمعات المتخلفة، وهي جزء من هذا التخلف رغم استفادتها منه. ومع هذا، تلعب هذهالرأسمالية الطفيلية دوراً ثورياً إذ تصيب المجتمعات التقليدية بالتفكك وتُقلِّلتماسكها، ولكنها مع هذا غير قادرة على بناء مجتمعات جديدة. ومن هنا جاء كُره ماركسللمشروعات التجارية والمالية الخالصة وإسقاط هذا الكره على رؤيته للتاريخ، فهاجمسياسات وطرق تلك الأمم التي ارتبطت بهذه المشاريع ارتباطاً قوياً في العصور القديمةوالوسيطة والحديثة، اليونانيين والفينيقيين واللومبارد، واليهود بطبيعة الحال. وكمايقول ماركس في رأس المال كانت الأمم التجارية تعيش كآلهة أبيقور في العوالم الوسيطةللكون، أو كما كان يعيش اليهود في مسام المجتمع البولندي. كما كانت تجارة المدنالتجارية المستقلة الأولى والأمم التجارية تعتمد على بربرية أو تَخلُّف الأممالمنتجة التي قاموا فيما بينها بدور الوساطة. ويُلاحَظ أن ماركس يجعل من كلمات «يهودي» و«تاجر» و«لومبارد» و«مرابي» مترادفات، ويتجلى هذا الترادف أيضاً في كتابهالصراع الطبقي في فرنسا حيث يتحدث عن «يهود البورصة» و«يهود الأعمال المالية» بلويَسقُط أحياناً في العنصرية حين يتحدث عن "لاسال الزنجي اليهودي" وهي عرْقية ضدكلٍّ من السود واليهود. ولكن مثل هذه العبارات القبيحة وغير الأخلاقية نادرة فيكتابات ماركس كما أسلفنا، ولعلها تسربت إلى مصطلحه من الخطاب السياسي الغربيالشائع. والتطور التاريخي الصحيح من وجهة نظر ماركس وإنجلز هو اختفاء الرأسماليةالتجارية وكل المؤسسات التي تعيش في الشقوق، ليتبلور المجتمع في عمال ورأسماليين،أي إلى أشخاص مرتبطين بالعملية الإنتاجية ولا يخشون المخاطرة بالاستثمار فيها.







  7. #27
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    وقد استمر كُره ماركس للتجارة حتى النهاية. ولهذا، فإن رؤيته للمجتمعالمثالي (الشيوعي) تخلو من أية شبكة للتوزيع، فمن كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته، أيأن هناك وجوداً عضوياً كاملاً يلتحم فيه الجزء بالكل والذات بالموضوع، وبالتالييختفي الوسيط التاجر والمموِّل تماماً. ويُقال إن هذا الموقف يضرب بجذوره في العصورالوسطى المسيحية وهو موقف الرفض العميق للأعمال المالية والتجارية بوصفها أعمالاًحقيرة. وعلى كلٍّ، فإن الجماعة العضوية المترابطة التقليدية هي في جوهرها المجتمعالزراعي - في العصور الوسطى ـ الخالي من التنافس والوسطاء.

    ولكن، إذا كانتهناك علاقة بنيوية وسببية قوية بين الدين واغتراب الإنسان عن جوهره وبين الدينالمسيحي والبورجوازية، أي تنظيم المجتمع على أسس بورجوازية (وهي علاقة تؤدي إلىالتفتت والذرية)، فإن ثمة ما يشبه الترادف بين اليهودية والبورجوازية بل التوحدالكامل بينهما. فجوهر اليهودية الحقيقي تحقَّق في المجتمع البورجوازي الذي هو فيواقع الأمر علمنة لليهودية. بل يمكن القول بأن اليهودية هي البورجوازية، فكما أنالمجتمع البورجوازي لا يبلغ اكتماله إلا في العالم المسيحي، فإن اليهودية لا تبلغذروتها إلا مع اكتمال المجتمع البورجوازي. فالبورجوازية هي أعلى مراحل المسيحية،واليهودية هي أعلى مراحل البورجوازية (هذا إن أردنا استخدام الخطاب اللينيني فيتوصيف الأمور).

    ويتناول ماركس النسق الديني اليهودي من خلال بعض الأفكارالخاطئة، في تصوُّرنا، والتي شاعت في الفكر الألماني عن اليهودية، وهي تعود إلى فكرموسى مندلسون ومنه انتقلت إلى كانط فهيجل. يقول ماركس: شريعة اليهود غير العقلانيةإن هي إلا صورة دينية ممسوخة للأخلاق والقانون بشكل عام. إن هذه الشريعة هي فكرةالحقوق الشكلية الخالصة التي يحيط بها عالم الأنانية نفسه (أي أن المجتمع الذري يحلمحل الجماعة العضوية المتماسكة). إن أسمى أنواع العلاقات الإنسانية داخل اليهوديةهو العلاقة القانونية، علاقة الإنسان بقوانين لا تستمد فعاليتها من كونها قوانيننابعة من إرادته هو نفسه وجوهره وإنما تستمد هذه الفعالية من أن هذه القوانين هيسيده وأن أي انحراف عنها يقابله العقاب. ففكرة الشريعة اليهودية، بشعائرها الكثيرة،تقف (في تصوُّر ماركس) على الطرف النقيض من فكرة الدولة الحقة التي يحقق الإنسانجوهره من خلالها.

    لكل هذا، نجد أن نزعات التفتت الذري الناجمة عن الأنانيةوالتي تؤدي إلى اغتراب الإنسان عن جوهره، والتي بدأتها المسيحية، تصل إلى درجةعالية من التبلور في المجتمع البورجوازي، ثم إلى ذروتها في اليهودية. ورغم أنالمسيحية هي التي بدأت هذا الاتجاه إلا أنها ظلت أكثر سمواً وأكثر روحانية مناليهودية. فالأنانية الروحانية عند المسيحي (البحث عن الخلاص الفردي) تصبح فيالحياة العملية الكاملة، وبشكل حتمي، الأنانية المادية عند اليهودي (البحث عنالربح)، وتتحوَّل الحاجة السماوية إلى حاجة دنيوية، وتتحول الذاتية المسيحية إلىأنانية يهودية. ومن ثم، فإن المسيحية هي الفكر السامي واليهودية هي التطبيق السوقيوالعملي لها. ولكن هذا التطبيق لم يصبح عاماً وشاملاً في المجتمع إلا بعد أن توصلتالمسيحية نظرياً، باعتبارها ديناً متكاملاً، إلى جَعْل الإنسان غريباً عن نفسه وعنالطبيعة. وعندئذ فقط استطاعت اليهودية التوصل إلى السيطرة العامة، وإلى إبعادالإنسان والطبيعة إلى خارج ذاتيهما، وجعلت منهما شيئاً تجارياً خاضعاً للحاجةوالأنانية وللمتاجرة. وحتى العلاقات بين الرجل والمرأة تصبح موضوعاً للتجارة،فالمرأة تصبح سلعة يُتاجَر بها. وقد ساهمت المسيحية في نشوء المجتمع البورجوازي. ومن أحشاء هذا المجتمع يتولَّد البورجوازي اليهودي دون انقطاع. ونحن لا نجد اليهوديالمعاصر في التوراة أو التلمود وحسب، بل نجده في المجتمع البورجوازي الحالي، وهوليس جوهراً مجرداً منعزلاً عن حركيات المجتمع وإنما هو جوهر عملي مطلق (وكذلك جوهرالبورجوازية أيضاً). ومن ثم، فلا يمكن الحديث عن حدود اجتماعية لليهودي، وإنما يمكنأن نتحدث عن حدود يهودية للمجتمع، أي عن حدود يهودية بورجوازية للمجتمع الإنساني.

    في إطار هذا، يمكننا أن نفهم عبارات ماركس عن أن جوهر اليهودية هو المتاجرةوأساسها المنفعة العملية والأنانية، وأن المال هو إله إسرائيل الطماع ولا إله سواه،وأن « التبادل التجاري هو إله اليهود الحقيقي، وأمامه لا ينبغي لأي إله أن يعيش ». ويتضمن الدين اليهودي « ازدراءً للفن والتاريخ والإنسان كغاية في ذاتها ». و« تحتوياليهودية على عنصر عام ومناهض للمجتمع ». فاليهودية هنا ليست مجرد نسق ديني وإنماهي البورجوازية المتبلورة، وقد وصلت اليهودية إلى ذروة تحقُّقها في المجتمع المدنيالبورجوازي من خلال التطور التاريخي. فاليهودية، إذن، استمرت بسبب التاريخ لابالرغم منه. وعناد اليهود وبقاؤهم لا يمكن تفسيرهما عن طريق دينهم وإنما يمكنتفسيرهما بالأسـاس الإنسـاني (أي التاريخي) لدينهم، وهو الحـاجة العملية والأنانية. اليهودية، إذن، ليست مجرد بناء فوقي ونظام معرفي وإنما هي أيضاً جزء من نظاماقتصادي تحتي هو البورجوازية، ترتبط به ارتباطاً عضوياً يَصعُب معه فَصْل الواحد عنالآخر، فالبورجوازية تلد اليهودي دائماً من أحشائها بشكل حتميعضوي.

