ويبدو أن الذي دفع ابن تومرت للقيام بعمليات التمييز هو تراجع عدد كبير من الداخلين في دعوته عنها، وذلك بسبب ماتحمله من غلو وشطط، فقام بهذه العملية للتخلص من الذين يشك في اخلاصهم خشية أن يقوى رد الفعل المضاد لدعوته ولما حل ابن تومرت تينمل، أواه أهلها وأعلنوا طاعتهم له، لكنهم كانوا كثيري العدد وافري العدة، وفي منعة بسبب حصانة مدينتهم، فأمرهم ابن تومرت بأن يحضروا إلى المسجد بغير سلاح فلما فعلوا ذلك عدة مرات أمر بعض أتباعه المقربين أن يقتلوهم ففعلوا، ثم دخلوا المدينة وقتلوا منها عدداً كبيراً من الرجال حتى بلغ عدد الذين قتلوا بهذه الحادثة خمسة عشر ألف رجل ولكي لاتحدث هذه الأعمال رد فعل عند اتباعه، أو تلقى معارضة عند الناس، فإنه كان يظهر بشيء من الخوارق والمعجزات حتى يؤصل في نفوس الناس شرعية مايقوم، ويدعو إليه، فقد ذكر المؤرخون انه كان يتواطأ مع بعض أصحابه على أن يدفنهم في المقابر وهم أحياء حيث يترك لهم مكاناً للتنفس، ويأمرهم بأن يكلموه إذا دعاهم، وليشهدوا له بما يطلبه منهم كأن يشهدوا بأنه المهدي الذي بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جوراً وظلماً، وأن من اتبعه أفلح، ومن خالفه خسر، وحينما يسمع أتباعه أن الموتى يكلمونه، ويشهدون له بصحة مايدعوا إليه ويعظم اعتقادهم فيه، وتتأكد طاعتهم له، أما أولئك المقبورون فانه بعد أن ينهوا المهمة التي من أجلها قبوروا يستبيح دمائهم حيث يهدم عليهم قبورهم حتى يموتوا لكي لايفشوا سره بعد ذلك.
هذه صورة وأمثلة للأعمال التي قام بها ابن تومرت واستحل بها دماء الناس المعصومة بغير حقها، حتى ولو كانوا من أنصاره أو المقربين اليه، ولاشك أن هذا العمل يعد في نظر الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب حتى ولو كان المقتول شخصاً واحداً، فكيف يجوز لابن تومرت أن يقدم على هذه الأعمال المتنافية مع الشرع الحنيف وهو يحسب نفسه داعية إلى الله بل مهدياً معصوماً!؟.
وإني لأستغرب من الدكتور عبدالمجيد النجار في تسمية كتابه "تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت" وكان الأولى به أن يسميها تجربة الإفساد والتدمير في حركة المهدي بن تومرت ومن العجب أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي جعل كتاب الدكتور عبدالمجيد النجار من ضمن سلسلة حركات الإصلاح ومناهج التغيير وهذا يدل على غياب المنهج الصحيح لتقويم اعمال القادة والدول والشعوب والحركات.
جعل ابن تومرت منهجية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً في دعوته، ولذلك اجتهد في محاربة المنكرات التي انتشرت بين عوام الناس بكل مايملك من قوة ووجه سهامه نحو الفقهاء والعلماء للتقليل من هيبتهم، واضعافهم ليتسنى له أن ينشر عقيدته المختلطة، ويؤصل م####د من الأحكام والأقوال على النهج الذي يخدم اهدافه ولذلك نجده عندما استقر في منطقة السوس ينهج وجهتين رئيسيتين:
1- التربية العقدية الروحية:
استغل بن تومرت جعل اتباعه من البدو والأميين الذين لايستطيعون أن يفهموا الشريعة من اصولها المعتمدة وكتب لهم شيئاً في العقائد والعبادات بعضها باللسان البربري وبنى مكاناً للعبادة ولتعليم الطلبة على منهجه الذي رسمه وتربيتهم عليه.
قال ابن خلدون: (فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة، وبنى رابطة للعبادة، فاجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري)
وألزم أتباعه بحفظ شيء من القرآن والحديث النبوي وتعلم المرشدة
واستيعاب حقائق التوحيد بمذهب علم الكلام، وتحقيق احكام العبادة وكان يوزّع اصحابه في حلقات كل عشرة يكون مسؤلاً عليهم أحد الطلبة النابهين، ونهج منهج الشدة في التعليم والتربية واحدث أحكاماً تبلغ إلى الضرب بالسياط لمن يظهر منه التهاون في حضور الأوقات أو في حفظ مايطلب منه حفظه.
وكان هذا المنهج يسود جميع أفراد المجتمع الجديد أما من برز في العلم من أصحابه فالف لهم كتباً ورسائل خاصة وهي كتب ورسائل خصص معظمها للاستدلال العقلي على العقيدة التي جمعها من مذاهب شتى وفرق عدة.
واهتم بالجانب الروحي واعتمد في تربيته لأصحابه على التزهيد في متاع الدنيا، والترغيب في الآخرة، والإعداد للجهاد في سبيل الله طلباً للشهادة، ومما خاطب به أتباعه في ذلك قوله: "ولاتنازعوا ولا تغتروا بالدنيا فإنها وكل من عليها فان واحذروا من مكرها وتقلب احوالها.. وتزودوا منها إلى دار الآخرة واستعدوا منها بالعمل الصالح تفوزوا بذلك عند الله فوزاً عظيماً...).
2- التربية الاجتماعية:
وبعد أن حرص على بناء الأفراد علمياً وروحياً شرع في بناء المجتمع الجديد على أسس من التعاون والتناصر والتآخي وجعل أهل جبال أطلس في تينملل الانصار ومن جاءهم من غيرهم المهاجرين وقعد قواعد في هذا المجتمع للتآخي والتعاون وإغاثة المظلوم، واحترام الممتلكات، حمل عليها الكافة ووضع تعازير قاسية لعقاب من يتعدّاها وربط المجتمع الجديد بوشائج القربى بين القبائل المختلفة بطريق المؤاخاة بينها أو بطريق المصاهرة المتبادلة وخاطب قيادة مجتمعه الجديد بقوله: (مافي الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة الذين عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لايزال أهل المغرب ظاهرين"وأنتم تفتحون الروم وتقتلون الدّجال، ومنكم الذي يؤمُّ بعيسى، وحدَّثهم بجزئيات اتفق وقوع أكثرها، فعظمت فتنة القوم به..).
