إذا افترضنا جدلاً وجود تاريخ يهودي مستقل، فما أحداث هذاالتاريخ؟ وهل تأتي الثورة الصناعية، مثلاً، ضمن أحداث هذا التاريخ، أم أنها حدثينتمي إلى التاريخ الغربي؟ والواقع أننا نجد أن الثورة الصناعية حدث ضخم في التاريخالغربي ترك أعمق الأثر في يهود العالم الغربي وأحدث انقلاباً في طرق حياتهم ورؤيتهمللكون في القرن التاسع عشر، أي بعد وقوعه بفترة وجيزة. لكننا نجد أيضاً أن هذاالانقلاب لم يحدث لهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم أقلية تُوجَد داخل التشكيلالحضاري الغربي. ومن هنا، فإننا نجد أن هذا الانقلاب في طرق الحياة والرؤية للعالمقد حدث أيضاً لأعضاء الأغلبية ولأعضاء الآليات الأخرى الموجودة داخل المجتمعاتالغربية. وفي الوقت نفسه، لم يتأثر يهود العالم العربي بالثورة الصناعية بالدرجةنفسها وفي الوقت نفسه، ذلك لأن التشكيل الحضاري العربي كان بمنأى عن هذه الثورةالصناعية في بداية الأمر. لكن هذا التشكيل بدأ بعد حوالي قرن من الزمان يتأثربالثورة الصناعية، وبالتالي فقد بدأ أثرها يمتد إلى معظم المجتمعات العربيةبأغلبيتها وآلياتها. أما يهود إثيوبيا، مثلاً، فلم يتأثروا إلا بشكل سطحي، ذلك لأنالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي كانوا يعيشون في إطارها ظلت بمنأى عن تلكالتحولات الكبرى التي ترتبت على أحداث الثورة الصناعية، بل بقيت هذه التشكيلة ذاتطابع قَبَلي حتى وقتنا الحاضر. وبعبارة أخرى فإن الآثار المترتبة للثورة الصناعيةفي أعضاء الجماعات اليهودية هي مسألة تتعلق بأثر الثورة الصناعية في كل جماعةيهودية على حدة، وترتبط أشد الارتباط بآثار هذه الثورة في المجتمعات التي تعيش فيكنفها هذه الجماعات اليهودية.
وعلى هذا، فإن الإطار المرجعي للدراسة لايمكن أن يكون التاريخ اليهودي. ولو أن الباحث جعل هذا التاريخ اليهودي مرجعاته لعجزحتماً عن تفسير كثير من عناصر التفاوت وعدم التجانس في هذا التاريخ، ولاضطر إلى ليّعنق الحقائق ليفسر سبب تأثر يهود لندن بالثورة الصناعية فور حدوثها وعدم تأثر بعضيهود إثيوبيا بها حتى الآن! أو اضطر إلى تفسير أحداث هذا التاريخ اليهودي الوهمي منخلال عناصر ثانوية أو وهمية، مثل رغبات اليهود وتطلعاتهم وتماسكهم ومدى اضطهادالآخرين لهم أو عطفهم عليهم. وإذا تأملنا الدراسات التي تفترض استقلالية التاريخاليهودي فإننا سنجد عبارات مثل: « وكان بورش الأميني متسامحاً مع اليهود فأعادهمإلى بلادهم » أو « وتمت عـدة هجمات ومـذابح ضد اليهود عـام 1882 في روسيا القيصرية » أو « وبدأ اليهود يفكرون في تقليد الشعوب الأخرى لتصبح لهم حركتهم القومية ووطنهمالقومي في فلسطين »، وكل هذه العبارات تفترض أن الأحداث التي تقع لليهود تُفسَّربالعودة إلى تاريخهم المستقل الافتراضي، وإلى رغباتهم وأحلامهم التي يبررها هذاالتاريخ الافتراضي. ويتم تجاهل البناء الإداري للإمبراطورية الفارسية التي اعتمدتعلى الشعوب الموالية لها، أو أزمة الرأسمالية أو النظام القيصري في عام 1882، أوظهور الإمبريالية الغربية التي كانت تحل مشاكل أوربا عن طريق تصدير هذه المشاكل إلىالشرق، وبالتالي حاولت حل مسألتها اليهودية عن طريق إرسال إلى هود إلى الشرق. لكنعزل التجارب التاريخية للجماعات اليهودية عن سياقها التاريخي الإنساني العاميحوِّلها، في الحقيقة، إلى أجزاء من واقع يهودي عام واحد يمكن فرض أي معنى عليه. ولذا، فإن وقائع اضطهاد اليهود (كاضطهاد يهود فلسطين على يد الفرنجة أو اضطهاد يهودروسيا في أواخر القرن التاسع عشر بسبب التحديث المتعثر) بدلاً من أن تُدرَس من حيثهي وقائع يمكن تفسير كلٍّ منها في سياقها التاريخي المختلف، تصبح تعبيراً عن غربةشعب نُفيَ من بلده، ويصبح الاستيطان في فلسطين وطرد الفلسطينيين من بلادهم ليسجزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي وإنما النهاية السعيدة لتجوال شعب بلا أرض ـشعب افتراضي تجوَّل بسبب اضطهاد الجنس البشري له في كل زمان ومكـان ـ وتصـبح الدولةالصهيونية الحل الحتمي والوحيد لهذه المأسـاة.
