الهويــات اليهوديــة بوصفهــا تركيـباً جيولوجـياً تراكمـياً
Jewish Identities as a Cumulative Geological Construct
موضوعالهوية/الهويات اليهودية في غاية التركيب لأسباب عديدة يمكن أن نورد بعضها فيمايلي:
1 ـ تم تعريف الهويات اليهودية على أساس ديني، وعلى أساس قومي ديني،وعلى أساس قومي وحسب. وقد دارت معارك بين أعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً منذنهاية القرن التاسع عشر) حول رؤيتهم لهويتهم وتعريفهم لهذه الهوية.
2 ـ لاتتفق رؤية الإنسان لهويته، بصورة حتمية ومباشرة، مع ممارساته العملية وبنية واقعهوأفعاله. فالرؤية قد تكون تعبيراً عن مثل أعلى أو عن مجموعة من الرغبات، أما الواقعفإنه يتطور بطريقة لا تتفق بالضرورة مع رغبات الإنسان. ومن ناحية أخرى، فإن رؤىأعضاء الجماعات اليهودية للهوية اليهودية لم تكن تتفق بالضرورة مع تطوُّر واقعهمالتاريخي، بل وكانت تتناقض أحياناً الواحدة مع الأخرى.
3 ـ ولكن هذا لايعني أن رؤية الإنسان لهويته لا تتدخل البتة في تحديد سلوكه، إذ تظل الرؤية، برغمعدم اتفاقها مع الواقع، عنصراً مهماً ومؤثراً في هذا السلوك، دون أن تكون بالضرورةالعنصر المحدد الوحيد له.
4 ـ تحددت الهويات اليهودية المختلفة في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، عبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، الأمر الذي نجم عنه تنوُّع هائل في الهويات اليهودية. وتتسم هذه الهويات باستقلال نسبيّ عن سياقها الحضاري، شأنها شأن هويات الجماعات الإثنية والدينية، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هوية يهودية واحدة عالمية. ومع هذا، فقد استمر الجميع (اليهود وغير اليهود) في الحديث عن اليهود كما لو كانوا كلاًّ واحداً.
لكل هذا، ظهر ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» للهويات اليهودية. وفي حديثنا عن النسق الديني اليهودي، نشير إلى أنه ليس كلاًّ واحداً يتسم بقدر من الاتساق، وإنما هو عبارة عن تركيب جيولوجي تراكمي مُكوَّن من طبقات تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلغ كل طبقة جديدة ما قبلها. وقد تكون هذه الطبقات متشابهة أو متناقضة، ولكنها مع هذا تعيش متجاورةً ومتزامنة وغير متفاعلة، وسُمِّيت كل هذه الطبقات «النسق الديني اليهودي».
ويمكننا أن نقول إن الهويات اليهودية أيضاً تركيب جيولوجي تراكمي ولكنه لم يكن ملحوظاً بسبب انفصال أعضاء الجماعات اليهودية ووجـودهم في أماكن متفرقة من العالم. فيهود اليديشية نتاج مجتمعاتهم، وكذا يهود اليمن ويهود فرنسا، وهكذا. ومع ذلك، كان يُشار إليهم جميعاً باسم «الشعب اليهودي»، مع افتراض وجود وحدة ما دون أن يختبر أحد مدى صدق هذه المقولة. ولكنها حين وُضعت موضع الاختبار، بعد تأسيس الدولة الصهيونية، ظهرت الخاصية الجيولوجية التراكمية، وتفجرت قضية من هو اليهودي تعبيراً عن اكتشاف أن ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» ليست كلاًّ يتسم بقدر من التجانس وإنما هي في واقع الأمر تركيب جيولوجي تراكمي. وقد أظهرت مجتمعات كلٍّ من أمريكا اللاتينية وجبال القوقاز هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية في الهويات اليهودية بشكل واضح.