ويصف الأمير عزيز في كتابه (أخبار القيروان) المجتمع الموحدي (لهم تودُّد وأدب وبشاشة، ويلبسون الثياب القصيرة الرخيصة ولايخلون يوماً من طرادٍ ومثاقفة ونضال...).
ويصف بن خلكان محمد بن تومرت فيقول: (قبره بالجبل معظم، مات كهلاً، وكان أسمر ربعةً، عظيم الهامة، حديد النظر مهيباً، وآثاره تغني عن أخباره، قدم في الثرى، وهامة في الثريا، ونفسُ ترى إراقة ماءِ الحياة دون إراقة ماء المحيَّا، أغفل المرابطون ربطه وحلّه، حتى دبَّ دبيبَ الفلقِ في الغسق، وكان قوته من غزل أخته رغيفاً بزيت، أو قليل سمن، لم ينتقل عن ذلك حين كثرت عليه الدنيا، رأى أصحابه يوماً، وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ماغنموه، فأمر بإحراق جميعه، وقال: من أراد الدنيا، فهذا له عندي، ومن كان يبغي الآخرة، فجزاؤه عند الله، وكان يتمثل كثيراً:
تجرد من الدنيا فإنك إنما
خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد
ثانيا: المنهج السياسي:
حرص بن تومرت بعد رجوعه أن يسلك طريق النصح والإرشاد والوعظ، ولذلك اتصل بالامراء وولات الأمر في المدن والعواصم يعظهم ويرشدهم ويبين لهم مواقع الانحراف والفساد ويحمّلهم المسؤولية في ذلك، ويحثهم على القيام بالأمر الواجب من محاربة المنكر ونشر المعروف وتوّج أمره بنصح أمير المسلمين علي بن يوسف ونبهه إلى انتشار المنكرات ووعظه وأغلظ له القول وقال له (إنما أنا رجل فقير طالب الآخرة ولست بطالب دنيا ولاحاجة لي بها، غير أني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأنت أولى من يفعل ذلك، فإنك المسئول عنه، وقد وجب عليك إحياء السنة وإماتة البدعة، وقد ظهرت بمملكتك المنكرات، وفشت البدع، وقد أمرك الله بتغييرها وإحياء السنة بها إذ لك القدرة على ذلك وأنت المأخوذ به والمسئول عنه).
وبعد أن غادر مراكش بمدة يسيرة بادر بأن "خلع مبايعة علي بن يوسف من أعناق تابعيه وأصحابه، وأعلن الجميع بخلعه" وانتهج ابن تومرت سياسة واضحة المعالم للقضاء على النظام القائم وبناء نظام جديد وكانت خطته تسير في سبل ثلاثة، حملة نقدية للمرابطين، وإقامة تنظيم سياسي، وتعبئة نفسية للأنصار:
1- الحملة النقدية ضد المرابطين:
جعل ابن تومرت من اهدافه شن هجوم على حكام المرابطين، ومحاولاً فسخ ولاء القبائل للمرابطين فسخاً نهائياً وترسيخ ولائهم له: "فكل من اطاعهم في معصية الله وأعانهم على ظلمهم في سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، وكلّ من أعانهم من القبائل فادعوهم إلى التوبة والانابة والرجوع إلى الكتاب والسنة وترك معونة المجسمين والمرتدين والمعتدين، فإن قبلوا منكم ورجعوا إلى السنة وأعانوهم على جهاد الكفرة فخلّوا سبيلهم وهم إخوانكم في دين الله وسنة رسوله، وإن عاندوا الحق وأصرّوا على معونة أهل الباطل والفساد فاقتلوهم حيث وجدتموهم" وشن حرباً نفسية على حكام وامراء واتباع المرابطين في رسالته إليهم "الى القوم الذين استزلهم الشيطان، وغضب عليهم الرحمان، الفئة الباغية، والشرذمة الطاغية لمتونة، أما بعد قد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم، ولزوم طاعته ، وان الدنيا مخلوقة للفناء والجنة لمن اتقى ، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن اديتموها كنتم في عافية، وإلا فنستعين بالله على قتالكم حتى نمحو آثاركم، ونكدر دياركم ، ويرجع العامر خالياً ، والجديد بالياً ، وكتبنا هذا إليكم إعذاراً وإنذاراً ، وقد أعذر من أنذر، والسلام عليكم سلام السنة لا سلام الرضى".
وهكذا شرع بن تومرت في توجيه حملة نقدية إلى دولة المرابطين ووسع نطاقها واستهدف بها كافة الناس من اهل المغرب موالين او معادين وحاول أن يعزل الحكام عن عامة الناس بفضح سياستهم، وتضخيم أخطائهم، تنفيراً للنفوس منهم وتمهيداً لنزع ولائهم ثم لمعاداتهم وإمعانا منه في تهجينهم وتشويه صورتهم اخترع الألقاب المشينة ورماهم بها كا (المجسمون) و (الزراجنة) تشبيهاً لهم بطائر أسود البطن أبيض الريش يسمى الزرجان لأنهم بيض الثياب
2- التنظيم السياسي:
وضع ابن تومرت لدولته الجديدة تشكيلاً سياسياً بحيث يضم وينظم ويرتب جميع افراد الدولة حتى يضمن ويعمق ولائهم للدعوة ويمكن مراقبتهم والاشراف عليهم ولذلك نظم ابن تومرت أتباعه في طبقات متباينة في عددها، مختلفة في واجباتها الملقاة على عاتقها. وقد بلغت طبقات الموحدين التي صنفوا بموجبها أربع عشرة طبقة. كانت الطبقات الثلاثة الأولى، أهم هذه الطبقات، من حيث انتماء أكبر رجال الموحدين إليها، من مشائخ القبائل وزعماء المصامدة وكبار الشخصيات، الذين تتوفر لهم الكفاءات العقلية والقدرات العسكرية، وكانت أهم واجبات هذه الطبقات هي معالجة أمور الموحدين وتسيير دفة الحكم. أما الطبقات الأخرى فكانت واجباتها عسكرية وعلمية ودينية .