    ويمكننا الآن أن نتحدث عن عملية تهويد المجتمع، أي سيادة النظمالمعرفية والاقتصادية البورجوازية والتي يلعب اليهود دوراً أساسياً فيها رغم أنهمليسوا وحدهم المضطلعين بها. ويتناول ماركس إشكالية أصول الرأسمالية ويرى، مثلسومبارت، أن اليهود لعبوا دوراً أساسياً في تغيير النظام الاجتماعي الزراعي عن طريقتفتيته، ولكنه لا يوافقه على أنهم مسئولون عن ظهور الرأسمالية الحقة أو الرشيدة. فهو يتفق مع فيبر في أن هـذه عملية ضخـمة لم يلعـب فيها اليهود غير دور ثانوي سلبي. ومع هذا، يختلف ماركس مع فيبر ويتفق مع سومبارت في أن روح الرأسمالية مُستمدَّة مناليهودية لا البروتستانتية. وربما كان ما يريد ماركس قوله هو أن النموذج المعرفيالذري المُتفتَّت الأناني يُوجَد في اليهودية بشكل أكثر تبلوراً منه في المسيحية. وهكذا، ورغم أن اليهود لم يلعبوا دوراً أساسياً في بناء الرأسمالية الرشيدة كجماعةبشرية إثنية، فإن اليهودية (كنسق ديني) لعبت دوراً فعالاً فيها. كما أن سيادة النمطالمعرفي المتمثل في اليهودية يعني في واقع الأمر انتصار الرأسمالية الكامل.

    واليهودي، بالنسبة إلى ماركس، هو سيِّد السوق المالية، وبواسطته أصبح المال (إله إسرائيل الطماع) قوة عالمية، وأصبحت الروح العملية اليهودية هي الروح العمليةللشعوب المسيحية. وتاريخ المجتمع البورجوازي هو تاريخ تهويد أوربا، وهو أيضاً تاريخعلمنة إله إسرائيل وتحويله إلى إله العالم، فالبنكنوت (الرب العملي لإسرائيل) أصبحرب العالم الغربي الرأسمالي (انظر: «تهويد المجتمع»).

    ولذا، فإن ماركس يرىأن الحديث عن الإعتاق السياسي لليهود أمر غير ذي موضوع في الواقع إذ أن اليهودتحرَّروا بالفعل ولكن على الطريقة اليهودية. « فاليهودي الذي لا يُحسَب له حساب فيفيينا (مثلاً) هو الذي يقرِّر بقوته المالية مصير المملكة كلها. واليهودي الذي قديكون في أصغر الدول الألمانية محروماً من الحقوق، هو الذي يقرر مصير أوربا ». لقدتحرَّر اليهود بالنسبة نفسها التي بها تحوَّل المسيحيون إلى يهود، أي أن إعتاقاليهود تم على الطريقة البورجوازية ومن داخل المجتمع البورجوازي حينما تم تفتيتالمجتمع تماماً وهيمنت قيم المنفعة والأنانية عليه. والحديث عن الإعتاق السياسيلليهود هو تعبير عن تناقض أساسي في المجتمع البورجوازي، وهو التناقض القائم بينالسياسة وقوة المال « فالسياسة نظرياً،فوق قوة المال.ولكنها، عملياً، أصبحت مجردسجينة له».

    ثم نصل إلى الحلول التي يطرحها ماركس. ولقد سبق أن بيَّنا أناغتراب الإنسان عن جوهره يعود أساساً - في تصوُّر ماركس - إلى ظاهرة الدين الذييجعل الإله موضوعاً يواجه الذات الإنسانية كشيء غريب عنها. ومن ثم، فإن إلغاء الدينشرط ضروري للتحـرر. فالدولة التي تفـترض الدين مسـبقاً ليسـت بعـد دولة حقيقية، أيأنها لا تُعبِّر عن جوهر الإنسان. وأي دولة تفترض الدين مقولة أو إطاراً، لابد أنتُولِّد استلاباً للإنسان. ويقتبس ماركس، باستحسان، رأي باور في استحالة إعتاقاليهود داخل إطار الدولة (الدينية المسيحية)، إذ يُولِّد ذلك تعارضاً لا تنفصم عراهبين اليهودي والمسيحي. ولكن كيف يمكن حل مثل هذا التعارض؟ يرى ماركس أن حل أيةمشكلة إنما يكون بنفيها وإلغائها، ومن هنا كان ترحيبه بحل باور، أي حل المشكلة بجعلالتعارض الديني مستحيلاً بإلغاء الدين ذاته بحيث لا يرى اليهودي أو المسيحي، أيٌّمنهما، في دين الآخر، إلا درجات مختلفة من الروح الإنسانية.

    وفي مقاله « حول نقد فلسفة الحق عند هيجل » يقول ماركس: « إن إلغاء الدين، باعتباره السعادةالبشرية الوهمية، دعوة إلى السعادة الحقيقية. فدعوة البشر إلى التخلي عن أوهامهمبشأن أحوالهم هي دعوة إلى التخلي عن الحالة التي تتطلب الأوهام » (ويبدو أنالموازنات اللفظية داء مزمن في كتابات ماركس الأولى). وعندئذ سيكتشف الإنسان « أنالدين ليس إلا مجرد جلود أفاع مختلفة نَزعَها التاريخ عنه وألقى بها، وأنه هوالأفعى التي استخدمت الجلد كمجرد غطاء». وحينذاك « لن يجد، المسيحي واليهودي،نفسيهما في حالة تعارض ديني وإنما في علاقة نقدية بحتة، علاقة تَعارُض علمية بشرية. وعنـدئذ يؤلف العلم وحدتهما ولا تُحَل التناقضات في العالم إلا عن طريق العلم ». وهكذا يصبح العلم، أو العقل العام أو العقل المادي، هو المطلق الوحيد بدلاً منالإله، وهذا هو جوهر الفكر الإنساني العلماني الغربي. وهو حل باور، وهو حل قد يؤديبالفعل إلى تحرُّر سياسي ولكن غير كاف برغم أهميته. فهو تحرُّر على المستوى السياسيوعلى مستوى الأفكار فقط. ولكن، كما بيَّن ماركس، يوجد جانب اقتصادي مادي صلبيَجُبُّ الجانب السياسي ويجعل المساواة في الحقوق السياسية أمراً مزعوماً. وهذاالجانب، يجسِّد الأنانية الكامنة في الإنسان وكل نزعات التفتت. والدولة، مجال حريةالإنسان ووسيلة تحقيق تكامله، تخضع هي نفسها لسطوة المموِّلين. ولأن حل أية قضية،بالنسبة إلى ماركس، لا يمكن أن يتم إلا بنفيها وإلغائها، فإننا نجده يرى أن المجتمع « لن يحرِّر نفسـه إلا بتـحرره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية ». و« حين ينجح المجتمع في إلغاء الجوهر العملي لليهودية، المتاجرة وشروطها، عندئذيصبح وجود اليهودي مستحيلاً »، وذلك لأن رؤية اليهودي للعالم، أي النموذج المعرفيالذي يحمله، لم يَعُد لها ما يجسِّدها، ولأن أساس اليهودية نفسها، أي الحاجةالعملية، قد اختفت (تمت أنسنتها) وتم تجاوُز الصراع بين وجود الإنسان الفردي ووجودهالمادي بوجوده كعضو في النوع البشري. وهكذا، فإن « إعتاق اليهود في معناه الأخيريعني إعتاق الإنسانية من اليهودية ».

    ولتلخيص الأمور، يمكن القول بأنالتحرر الإنساني من منظور ماركس لا يتم في المحيط السياسي، أي داخل الدولةالبورجوازية القائمة، وإنما يتم خارجها (الدولة الليبرالية الحقة الكاملة). فالتحرُّر سيكون تحرُّراً من الظروف الموضوعية التي تؤدي إلى الأنانية أي المتاجرةوالمبادلة، ومن الأفكار التي تُنمي الأنانية مثل التراث اليهودي المسيحي ومن الدينبشكل عام. ولا يمكن إنجاز مثل هذا التحرر الكامل إلا من خلال تحرير الدولة ذاتها منتلك الظروف ومن هذه الأفكار بحيث تصبح مجالاً لحرية الإنسان.

    وإذا كانماركس قد كتب كتيباً، فإن إنجلز لم يكتب سوى ملاحظات عابرة، ويُقال إنه تُوجَدمخطوطة ضمن أوراقه الموجودة في موسكو بعنوان «يهود ألمانيا» ولكنها لم تُنشَر لسببغير معروف. ويمكن تقسيم ملاحظات إنجلز بشأن المسألة اليهودية إلى قسمين: ما قبلعــام 1878، وما بعده. وهذا التاريخ هو تاريخ نشر كتابه ضد دوهرنج. ويُلاحَظ أن فكرإنجلز بشأن اليهود واليهودية في فترة ما قبل عام 1878 لا يختلف كثيراً عن الخطابالاشتراكي السائد الذي يرى اليهود كجزء عضوي من الرأسمالية التجارية والتي سميناها «جماعة وظيفية وسيطة». وقد لاحظ إنجلز أن اليهودي إما تاجر وإما مراب، وأن التجاراليهود احتكروا تَبادُل السلع المصنوعة في أوربا بالمحاصيل الزراعية في بولندا،وربما تكون هذه إشارة إلى يهود البلاط في علاقتهم بيهود الأرندا. ويرى إنجلز (فيمقال له في نيويورك تربيون 5 مارس 1852) أن هذا هو الوضع السائد في كل شرق أوربا بلوفي الدولة العثمانية. فالحرفي والتاجر الصغير والصانع الصغير، في روسيا وألمانياوالقسطنطينية، ألماني، في حين نجد أن المرابي وصاحب الحانة وجابي الضرائب والبائعالجوال هو عادةً يهودي يتحدث الألمانية الفاسدة (هذه هي طريقة إنجلز في الإشارة إلىاليديشية)! والواقع أن الصورة كانت أكثر تركيباً مما تصوره إنجلز عن الدولةالعثمانية.