وإذا ما تركنا الجانبالمعرفي، سواء من ناحية الرصد أو من ناحية التفسير، وانتقلنا إلى الجانب الأخلاقيوالإنساني، فإننا سنكتشف أن نموذج التاريخ اليهودي المستقل يفترض وجود جوهر يهوديكامن يشكل ما يشبه النمط الفكري الجاهز لكل الأشكال التاريخية التي عاش في إطارهاأعضاء الجماعات. حيث يتجاوز هذا الجوهر كل التحولات ويصبغها بصبغته ويتحدى جميعالقوانين التاريخية المعروفة ويتخذ اسم «الماضي اليهودي» أو «الاستمرار اليهودي» أو «روح اليهودية» أو «الشعب اليهودي الأزلي» أو «المستقبل اليهودي»، وهذه جميعاًمطلقات علمانية تحل محل الإله الذي يوجه التاريخ اليهودي حسب الرؤىة الدينيةالحلولية. ومن هنا، فإننا نذهب إلى القول بأن مفهوم التاريخ اليهودي (في إطارهالعلماني العلمي) تعبير عن حلولي بدون إله حيث يصبح مسار هذا التاريخ هو التحققالتدريجي لهذا الجوهر الكامن وللـروح اليهـودية الدينيـة القوميـة. ويتم تفسير كلشيء على هذا الأساس، وتصبح مهمة المؤرخ هي البحث عن الجوهر اليهودي والروح اليهوديةوكل ما يعبِّر عنهما، متجاهلاً كل التفاصيل الأخرى. كل هذا يجعل التاريخ اليهوديأمراً لا علاقة له بالواقع الإنساني الدنيوي: تاريخ يشبه البناء المصمت المنغلق علىنفسه ويعبِّر عن نمط أو أنماط محددة متكررة لا تتعدى حدود تَجلّي الجوهر اليهوديالمطلق. وهذا النمط يأخذ الشكل التالي: منفى ثم عودة؛ المنفى هو الحدث الذي يقعلليهود، والعودة هي الفعل الذي يأتون به، وهذا التاريخ يبدأ عادةً بالعبودية في مصرثم يتم التغلغل في كنعاة والاستيلاء عليها وتأسيس المملكة العبرانية. ثم يتكررالنمط بالتهجير الآشوري والبابلي، تليه العودة من بابل حسب مرسوم بورش (الذي يؤسسالهيكل)، ثم تأسيس الدولة الحشمونية. ثم يتكرر النمط مرة ثالثة بهدم الهيكل على يدتيتو وشتات اليهود وعجزهم بسبب عدم المشاركة في السلطة وغياب السيادة. وتصل حالةالمنفى إلى قمتها في الإبادة النازية (الحدث الأكبر)، ثم تبدأ العودة من خلال تأسيسالحركة الصهيونية ثم تأسيس الدولة الصهيونية (الفعل الأكبر). ويلي ذلك تجميعالمنفيين من كل البلاد، وهذا النمط يفترض دائماً نهاية (مشيحانية) للتاريخ تتوقفعندها الدورات ويختفي الجدل ويظهر الفردوس الأرضي.