وقد جعل الدكتور عبدالمجيد النجار هذه الطبقات في أربعة أجهزة أساسية وبين مهماتها التي انيطت بعهدتها:
الجهاز الأول: جهاز سياسي، ويشتمل على المجالس الثلاثة المتقدمة الذكر: مجلس العشرة، ومجلس الخمسين، ومجلس السبعين.
الجهاز الثاني: جهاز علمي ثقافي، ويشتمل على طبقة الطلبة، وهم الذين بلغوا درجة مرموقة من العلم، وطبقة الحفاظ وهم صغار الطلبة.
الجهاز الثالث: جهاز عسكري، ويشتمل على طبقة الجند وطبقة الرماة والغزاة.
والجهاز الرابع: جهاز شعبي، يضمّ مجموعة من القبائل وهي: هرغة، وأهل تينمل، وجدميوه، وجنفيسة، وهنتاتة، وأهل القبائل قال ابن الخطيب: (لكل صنف من هذه الأصناف رتبة لايتعدّاها غيرهم لا في سفر ولا في حضر، لاينزل كل صنف إلا في موضعه لا يتعداه، فانضبط مراده".
لقد عالجت هذه الأجهزة المشاكل المطروحة على الجماعة الجديدة معالجة تقوم على التخصص ضماناً للمزيد من النجاح واجتنابا للعفوية والفوضى، وقد كانت المهام الكبرى المطروحة على هذه الجماعة مهام ثلاثة: مهمة سياسية تتعلق برسم المسار السياسي للجماعة الناشئة، وهي التي تكفلّ بها الجهاز الأول. ومهمة تربوية تتعلق بنشر المبادئ العقدية التي قامت عليها الدعوة، وهي التي تكفلّ بها الجهاز الثاني، ومهمة دفاعية تتعلق بحماية الجماعة والعمل على نموها وامتدادها وهي التي تكفل بها الجهاز الثالث.
أما الجهاز الرابع فيبدو أنه وضع لحصر الأتباع وإحكام ارتباطهم، وربما قام بمهمة دفاعية أو دعائية، فيكون بدور مانسميه بالمنظمات الشعبية المرتبطة بالدولة. وقد لخص ابن الخطيب هذه الأدوار والمهام المتكاملة في قوله: "أهل الجماعة للتفاوض والمشورة.. وأهل خمسين وسبعين والحفاظ والطلبة لحمل العلم والتلقي، وسائر القبائل لمدافعة العدوّ".
لقد كانت الآفاق السياسية واضحة المعالم في فكر محمد بن تومرت ولذلك أسس بديلاً سياسياً اجتماعياً تربوياً ليحل محل النظام السياسي والاجتماعي والتربوي في دولة المرابطين.
لقد اظهر ابن تومرت في منهجه السياسي ملكة تنظيمية كبرى، وقبض بيد من حديد على انصاره، فأعطى مجلس العشرة سلطاناً كبيراً وحكمهم في الناس، وجعل مجلس الخمسين كلهم رؤساء القبائل، وسيطر بواسطتهم على القبائل، وجعل الجميع عيوناً له بعضهم على بعض، يوافونه بكل صغيرة او كبيرة مما يقع حوله أو يصلهم من أنباء مما جعل ابن تومرت مطلعاً على أمور مجتمعه الجديد وأصبح مطاعاً ومرهوباً في جماعة كبيرة من المصامدة تطيعه طاعة عمياء حقا، وتخاف منه خوفاً شديد...).
3- تعبئة الأنصار:
كانت مهمة بن تومرت صعبة جداً حيث أنه استهدف دولة عرفت بجهادها في الصحراء الكبرى وفي اسبانيا وكان لها الفضل بعد الله في توحيد المغرب الأقصى مع الأندلس واشتهر حكامها بالصلاح والعدل والجهاد وحب الخير لعموم الأمة ولذلك حرص على تعبئة انصاره واقناعهم أنهم على درب الحق، وأن خصمهم على درب الباطل واعتمد في تعبئته لأنصاره على:
أ- غرس الثقة في نفوسهم وبأنهم على الحق:
ولذلك خاطبهم بقوله: (ماعلى وجه الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام: لاتزال طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم، ويقتل الدجال، ومنكم الأمير الذي يصلي بعيسى ابن مريم، ولايزال الأمير فيكم إلى قيام الساعة...).
وحرص بن تومرت على رد كل ما يوقع في نفوس أصحابه من الوهن من طعون المرابطين الموجهة إلى هذه الدعوة التي اصبحوا من أنصارها، فكان لايكل ولا يمل في تفنيد كل ماوجهه المرابطون من حملة مضادة ضد دعوته البدعية وقاد بن تومرت حملة دعائية مضادة، ومن ذلك ماخاطب به أصحابه قائلاً: "واعلموا وفقكم الله أن المجسمين والمكّارين وكل من نسب إلى العلم أشد في الصد عن سبيل الله من إبليس اللعين، فلا تلتفتوا إلى مايقولونه، فإنه كذب وبهتان وافتراء على الله ورسوله، ومانسبوكم إليه من الخلاف لله والرسول فذلك خب وغش للمسلمين وخيانة لله ورسوله... فانتبهوا وفقكم الله لهذه الحيل التي يحتالون بها على عيشهم ودنياهم حتى حملهم ذلك على الافتراء على الله ورسوله حتى عكسوا الحقائق وقلبوها وحرّفوا الكلام عن مواضعه. ونسبوا من دعا إلى التوبة والتوحيد واتباع السنة إلى الخلاف وسموه مخالفاً ببغيهم..".
لقد استطاع بن تومرت أن يقنع اتباعه وانصاره بأنهم الطائفة المنصورة والتي تقيم أمر الله وتجاهد في سبيله وشحن بذلك النفوس، واقنع العقول، وأخذ خطوة أخرى لتعزيز مكانته وبسط هيمنته على اتباعه وزعم بأنه المهدي المنتظر والإمام المعصوم.