    اليهود، إذن، جماعة وظيفية وسيطة (الرأسمالية الشكلية). ومعأن إنجلز يُلاحظ وجـود أثرياء اليهود في الغرب، فإنه لا يربط بين ذلك وبينالرأسـمالية الصناعية « الرشيدة » بحسب مصطلح فيبر، أو « الحقيقية » بحسب مصطلحماركس، وإنما يربط بينهم وبين البورصة وحسب. ويرى أن ثمة علاقة قوية تربط أعضاءالجماعات اليهودية بعضهم بالبعض ولكنها علاقة وظيفية وليست قومية (وفق مفهوم قوميةاليهود الوهمية عند ماركس ومفهوم الطبقة/الأمة عند ليون). فالمموِّل الألمانياليهودي يرفع قبعته بالتحية للمصرفي اليهودي الفرنسي، وسوق الأوراق المالية مؤسسةطفيلية لا علاقة لها بالإنتاج، فما هي إلا مؤسسة يقوم فيها المموِّلون اليهودبتوزيع فائض القيمة الذي سرقوه من العمال. وبرغم طفيلية هذا الدور الذي يلعبهالمموِّلون اليهود، فإن له أبعاده الثورية إذ ساعد على سرعة تركيز رأس المالوبالتالي ساعد على بلورة المجتمع واستقطابه.

    وانطلاقاً من مثل هذهالأطروحات، كتب إنجلز مقالاً في مجلة النجم الشمالي (إنجليزية) يدافع فيه عن كتيِّبمعاد لليهود صدر في باريس عام 1846. فذهب إلى أن الكتيب لا يهاجم لويس فيليب وإنمايهاجم في واقع الأمر روتشيلد الأول، ملك اليهود، وأنه بذلك أخذ الاتجاه الصحيح. ومما عمق من هجوم إنجلز على اليهود أنه كان يؤيد نضال بولندا من أجل الاستقلالوالحفاظ على هويتها القومية، وبالتالي كان معـارضاً لليهود والألمان (في بوزنان) الذين كانوا يؤيدون ضمها إلى ألمانيا وصبغها بالصبغة الألمانية. وكان اليهود،بوصفهم عنصراً ألمانياً، يقفون إلى جانب الألمان في هذه المعركة. وقد هاجم إنجلزيهود بولندا، الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم، بطريقة تنم عن كراهيته لهم،فنعتهم بأنهم صورة مضحكة لكل اليهود، ووصف اليديشية مرة أخرى بأنها ألمانية فاسدة. بل إنه كان يرى أن اضطهاد الروس لليهود في عام 1848 إن هو إلا جزء من عملية تحوُّلاجتماعي تحاول البورجوازية (الطبقة المحلية الصاعدة) من خلالها أن تحمي نفسها منالباعة الجائلين (اليهود) الذين يفسدون كل الأمور، ويمنعون عملية التبلور الثورية.

    ويُلاحَظ في كتابات إنجلز في هذه المرحلة أن ثمة ترادفاً بين كلمات «يهودي» و«مُضارب» و«مالي». وقد ترجم إنجلز بعض أعمال فورييه، دون أن يستبعد هجومه الشرسعلى اليهود. بل إنه هاجم هس ولاسال بهذه الطريقة العنصرية الشرسة، فأطلق على لاسالصفة «اليهودي السخيف» و«إفراييم النبيه» وأشار إليه باعتباره نموذجاً ليهود شرقأوربا الذين هم على أتم استعداد لاستغلال أي شخص لأهدافهم. وتحدَّث باشمئزاز شديدعن هذا اليهودي «المدهنن» (من الدهن) الذي يرغب في زخرفة نفسه ويرغب في الانتماءإلى الطبقات الأرستقراطية.

    وظلت هذه هي الملامح الأساسية لفكر إنجلز حتىعام 1878 حين نُشر كتاب ضد دوهرنج الذي نلاحظ فيه نغمة مختلفة تماماً. فهو يشنهجوماً على معاداة اليهود، ويحاول أن يفسر الظاهرة بغضب بعض الطبقات الهابطة على مايحدث لها نتيجة تغيرات اجتماعية لا يتحكم فيها اليهود. وهو يرى أن هذه الظاهرةتتحقق في بلاد متخلفة مثل روسيا والنمسا وبروسيا وليس في إنجلترا أو الولاياتالمتحدة.

    وهنا يظهر تحيُّز إنجلز للعملية التاريخية الكبرى التي كان يرىأنها الاتجاه الحتمي للتاريخ الذي سيحسم كل الخلافات والتناقضات الاجتماعية بحيثتصبح تناقضاً واحداً بسيطاً: التناقض بين الرأسماليين والعمال. فالطبقات، مثل: اليونكرز (صغار الملاك الزراعيين الألمان) والبورجوازية الصغيرة والحرفيين وصغارالتجار، كلها طبقات رجعية تَسقُط بسبب منافسة الرأسمالية الجديدة الصاعدة. ويلعبالمموِّلون والتجار اليهود دوراً أساسياً في هذه العملية، فلا يهم إن كانت هذهالرأسمالية الجديدة وهذه القوى الصاعدة سامية أو آرية، مُعمَّدة أو مُختَّنة، فهيتنجز وظيفتها التاريخية وتساعد الأمم المتخلفة مثل البروسيين والنمساويين على أنيصلوا إلى مرحلة أعلى من التقدم وتبسيط التناقضات.

    ولكن، في غياب رأسماليةقوية صاعدة لا تستأثر بالناتج القومي، فإن مسرح النشاط المالي الأساسي يصبح هوالبورصة التي يتركز فيها اليهود، ويظل الإنتاج في أيدي بعض الفلاحين وملاك الأراضيوالحرفيين. لكن أعضاء هذه الطبقات هم من بقايا العصور الوسطى الذين يهاجمون اليهودبعنف ويعتقدون أنهم هم الرأسمالية الصاعدة. وتشن هذه الطبقات الهجوم تحت عباءةالاشتراكية (ومن ثم سماها إنجلز «الاشتراكية الإقطاعية»). وأشار إنجلز إلى أناليهود ليسوا حقاً من كبار المموِّلين، وبيَّن أنه لا يوجد يهودي واحد بينمليونيرات أمريكا الشمالية الذين يملكون من الثروات ما يجعل روتشيلد يبدو كما لوكان شحاذاً.

    وفي إطار هذا التحليل، يتخلى إنجلز عن كثير من مقولاتهالعنصرية، فهو يتحدث عن روتشيلد باعتباره رأسمالياً وحسب ويقرن بينه وبين رأسماليمسيحي آخر. فالإطار المرجعي هنا هو الوظيفة التي يضطلع بها كل منهما وليس انتماؤهماالديني أو الإثني. وهو يشير إلى يهود شرق أوربا باعتبارهم ممثلي أدنى مراحل التجارةفي أوربا، ولكنه يتحدث عن حيلهم التجارية الوضيعة لا باعتبارها خاصية يهودية وإنماباعتبارها سمة من سمات الإنتاج الرأسمالي في مراحله المتدنية. وقد أشار إنجلز إلىأعضاء الطبقة العاملة من اليهود في إنجلترا بل وفي شرق أوربا (وهم من يهوداليديشية)، وهذا يعني أن يهود أوربا ما عادوا يوجدون في شقوق المجتمع ومسامه وإنماأصبحوا جزءاً منه، أي جزءاً من العملية التاريخـية الكـبرى، عملية اسـتقطابالمجـتمع إلى عـمال ورأسماليين. وربما يُفسِّر هذا تصريحه الإيجابي عام 1890 عناليهود: "إننا مدينون لهم، فمنهم هايني وماركس وغيرهما".

    ومع هذا، لم يعلقإنجلز بتاتاً على المشروع الصهيوني، ولا على كتاب هس روما والقدس. ومن المعروف أنإنجلز لم يكن يُبدي اهتماماً كبيراً بالأمم الصغيرة. ولذا، فمن الممكن تصوُّر أنهلم يكن لديه أيُّ تعاطف مع هذا المشروع. كما أن الصهيونية لا تنتمي إلى العمليةالتاريخية الكبرى وإنما هي محاولة لتحاشيها وتعطيلها. ولكن بالإمكان النظر إلىالمشروع الصهيوني باعتباره أداة لخلق حالة من عدم الاتزان في المنطقة العربيةوتفتيت المجتمعات الرجعية القائمة فيها، أي أن الدولة الصهيونية يمكن أن تلعب فيالمنطقة العربية الدور نفسه الذي لعبه المموِّلون اليهود مقابل اليونكرزوالبورجوازيات الصغيرة، وبالتالي فإن دورها سيكون تقدمياً. وقد أيَّد إنجلزالاستعمار الفرنسي للجزائر من هذا المنظور.






  8. #28
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي




    ويمكننا الآن أن نحاول إصداربعض التعميمات على تناول ماركس وإنجلز للمسألة اليهودية. ويمكننا أن نقول إنهمانتاج (أو سجينا) تجربتهما الغربية على وجه العموم والألمانية على وجه الخصوص، وهذاأمر طبيعي ومُتوقَّع. ويظهر هذا الجانب من فكرهما، أكثر ما يظهر، في فشلهما الكاملفي التمييز بين اليهودية واليهود وفي تصوُّرهما أن النسق الديني اليهودي المتنوع هونسق واحد له جوهر واحد، يُعبِّر عن نفسـه من خـلال اليهـود، يظهـر في عبارات مثل: « إله إسرائيل الطماع »، و« جوهر اليهود هو كذا »... إلخ. ولكن التناول العلمي لهذهالقضية لابد أن يؤكد تنوُّع اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً ويؤكد في الوقتنفسـه عدم تجانُس الجماعات اليهودية المختلفة. ولابد أن هناك علاقة ما بين الأنساقالعقائدية اليهودية المختلفة والجماعات اليهودية المختلفة، ولكنها على أية حال ليستعلاقة عضوية سببية كاملة صلبة كما يتخيل ماركس وإنما علاقة تتسم بالسببية الفضفاضةوتختلف من بلد إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.


