مصر مقارنة بالدول التي لم يدخلها الفتح
الإنسانية في الاحتضار
كان القرن السادس والسابع (لميلاد المسيح) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، فقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة إسفافها، وكأن الإنسان قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب، فضلاً عن البيوت والبلاد، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارًا بدينهم من الفتن، وضنًّا بأنفسهم، أو رغبة في الدَّعَة والسكون، وفرارًا من تكاليف الحياة وجِدِّها، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة والروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل على حساب الضعفاء والمحكومين.
نظرة في الأمم المختلفة
- الأمم الأوروبية الشمالية الغربية
لم يصل الفتح الدول الأوروبية الشمالية الغربية؛ لذلك كانت تتسكع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية، والحروب الدامية، لم ينبثق فيها فجر الحضارة والعلم بعدُ، ولم تظهر على مسرحها الأندلس لتؤدي رسالتها في العلم والمدنية، ولم تصهرها الحوادث، وكانت بمعزل عن جَادَّة قافلة الحضارة الإنسانية بعيدة عنها، لا تعرف عن العالم ولا يعرف العالم المتمدِّن عنها إلا قليلاً، ولم تكن - مما يجري في الشرق والغرب مما يغير وجه التاريخ - في عير ولا نفير، وكانت بين نصرانية وليدة، ووثنية شائبة، ولم تكن بذات رسالة في الدين، ولا بذات راية في السياسة.
يقول هـ .ج . ويلز: "ولم تكن في أوروبا الغربية في ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام".
ويقول روبرت بريفولت (Robert briffault): "لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلامًا وسوادًا، فقد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً، وأفظع من همجية العهد القديم؛ لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة، وقُضِيَ عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة، وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا فريسة الدمار والفوضى والخراب". (أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 51، 52)
- أمم آسيا الوسطى
أما الأمم الأخرى في آسيا الوسطى وفي الشرق، كالمغول والترك واليابانيين، فقد كانت بين بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروة علمية، ولا نظامًا سياسيًّا راقيًا، وإنما كانت في طور الانتقال من عهد الهمجية إلى عهد الحضارة، ومنها شعوب لا تزال في طور البداوة والطفولة العقلية.
- الهند: ديانة، واجتماعًا، وأخلاقًا
أما الهند فقد اتفقت كلمة المؤلفين في تاريخها على أَنَّ أَحَطَّ أدوارها ديانة وخلقًا واجتماعًا ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، وأخذت نصيبًا غير منقوص من هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة، وامتازت عنها في ظواهر وخِلالٍ يمكن أن نخلصها في ثلاث: كثرة المعبودات والآلهة، كثرة فاحشة الشهوة الجنسية الجامحة، التفاوت الطبقي المجحف والامتياز الاجتماعي.
- الوثنية المتطرفة
ارتقت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، وبلغت أوجها في القرن السادس والسابع حتى فاق هذا العصر في ذلك العصور الماضية، وقد عكفت الطبقات كلها وعكف أهل البلاد من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام، حتى لم تجد الديانة البوذية والجينية منها بُدًّا، وتذرعت هاتان الديانتان بهذه الوسيلة للاحتفاظ بحياتهما وانتشارهما في البلاد، ويدل على ما وصلت إليه الوثنية والتماثيل في هذا العصر ما حكاه الرحالة الصيني الشهير (هوئن سوئنج) الذي قام برحلته بين عام 630 وعام 644 عن الاحتفال العظيم الذي أقامه الملك هرش الذي حكم الهند من عام 606 إلى 647 : وأقام الملك احتفالاً عظيمًا في قنوج، اشترك فيه عدد كبير جدًّا من علماء الديانات السائدة في الهند، وقد نصب الملك تمثالاً ذهبيًّا لبوذا على منارة تعلو خمسين ذراعًا، وقد خرج بتمثال آخر لبوذا أصغر من التمثال الأول في موكب حافل، قام بجنبه الملك "هرش" بمظلة، وقام الملك الحليف "كامروب" يذب عنه الذباب. ويقول هذا الرحالة عن أسرة الملك ورجال بلاطه: إن بعضهم كان من عباد "شو"، وبعضهم من أتباع الديانة البوذية، وكان بعضهم يعبد الشمس، وبعضهم يعبد "وشنو"، وكان لكل واحد أن يخص من الآلهة أحدًا بعبادته أو يعبدهم جميعًا.
- الشهوة الجنسية الجامحة
وأما الشهوة فقد امتازت بها ديانة الهند ومجتمعها منذ العهد القديم، فلعل المواد الجنسية والمهيجات الشهوية لم تدخل في صميم ديانة بلاد مثل ما دخلت في صميم الديانة في البلاد الهندية، وقد تناقلت الكتب الهندية وتحدثت الأوساط الدينية عن ظهور صفات الإله، وعن وقوع الحوادث العظيمة، وعن تعليل الأكوان روايات وأقاصيص عن اختلاط الجنسين من الآلهة، وغارة بعضها على البيوتات الشريفة تستك منها المسامع، ويتندى لها الجبين حياء، وتأثير هذه الحكايات في عقول المتدينين المخلصين المرددين لهذه الحكايات في إيمان وحماسة دينية، وفعلها في عواطفهم وأعصابهم واضح، زد على ذلك -في صورة بشعة- اجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال وبنات، زد عليه كذلك ما يحدّث به بعض المؤرخين أن رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات، والنساء يعبدون الرجال العراة، وكان كهنة المعابد من كبار الخونة والفساق الذين كانوا يرزءون الراهبات والزائرات في أعز ما عندهن، وقد أصبح كثير من المعابد مواخير يترصد فيها الفاسق لطِلْبته، وينال فيها الفاجر بُغيته. وإذا كان هذا شأن البيوت التي رُفِعَتْ للعبادة والدين، فما ظن القارئ ببلاط الملوك وقصور الأغنياء؟! فقد تنافس فيها رجالها في إتيان كل منكر وركوب كل فاحشة، وكان فيها مجالس مختلطة من سادة وسيدات، فإذا لعبت الخمر برءوسهم خلعوا جلباب الحياء والشرف، وطرحوا الحشمة فتوارى الأدب وتبرقع الحياء، هكذا أخذت البلادَ موجةٌ طاغيةٌ من الشهوات الجنسية والخلاعة، وأسفت أخلاق الجنسين إسفافًا كبيرًا.
المفضلات