وسلك مسالك متعددة من أجل اقناع اصحابه واتباعه بأنه المهدي المعصوم، فحرص على الظهور بمظهر الاستقامة والتدين والإخلاص، فزهد في متاع الدنيا من مأكلاً وملبساً ومسكناً، ثم جعل ثقة انصاره به ذات اتجاه عقدي بحيث تمنع نفوس الاتباع من الضعف والتراجع امام أوامره وتوجيهاته، فأقنعهم بأنه الإمام المنتظر والمهدي المعصوم وبأن نسبه يرجع ضارب في اعماقه في آل البيت المطهر، وبذلك استطاع بهذه التعاليم المتعالقة بالإمامة أن يرشح ثقة اتباعه به، وأن يضمن ولائهم الدائم، وطاعتهم المطلقة ، ولم ينسى أن يحرك نفوس المصامدة للتطلع إلى انشاء دولة لهم، فهم معظم سكان المغرب الأقصى، وهم قبائل ضخمة ذات قوة وعدد، تمتد من شمال المغرب الأقصى الى جنوبه، ولاينقصها الا توحيد الصفوف والقيادة السليمة. واقنعهم بأنه القيادة المثلى لهذه القبائل.
4- المنهج العسكري:
وبعد أن نظم صفوفه واحكم تنظيمه، اصد انذاره وتهديده إلى المرابطين: "قد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأن الدنيا مخلوقة للفناء، والجنة لمن اتقى، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن أديتموها كنتم في عافية، وإلا فاستعين بالله على قتلكم...) . وكانت هذه الخطوة تمهيداً منه نحو قتال المرابطين، وحرص على ترسيخ عقيدة الجهاد وحببه لجنوده، واقنعهم بأن جهاد المرابطين فرض عليهم، كما فرض علىالصحابة جهاد الكفرة "فالدين الذي جاهدوا عليه هو الدين لايحول ولا يزول، حتى ينفخ في الصور، والسنة التي قاتلوا عليها هي هذه لاتتبدل ولاتتغير حتى يرث الله الأرض ومن عليها .. فجهاد الكفرة الملثمين قد تعين على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر لاعذر لأحد في تركه ولاحجة له عند الله، فإنهم سعوا في هدم الدين، وإماتة السنة".
ولما بذل بن تومرت جهده في اعداد أصحابه اعداداً عقدياً جعل يعد العدة المادية، فجعل يجمع المقاتلين متخيراً الأقوياء الصادقين وتخلص من كل من شك فيه في صفوفه ومن أعالي جبال الأطلس واصل بن تومرت حملته الاعلامية التشويهية على المرابطين واصفاً إياهم بأقذع الأوصاف فاضطر الأمير علي بن يوسف أن يسل الحسام لأخماد تلك الفتنة، فوجه إليه وزيره ينتان بن عمر على رأس جيش كبير للقضاء عليه إلا أن ذلك الجيش رجع بدون قتال واستغل بن تومرت ذلك وجعلها منة من الله عليهم وما فعله ينتان في حقيقته هروباً وخوفاً من لقاء الموحدين وتعاظم خطر بن تومرت واستمر علي بن يوسف في ارسال الحملات تلو الحملات لاستئصال شأفته ولكن جميعها كان مصيرها الفشل والهزيمة ومن هذه الحملات حملة أبي اسحاق ابراهيم الذي وجهه إليه على رأس جيش كبير ولكنه انهزم أمام بن تومرت دون قتال وتعقبتهم القوات الموحدية وقتلت أعداد كبيرة منهم وغنموا حملتهم. وقد اغتم أمير المسلمين لهزيمة جيشه، وبادر بإرسال حملة أخرى بقيادة الأمير سير بن مزدلي اللمتوني الذي أضاف هو أيضاً هزيمة إلى سجل الهزائم
المرابطية على يد الموحدين، وكان بن تومرت يبشر أصحابه بالغنائم والنصر قبل نشوب المعارك فيقول لهم: "انظروا إلى أعدائكم، واعلموا أن كل ماجاءوا به من خيل وعدة، إنما هو هدية من الله تعالى لكم، على غربتكم وفقركم، فأعطاكم وأغناكم"(2) وكان ينزل في المعارك بنفسه ويبدو أن بن تومرت لم تكن تعوزه الخبرة العسكرية، فقد تمرس بالقتال في الميدان وتعرض في كثير من الأحيان إلى السقوط في خضم المعركة، كما تعرض إلى جراحات السيوف وكثيراً ماكان يشير على عسكره بقواعد حربية ناجحة مثل سلوك المراقي العالية، وحمل العدو على الصعود دون أن يهبط عسكره إلى الوطاء، والأمر باتخاذ الأبراج العالية للمراقبة.
ولكي يكون بن تومرت وعسكره في منعة من مباغتة الجيش المرابطي اتخذ عاصمة له مقراً منيعاً هو مدينة تينملل التي قال ابن الخطيب في وصف منعتها: "لايعلم مدينة احصن منها، لايدخلها الفارس إلا من شرقها، وهو الطريق إليها من مراكش، المصنوعة في نفس الجبل، تحت راكبها حافات وفوقه حافات، وفيها مواضع مصنوعة من الخشب، إذا أزيلت منها خشبة لم يمر عليها أحد".