    ومن الواضح أن ماركسوإنجلز لم تكن لديهما أدنى معرفة بيهود العالم الشرقي والإسلامي. كما أن معرفتهمبالجماعات اليهودية في أوربا ذاتها لم تكن قوية بما فيه الكفاية. ولذا، لا تُوجَدعندهما إشارات إلى الفروق الحضارية والطبقية بين السفارد والإشكناز داخل أوربا. كمالا يوجد لديهما إدراك للفروق الحضارية بين مختلف الجماعات اليهودية إذ يبدو أنتجربتهم كانت مركَّزة أساساً على يهود ألمانيا مع معرفة سطحية بيهود شرق أوربا. كماأنهما لم يتعرضا للدور الخاص الذي لعبـه يهـود المارانو في نشأة الرأسماليةالغربية. وبسبب قصور معرفتهما، فإنهما يشيران إلى اليهود بشكل عام وإلى المسألةاليهودية بشكل مجرد بدلاً من الحديث عن مسائل يهودية مختلفة. وقد تمادى الماركسيونبعد ذلك وزادوا درجة التعميم والتجريد وأصبحت كتابات ماركس وإنجلز العابرة مصدراًللتعميم العالمي والشامل (والذي يُقال له علمي!) على اليهود.

    ولعل جَهْلماركس وإنجلز بما كان يدور في شرق أوربا الذي كان يضم أغلبية يهود العالم، وبثقافةالجماعة اليهودية فيها (فاليديشية بالنسبة إلى إنجلز هي مجرد ألمانية فاسدة)، معالرغبة في الوصول إلى مستوى تعميمي مرتفع لا يستند إلى معطيات مادية وحضارية كافية،هو الذي جعلهما يتبنىان رؤية استقطابية للموضوع. فاليهود إما أنهم قومية عالميةوإما أنهم ليسوا بقومية على الإطلاق، ولم يطرأ لهما على بال وجود قومية شرق أوربية (نسميها «القومية اليديشية») مثل العديد من القوميات الأخرى هناك. وتصوَّر ماركسوإنجلز أن هناك حلين لا ثالث لهما: إما الصهيونية أو الاندماج الكامل. وهذا الموقفالاستقطابي هو الذي سقط فيه البلاشفة بعد ذلك فلم يتمكنوا من فهم طرح البوند للقضيةوظلوا يتخبطون إلى أن تبنُّوا حل بيروبيجان وهو حل يَصدُر عن قَدْر من التقبل لفكرةالقومية اليديشية.

    أما النقطة الأخيرة، فهي الخاصة بتناول ماركس وإنجلزلأصول الرأسمالية. فبرغم الإسهام التاريخي لكل من ماركس وإنجلز في عملية دراسة أصولوتطوُّر ومصير الرأسمالية، فإنهما لم يدركا دور الدين في هذه العملية إلا بشكلبدائي وبسيط للغاية. وهذا ميراث فكر عصر الاستنارة وثمرة النموذج الفلسفي الماديالذي تبنياه والذي يحوِّل كل الأفكار، وضمنها العقائد الدينية، إلى مادة اقتصاديةفي نهاية الأمر وفي التحليل الأخير!

    كما أنهما لم يسـتفيدا بالدراسـاتالاجتماعية والأنثروبولوجية العامة، التي لم تظهر بشكل مكثف إلا في نهاية القرنالتاسع عشر، عن الأديان المختلفة ودورها في النظم الحضارية الاجتماعية. ولذا، وبرغمالإشارات المهمة في كتاباتهما عن المسيحية واليهودية فإن هذه الإشارات لا تصل بأيةحال لعُمْق كتابات فيبر أو سومبارت.

    وقد ورث البلاشفة كل نقاط القصور لدىماركس وإنجلز. ورغم توافر المعطيات المادية والمعلومات اللازمة بشأن الجماعةاليهودية في منطقة الاستيطان، فإن الرؤية الماركسية شكلت الإطار المعرفي للبلاشفة،فتحركوا من خلالها ومن خلالها وحدها.

    رؤية ماكس فيبر (1864-1920) للعلاقة بين الرأســمالية والجماعات اليهودية
    Max Weber on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities

    ساهم عالم الاجتماع الألماني ماكسفيبر (1864 ـ 1920) في دراسة اليهود واليهودية من عدة جوانب. وأهم مفهوم في كتاباتههو مفهوم «الترشيد»، أي توظيف الوسائل بأعلى درجة من الكفاءة في خدمة الأهداف، وذلكعن طريق إخضاع الظواهر بشكل متزايد للمنطق الرياضي والهيمنة المنهجية المنظمة علىكل جوانب الحياة على أساس قوانين عامة ومبادئ تستبعد الالتفات إلى المعاييرالتقليدية أو الحماسة الكاريزمية، أو الالتفات إلى أية قيم أخلاقية أو عاطفية أوإنسانية. وهو يرى أن الترشيد هو السمة الأساسية لتاريخ البشرية المعاصرة، بل وتاريخالبشرية العام، فتاريخ الحضارة هو التقدم المستمر نحو مزيد من الترشيد.

    والترشيد ـ حسب رأيه ـ ليس سمة معزولة من سمات الحضارة الغربية، بل هوالسمة الأساسية، وهو مصدر خصوصيتها. ويربط فيبر هذه السمة بظواهر أخرى، مثل معمارالكاتدرائيات القوطية وظهور العلم الطبيعي المبني على التحليل الرياضي، ويرى أنهاعملية كامنة في الحضارة الغربية، فهي كامنة في القانون الروماني، وفي مفهوم الملكيةباعتباره حقاً مطلقاً، وفي انفصال الكنيسة في الغرب عن العالم الدنيوي بحيث تركت مالقيصر لقيصر وما لله لله، ثم في بنية المدينة الغربية واستقلالها عن التشكيلالإقطاعي.

    ولعبت اليهودية بوصفها ديانة توحيدية دوراً أساسياً في عمليةالترشيد هذه. إذ تضع الديانات التوحيدية مسافة بين الخالق والمخلوق. ولذا، لم يَعُدهدف المؤمن هو الاتزان مع الدنيا (عالم الطبيعة) كما هو الحال في الديانات الحلوليةوإنما التحكم فيها. هذه المحاولة للتحكم في كل العالم بكل تفاصيله، باسم مثل أعلىمُوحَّد، هي خطوة أولى نحو الترشيد، إذ لا يتعامل المرء مع الواقع على أساس ارتجاليوإنما يتعامل معه بشكل متكامل. وهذا ترشيد تقليدي مُتوجِّه نحو القيمة التي تحددهاالمعايير الأخلاقية المطلقة، ولكن هذا النوع من الترشيد حل محله الترشيد الحديث،وهو الترشيد المتحرِّر من القيم، والمتوجه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التيتروقه أو حسبما تمليه عليه رغباته أو مصلحته. فالترشـيد التقلـيدي كان يتم في إطـارالمطلق الديني، أما الترشيد الحديث فلا علاقة له بأيِّ مطلق ويتم في إطار نسبيكامل، ولذا نسميه «الترشيد الإجرائي» (ويُسمَّى أيضاً «الترشيد الأداتي»).

    ولكن فيبر يرى أن اليهودية لم تصل بعملية الترشيد إلى نهايتها المنطقية،ومن ثم لم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً مهماً ومركزياً في تطوُّرالرأسمالية. أي أن فيبر ـ على عكس سومبارت ـ يقول إن الجماعات اليهودية لم تساهمبشكل مباشر وأساسي في نشوء الرأسمالية الرشيدة حتى وإن كان لها إسهامها غير المباشرمن خلال عناصر الترشـيد الموجـودة في النسـق الديني (وبخـاصة كتب الأنبياء) ومنخلال تقويضها دعائم المجتمع التقليدي بإدخال عناصر اقتصاد التبادل. ويعود ذلك إلىالأسباب التالية:

    1
    ـ لم يكن تَوجُّه اليهود إلى هذه الحياة الدنيا بحدةتَوجُّه الجماعات البيوريتانية البروتستانتية التي جعلت هزيمة العالم وتَراكُمالثروة شاهداً على الرضا الإلهي، وهو تَوجُّه أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهورالمجتمع العلماني الرأسمالي.

    2
    ـ يرى فيبر أن المثل الأعلى اليهودي هوالعالم التلمودي الذي يدرس النصوص المقدَّسة وليس التاجر الذي يراكم الثروات. والعالم التلمودي كان في معظم الأحيان تاجراً أو مرابياً، ولكنه كان يعمل بالتجارةوالربا بعض الوقت وحسب، ولذا لم يكن بوسعه الوصول بعملية الترشيد إلى منتهاها.

    3
    ـ ولكن أهم الأسباب هو وجود عناصر غير رشيدة في الرؤية اليهودية للخلاص (مثل خصوصية يهوه وفكرة الشعب المختار والأخلاقيات المزدوجة) أدَّت إلى عزلة اليهودالنفسية، التي عمقتها العزلة الشعائرية. وحينما حضر اليهود إلى أوربا احتفظوابالوضع نفسه.