ومثل هذا التصورللتاريخ، بأنماطه الهندسية المتكررة الرتيبة ونهايته القاطعة، لا يتنافى فقط معالروح العلمية، وإنما يتنافى مع الروح الإنسانية كذلك. فهو يُسقط عن اليهودي صفةالإنسانية بإنكار تفاعله مع البيئة التي حوله، يتأثر بها ويؤثر فيها، شأنه في هذاشأن كل أعضاء الجماعات الآنية والدينية الأخرى. فالقوات الآشورية والبابلية لمتكتسح الدولتين العبرانيتين وحسب، بل اكتسحت معظم الطويلات الآرامية وغيرها. كما أنأزمة النظام القيصري لم تتسبب في مذابح لليهود وحسب، بل كانت لها آثار سلبية عميقةفي قطاعات كثيرة من البورجوازية الروسية وفي جماهير الشعوب الإسلامية وغيرها. فنموذج التاريخ اليهودي يُسقط إنسانية اليهودي، ويخلع عليه هالة أسطورية لا تاريخيةإذ تضعه خارج التاريخ الإنسانيالفعلي.
لكل ماتقدَّم، استبعدنا تماماً مصطلحات مثل: «التاريخ اليهودي» و«الماضي اليهودي» و«القَدَر اليهودي» و«المصير اليهودي»، وكذلك سائر المصطلحات التي تفترض وحدةالتاريخ اليهودي بشكل مباشر مثل «الاستمرار اليهودي». كما استبعدنا كل المصطلحاتالتي تفترض هذه الوحدة بشكل غير مباشر مثل «العبقرية اليهودية» و«الجوهر اليهودي». واستبدلنا بكل هذا مصطلحات تفترض التنوع وعدم التجانس مثل «الجماعات اليهودية»، وهومصطلح يفترض أن الجماعات اليهودية خاضعة للآليات التاريخية التي يخضع لها أعضاءالمجتمعات التي يعيش في كنفها إلى هود. وقد فصلنا تماماً بين التاريخ المقدَّس الذيورد في العهد القديم والأحداث التاريخية التي وقعت للعبرانيين وللجماعات اليهوديةمن بعدهم، وفصلنا بين تاريخ اليهودية وتواريخ الجماعات اليهودية، ومن ثم فإننا لانستخدم مصطلحات مثل «مرحلة الهيكل الأول» أو «هدم الهيكل» أو «الكومنولث الأول» أو «العصر التلمود» إلا في سياق الحديث عن التطورات الدينية، إذ أن كل هذه العباراتتشير إلى أحداث ذات دلالة دينية بالنسبة إلى الجماعات اليهودية ولكنها لا تصلحلتفسير المسار العام للتاريخ الدنيوي والإنساني في كليته. ونحن، بهذا، نؤكد انتماءأعضاء الجماعات اليهودية إلى بنىً تاريخية متعددة حيث يتسنى للدارس فهم سلوك أعضاءالجماعات اليهودية فهما مركباً، أي باعتبارهم أشخاصاً حقيقيين وبشراً يتفاعلون معالعناصر التاريخية المتشابكة المختلفة التي تحدِّد سلوكهم.
ومن الحقائقالتي تستوجب الذكر أن عدد المؤرخين من اليهود كان دائماً صغيراً محدوداً. وحينماتفاعل أعضاء الجماعة اليهودية مع الحضارة العربية الإسلامية، فإنهم تعلموا الكثيرمنها ولكنهم لم يتعلموا كتابة التاريخ. ولهذا، ظل إسهام المبدعين منهم مقصوراً علىالأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية.
ونحن نرى أن نموذج التاريخ اليهودي هوالنموذج الأساسي الكامن في موقف الحضارة الغربية تجاه « اليهود » أي الجماعاتاليهودية. فالنزعة الصهيونية في الحضارة الغربية، والتي تمنح اليهود مركزية وقداسة،نابعة من افتراض وجود تاريخ يهودي مستقل يختلط في الأذهان بالتاريخ المقدَّس. كماأن معاداة اليهود، هي الأخرى، تعبير عن أن اليهودي شخص له سماته الفريدة والمحددةوطبيعته الخاصة النابعة من انتمائه لتاريخ يهودي مستقل. ونقطة الانطلاق بالنسبة إلىكلٍّ من الصهيونية والنازية (في موقفهما من اليهود) هي افتراض وجود شعب يهودي لهشخصية مستقلة وتاريخ مستقل. وفي تصوُّر كلٍّ من بغفور وهتلر، فإن المسألة اليهوديةناجمة عن وجود هذا الكيان اليهودي العضوي المستقل داخل الحضارة الغربية، يدمرهاوتدمره. ولذا، لابد من التخلص منه إما عن طريق إرساله إلى فلسطين أو عن طريق إلقائهفي أفران الغاز، فاليهودي يجب أن يخرج من الحضارةالغربية.
المفضلات