لقد كانت لتلك الانتصارات المتوالية التي حققها الموحدون أثرها الكبير في ذيوع عقيدة المهدي وظن كثير من الناس بأنه بن تومرت وبذلك كثر أتباعه، وعظم ثقته بنفسه وقوته، فأرسل الى علي بن يوسف أمير المسلمين رسالة كلها تهديد ووعيد، فيما يلي نصها: "من القائم بدين الله العامل بسنة رسول الله محمد بن عبدالله وفقه الله، إلى المغرور بدنياه علي بن يوسف، أما بعد فأنا ماوجدنا لأكثركم من عهد، وان وجدنا أكثركم لفاسقين، لم تخشوا عقوبة رب العالمين، ولم تتفكروا فيمن حولكم من الظالمين، الذي غووا فأصبحوا نادمين، فتبعهم الناس اجمعين، فإذا هم أخسر الخاسرين، وقد أمرني الله بادحاض حجة الظالمين، ودعاء الناس الى اليقين، ونسأل من الله أجر المحسنين لاتغتروا فان المسلمين إليكم قادمون، لقتال من زاغ وجنف وكفر بنعمة الله، وقد جاء في التنزيل أنكم لستم بمؤمنين ولاتؤمنون بلا اله إلا الله، وانها كلمة تقولونها عند الخوف والتعجب وتارك واحدة من السنة كتاركها كلها، ومن أجل ذلك دماؤكم حلال ومالكم فئ وقد بينا لكم وأوضحنا السبيل وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام على من اتبع الهدى وخشى الرحمن" لقد كانت هذه الرسالة بمثابة اعلان حرب بين الموحدين والمرابطين.
إن الذي يستوقف الباحث هو كثرة هزائم المرابطين على يد الموحدين على الرغم من أن قادة جيوش المرابطين كانوا من أفضل قادة الدولة، وفي الوقت الذي كانت فيه الجيوش المرابطية تصد أعتى وأقوى الجيوش النصرانية في الأندلس، وتعبث بين الفينة والفينة في أحواز طليطلة وتتجاوزها في بعض الأحيان نحو الشمال والشرق والغرب.
يبدو أن هناك عدة عوامل اسهمت في صنع هذه الهزائم، منها الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها ابن تومرت في قتاله مع المرابطين، وقد ساعدته وعورة أرضه على عدم مواجهة أعداد كبيرة من جيوش المرابطين دفعة واحدة. كما أن الجيوش المهاجمة عادة تحتاج إلى وقت للتأقلم على ساحة المعركة الجديدة، بينما كان بن تومرت واتباعه يقاتلون على أرض خبروها وعرفوا مسالكها، وهذا عامل مهم من عوامل نصر الجيوش، والأهم من ذلك أن اتباع ابن تومرت كانوا يقاتلون بمعنويات عالية بعد أن بايعوا ابن تومرت على أنه المهدي في الوقت الذي كانت فيه معنويات الجند المرابطي منهارة، فكانوا ينهزمون دون قتال لغلبة التردد عليهم وعدم وضوح الهدف فالجندي المرابطي كان في حيرة فهو يقاتل مسلمين من أبناء جلدته، وهو يسمع كل يوم بأن القبائل تتوافد على ابن تومرت وتبايعه، بعد ماشاعت الأخبار عما يتمتع به من علم وزهد وتقشف وانه هو المهدي. كل هذه الأمور كانت تجعل من الجندي المرابطي مضطرب النفس متردداً في إقدامه على قتال ابن تومرت ولذلك كان يفضل الفرار على الصدام.
وازدادت ثقة بن تومرت بنفسه بعد تحقيقه تلك الانتصارات، فبادر بإرسال رسالة إلى المرابطين يعرض عليهم الدخول في طاعته واما القتال مهدداً ومتوعداً من عدم الانقياد له، ومما جاء فيها: "الى القوم الذين استزلهم الشيطان، وغضب عليهم الرحمن، الفئة الباغية، والشرذمة الطاغية اللمتونية أما بعد: فقد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأن الدنيا مخلوقة للفناء، والجنة لمن اتقى، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة فان اديتموها كنتم في عافية وإلا فنستعين بالله عليكم على قتالكم حتى نمحو آثاركم ونهدم دياركم، وحتى يرجع العامر خاليا والجديد باليا، وكتابنا هذا اليكم اعذار وانذار، وقد اعذر من أنذر والسلام عليكم سلام السنة لاسلام الرضى).
وتعتبر هذه الرسالة مؤشراً على انتقال ابن تومرت من دور الدفاع الى دور الهجوم، وقد ارتكزت استراتيجيته في هذه المرحلة على استنزاف قوى الدولة المرابطية باستخدام اسلوب حرب العصابات وتجنب الدخول معها في معارك فاصلة.
فأخذت جيوش ابن تومرت تروح وتغدو على محلات المرابطين القريبة من مقره مكبدة إياها خسائر فادحة.
وقبل أن يعطي ابن تومرت الأمر لجيوشه بالإنقضاض على المرابطين للاستيلاء على عاصمتهم مراكش أراد أن يطهر صفوفه من بعض الأشخاص الذين يشك في ولائهم له فأوعز في عام 519هـ/1125م لصديقه الحميم الونشريشي - الذي كان يظهر البلاهة بينما هو عالم أن يظهر مالديه من علم دفعة واحدة ليكون ذلك بمثابة المعجزة لابن تومرت وكان الونشريشي باتفاق مع ابن تومرت قد حفظ أسماء من شعر أنهم يشكون في مهدية بن تومرت، وكان أيضاً ابن تومرت قد طلب من القبائل تزويده بأسماء المشاغبين فدفعها الى الونشريشي فحفظها. وبعد صلاة الفجر تقدم الونشريشي (الكاذب) وأعلن أنه جاءه البارحة ملكان وشقا قلبه وغسلاه وحشواه علماً وحكمة، فاختبره القوم فعجبوا من شدة حفظه ثم شهد لابن تومرت بالمهدية. ثم قال اعرض عليّ اصحابك حتى أميز أهل الجنة من أهل النار، وقد أنزل الله تعالى ملائكته الى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي، وكان المهدي قد وضع فيها رجالاً لهذا الغرض فسار المهدي وأتباعه الى ذلك البئر، وبعد ان وهل على رأسها قال: "ياملائكة الله ان عبدالله الونشريشي قد زعم كيت وكيت" فقال من فيها صدق، فصدقه الناس، ثم أمر بطمر البئر بحجة أنها مقدسة. وواضح ان طمره للبئر كان بسبب خوفه من أن يفضحوا أمره مما سيكون له أسوأ الأثر على دعوته وكشف زيفها.