    وقد حلَّ اليهود غرباءً أو ضيوفاً على المجتمع المضيف لا حقوقلهم بل يتحدَّد وضعهم من خلال المواثيق المحددة بزمن، والتي تمنحهم المزاياوتزوِّدهم بالحماية. ولم يتمكَّن اليهود من الانضمام إلى نقابات الحرفيين ولميعملـوا في عـدد كبير من المهن، ولذا أصبحوا شـعباً منبوذاً. ولأنهم شعب منبوذ،كانت الأشكال الرأسمالية التي ظهرت بينهم هي رأسمالية المنبوذين؛ رأسمالية تستندإلى المعايير المزدوجة ومرتبطة بالجماعة اليهودية وشعائرها الدينية وتستفيد منأواصر القرابة وتنمو في أحضان الحاكم والنظام الإقطاعي وتتركز في المضارباتوالمشاريع الرأسمالية المضمونة التي تضمنها الحكومة، وهي كلها عمليات غير رشيدة ولاتؤثر في كل مجالات الحياة (كما هو الحال مع الرأسمالية الرشيدة). ووصف فيبرلرأسمالية المنبوذين والرأسمالية التقليدية هو وصف دقيق لنشاط أعضاء الجماعاتالوظيفية المالية الوسيطة. ولم يظهر بين اليهود حب للعمل في ذاته أو حب للثروة كهدففي ذاته، وإنما كان الهدف من العمل ومراكمة الثروة هو تحقيق الراحة لليهود حتىيمكنهم دراسة التوراة. وهم لم يقيموا استثمارات بعيدة الأمد، بل ظلت استثماراتهمتهدف لتحقيق الربح السريع. ولذا، فإنهم لم يساهموا في إنشاء الصناعة الغربيةالحديثة. كما لم يكن أمامهم مجال للتجريب، فالمؤسسات القائمة كانت تحقِّق لهم مايريدون من ثروة. ولم يكن بوسعهم، كغرباء، أن يجربوا إلا بإذن السلطة الحاكمة أوالقوي التي يتبعونها (وقد كان البيوريتان يحتقرون هذا النوع من الرأسمالية الذييركز على العقود الحكومية واحتكارات الدولة ومشاريع الأمراء والمضاربات).

    ويُبيِّن فيبر كذلك أن اليهودي لا يشعر بانعدام الأمن الداخلي الذي يشعر بهالمؤمن بتعاليم كالفن. فانعدام الأمن الذي يشعر به اليهودي كان خارجياً، أي الخوفمن عالم الأغيار. أما في داخل الجيتو، بين جماعته الوظيفية الوسيطة، فقد كاناليهودي يشعر بالأمن تماماً لأنه داخل الجيتو يعرف أنه فرد من الشعب المختار ولايخطر بباله أنه قد لا يُكتَب له الخلاص حتى بعد تنفيذ الوصايا التي وردت فيالتوراة. فالعلاقة التعاقدية تؤكد له إمكانية الخلاص. وهو لم يكن في حاجة لعلامة منالخالق ليفهم الإرادة الربانية الغامضة، فقد كانت لديه الشريعة التي يمكنه أنيدرسها ويعرف كل شيء فيها. ورغم أن النشاط الاقتصادي لليهودي كان يتم في عالمالأغيار، فقد كان هناك عالمه المقدَّس الذي يعود إليه. ومن هنا ظهرت هوة بين النشاطالتجاري والقيم الدينية، فالعمل التجاري لا يصب في الموقف الديني، والعمل لكسبالرزق لا يُعَدُّ في اليهودية نهاية في ذاته ولا هو وسيلة لتمجيد الخالق. ويمكنالقول بأن تراكم الثروة هو دليل على عدالة الخالق، ولكن الهدف الأساسي والنقطةالمرجعية يظلان بالنسبة إلى اليهودي الحياة التقية بحسب الوصايا والأوامر والنواهي،بل إن فكرة غزو العالم ذاتها تم الاستغناء عنها عن طـريق فكرة انتظار المـاشيَّح،وعدم الانغماس في التعجيل بالنهاية. وكان ضرورياً لليهودي أن ينتظر في صبر وأناةحتى يعود الماشيَّح، وهو ما يعني موقفاً انسحابياً من الدنيا.

    ويضيف فيبرعنصراً آخر في دراساته عن المدينة، فهو يفسر عدم نشوء الرأسمالية الرشيدة بين أعضاءالجماعات اليهودية بأنها نشأت في المدينة المسيحية، حيث كانت هذه المدينة في العصرالوسيط مؤسسة دنيوية مستقلة عن الكنيسة وعن الدولة، وكانت تضم أفراداً يقسمون يمينالولاء كأفراد لا كأعضاء في قبيلة أو عائلة، وهذا يعني ضمور وتهميش علاقات القرابةالتي ترتبط بشعائر محددة (مثل عبادة الأسلاف). ورغم أن نقابات الحرفيين والتجاركانت أساساً مسيحية ورموزها مسيحية، فإنها ظلت مؤسسات دنيوية يمكن لأي غريب أنينتمي إليها بعد أن يقسم يمين الولاء لها. وقد ساهمت المدينة بهذه الطريقة في فصلشئون العمل والتجارة عن شئون الأسرة والعشيرة. وكان من شأن هذا كله أن يساهم فيعملية الترشيد الآنفة الذكر. ومن المعروف أن اليهود لم يصبحوا قط جزءاً من المدينة. ورغم أنهم كانوا يحصـلون على حـق الإقامة فيـها، فإنهم ظلوا غرباء عنـها لا ينتمونإليها، بل كانوا أعدى أعدائها في بعض المناطق نظراً لتبعيتهم للنخب الإقطاعيةالحاكمة.

    وانطلاقاً من هذا، يرى فيبر أن الرأسمالية الرشيدة (أي التيتستند إلى أسس عامة موضوعية رشيدة بالمعنى الإجرائي والتي يهدف الإنتاج فيها إلىتعظيم الأرباح وليس إشباع الرغبات) لم تُولَد بين اليهود وإنما وُلدت في صفوفالبروتستانت، خصوصاً البيوريتان (المستوطنين البروتستانت في الساحل الشرقي منالولايات المتحدة) وغيرهم من أتباع المفكر الديني البروتستانتي كالفن، فهم الذينلعبوا الدور الأساسي في ظهور الرأسمالية الرشيدة. فالأخلاقيات البروتستانتية التيهيمنت عليهم جعلتهم يؤمنون بالعمل كغاية في ذاته وخلقت فيهم إحساساً عميقاً بعدمالطمأنينة (لأن الإله بعيد تماماً لا يمكن فهمه أو الوصول إليه أو التواصل معه). وبسبب هذا الإحساس بالبُعد والعزلة،يجعل المؤمن الهدف من حياته هو غزو العالم وغزوذاته وتوظيفهما لخدمة الإله (بما ينتج عن ذلك من عملية ترشيد كاملة) والهيمنة علىالعالم لإدخال الإحساس بالطمأنينة على ذاته.ومراكمة الثروة في هذه الدنيا هي أهمالنشاطات باعتبارها علامة على الاختيار والنجاح الذي سيؤدي إلى النعيم فيالآخرة.ولأن الثروة علامة من الإله، فإن على المؤمن ألا يبددها بل عليه أنيراكمها،أي أن الإنسان البروتسـتانتي ينكر على نفسـه المتعة ويقـوم بمراكمة الثروةكغاية في ذاتها.

    وأطروحة فيبر بشأن علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بعمليةالترشيد أو بنشأة الرأسمالية خصبة للغاية ولها مقدرة تفسيرية عالية، فهي لا تحاولفقط تفسير جانب مهم في التاريخ الاقتصادي لأوربا، بل تحاول أيضاً تفسير تطوُّراليهودية كنسق ديني وتطوُّر وضع اليهود داخل الحضارة الغربية، وهي بذلك أكثرتركيبية من كتيب ماركس المسألة اليهودية الذي كتبه في شبابه قبل نضوجه.






  9. #29
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    ونشير هنا إلى كثير من نقط النقص في تناول فيبر للموضوع، وهو أمر متوقعنظراً لاتساع حدود الموضوع:
    1 ـ ربما كان أهم نقط النقص في تصوُّرنا هوإغفال فيبر أهمية فكرة التوحيد باعتبارها فكرة تشكل قفزة نوعية للفكر الديني،وبدلاً من ذلك كان تركيزه على عناصر ثانوية (مثل العهد بين يهوه واليهود)، وهيعناصر مهمة ولكنها لا ترقى في أهميتها إلى فكرة التوحيد. كما لم يدرك فيبر أنالتوحيد في العقيدة اليهودية ظل مشوباً بعناصر حلولية وثنية، وأن اليهودية سقطت فيالواحدية الكونية التي تنبذها العقائد التوحيدية الحقة.

    2
    ـ يُفرِّق فيبربين عبادة يهوه وعبادة بعل مع أن من المعروف أن اليهودية دخلها كثير من العناصر منعبادة بعل حتى أصبحت عبادة يسرائيل خليطاً غير متجانس من العبادتين.

    3
    ـيفترض فيبر وجود قدر كبير من الوحدة في أسفار الأنبياء، وهو الأمر الذي لا تساندهقراءة متعمقة لهذه الأسفار.

    4
    ـ يتسم تحليل فيبر للفريسيين بالابتسارالشديد كما أنه لم يشر إلى الاتجاهات الأخرى، خصوصاً الأسينيين والغيورين الذينعبَّروا عن مصالح ومطامح الجماهير الشعبية.

    5
    ـ معرفة فيبر بالتلمود سطحيةللغاية، ولذا فهو لم يدرك أنه كتاب متناقض وأن كثيراً من أفكار الأنبياء اختفت وحلتمحلها صيغ سحرية أبعد ما تكون عن الترشيد. ويبدو أن معرفة فيبر بالتيارات الفلسفيةالمختلفة التي ظهرت بين الجماعات اليهودية في التشكيل الحضاري الإسلامي، بلوالمسيحي أيضاً، كانت ضعيفة.

    6
    ـ لم يذكر فيبر القبَّالاه من قريب أو بعيدرغم أنها سيطرت على التفكير الديني اليهودي منذ القرن السابع عشر.

    7
    ـ يفصلفيبر، وبحدة، بين الأشكال الرأسمالية في المجتمع التقليدي والرأسمالية الرشيدة. ومعالإقرار بالأهمية المنهجية والتفسيرية لهذا الفصل، يظل من الضروري أن ندرك أنالظاهرتين تتداخلان على مستوى التاريخ المتعين وأن اليهود لعبوا بالفعل دوراً فيتحطيم المجتمع التقليدي القديم كما بيَّن ماركس.

