دور الجماعات اليهودية الاقتصاديفي مصر في العصـر الحديث
Economic Role of the Jewish Communities in Egypt in Modern Times
ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كانلعدد من العائلات والشخصيات اليهودية المصرية شأن كبير في أحوال مصر الاقتصادية وفيشئونها المالية والتجارية والصناعية. وكانت أغلب هذه العائلات من اليهود السفاردالذين وفدوا إلى مصر خلال القرن التاسع عشر وانضووا تحت الرعويات الأجنبية حتىيستفيدوا من الامتيازات القانونية والاقتصادية الممنوحة للأقليات الأجنبية في مصرخلال تلك الفترة، والتي أتاحت لهذه الأقليات، في ظل الوجود الاستعماري البريطاني،احتلال مكانة داخل الاقتصاد المصري لا تناسب حجمها الحقيقي. وقد قامت هذه العائلاتاليهودية بتمثيل المصالح الأوربية المختلفة داخل مصر، سواء كانت فرنسية أو بريطانيةأو إيطالية أو غيرها، وقامت بدور الوسيط لرأس المال الأوربي الباحث عن فرصالاستثمار داخل البلاد، أي أنها لعبت دور الجماعة الوظيفية المرتبطة بالاستعمارالغربي (ومما يجدر ملاحظته أن هذا الدور نفسه قامت به بعض الجماعات الأوربية وشبهالأوربية الأخرى، خصوصاً اليونانيين الذين حققوا قوة اقتصادية ومكانة اجتماعيةمماثلة تقريباً لما حققته طبقة كبار الأثرياء من اليهود).
وتركَّز نشاط هذهالعائلات اليهودية في الأنشطة المالية الربوية والائتمانية والتجارية، واندمجتبيوتات المال اليهودية في علاقات ووساطة مع البنوك الأوربية وارتبط نشاطها بالدرجةالأولى باقتصاديات زراعة وتجارة القطن وخدمة المصالح الاقتصادية الاستعماريةالبريطانية التي كانت تخطِّط لتحويل مصر إلى مزرعة للأقطان. ولعبت مجموعة عائلاتقطاوي وسوارس ورولو ومنَسَّى وموصيري الدور الأكبر في هذا المجال وفي الاقتصادالمصري بشكل عام.
لقد ساهمت الجماعات المصرفية اليهودية في عملية التوسعالزراعي في مصر، واشتركت في عملية تصفية الدائرة السنية عام 1880 وبيعها لكبارالملاك الجدد ثم في تأسيس البنك العقاري المصري في العام نفسه بالتعاون مع رأسالمال الفرنسي، للقيام بعمليات إقراض القطاع الزراعي الخاص الجديد وتمويل أعمالالزارعة وشراء الأقطان. وفي عام 1897، قامت هذه الجماعات المصرفية، بالتعاون مع رأسالمال البريطاني، بتأسيس البنك الأهلي المصري بهدف تمويل المشروعات الخاصة بالتوسعالاقتصادي والاستعماري البريطاني في مصر مثل مشروع بناء خزان أسوان وقناطر أسيوط أوتنظيم شـبكة الري في حوض النيل إلى جانب تمويل عمليات شراء ما تبقَّى من أراضيالدائرة السنية من قبل كبار الملاك.
واشتركت العائلات اليهودية أيضاً فيتأسيس الشركات العقارية العديدة التي أقيمت في إطار مبيعات أراضي الدائرة السنية ثمفي إطار الحجوزات العقارية بعد تَراكُم الديون على كبار وصغار الملاك المصرييننتيجة انخفاض الطلب على القطن المصري. وقد تأسَّس أكثر هذه الشركات في الفترة مابين عامي 1880 و1905، وقامت بامتلاك الأراضي واستغلالها وبإقامة المشروعات العقاريةوالصناعية عليها وكذلك المضاربة فيها لتحقيق تَراكُم سريع لرأس المال. ومن أهم هذهالشركات شركة أراضي الشيخ فضل، وشركة وادي كوم أمبو. ومن أهم المشاريع الصناعيةالزراعية التي أقامها اليهود على أراضي الدائرة السنية شركة عموم مصانع السكروالتكرير المصرية التي أُقيمت عام 1897 بالتعاون مع رأس المال الفرنسي واحتكرتلفترة طويلة إنتاج السكر في مصر.
وساهم أعضاء الجماعات اليهودية أيضاً فيإقامة الهياكل الأساسية اللازمة للتوسع الزراعي، وخصوصاً اللازمة لنقل وتجارة القطنوغيرها من المحاصيل الزراعية، فاهتموا بإنشاء خطوط النقل الحديدية مثل شركة سككحديد قنا ـ أسوان (1895)، وشركة سكك حديد الدلتا المصرية المحدودة وهما أهم شركتينلنقل الأقطان والسكر من الأراضي ومعامل التكرير. كما ساهموا في تأسيس شركة ترامالإسكندرية (عام 1896) التي كانت تقوم بنقل الأقطان إلى البورصة، واشتركوا أيضاً فيإدارة بعض الشركات الملاحية مثل شركة الملاحة الفرعونية التي سُجلت عام 1937 وكانتتحتكر تقريباً نقل البضائع المصرية بحرياً. وإلى جانب مساهمتهم في تأسيس كثير منشركات النقل البري والبحري، ساهم أعضاء الجماعات اليهودية في مصر في عملية التوسعالعمراني التي صاحبت التوسع الزراعي. فساهموا، على سبيل المثال، في تأسيس حي سموحةبالإسكندرية وحي المعادي بالقاهرة، وفي إدارة العديد من شركات تقسيم وبيع الأراضيوشركات صناعة البناء.
كما لعب المموِّلون اليهود من أعضاء الجماعاتاليهودية دوراً أساسياً في مجال تصدير القطن والمحاصيل الزراعية، وكان أكثر من 50%من الشركات المصدرة للقطن في الإسكندرية (قبل التأميم) مملوكة لهم. وكان أعضاءالجماعات اليهودية يحتلون مواقع إدارية مهمة في الشركات الأخرى، كما تركزوا فيالقطاعات الخاصة وفي تصدير بعض المحاصيل الزراعية المهمة مثل البصل والأرز. ونشطوافي عمليات استيراد السلع والوكالة التجارية للشركات الأجنبية، وبخاصة مع بدايةالعشرينيات، لاستغلال وفرة الأموال في أيدي أغنياء الحرب والرواج الذي جاء في أعقابانتهاء الحرب العالمية الأولى. وقد قامت المحلات التجارية الكبيرة المملوكةللعائلات اليهودية، مثل محلات شيكوريل وشملا وبنزيون وعدس وغيرها، بتسويق هذهالواردات السلعية، خصوصاً المنسوجات البريطانية.
وقد ارتبطت العائلاتاليهودية، سواء من خلال المؤسسات المالية والائتمانية أو من خلال المؤسسات التجاريةالتي كانت تمتلكها والتي كان أفرادها يحتلون فيها مواقع إدارية مهمة، بشبكة منعلاقات العمل المتداخلة تدعمها علاقات المصاهرة.
ويمكن تقدير مدى مساهمةأعضاء الجماعات اليهودية في مصر في الشركات والقطاعات الاقتصادية المختلفة من خلالعضويتهم في مجالس إدارة الشركات المساهمة التي سيطرت على أهم قطاعات الأعمال في مصرمنذ أواخر القرن التاسع عشر. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن اليهود احتلوا 15,4% منالمناصب الرئاسية و16% من المناصب الإدارية عام 1943، وانخفضت هذه النسبة إلى 12,7% و12,6% عامي 1947 و1948، وإلى 8,9% و9,6% عام 1951. وتشير إحصاءات أخرى إلى أن نسبةاليهود في مجالس إدارة الشركات المساهمة كانت 18% عام 1951. والواقع أن هذه نسبمرتفعة إذا ما قـورنت بنسـبتهم لإجمالي السكان والتي بلغت عام 1950 نحو 0,4% فقط.
وكان معظم رأس المال اليهودي متمركزاً عام 1956، وقبل قرارات التأميم، فيالشركات العقارية يليه قطاع حلج وغزل ونسج القطن ثم التأمين والبنوك. وكانت هذهالقطاعات هي أكثر القطاعات ربحية في الاقتصاد المصري، وبخاصة خلال الفترة التيأعقبت انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى بداية الخمسينيات.
وفي شأن دورأعضاء الجماعات اليهودية في اقتصاد مصر، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى عملياتالتأميم عام 1956، يمكننا أن نلاحظ ما يلي :
1 ـ لعب أعضاء الجماعاتاليهودية دوراً مهماً لا باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم أعضاء في التشكيلالاستعماري الغربي الذي أتوا معه (وقد جاءت معهم أيضاً الأقليات الغربية الأخرى مثلاليونانيين والإيطاليين والإنجليز... إلخ) واستقروا ضمن إطار الامتيازات الأجنبيةوأسسوا علاقات مع المجتمع هي في جوهرها علاقات اسـتعمارية. ولذا، يُلاحَظ بشـكلملموس غياب يهود مصر المحليين، خصوصاً القرّائين، عن هذا القطاع الاقتصادي النشيط،فلم يكن عندهم رأس المال ولا الكفاءات ولا الاتصالات للاضطلاع بمثل هذا الدور.
2 ـ يُلاحَظ أن كبار المموِّلين من أعضاء الجماعات اليهودية لعبوا دورالجماعة الوظيفية الوسيطة بين الاقتصاد العالمي الغربي والاقتصاد المحلي. وقامأعضاء الجماعات اليهودية بدور ريادي نشيط في عدد من الصناعات والقطاعات الاقتصاديةالجديدة التي يتطلب ارتيادها كفاءة غير عادية وجسارة، وهو الدور الذي يلعبه أعضاءالجماعات الوظيفية، وقد اشترك فيه معهم المموِّلون من أعضاء الجاليات الأجنبيةالأخرى.
3 ـ تركَّز هؤلاء المموّلون في صناعات وقطاعات مالية قريبة منالمستهلك (حلج القطن ـ المصارف ـ تسويق السلع ـ العقارات...إلخ) وهي قطاعات بعيدةعن الصناعات الثقيلة. ويعزى نشاط أعضاء الجماعات اليهودية في قطاع الزراعة إلى نظامملكيةالأراضي في مصر الذي فتح الباب على مصراعيه للأجانب (اليهود وغيرهم(.
4 ـ ومع تزايُد فاعلية القوى الوطنية ونشاطها في القطاع الاقتصادي، بدأنشاط الطوائف الأجنبية يتراجع بما في ذلك نشاط المموِّلين من أعضاء الجماعاتاليهودية.
5 ـ وحينما تم التأميم عام 1956، كان ذلك تتويجاً لتصاعُد هذهالحركة واختزالاً لبقية المرحلة. وقد كان قرار التأميم موجَّهاً ضد المموِّلينالأجانب والمصريين ممن كان الحكم المصري يرى أن نشاطهم يربط الاقتصاد الوطني بعجلةالاستعمار الغربي ويعوق عمليات التنمية من خلال الدولة والتي تبناها هذا النظامالوطني. ولذا، فقد هاجر كثير من هؤلاء المموِّلين وغيرهم من المموِّلين الأجانبوالمصريين.
لكل ما تقدَّم، يكون من الصعب جداً الحديث عن «رأسمالية يهوديةفي مصر» أو «مخطَّط يهودي للهيمنة والسيطرة على الاقتصاد الوطني في مصر». فقدومأعضاء الجماعات اليهودية إلى مصر ونشاطهم الاقتصادي فيها وخروجهم منها تم داخل إطارالاستعمار الغربي، ولم يكن هناك بُعد يهودي يعطي خصوصية يهودية لنشاط الجماعةاليهودية في مصر. وإذا كان هناك 10% من المناصب الإدارية الرئاسية في أيد يهودية،فإن نحو 90% من هذه المناصب تظل في أيد غير يهودية، ونسبة كبيرة منها في أيدياليونانيين والإيطاليين وغيرهم. وإذا كان ثمة تعاطُف مع الحركة الصهيونية، فإنه لميأخذ شكل ظاهرة عامة أو نمط متكرر وإنما كان اتجاهاً فردياً يمكن تفسيره هو الآخرفي إطار انتماء المموِّلين من أعضاء الجماعات اليهودية إلى التشكيل الاستعماريالغربي. وتجب الإشارة إلى أن تأييد بعض الأثرياء اليهود للنشاط الصهيوني يمكن أننضعه في إطار ما يُسمَّى «الصهيونية التوطينية»، فقد شهدت مصر خلال أواخر القرنالتاسع عشر هجرة أعداد من يهود شرق أوربا (الإشكناز) إليها، كان أغلبهم من الشبابالفقير وكانوا يختلفون ثقافياً وعقائدياً وطبقياً عن الأرستقراطية السفارديةالمصرية. كما تورَّط كثير منهم في الأنشطة المشبوهة، خصوصاً الدعارة، وهو ما دفعالسفارد لإطلاق لقب «شلخت»، أي الأشرار، عليهم. وكان وجودهم يهدد بخلق أعباء ماديةومشاكل اجتماعية محرجة لأثرياء اليهود. ولذلك، فقد كان دعم بعض أعضاء الأرستقراطيةالسفاردية للأنشطة الصهيونية في مصر يهدف إلى تحويل هذه الهجرة إلى فلسطين بعيداًعن مصر. كما سعى بعضهم لدى السلطات المصرية لوقف الهجرة اليهودية القادمة إلى مصركليةً.
هذا، ويمكن القول بأن وضع يهود مصر والدور الذي اضطلعوا به هو نمطمتكرر بين أعضاء الجماعات اليهودية وأعضاء الجماعات الوظيفية الغربية الأخرى فيالعالم العربي ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر.
المفضلات