ونادى ابن تومرت في أهل الجبل للحضور للتمييز، وأخذ الونشريشي يعمد إلى الرجال الذين يخاف من ناحيتهم ويضعهم على يساره فيقول هؤلاء من أهل النار ويضع إلى يمينه الغمر، فيقول هذا من أهل الجنة. ثم أمر القبائل بقتل الأفراد الذين قيل انهم من أهل النار وكان عددهم حسب بعض الروايات سبعين ألفاً، فلما فرغ من ذلك أمن ابن تومرت على نفسه وأصحابه واستقام أمره.
وعلم ابن تومرت ان الباقين من أهل وأقارب المقتولين لاتطيب قلوبهم بذلك، فجمعهم وبشرهم بانتقال مراكش اليهم واغتنام أموال المرابطين، فسرهم ذلك وسلاهم على أهلهم، ثم ندبهم إلى قتال المرابطين وتحول موقف الموحدين من الدفاع الى الهجوم وبعد سلسلة من الحملات الناجحة التي قام بها ابن تومرت على معاقل المرابطين أراد أن يحسم الأمر بإسقاط عاصمة المرابطين مراكش. وتضطرب الروايات حول تحديد تاريخ هذا الزحف، وسبب ذلك يعود أن المعركة الفاصلة بين الطرفين جاءت بعد سلسلة معارك دامية. فالوصول إلى أسوار مراكش لم يتم بسهولة بل كلف الموحدين اختراق كل الخطوط الدفاعية التي أقامها المرابطون وحصنوها بالقلاع، على أي حال صمم ابن تومرت على القضاء على المرابطين بإسقاط عاصمتهم مراكش، فأخذ يستدعي القبائل الى تينملل ليحشدهم ويوجههم الى ذلك الهدف المنشود. وتوافدت القبائل على ابن تومرت وقد استعدت للقتال وتجمع منهم نحو أربعين ألفاً منهم الفرسان والغالب منهم رجّالة وقدم عليهم الونشريشي ووجههم نحو مراكش فبدأوا بالزحف نحوها عام 521هـ/1127م. وقبل وصولهم إلى أسوار مراكش خاضوا معارك عديدة مع المرابطين كانت جميعها لصالحهم.
وضرب الموحدون الحصار حول مدينة مراكش مدة أربعين يوماً على أرجح الروايات. وطوال فترة الحصار كانت تدور رحى معارك ضارية بين المرابطين المدافعين عن عاصمتهم والموحدين الذين كانوا يتمتعون بروح معنوية عالية لكثرة انتصاراتهم على المرابطين.
ومن المعارك الحاسمة التي دارت خلال فترة الحصار الموقعة التي خرج فيها أمير المسلمين علي يوسف لفك الحصار عن عاصمته ولكنه لم يوفق وتشتت شمل جيشه، وفرت مجموعة من جنده عندما لم تسعها أبواب مراكش لشدة مطاردة الموحدين لها حتى وصلوا وادي أم الربيع. لقد أخذت الغيرة القائد عبدالله بن همشك الذي كان مع أصحابه الأندلسيين المئة محصوراً داخل المدينة، فخاطب أمير المسلمين قائلاً: (مانعير إلا بالمقام تحت الحصار). فأوضح اليه أمير المسلمين ان قتال المصامدة ليس مثل قتال النصارى، فأكد اليه ابن همشك بأنه يعرفهم لوجود نخبة منهم في الأندلس، وبين لأمير المسلمين أنه مازال يملك العدد الكافي من الجند وخاصة الرماة، وان البقاء على هذا الحال لايكون إلا مع قلة العدد، ثم عرض رغبته عليه بأن يعطيه ثلاثمائة فارس ليخرج بهم فسمح له. وقبل خوضه للمعركة أراد أن يعدل أسلحة جنده لتتلائم مع طبيعة المعركة المقبلة، فرأى أن يقصروا رماحهم، ثم برز للموحدين فما انتصف النهار حتى دخل بثلاثمائة رأس من رؤوس المصامدة فارتفعت معنويات الجند وصمموا على تخليص مدينتهم من الحصار وأرسل امير المسلمين علي بن يوسف رسائله الى سائر ولاته وقواده طالبا المدد والعون، فجاءت اليه النجدات من كل صوب، وكان أعظمها القادم من سلجماسة بقيادة واليها وانودين بن سير. وخرج علي بن يوسف من المدينة وانضمت اليه النجدات، وقدم أبو محمد بن سير قائداً عاماً للقوات المرابطية، وقيل قدم الزبير بن علي بن يوسف.
وقبل بدء القتال دارت أحاديث بين الطرفين الغرض الأساسي منها تحطيم نفسية الخصم قبل مقارعته بالسنان. فبادر الموحدون بإرسال رسالة الى المرابطين يطلبون منهم الاعتراف بمهدية ابن تومرت والانصياع اليه، فرد امير المسلمين عليهم محذراً إياهم من عاقبة مفارقة الجماعة، وهكذا لم يستجيب أي طرف للآخر.
وأخذ الونشريشي القائد العام للقوات الموحدية وعبدالمؤمن امام الصلاة لهم بنتظيم القوات الموحدية لخوض المعركة الفاصلة. وماهي إلا مدة وجيزة حتى اشتبك الطرفان في معركة مروعة استمرت من الصباح حتى الغروب قتل فيها في بداية النهار الونشريشي، فخلفه عبدالمؤمن في قيادة الجيش. ولما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوتهم اسندوا ظهورهم الى بستان هناك، والبستان عندهم يسمى البحيرة وما أن جن الليل حتى قتل معظم المصامدة ففر عبدالمؤمن بنفر يسير لايتجاوز الاربعمائة مابين فارس وراجل. وبعد انتهاء المعركة بحث الموحدون عن جثة الونشريشي بين جثث القتلى فلم يعثروا عليها لأن عبدالمؤمن كان قد واراها فوراً فأشاعوا فيما بينهم أنه رفع إلى السماء.
وتابع عبدالمؤمن مع من نجا من القتل سيره نحو تينملل. وعندما وصل إلى هيلانة استعاد أنفاسه وحشد جنوده وأعاد الكرة على مراكش فهزم أيضاً وقتل من اتباعه نحواً من اثني عشر ألفاً فعاد أدراجه مع خمسين رجلاً من أتباعه ألى تينملل وكان البيذق قد سبق عبدالمؤمن الى ابن تومرت وأخبره بخبر الفاجعة التي حلت بهم في البحيرة، فسأله ابن تومرت عن عبدالمؤمن فقال هو حي، فرد معزياً الأمر باق، وأوصاهم بعدم الجزع.