    8
    ـ ينظر فيبر إلى تواريخالجماعات اليهودية من الداخل كما لو كان هناك تاريخ يهودي مستقل عما حولهم منتشكيلات حضارية، ومن هنا محاولته تفسير فكرة «الشعب المنبوذ» بأنها نتاج الجيتوالداخلي الذي فرضه اليهود على أنفسهم.

    9
    ـ لم يتعرض فيبر لقضية يهودالمارانو وإسهامهم في نشأة الرأسمالية. وحاول سومبارت أن يطرح وجهة نظر مختلفة، حيثبيَّن أن اليهود هم أهم القطاعات البشرية التي أدَّت إلى ظهور الرأسمالية الرشيدةفي الغرب.

    وغنيٌّ عن القول أن فيبر وماركس وسومبارت، وغيرهم من المفكرينالغربيين، يتناولون وضع الجماعات اليهودية في الغرب وكأنه وضع عالمي. وربما يعودهذا إلى جهلهم بأحوال يهود الدولة العثمانية ويهود الهند والفلاشاه والصين بل ويهودجورجيا في روسيا. ومن هنا كان جنوحهم نحو التعميم المخل وحديثهم عن اليهود بشكل عامومجرَّد.

    رؤية فرنر سومبارت (1863-1941) للعلاقة بين الرأسماليةوالجماعات اليهودية
    Werner Sombart on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities
    يرى العالم الألماني فرنر سومبارت (1863 ـ 1941) أن ثمةعلاقة قوية بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (وبخاصة يهود المارانو) من جهةوظهور الرأسمالية وتطوُّرها من جهة أخرى. ويبدو أن هذا السؤال مطروح على سومبارتمنذ بداية رحلته الفكرية، وأنه حاول أن يعثر على إجابة إلى أن وجد ضالته. ويميِّزسومبارت بين نشاطين رأسماليين أحدهما «النشاط التجاري» (بالإنجليزية: كوميرشيال commercial) والآخر هو «النشاط الاستثماري» (بالإنجليزية: أنتربرينريال entrepreneurial). والترجمة الحرفية لهذه العبارة هي «رأسمالية المقاولات أوالوسطاء» ولكنها لا تؤدي المعنى المطلوب تماماً، على عكس الترجمة التي نقترحها. وهكذا، فإن النشاط الرأسمالي الاستثماري حسب تصوُّر سومبارت نشاط نيتشوي يتسمبالحيوية والتوقد الذهني والإدراك السريع وروح المغامرة والتجديد والإحساس بالقوةوالرغبة في تجاوز الأخلاق والحسابات العادية (أو أخلاق العبيد في فلسفة نيتشه). ويرى سومبارت أن المستثمر الرأسمالي يشبه أبطال ملحمة بيولف الأنجلو ساكسوني، فيمايُسمَّى «العصر البطولي»، وهي فترة قبل العصور الوسطى في الغرب وقبل دخول المسيحية. فهؤلاء الأبطال يجدون لذة غير عادية في الكفاح والصراع باعتبارهما هدفين فيذاتيهما، ويدخلون الحروب التي ليس وراءها عائد مادي، وهم يدخلون في علاقة مباشرةمتعينة مع الأشياء، وهي هنا العملية الإنتاجية. كل هذا يقف على الطرف النقيض منالرأسمالية التجارية التي تنظر إلى العالم بمنظار موضوعي.

    وهذا التقسيم هو،في واقع الأمر، تعبير عن التقسيم الثنائي الأساسي في علم الاجتماع الألماني بينالمجتمع التقليدي العضوي المترابط (الجماينشافت)، والجماعة التعاقدية الذريةالمفتتة (الجيسيلشافت). والرأسمالية الاستثمارية تعبير عن الجماعة الأولى،والرأسمالية التجارية تعبير عن الثانية.

    ومن الواضح أن التمييز بين هذينالنوعين من الرأسمالية هو تعبير عن الصـراع بين رؤية الاسـتنارة الآلية والرؤيةالعضـوية المعادية للاستنارة. وتبنِّي سومبارت للفكر العضوي هو في جوهره احتجاج علىتزايد معدلات الترشيد والعلمنة في المجتمع الغربي.

    كما أننا سنلاحظ أنالرأسمالية التجارية هي رأسمالية المجتمعات الإقطاعية التي تضطلع بها الجماعاتالوظيفية الوسيطة على عكس النشاط الرأسمالي الاستثماري، وهو ما يعادل الرأسماليةالرشيدة عند فيبر.

    ويرى سومبارت أن أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا فيتطوُّر الرأسمالية بشكل عام، وإن كانت هناك عدة عناصر جعلت ارتباطهم بالرأسماليةالتجارية أكثر قوة من ارتباطهم بالرأسمالية الاستثمارية. ويورد سومبارت عدة أسبابلهذه الظاهرة بعضها يعود إلى النسق الديني اليهودي والبعض الآخر يعود إلى وضعهم فيالمجتمعات الغربية:

    1
    ـ لم تُحرِّم اليهودية التجارة، ولم تنظر إليها نظرةسلبية، وإنما قامت بتنظيمها بل تشجيعها. وأبدت اهتماماً خاصاً بالأعمال المالية منأجل تحقيق الربح.

    2
    ـ حرَّمت اليهودية الإقراض بالربا بين اليهود ولكنهاأحلته بين اليهودي وغير اليهودي، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام اليهوديللاشتغال بالأعمال المالية ومراكمة رأس المال.

    3
    ـ تشجِّع اليهوديةالاعتدال والتحكم في الذات وعدم التعبير عن العواطف والدوافع بشكل تلقائي إلا منخلال قنوات شرعية مُعتَرف بها دينياً. ويعني هذا، في واقع الأمر، تحويل طاقات حيويةهائلة للنشاطات الاقتصادية. ويرى سومبارت أن هذا هو الترشيد الاقتصادي بعينه.

    4
    ـ يشير سومبارت إلى النسق الديني اليهودي، فيُلاحظ أن اليهودية مجردة منالأسرار والطقوس ذات الطابع الرمزي، وهو ما يعني أنها تنمي عقلية رشيدة عقلانيةتميل نحو الحساب وتبتعد عن المغامرة.

    5
    ـ العلاقة بين اليهودي والخالقعلاقة تعاقدية، فالخالق ليس عنصراً محاطاً بالأسرار وإنما عنصر مجرد غير شخصي لايمكن للمؤمن الدخول معه في علاقة شخصية، وبالتالي تظل العلاقة معه مجردة غير شخصية.

    6
    ـ ربطت اليهودية بين القداسة والثواب والعقاب في العالم الآخر من جهةوفكرة التعاقد من جهة أخرى. فمن يؤدي وصايا الخالق لابد أن يُكافأ على أفعاله بحسبالعلاقة التعاقدية. وشجع هذا ظهور اتجاه إنمائي بحيث يمكن للمؤمن أن يرجئ تحقيقرغباته في سبيل المكافأة النهائية، وهذا ضرب من التقشف ذي التوجه الدنيوي على نقيضالتقشف الديني ذي التوجه الأخروي.

    7
    ـ يُلاحظ سومبارت أن اليهودية ديانةمعادية للطبيعة تهدف إلى غزوها والهيمنة عليها، وهذا هو أحد أهداف الرأسمالية.

    كل هذه العناصر في النسق الديني اليهودي تتفق تماماً مع روح الرأسمالية،الأمر الذي جعل اليهود مرشحين لأن يضطلعوا بالوظائف التجارية أكثر من أي قطاع بشريآخر. ومما ساعد على تحقيق هذا الاتجاه عناصر خاصة بالتجربة التاريخية لليهود قوَّتهذا الاتجاه وساعدته على التحقق، منها:

    1
    ـ تشتُّت اليهود، أي انتشارهمخارج فلسطين في ربوع الأرض، وهذا ما جعلهم يكوِّنون شبكة مالية تجارية ضخمة ويعطونالعلاقات التجارية طابعها الدولي اللازم لنشوء الرأسمالية.

    2
    ـ وحين تشتَّتاليهود، خرجوا من بيئة صحراوية يحملون معهم الروح السامية التجارية إلى الشمال الذيتسود فيه الروح الآرية وروح المغامرة. ويبدو أن الصحراء في ذهن سومبارت هي رمزالحسابات الرشيدة الباردة وهي البيئة التي يتحول فيها الإنسان إلى مخلوق أناني ذرييرغب في البقاء، ونقيضها الطبيعة الثرية في الشمال التي تشجع على اتساع الأفقوارتياد المجهول. وهنا نرى صورة أخرى من الجماينشافت (الجماعة المترابطة) والجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي). ويرى سومبارت أن المدينة الحديثة ليست إلا صحراءكبيرة تضم أشخاصاً أنانيين لا يكترثون إلا بمصالحهم.

    3
    ـ يبدو أن الحياة فيالصحراء أو العقلية الصحراوية التي تشجع على الحساب تجعل الإنسان شخصية مرتبة ترفضالتلقائية، على عكس حياة الريف في أحضان الطبيعة، أي أن الحياة في الصحراء تشجع علىما يمكن أن نسميه «الشخصية التعاقدية».

    4
    ـ ظل اليهود، بعد انتشارهم خارجفلسطين، غرباء عن المجتمعات التي حلوا بها، ومن المعروف أن الغريب يقوم بتثويرالمجتمعات التي يحـل بها، كما أنه يضطلـع بوظـائف يأنف أعضاء المجتمع من ممارستها.

    5
    ـ يرى سومبارت أن أعضاء الجماعة اليهودية ساعدوا الدولة الحديثة على أنتصبح ما هي عليه ربما لكونهم يهود بلاط. وهذه الدولة هي الإطار الذي تطوَّرت منخلاله الرأسمالية الحديثة.

    6
    ـ طوَّر اليهود أيضاً كثيراً من الآلياتاللازمة لظهور النظام التجاري والحسابات المعقدة.