ومن ثم، فلابد من نموذج تفسيري أقل عمومية، يمكنه أن يصف المتغيرات التاريخية والثقافية والدينية التي دخلت على هذه الهوية وحولتها إلى هويات مختلفة. ولذلك، فإننا سوف نتحدث بصيغة الجمع فنشير إلى «الهويات اليهودية» (كما نتحدث عن «أعضاء الجماعات اليهودية») فهو مصطلح يعبر عن نموذج أكثر تركيبية ومن ثم أكثر تفسيرية لواقع أعضاء الجماعات اليهودية، يؤكد استقلالهم النسبي عن محيطهم دون أن ينسبهم إلى تاريخ يهودي عالمي أو جوهر ثابت، بل ينسبهم إلى مجتمعاتهم وحسب. ومن هنا محاولتنا فَهْم هذه الهويات لا من خلال العودة إلى ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، أو العودة إلى كُتب اليهود المقدَّسة أو شبه المقدَّسة، أو إلى بروتوكولات حكماء صهيون، وإنما بالعودة إلى التشكيلات الحضارية والتاريخية المختلفة التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية والتي تفاعلوا معها وأثروا فيها وتأثروا بها، وإن كانت درجة تأثرهم تفوق كثيراً درجة تأثيرهم كما هو الحال عادةً مـع أعضـاء الأقليات. فهنـاك هوية بابليـة يهودية، وأخرى فارسـية يهودية، وثالثة أمريكية يهودية، ورابعة عربية يهودية.
ولكن نموذجنا التفسيري لا يُهمل البُعد اليهودي في بناء هذه الهويات، فالدين اليهودي (بخاصيته الجيولوجية التراكمية) عنصر أساسي فيها، كما أن الرؤية الدينية بُعد حيوي ومهم. وكل ما نفعله أننا لا نجرده وإنما نراه في تفاعله مع الأبعاد الحضارية الأخرى. كما أننا لا نرى أن له مركزية تفسيرية. ولذا، فنحن لا نتحدث عن «هوية يهودية» عامة مُطلَقة، ولا نتحدث عن غياب أية هوية يهودية، وإنما نتحدث عن هويات يهودية مُتعيِّنة متنوعة.
والفكر الصهيوني يَصدُر عن نموذج اختزالي يُنكر واقع الجماعات اليهودية الحضاري الفسيفسائي الجيولوجي التراكمي، ويطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة، وتتم عملية تسمية الواقع وتصنيفه من هذا المنظور. ومن ثم، فإن هناك مصطلحات مثل «يهود الدياسبورا» و«يهود المنفى» و«الشعب اليهودي»، وهي جميعاً مصطلحات تفترض وحدة اليهود وتَجانُسهم. ولكن حين يصل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل، يتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود، إذ يصبحون مرة أخرى مصريين ومغاربة وروس! وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بحسب ذلك. ولذا، ينكر كثير من المغاربة هويتهم العربية، ويصرون على أنهم فرنسيون وليسوا يهوداً وحسب! وكذلك فإن يهود العالم العربي، الذين تم تهجيرهم باعتبارهم يهوداً بشكل عام، يصبحون مرة أخرى يهوداً شرقيين يقبعون في آخر درجات السلم الاجتماعي الإسرائيلي، كما يصبح يهود روسيا إشكنازاً أو غربيين، ويُعطَون المنح والقروض وأفخر المنازل، ثم يشغلون قمة السلم الاجتماعي. ومن هنا تظهر الهويات اليهودية المختلفة، وهو ما يؤدي إلى طرح قضية «الهوية اليهودية» على بساط البحث.
تاريخ الهويـات اليهوديـة حتى الوقت الحاضر
History of Jewish Identities till the Present
تاريخ الهويات اليهودية طويل ومُركَّب ويغطي عدة أزمنة وأمكنة لا يربطها رابط في كثير من الأحيان. وأولى الهويات اليهودية هو ما نسميه «الهوية العبرانية» أي هوية العبرانيين قبل أن يتم تهجيرهم إلى آشور وبابل. وكانت الهوية العبرانية تستند إلى تعريف ديني قومي، كما كان الحال في الشرق الأدنى القديم. ونحن نستخدم مصطلح «قومي» لعدم وجود مصطلح أدق، ونظن أن مصطلح «أقوامي» (نسبة إلى كلمة «أقوام») قد يكون أكثر دقة (مع قُبحه) لأنه مُستمَد من الواقع التاريخي القديم إذ تشير الدراسات التاريخية إلى «الأقوام الكنعانية» التي سكنت فلسطين (التي كان يُقال لها آنذاك كنعان) وإلى «الأقوام الآرامية»، وهي مجموعات بشرية متماسكة على نحو فضفاض، تتصف ببعض السمات القومية، مثل اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والدين المشترك، ولكنها ليست شعوباً ولا قوميات بالمعنى الحديث للكلمة. ولم يكن التعريف الديني القومي للهوية العبرانية منغلقاً تماماً، فثمة إشارات عديدة في الكتابات العبرية التي تعود إلى هذه الفترة أو تتحدث عنها إلى الأجنبي أو الغريب (جير) الذي بوسعه أن ينتمي إلى الجماعة العبرانية عن طريق التهود. وجاء في سفر التثنية « لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حاملٌ نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة » (تثنية 24/14 ـ 15). وعند الحديث عن هجرة العبرانيين من مصر، أو ربما طردهم، ترد إشارة إلى أن بعض العـبرانيين قد تَخلَّفـوا فيهـا، كمـا خرج معهم « اللفيف » (خروج 12/38)، وهي إشارة إلى جماعات ليست متجانسة عرْقياً ولا تنتمي إلى العبرانيين، ولكنهم على أية حال أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الجماعة العبرانية. وبعد التغلغل العبراني في أرض كنعان، امتزج العبرانيون بالكنعانيين وتزاوجوا معهم. ولكن الحظر التوراتي على الزواج من الأجانب، وعلى ذرية مثل هذا الزواج، لا ينطبق على الأدوميين أو المصريين، وإنما ينطبق على العمونيين والمؤابيين وحسب. « لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لايدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد... لا تكره أدومياً لأنه أخوك، لا تكره مصرياً لأنك كنت نزيلاً في أرضه. الأولاد الذين يُولَدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب » (تثنية 23/3، 7 ـ 8). فالحظر هنا ليس مُطلقاً ولا ضَيِّقاً. ومع هذا، فإن ثمة إشارات إلى أن الغريب ليس مقبولاً قبولاً كاملاً بأية حال (تثنية 14/21). وبذا، يمكننا أن نقول إن رؤية العبرانيين لهويتهم وتعريفهم لها كان مرناً منفتحاً إلى حدٍّ ما.
أما على مستوى الممارسة، فقد كانت الهوية العبرانية منفتحة تماماً. فعند التهجير إلى بابل، كان العبرانيون يشكلون جماعة شبه قَبَلية تتحدث العبرية، كما كان لهم نسقهم الديني المقصور عليهم. ومع هذا، كانت هذه الجماعة مندمجة إلى حدٍّ كبير في المحيط الثقافي والسياسي الذي تواجدت فيه، متأثرة به أكثر من تأثيرها فيه. فالعبرانيون الذين تسللوا إلى كنعان كانوا قد أحضروا معهم من مصر (وأرض مدين) فكرة الإله الواحد. ولكن اليهودية (كنسق ديني متماسك) لم تكن، مع هذا، قد اكتمل تكوينها بعد واستوعبت عناصر كثيرة من عبادات الخصب الكنعانية، كما أن «يهوه » ذاته لم يكن قد اصطبغ بعد بصبغة كنعانية. وتَبـنَّى العبرانيون كثـيراً من أعيــاد الكنعانيين وعباداتهم، واكتسبوا الثقافة الكنعانية، وتحدثوا بإحدى اللهجات أو اللغات الكنعانية والتي أصبحت تُدعَى «العبرية». وحينما تم تأسيس المملكة المتحدة في عهد داود وسليمان، لم يتوقف دخول العناصر الأجنبية. ولقد كانت سيرة داود هي سيرة تحالفه مع الفلستيين، ثم تَنكُّره لهم، ثم تَحالُفه مع دويلات أخرى مجاورة، وهكذا. وحينما فتح داود القدس التي كانت لا تزال في يد اليبوسيين (وهم بطن من بطون كنعان)، تم استيعابهم في الجماعة العبرانية حسبما يُقال.
وبعد موت سليمان، انحلت المملكة المتحدة إلى دويلتين عبرانيتين: المملكة الشمالية، والمملكة الجنوبية. وكان لكلٍّ مركز ديني مستقل عن الأخرى. ومسألة المركز الديني في العبادات القربانية القديمة، التي تدور حول المعبد، مسألة شديدة الأهمية، فالمعبد هو مصدر الشرعية السياسية ومصدر الدخل الأساسي للدولة، وهو في نهاية الأمر مصدر الهوية القومية وأساسها. وقد كان ملوك الدويلتين العبرانيتين يتزوجون، كنوع من التحالفات السياسية، من أميرات أجنبيات كن يحضرن آلهتهن معهن ويقمن المعابد لهم وينشرن العبادات الخاصة بهم بين الأثرياء وفي البلاط، الأمر الذي كان يزيد التعددية الدينية وعدم التجانس القومي. والـزواج من أجنبيـات هو عـادة ترجع إلى سليمان الذي لم تكن أمه عبرانية. وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا يتحدثون في تلك المرحلة بلهجات مختلفة، ولم تكن هناك بالتالي هوية لغوية موحَّدة. وكانت الدويلتان اليهوديتان في حالة حرب وصراع دائمين، كما كانتا تستعينان بالدول والدويلات الأجنبية في صراعهما (الواحدة ضد الأخرى). فقد قامت آشور بالهجوم على الدويلة الشمالية، وفعلت ذلك بناء على طلب من دويلة يهودا الجنوبية التي طالبت بحمايتها من الضـغوط التي كان يمارسـها عـليها الحلـف المعادي لآشور، والذي تَشكَّل بين الدويلات الآرامية والمملكة الشمالية.
وفي هـذا الإطار، يكـون الحديث عن هويـة عبرانية متسماً بالتجـاوز، ولكنه مع هذا يَصلُح إطاراً أو تعريفاً إجرائياً ضرورياً لتقسيم تَطوُّر ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» عبر المراحل التاريخية.
ونستخدم أحياناً مصطلح «الهوية العبرانية اليهودية» للإشارة إلى الهوية اليهودية بعد العودة من بابل بتصريح من قورش الأخميني إمبراطور فارس. وقد بدأت ملامح الدين اليهودي في التحدد في تلك المرحلة، وظهر نسق ديني يهودي أخذ شكل عبادة قربانية مرتبطة بالهيكل الذي أعيد بناؤه بأمر من قورش، وبأرض فلسطين، وبالتراث العبراني. ومن هنا تسميتنا الهوية اليهودية في هذه المرحلة بأنها «هوية عبرانية يهودية»، فهي عبرانية في جانبها الإثني المحدد ويهودية في جانبها الديني الآخذ في التحدد. وقد ظهر مصطلح «يهودي» بعد التهجير إلى بابل. ومع هذا، يمكن القول بأن هذا المصطلح فيه شيء من التجاوز أيضاً، إذ أن معظم العبرانيين كانوا قد فقدوا لغتهم إبّان الإقامة في بابل، وبدأت أغلبيتهم تتحدث الآرامية. ولذا، فإن كلمة «عبرانية» تشير هنا إلى الانتماء الإثني العام وليس اللغوي. كما أن النسق الديني اليهودي لم يكن قد تَحدَّد تماماً إذ كانت تدخل عليه مؤثرات بابلية وفارسية قوية، ثم هيلينية فيما بعد. وكما هو واضح، تُعَدُّ هذه المرحلة مرحلة انتقالية من منظور الهوية. ولذلك، فإننا نستخدم مصطلح «هوية يهودية» على سبيل التبسيط.