واستثمر المرابطون فوزهم في البحيرة وأسرعوا بإرسال أربعة جيوش بقيادة أربعة من مشاهير قوادهم وهم: سير بن ورابيل، ومسعود بن وزتيغ، ويحيى بن سير ويحيى بن كانجان الى تينملل للقضاء على الموحدين في معقلهم الحصين. وتقابل الطرفان بموقع يقال له ابكر متاع بني كوربيت، إلا أنه لم يحدث قتال بينهما. ويعلل البيدق
ذلك بأن المرابطين قد حلت في قلوبهم الرهبة من جموع الموحدين التي تدفقت عليهم النجدات من هنتانة وكنفيسة ومزالة فرجعوا إلى مراكش.
وعلى الرغم من ذلك فقد ترددت أصداء هزيمة البحيرة بين قبائل الموحدين فزلزلت ثقتهم بابن تومرت، فالمهدي مؤيد من السماء فكيف يهزم من كان حليفه الله... وترتب على هذا التساؤل إعادة النظر في عقيدة المهدي وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها ابن تومرت لاقناعهم بأن قتلاهم في الجنة، فقد بقيت رواسب الشك في مهديته تساور نفوسهم. عندها لجأ ابن تومرت إلى أسلوب المكر والخداع حتى يعيد الثقة بدعوته وقيادته ومهديته. فاتفق مع مجموعة من أتباعه على أن يدفنهم أحياء وجعل لكل واحد منهم متنفساً في قبره وأوصاهم بأن يقولوا إذا سئلوا: "قد وجدنا ماوعدنا ربنا حقاً من مضاعفات الثواب على جهاد لمتونة وعلو الدرجات التي نلنا بالشهادة فجدوا في قتال عدوكم فإن مادعاكم إليه الإمام المهدي صاحبكم حق"، ووعدهم اذا نفذوا ذلك بأن يخرجهم ويجعل لهم منزلة رفيعة. ولما ذهب أكثر الليل اجتمع بأشياخ الموحدين وأوضح لهم بأنهم حزب الله وأنصار دينه وطالبهم بالجد في قتال أعدائهم، وطلب منهم ان كانوا في شك مما يقول أن يذهبوا سوياً إلى قبول قتلاهم في معاركهم مع المرابطين ليحدثوهم بما لقوا من خير ونعيم، وذهب معهم الى مكان إحدى المعارك التي نشبت مع المرابطين وسقط فيها عدد كبير من الموحدين، والتي يوجد فيها ذلك النفر الذين دفنهم أحياء ولقنهم مايقولون. ولما وصل رفع صوته في المقبرة قائلاً: يامعشر الشهداء خبرونا مالقيتم من الله عزوجل. فقالوا: وجدنا مالاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر إضافة الى مالقنهم إياه ابن تومرت، عندها ذهل الناس وعادت ثقتهم بالمهدي، وبدلاً من أن يخرج المدفونين قام باغلاق المنافس التي كان قد تركها لهم فماتوا من فورهم، لأنه خشي أن يخرجوا فيذيعون سره فيفتضح أمره فتكون كارثة عليه.
ورأى بن تومرت في قرارة نفسه ان الهزائم التي منيت بها قواته ماهي إلا نذير شؤم للاطاحة بكل مخططاته التي سخر حياته من أجلها ليقيم دولته المنشودة، فتفاعلت هذه الأحداث في نفسه لتورثه المرض الذي أودى بحياته بعد فترة وجيزة.
وتكاد تجمع معظم المصادر على ان وفاته كانت عام 524هـ ، 1130م وتذكر المصادر الموحدية انه لما شعر بدنو أجله استدعى أصحابه المسمين بالجماعة، وأهل الخمسين، فلما حضروا أخذ يعظهم واعداً إياهم بالنصر على المرابطين، ومحذراً إياهم من الفرقة والتناحر، وأمر عليهم عبدالمؤمن، وطلب منهم السمع والطاعة له مادام مطيعاً لربه
وبهذه المواعظ ودع ابن تومرت أصحابه معلماً إياهم بأنه راحل الى ربه في هذه السنة. ولما اشتد عليه مرضه قدم عبدالمؤمن بن علي للصلاة وأمره بإخفاء وفاته حتى تجتمع كلمة الموحدين على أمير، وأن يتكفل بغسله ودفنه بجامع تينملل.
وعندما توفي ابن تومرت كفنه عبدالمؤمن بن علي وصلى عليه، ودفنه سراً بمسجده كما أوصاه، وقد كتم أصحابه وفاته مدة ثلاثة أعوام ولم يعلنوها إلا في عام 527هـ/ 1132م بعد أن اتفقت كلمتهم على عبدالمؤمن بن علي.
وهكذا انتهت حياة ابن تومرت ومصير دعوته مجهول بسبب ما حاق بأتباعه من هزيمة نكراء في موقعة البحيرة، ولكنه قد نجح في ترسيخ دعوته في قلوب أتباعه حتى صدقوه وآمنوا بمهديته، وأطاعوه ولو في قتل ابنائهم، وهذا ما حصل فعلاً في عملية التمييز التي تقشعر لهولها الأبدان حيث قتلت كل قبيلة بعض فلذات أكبادها دون تردد أو حيرة.
لقد كان بن تومرت شخصية فريدة في التاريخ لما امتاز به من صفات المكر والدهاء واستغلاله كل الفرص، واستخدامه كل الأساليب من أجل تحقيق حلمه بإقامة دولة يكون هو زعيماً ومرشداً روحياً لها، وليدفع بقبيلته مصمودة الى مركز الصدارة بعد أن سلبتها لمتونة ذلك الشرف.