    7
    ـ كان لدى اليهود رؤوسالأموال الكافية للاستثمار، ولتمويل المشاريع المختلفة، ومن الواضح أن سومبارت يفكرهنا في يهود المارانو الذين لم يُشر إليهم أيٌّ من فيبر وماركس.

    ولعلالمشكلة الأساسية في أطروحة سومبارت هي أنه يجعل من اليهود سبباً في نشوءالرأسمالية ويستبعد العناصر الأخرى مثل حركة الإصلاح الديني. ولو أن اليهود همالسبب الأساسي لكانت الرأسمالية قد ظهرت في شرق أوربا حيث كانوا مُركَّزين (أو حتىفي وسطها)، ولكنها ظهرت أساساً في غرب أوربا، في إنجلترا التي لم يكن يوجد فيهايهود على الإطلاق، وفي فرنسا وهولندا اللتين ضمتا أقليات يهودية صغيرة.

    ويبدو أن سومبارت لم يكن ملماً بقدر كاف بعدم تجانس التراث الديني اليهوديوبخاصيته الجيولوجية، فبينما كان يتحدث عن اليهودية كديانة تعاقدية، كانت الحسيدية (الصوفية) قد اكتسحت معظم يهود العالم منذ قرنين أو ثلاثة قرون. ومع هذا، تَجدُرالإشارة إلى عدم وجود تَعارُض بين الحلولية والتجارة، بل إن الفكر الحلولي يشجع علىالاهتمام بالعالم المادي ويخلع عليه القداسة. ولكن هذا يختلف عن طرح سومبارتللقضية، فهو يتحرك في إطار التلمود واليهودية الحاخامية أو ربما العهد القديم وحسب.

    ولم يأخذ سومبارت في الاعتبار أن خصوصية وضع اليهود داخل التشكيل الحضاريالغربي، كجماعة وظيفية وسيطة، والتي جعلتهم يساهمون بشكل واضح في نشوء الرأسمالية،هي ذاتها التي وضعت حـدوداً على حركتهم بحـيث ظل إسـهامهم هو إسهام الجزء في حركةالكل.

    ولتوثيق هذا التعميم قد يكون من المفيد دراسة مدى إسهام يهودأمستردام (وكان معظم أثريائهم من المارانو) في نمو الرأسمالية الهولندية بشيء منالتفصيل.

    بلغ دخل عضو الجماعة اليهودية في القرنالسابع عشر 1448 جلدراًمقابل 828 لغير اليهودي، وكان اليهود السفارد من أكبر مالكي الأسهم، فكانوا من كبارالمساهمين في شركتي الهند الشرقية والهند الغربية الهولنديتين، وشاركوا في مختلفنشاطاتها الاقتصادية الاستيطانية، وكان 25% من أسهم شركة الهند الشرقية في أيديهودية. ولكن الوضع كان مختلفاً في شركة الهند الغربية إذ كانت نسبة المساهميناليهود ضئيلة للغاية (دفع 18 يهودياً نحو 36 ألف جلدر من رأسمال يبلغ ثلاثةملايين). ولعب اليهود السفارد دوراً في تأسيس الجماعات اليهودية في نيويورك ولندنوفي أنحاء العالم الجديد، كما استوطنوا في البرازيل وكوراساو وكايان وسورينام التيكان يُوجَد فيها أربعمائة مزرعة عام 1733 منها 115 في يد اليهود.

    وحسبسجلات أمستردام لعام 1609، وهي أقدم السجلات، لم يكن يوجد سوى 24 يهودياً سفاردياًبرتغالياً بين 731 مودعاً، ومن 708 مودعين عام 1611 لم يكن يوجد سوى 28 يهودياً. وبين أكبر 320 مودعاً، لم يكن يوجد سوى عشرة يهود. وفي عام 1620، كان عدد المودعين 1202، بينهم 106 فقط من اليهود. وظلت النسبة ثابتة، ففي عام 1674 بلغ عدد المودعين 1302 من بينهم 265 يهودياً، ومن بين 685 يدفعون أعلى ضرائب كان يوجد يهودي واحدفقط. وفي عام 1631، لم يكن يوجد سوى ستة يهود. ومن المجموعة الثانية من دافعيالضرائب لم يكن يوجد سوى 15 يهودياً، أي أنه لم يكن يوجد سوى 21 يهودياً ثرياً فيأمستردام عام 1631.

    وتغيَّرت الصورة قليلاً في منتصف القرن السابع عشرالميلادي، فكان يوجد 13 يهودياً يحتفظون بحسابات ضخمة في بنك أمستردام (عام 1646). وكان هناك 245 يهودياً ثرياً، من بينهم ستة كان كل منهم يمتلك 100,000 جلدر. ومعهذا، كانت ثروة اليهود صغيرة بالنسبـة إلى الثروة الكليـة، فكـان أثرياء اليهـودهـؤلاء (245) يمتلكون 3,621,800 جلدر من مجموع 185,582,000 جلدر يملكها الأثرياء فيأمستردام، أي أن اليهود كانوا يمتلكون نحو 2% من الثروة. وهذا هو النمط العام الذيساد غرب أوربا والبلاد التي ظهرت فيها رأسماليات قوية في مرحلة مبكرة، وبالتاليكانت لها تجارب استعمارية. وهو نمط وجود ثروة في يد بعض المموِّلين اليهود بنسبةتفوق كثيراً نسبة اليهود إلى عدد السكان. ولكن تظل هذه الثروة جزءاً من كل، ولايمكن أن يُطلَق عليها «رأسمال يهودي» حيث إن ما يُحدِّد حركة رأس المال هو الحركةالاقتصادية للمجتمع ككل، وليس كون رأس المال مملوكاً من قبَل بعض الممولين من أعضاءالجماعات اليهودية.







  10. #30
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,235
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 34

    افتراضي



    يهود المارانو كعنصر تحديث وعلمنة في المجتمعاتالغربية وبين الجماعات اليهودية
    The Marranos as Agents of Modernization and Secularization in Europe and among Jewish Communities
    كانت بعض الدول الغربيةتشجع يهود المارانو على الاستيطان فيها، إذ كان كثير من الدول الغربية، خصوصاًالبروتستانتية، ترى أن اليهود بوسعهم أن يضطلعوا بدور الجماعة الوظيفية التجاريةالنافعة. وكانت هذه الرؤية تطابق، إلى حدٍّ ما، رؤية المارانو لأنفسهم. فكثير منهم،ممن كانوا يبطنون اليهودية، كان يستمر في التخفي حتى يستفيد من الفرص الاقتصاديةالمتاحة أمامه، إذ كان تهوُّده يعني فقدانه إياها. ولذا، نجد أن كثيراً من المارانوبقوا في شبه جزيرة أيبريا بحثاً عن الفرصة الاقتصادية وحفاظاً على أملاكهم منالمصادرة، مؤثرين ذلك على الهجرة إلى بلد بروتستانتي أو إسلامي يمنحهم حرية العبادةولا يمنحهم الفرصة الاقتصادية نفسها. كما أن كثيراً من يهود المارانو الذين هاجرواإلى دول جديدة، بقوا على علاقاتهم مع المؤسسات التجارية في إسبانيا والبرتغال ومعأعضاء أسرهم الذين تنصَّروا بالفعل. وكان الحكم الإسباني أو البرتغالي يستفيد منخبراتهم واتصالاتهم الدولية، وبنفوذهم ورأسمالهم، برغم اضطهاد محاكم التفتيش. وثمةحالات عديدة قام فيها يهود المارانو بالتجسس لصالح الدولتين الإسبانية والبرتغالية. وثمة حالات كان يهود المارانو يهاجرون فيها من إسبانيا أو البرتغال ثم يعودون إليهاللقيام بالأعمال التجارية، وهو ما يعني أنهم كانوا يضطرون إلى اعتناق المسيحية مرةأخرى، لفترة وجيزة، أو على الأقل التظاهر بذلك.

    ولعب المارانو دوراً مهماًوفعالاً في تأسيس الشركات التجارية والاستيطانية الكبرى، مثل شركة الهند الشرقيةوشركة الهند الغربية (الهولنديتين)، وساهموا أيضاً في شركات منافسة أسسهاالبرتغاليون ليخرجوا الهولنديين من البرازيل.

    كما أسس المارانو، بما كانلهم من خبرة مالية، شركات تأمين وعديداً من المصارف، حيث كانوا ذوي شهرة في التعاملفي بورصات الأوراق المالية. وأسسوا مصانع للصابون والأدوية، وساهموا في سك المعادنوصناعة السلاح وبناء السفن. واحتكر المارانو تقريباً التجارة الدولية في سلع مثل: المرجان والسكر والطباق والأحجار النفيسة، كما اشتغلوا بتجارة الرقيق بسبب وجودأعداد منهم في أوربا، وفي العالم الجديد، وفي مستعمرات البرتغال في أفريقيا، التيكانت تُعَدُّ مصدراً أساسياً للعبيد. وكان عـدد من يهـود البلاط من أصل ماراني. وساعدهم على تبوُّء مكانتهم المالية واضطلاعهم بهذه الوظيفة عاملان أساسيان: أولهماأن المارانو، بانتشارهم وهامشيتهم واحتفاظهم بالروابط بينهم وباللادينو كلغة مشتركةللتجارة الدولية، كوَّنوا أول شبكة تجارية عالمية وأول نظام ائتماني في العصرالحديث كان يربط بين معظم أطراف العالمين الإسلامي والمسيحي بشقيه الكاثوليكيوالبروتستانتي. وامتد نشاطهم إلى العالم الجديد، حيث ارتبطوا بكثير من المشروعاتالتجارية للاستعمار الغربي. وتم كل ذلك في غيبة نظام ائتماني عالمي، أو نظام ثابتلعلاقات دولية. كما تزامن انتشارهم في العالم مع بداية علمنة المجتمع الغربي وظهورالحكومات المطلقة التي كانت تأخذ بالمنفعة والولاء لها (وليس الانتمـاء الدينيأوغيره من الانتماءات) معياراً للحكم على الأفراد.