ولم يكن تعريف الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين يتسم بكثير من المرونة، إذ أن أعضاء الجماعة العبرانية العائدة من بابل كانوا يشعرون بأنهم أقلية تتهددهم الأقوام التي سكنت فلسطين، خصوصاً أن العبرانيين الذين لم يهاجروا تزاوجوا مع نساء تلك الأقوام ورجالهم. ولذلك، طالب عزرا كل من يود أن ينتمي إلى الجماعة اليهودية العبرانية بأن يطلق زوجته الأجنبية. « إنكم قد خنتم واتخذتم نساء غريبة لتزيدوا على إثم إسرائيل، فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم، واعملوا مرضاته، وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة» (عزرا 10/10ـ 11). وعند هذه النقطة، ظهرت جماعة السامريين التي شكلت جماعة دينية مستقلة ذات هوية دينية قومية مستقلة، ورفض أعضاؤها الخضوع لأوامر عزرا (لكن التفسير السامري للانفصال عن الجماعة اليهودية يخالف ذلك تماماً، إذ يرى السامريون أنهم أتباع موسى الحقيقيون الذين لم يُفسدوا أسفار موسى الخمسة بتعاليم الحاخامات وتفسيراتهم، أي التلمود). وقد ظل تعريف عزرا (الديني الإثني) الصارم للهوية سائداً حتى العصر الهيليني.
لكن أهم التطورات، في هذه المرحلة، كان انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين. فهذه الجماعات كانت تشكل في معظم الأحيان جماعة وظيفية. وحتى يَتسنَّى لأعضاء هذه الجماعة الاضطلاع بالوظيفة الموكلة إليها بكفاءة وعلى أحسن وجه، كان لابد لها أن تحتفظ بعزلتها الإثنية والدينية عن مجتمع الأغلبية. وتُعبِّر هذه العزلة عن نفسها في صورة التمسك الشديد بالهوية والاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن المحيط الحضاري الذي يعيش فيه أعضاء الجماعات اليهودية، في الرؤية والمأكل والملبس واللغة والعقيدة (مجتمعة أو منفردة). ولكن يجب أن نشير إلى أن هوية الجماعة الوظيفية تكون عادةً حالة عقلية أكثر من كونها أمراً واقعاً، فأعضاء الجماعة الوظيفية يستبطنون الدور المفروض عليهم ويتوحدون به، ويجدون أن العزلة أمر طبيعي بل ومرغوب فيه، وأن تَحقُّق الذات والهوية لا يمكن أن يتم بدونه. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية لا يعيدون صياغة هويتهم من خلال عناصر مُستمَدة من التراث اليهودي أو العقيدة اليهودية وحسب، وإنما من عناصر مُستمَدة (وربما بالدرجة الأولى) من المجتمع المضيف الذي يعيشون في كنفه أو من مجتمع مضيف سابق، أو من خلالهما مجتمعين. ولكن الحالة العقلية الانعزالية تخبئ أحياناً معدلات عالية من الاندماج في المجتمع، فهم يحتفظون بقدر من الاستقلال عن محيطهم الحضاري، ولكنهم يكتسبون سماتهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم من محيطهم الحضاري (شأنهم في هذا شأن أعضاء الجنس البشري كافة) وذلك رغم استقلالهم عن هذا المحيط. فهويتهم (الوظيفية) اليهودية لا تتحدد من خارج التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه أو رغماً عنه، وإنما من خلاله ومن داخله وبسبب تفاعلهم معه. وفي الحقيقة، فإن تَفرُّد الهوية اليهودية في أي مجتمع لا تعود إلى تَفرُّد العناصر التي تُكوِّن الهوية وإنما تعود إلى وجودها مجتمعة. كما أن حركيات المجتمع الذي يعيشون فيه يمكن أن تُفسِّر هذا الاختلاف. وهذه التركيبة المزدوجة (قدر من العزلة الفعلية والعقلية مع قدر من الاندماج الفعلي) هي التركيبة المثلى للجماعة الوظيفية. فثمة ضرورة لقدر من الاندماج لأنهم يتعاملون يومياً مع أعضاء المجتمع ويتحركون داخله وبحسب قواعده، ولكن ثمة ضرورة أيضاً لقدر من العزلة لضمان الحياد واستمرار العلاقة التعاقدية بين أعضاء الجماعة الوظيفية وأعضاء المجتمع المضيف، أي أن التركيبة المزدوجة تضمن أن يظل أعضاء الجماعة الوظيفية في المجتمع دون أن يكونوا منه.
وأولى الجماعات الوظيفية اليهودية التي ظهرت خارج فلسطين هي الحامية العبرانية في جزيرة إلفنتاين، التي وَطَّنها فراعنة مصر هناك (في أسوان) كجماعة وظيفية استيطانية قتالية لحماية حدود مصر الجنوبية. وقد فَقَد هؤلاء علاقتهم بفلسطين ونسوا شعائر دينهم أو ربما احتفظوا ببعض العناصر الوثنية من العبادة اليسرائيلية واختلطوا بالمحيط المصري. فعندما أراد الفرس استخدامهم كجماعة وظيفية قتالية تابعة لهم ضد المجتمع المصري، أرسل الإمبراطور الفارسي رسالة يشرح لهم فيها طقوس عيد الفصح ليؤكد هويتهم اليهودية ويضمن عزلتهم عن محيطهم المصري، ومن ثم ولاءهم. ومع هذا، يرى بعض المؤرخين أن هوية هؤلاء اليهودية أو حتى العبرانية أمر مشكوك فيه، فقد كانوا يتحدثون الآرامية، كما كانت عبادتهم مشوبة بعناصر وثنية عديدة. ويمكن القول أيضاً بأن الجماعة العبرانية في مصر، قبل خروجها منها، كانت جماعة وظيفية، فقد عمل يوسف مديراً لمخازن فرعون، كما كان يضطلع بالأعمال المالية.
أما أهم هذه الجماعات طراً فهي الجماعة اليهودية في بابل والتي رفضت العودة إلى فلسطين (فيما عدا قلة صغيرة). وقد بدأ أعضاء هذه الجماعة في الاشتغال بالتجارة والربا والانصراف عن الزراعة والتركز في المدن، أي أنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية وسيطة تجارية ومالية ونسوا العبرية. وقد كان لهذا التجمع اليهودي علماؤه ومدارسه الدينية وتَوجُّهه الثقافي الذي أخذ يزداد قوة واستقلالاً، حتى أصبح في مرحلة من المراحل مركز اليهودية الأساسي في العالم. ويتضح تَفتُّت الهوية اليهودية في ظهور المفهوم الديني القائل بأن شريعة الدولة هي الشريعة التي يجب أن يتبعها اليهودي في حياته العامة، أي أن نطاق الشريعة اليهودية تم تقليصه بحيث أصبح مقصوراً على حياة اليهود الدينية الخاصة وتعاملاتهم فيما بينهم، ولا يضم حياة اليهود العامة أو القومية. وأصبحت اليهودية (على مستوى الممارسة) ديناً، وتَحوَّل الجانب القومي فيها إلى مجرد رموز وتَطلُّعات دينية وانتماء إثني يضمن للجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية العزلة اللازمة لها. وهذا هو المبدأ الذي لا يزال سائداً بين أعضاء الجماعات اليهودية رغم كل الادعاءات.
ومما زاد من استقلال يهود بابل عن بقية الجماعات اليهودية في فلسطين أو خارجها، أن اليهود، حتى عام 333 ق.م، كانوا يعيشون داخل إطار إمبراطورية واحدة يدورون في فلكها ويستمدون هويتهم منها، وهي الإمبراطورية الفارسية. أما بعد ذلك، فقد كان الجيب البابلي يدور في فلك فارسي (أخميني ثم فرثي ثم ساساني)، بينما كان يهود فلسطين والبحر الأبيض المتوسط يدورون في فلك هيليني ثم روماني. وقد واكب ظهور الجماعات اليهودية خارج فلسطين تَفتُّت الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين. فقد شهد العصر الهيليني، خصوصاً في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، تخلخلاً في الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين (في الرؤية والممارسة) من المنظورين الديني والقومي لأسباب عديدة:
المفضلات