واجتمعت في شخصية ابن تومرت صفات قلما تجتمع في شخصية قيادة في ذلك الوقت. فقد كان على قسط وافر من العلم، وقد ساعده ذلك على الاستفادة من كل الأفكار المطروحة في العالم الإسلامي لينتقي منها ما يلائم دعوته الجديدة ويساعد على تقوية مركزه بين أتباعه. كما مكنه تكوينه العلمي من أن يرد على أي انتقاد او اتهام يوجه ضده من قبل الخصوم، فيساعده في ذلك فصاحة لسان وسحر بيان وضعف حجج الخصوم، لقد استطاع أن يجمع القلوب حوله وأملى عليها م####د فانقادت له مبهورة.
لقد ساعد ابن تومرت في تحقيق اهدافه سذاجة المجتمع وجهله وما عشعشت في ذهنه من الأساطير وانحرافات حتى عاد غريباً عن منهل الإسلام الصافي، فعلى الرغم من الجهود الكبيرة للمرابطين لإفهام هؤلاء أمور دينهم فقد بقي قطاع كبير منهم متمسكاً بعلائق الجاهلية مما أوقعه فريسة سهلة لمخططات ابن تومرت فأملى عليهم تعاليمه البعيدة كل البعد عن منهج أهل السنة والجماعة فتقبلوها دون نقد أو تمحيص، وقدموا أرواحهم دفاعاً عنها بعد أن أوهمهم أنه المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت جوراً.
ومن افتراءات ابن تومرت انه ادعى انه مأمور بنوع من الوحي والإلهام وإن من لايؤمن بمهديته فهو كافر وألف عقيدة أوجب حفظها على أتباعه، وأحدث في آذان الصبح (أصبح ولله الحمد) ، وتطاول وادعى أنه يعلم الغيب.
إن دعوة تقوم على الخداع والزيف وتذكيها العصبية القبلية لايمكن أن تستمر فترة طويلة دون اكتشاف حقيقتها لقد وصفه بحق لفيف من المؤرخين بأنه منتحل ومبتدع، وانبرى له شيخ الإسلام ابن تيمية بهدم عقيدته بمعاول الحق والحجج والبراهين وقد بينت ذلك.
وأكبر دليل على فساد عقيدته وزيف مهديته انه ماكاد يمضي على وفاته قرن من الزمان حتى خرج أحد خلفائه الملقب بالمأمون على الملأ معلناً في مدينة مراكش من فوق منبر مسجدها بطلان عقيدة المهدي بن تومرت لارتكازها على الزيف والخداع، كما أسقط من السكة ومن الخطبة، وقال لاندعوه بالمهدي، وكتب بذلك إلى الآفاق وبناء على هذا الاعلان حذف اسم "المهدي" من السكة الموحدية واستعيض عنه بـ "القرآن حجة الله" في المركز، وفي الهامش نقش اسم "خليفة الموحدين المأمون" إن عقيدة أهل السنة والجماعة الضاربة في أعماق أهالي الشمال الافريقي حطمت كل الأفكار الخارجية والرافضية والاعتزالية والتومرتية بصلابتها وقوتها {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض...}.
إن حركة بن تومرت حركة تدميرية عملت على هدم أركان دولة المرابطين، تلك الدولة التي قامت على تعاليم الإسلام النقية، واتخذت من جهاد النصارى في الأندلس هدفاً أسمى لوجودها، فما أفزعهم من مقر حكمهم في مراكش إلى الأندلس سوى الغيرة على الإسلام عندما أخذت معاقل المسلمين تتهاوى تحت مطارق الفونسو السادس وبذلك أخروا سقوط الأندلس بيد النصارى عدة قرون.
ولكن ما إن بدأت ثورة المهدي بن تومرت حتى أخذت تشغلهم بعض الشيء عن واجبهم المقدس في الأندلس، فأخذ أمير المسلمين يستصرخ قواده العظام من الأندلس أمثال تاشفين بن علي لمقارعة الموحدين، وأدى ذلك إلى ازدياد ضغط النصارى على المسلمين في الأندلس، وبدأوا يلتهمون المدن الأندلسية الواحدة بعد الأخرى في هذا الوقت استطاع بن تومرت بواسطة المؤمنين بمهديته أن يطيحوا بدولة المرابطين، فأثلج ذلك قلوب النصارى الذين أدركوا أن الخلاص من الوجود الإسلامي في الأندلس أضحى وشيكاً.
إن رجال الإصلاح في تاريخنا الإسلامي هم الذين ساروا على منهج أهل السنة والجماعة في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات أما الذين كذبوا وسفكوا الدماء وهتكوا الأعراض، وكفّروا المسلمين الأولى بنا أن نطلق عليهم رجال التدمير والإفساد، وإنها لمغالطة تاريخية وخيانة للأمانة العلمية عندما نضفي على المفسدين ثوب الإصلاح ونجعلهم من زعماء الأمة ومن قادتها العظام إن حركات الإصلاح في التاريخ الإسلامي هي التي التزمت بكتاب ربها وسنة نبيها واستوعبت فقه التمكين واخذت بأسبابه وحرصت على تنفيذ شروطه جديرة بالدراسة الواعية من اجل اخراج فقهاً للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية وانها لكفيلة بربط الحاضر بالماضي وجديرة بإثراء واقعنا بفقه بناء الدول وأسباب النهوض وعوامل السقوط وكيفية الأخذ بأسباب النجاح واتقاء المزالق.
الجهاز الأول: جهاز سياسي، ويشتمل على المجالس الثلاثة المتقدمة الذكر: مجلس العشرة، ومجلس الخمسين، ومجلس السبعين.
الجهاز الثاني: جهاز علمي ثقافي، ويشتمل على طبقة الطلبة، وهم الذين بلغوا درجة مرموقة من العلم، وطبقة الحفاظ وهم صغار الطلبة.
الجهاز الثالث: جهاز عسكري، ويشتمل على طبقة الجند وطبقة الرماة والغزاة.
والجهاز الرابع: جهاز شعبي، يضمّ مجموعة من القبائل وهي: هرغة، وأهل تينمل، وجدميوه، وجنفيسة، وهنتاتة، وأهل القبائل
وتعتبر هذه بداية التنظيم والقضاء على الهمجية والتشتت
صرح كبير أختي الكريمة صفاء
جزاكِ الله خيراً
متابع ان شاء الله
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
المفضلات