    وتجب ملاحظة أن التجارةالتي اشتغل بها المارانو كانت التجارة الدولية، وأن الأعمال المصرفية التي اضطلعوابها كانت أعمالاً مصرفية متقدمة فكانت كلتاهما (التجارة والأعمال المصرفية) لا تشبهمن قريب أو بعيد التجارة البدائية التي كان يعمل بها يهود الإشكناز أو الربا الذيكانوا يشتغلون به.

    وكانت الصناعات التي طوروها واستثمروا فيها أموالهم ـإلى حدٍّ كبير ـ صناعات رأسمالية بالمعنى الحديث للكلمة. كما أن ثقافتهم العالية،وأعدادهم الصغيرة، وعدم انغلاقهم، سهَّلت عملية اندماجهم في المجتمعات الغربية. ومنهنا، فإن المارانو كانوا يعيشون في صلب المجتمع الغربي، أوفي جسده، وليس في مسامهعلى طريقة الإشكناز. ولذا أيضاً، لم تظهر بينهم مسألة يهودية، إذ كانت المسألةاليهودية مسألة إشكنازية أساساً. ويتجلى هذا في فرنسا حيث طبَّق نابليون قوانينهبشأن إصلاح اليهود، على الأشكـناز وحدهـم دون السـفارد. وينطـبق الشيء نفسه علىإنجلترا إذ أن يهـود إنجلـترا السفارد من عائلات مونتيفيوري ومونتاجو ودزرائيلي،وغيرها، اندمجوا تماماً في المجتمع وأُعطوا حقوقهم كافة. وبدأت الهجرة الإشكنازيةمن شرق أوربا، فظهرت مسألة يهودية أدَّت إلى صدور قانون الغرباء، ثم مشروع شرقأفريقيا، ثم وعد بلفور، وذلك لإبعاد الهجرة الإشكنازية عن إنجلترا.

    لكلهذا، قال عالم الاجتماع الألماني سومبارت « إن يهود المارانو كانوا عنصراً أساسياًفي تشكيل الاقتصاد التجاري الصناعي الجديد في أوربا ». ورفض سومبارت أطروحة فيبرالخاصة بعلاقة الرأسمالية والبروتستانتية، والتي ترى أن دور اليهود فيها كانثانوياً بسبب ارتباطهم بالحكومات والنخبة الحاكمة. ويطرح سومبارت بدلاً من ذلكنظريته الخاصة بعلاقة اليهود، خصوصاً المارانو، بقيام النظام الرأسمالي الحديث،فيرى أن اليهود لعبوا دوراً أساسياً وحاسماً في تحديث وعلمنة أوربا بإدخالهمأشكالاً جديدة من الاقتصاد المجرد الذي هدم العلاقات الإقطاعية المتعينة.

    هذا هو دور المارانو التحديثي في العالم الغربي ككل، وهو أمر معروف وربمامُتَّفق عليه. أما دورهم في تحديث الجماعات اليهودية فهو أكثر غموضاً ويحتاج إلىإيضاح وتفسير. وقد أشرنا من قبل إلى أن هوية يهود المارانو كانت هامشية، حيث كانوايقفون بين المجتمع المسيحي والجماعات اليهودية ولا ينتمون إلى أيٍّ منهما. وكانوايعرفون التقاليد الحضارية لكلا المجتمعين، كما كانوا على مستوى ثقافي رفيع على عكسيهود اليديشية. ولذا، أمكنهم أن يكونوا قناة توصيل بين المجتمعين. لكن أكبر إسهامليهود المارانو في عملية تحديث اليهود واليهودية هو هجومهم على اليهودية الحاخاميةوعلى مؤسساتها كافة.

    وقد كان كثير من يهود المارانو يُضفون غلالة منالمثالية على اليهودية أثناء تخفيهم لأنهم كانوا يرفضون السلطة الكنسية والكهنوتية،كما كانوا يتصورون أن اليهودية دين تَسامُح وحرية وعقلانية تتقبَّل النقد بسماحة. وقد اعتادوا، أثناء فترة تخفيهم، انتقاد الكنيسة وممارساتها بينهم، الأمر الذيطوَّر عقليتهم النقدية بعيداً عن أي شكل من أشكال الحوار. ولكنهم حينما ذهبوا إلىأمستردام، وجدوا صورة مغايرة تماماً لأحلامهم. فالجماعة اليهودية في الوسطالبروتستانتي كانت تحاول الابتعاد قدر الإمكان عن عالم الأغيار الذي كان يتهددهابالاندماج، ولذا كانت تبذل قصارى جهدها في السيطرة على كل أعضاء الجماعة اليهودية،وفي المحافظة على التفرقة بين السفارد والإشكناز. ويرى بعض المؤرخين أن قياداتالمارانو (السفارد) ومؤسساتهم (الماهاماد) كانت متأثرة وبعمق بأساليب محاكم التفتيشوالدولة الإسبانية، وطبقتها على أعضاء الجماعة. لكل هذا، كان من العسير علىالمارانو، برؤيتهم النقدية، تقبُّل المؤسسة الحاخامية بكل انعزاليتهاوتعصُّبها،فهي من وجهة نظرهم لا تختلف كثيراً عن محاكم التفتيش. ولذا، فقد استمروا في توجيهسهام نقدهم نحو المؤسسة الحاخامية وضد كثير من جوانب التراث اليهودي، الأمر الذيأضعف سيطرة القيادة الدينية وهزَّ شرعيتها.

    ولكن ثمة جانباً آخر فيتجربة المارانو هو الذي أدَّى إلى هز اليهودية الحاخامية من جذورها، وقسَّم يهودأوربا إلى طوائف وفرق. ذلك هو الدور الذي لعبوه في الحركات المشيحانية. وكمابيَّنا، كان المارانو ينكرون أن المسيح هو الماشيَّح ولكن وجودهم في كنف حضارةمسيحية، عمَّق إحساسهم بأهمية شخصية المسيح ومركزيتها. ولذا، ظلت العقيدةالمشيحانية حية قوية بينهم، وأدَّى وضعهم وخوفهم الشديد من محاكم التفتيش إلى تعميقالنزعة المشيحانية بينهم وزاد من حرارتها. كما ظل المارانو، بسبب كونهم يهوداًمتخفين، غير قادرين على تنفيذ الأوامر والنواهي كافة، ولذا أخذوا في تأكيد أهميةالإيمان المجرد وعدم أهمية الالتزام بالعبادات والشعائر. بل إن بعضهم جعل من خرقالشريعة فضيلة. وثمة بُعد اجتماعي سياسي لتعاظم النزعة المشيحانية بينهم، فقد كانللمارانو وضـع متميز في شبه جزيرة أيبريا قبل طردهم حيث كان منهم الوزراءوالملتـزمون وكبار التجـار. وقـد تدنَّى وضعـهم في البلـدان الأوربيـة الجديدةالتـي استـوطنوا فيها. كمـا أنهم، حتى بعـد أن أحرزوا مكـانة عاليـة، ظلوا بعيدينعن المشاركة في السلطة السياسية.

    وساهم المارانو في نشر القبَّالاهاللوريانية التي تجعل اليهود عمـاد الخـلاص في العالم، والتي ربطت بين التصـوفوالنزعة المشيحانية، والتي تعوِّض اليهودي عن عدم مشاركته في السلطة السياسية بجعلهشريكاً مع الخالق في خَلْق العالم، بل وفي تحقيق الرب لذاته ولوجوده. ولذا يمكنالقول بأن المارانية شكل من أشكال العلمنة لا يختلف كثيراً عن الربوبية التي تؤمنبالإله الخالق وترى أنه يمكن التوصل إليه بالعقل دون حاجة إلى وحي أو رسل (وهذا هوأيضاً جوهر الماسونية الربوبية).

    وإذا أضفنا إلى كل هذا ما ذكرناه من قبلعن ضعف الهوية، فيمكننا أن نرى لماذا أصبحوا تربة خصبة للنزعة المشيحانية. وقد كانشبتاي تسفي، الذي أظهر غير ما أبطن، يتبع نمط المارانو في هذا. وكان تسفي من أصلسفاردي، وانتشرت دعوته بين المارانو، بخاصة في مدينة سالونيكا التي أصبحت فيما بعدمركزاً للدونمه. وحينما ظهر تسفي، خرق الشريعة على طريقة يهود المارانو، وأبطلالأوامر والنواهي، ووعد أعضاء الجماعات اليهودية بأن يصبحوا سلطة سياسية مستقلة فيفلسطين، بل ووزع كثيراً من الممالك على أتباعه على طريقة المشحاء المخلِّصين. وقدتأثر به يعقوب فرانك («فرانك» تعني «سفاردي» باليديشية) صاحب الحركة الفرانكيةالمشيحانية.

    ويرى البعض أن الصهيونية هي شكل من أشكال المارانية أيضاً، فهيعملية تحديث لليهودية تُسقط الشريعة وتحل إشكالية عدم المشاركة في السلطة. كما يرونأن حركة التنوير اليهودية، وفكر مندلسون، كلاهما فكر ماراني يحتفظ بالجوهر اليهوديالموسوي ويُسقط الشعائر كافة. ومن المعروف أن بعض قيادات يهود السفارد كانوا منأكثر المتحمسين لحركة الاستنارة، وأن إسبينوزا من أصل ماراني. بل يمكن أن نرىالتراث الماراني مستمراً في شخصيات مثل دزرائيلي ودريدا (فيلسوف التفكيكية).





 

صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 1234567 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-27, 05:42 AM
  2. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الخامس
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-26, 05:58 AM
  3. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الرابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:39 AM
  4. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الثالث
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 69
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:31 AM
  5. اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الثاني
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 96
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:04 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML